inShare
اوراق على قائمة السرير
اوراق على قائمة السرير
مضت سنوات ثلاث، وانا طريحة الفراش . . وسرير ما زال يحمل رقم 101، أمضي عليه ليلي ونهاري الا من بضع ساعات أمضيها على كرسي، أحرك عجلاته وأتجول به في ممرات المستشفى الضيقة . . كم فرحت يوم جلست عليه لأول مرة، وطلقت سريري، أدير عجلاته بيدي، أتجول به وأكتشف كل يوم شيئاً جديداً . . ثم ألفته كما الفت سريري وضقت به كما ضقت بجدران الغرفة حولي كلما ضاق عالمي داخل نفسي . . . وتمر بي العيون تستغرب اصراري على الحياة . . . الوجوه التي اراها هي نفسها حتى بت اعرف كل خلجة تعتريها . . سعيدة كانت ام تعيسة . . . الممرضات بوجوههن التعبى دائما . . الممرضون والقرف الممزوج بالشره في نظراتهم . . والدكتور المناوب . . الدكتور سامي او الدكتور فريد . . لأقول الدكتور وحسب . . كلهم واحد نفس الابتسامة المشدودة بقطعة من البلاستيك المهترئ . . . نفس العينين الزائغتين من فرط ما رأت حتى تجمد الاحساس بهما… فكل الاسرة مضمونها واحد، ولا تختلف الا بالورقة المعلقة على قائمة السرير . . تقول عن نوع المرض . . حرارة المريض وضغط الدم ونسبة الاملاح والسكر . . . والادوية المعطاة وعدد تكرارها . . أرقام وأرقام . . اما هذا الجسد المسجى وعواطفه واحاسيسه التي تسفح كل يوم . . فلا تعني له شيئاً. فمئات منها يرى، تذهب أو تأتي . . . كلها اوراق على قائمة السرير . . .
سنوات ثلاث مرت . . وكل من دخل المستشفى خرج حاملاً او محمولاً . . . حاملاً المه الى العالم.. للنور والظلمة . . للحب والكراهية . . للحياة بكل تناقضاتها . . . والمحمول الى عالم كله سكون وهدوء وراحة.
تعجب، كيف اتحدث بهذه البساطة، وزهرة عمري مرت في اقامة جبرية. اتحدث عنها بمرارة، دون الم وبكاء . . . لم يبقَ دمع اعتصره، نفذت كل الدموع في الاشهر الاولى لدخولي المستشفى، كلما اعدت وكررت قصتي للمترددين علي للزيارة او لزيارة المريضة الاخرى في غرفتي . . وكم ذهبت مريضة وجاءت اخرى . . وانا ما زلت أذرف الدموع واكرر قصتي. . . كيف أصبت بشظايا قنبلة في ساقيَّ، وانا اسير فقط على الطريق، اقطع من رصيف الى رصيف، والعمليات الجراحية التي لم تنجح . . . كررتها حتى اصبحت اعيدها لكل من سأل . . دون ان تعني لي شيئاً . . وكأنني أكرر قصة سمعتها او قرأتها . . . وارى العيون ترمقني بنظرات حزينة لهنيهات قصيرة، سرعان ما تنسى مصيبتي وتعود لآلام داخل نفسها.
أعود لأول يوم دخلت به السجن . . أقصد المستشفى والدماء تنزف من اجزاء شتى في الجسد الممزق . . . وعندما افقت من غيبوبتي الطويلة، شعرت ان كل قطرة دم أرقتها، ستفتح الافاق أمامي، لتجعل مني بطلة يفخر بي أهلي وقومي . . وبت والآلام تعصف بروحي، وهم يقطعون اجزاء من قدمي، بعد ان أصبحت خطراً علي . . أتحمل الألم وأنا أحلم بباقات الورد تحيطني . . . بأهازيج تمجد أسمي وتكتبه بأحرف من نور على لوحة الشرف في السماء . . وفؤاد بجانبي وذراعاه تحميني من قسوة الايام . . . لا اعرف كيف، حتى اليوم تحملت كل تلك الآلام، فالإنسان لا يستطيع مطلقاً إعادة الشعور بالألم او الفرح في لحظة مرت وانتهت . . . فلكل لحظة شعورها . . أفراحها وآلامها.
ومرت فترة الآلام المدمرة . . وأفقت من غيبوبة الاحلام الى الواقع وقسوته . . فلا أهازيج تمجدني ولا باقات ورد تملأ غرفتي . . . كيف يدون أسمي بأحرف من نور، وأنا لم أشترك في معركة الا معركتي مع الايام، ولم أحمل سلاحاً قط الا سلاح كلمة الحق أسلطها حتى على رأسي . . . لو قدمت ساقيّ في معركة ربحت بها ام خسرت . . لو أرقت دمائي لأجل قضية أؤمن بها . . لهان نصف عذابي ولكن هكذا نحن، نبتعد عن غول السياسة البغيض، نكبت ميولنا، خوفا من غضبه الغول . . تاركين الحل والربط بيد النزر؟؟ القليل منا . . والبقية . . . بقية شعبنا الدؤوب المجتهد . . . فمؤيد بقلبه ولسانه . . . وبعض ماله . . .
وفتحت عيني في صبيحة يوم، لأرى الابتسامات المرسومة على الشفاه حولي، وباقة ورد قرب سريري . . جاء فؤاد خطيبي ليزورني . . بل ليطمئن علي ويرسم الطريق للخلاص مني . . . لا الومه . . ربما كنت افعل نفس الشيء لو كنت اياه . . . ولكن قلبي ما زال ينبض بالحياة . . . يحب ويكره، ونبضاته تبعث الامل والحياة في هذا الجسد . . . وتباعدت زيارات فؤاد، وحلل قيده بأعذار كنت أتوقعها . . . وذهب، خرج من حياتي متألماً يسير على قدمين. . . وبقيت، على سريري مقعدة وآلام قلبي تفوق كل ما تحمل هذا الجسد من آلام . . . وظننت حينها ان العالم سيقف، ويقف قلبي عن الخفقان بعد فقدان آخر امل له بالفرح . . . ولكن لم استسلم لقلبي او اسمح لعاطفتي بان تعمي بصيرتي وتهدم ايماني بالقدرة على الحياة . . فما زال قلبي ينبض، اعيش واتنفس وفي بعض الأحيان اضحك، نعم اضحك على المرضى حولي او حتى على نفسي، كأن عضلات وجهي تفرض علي ذلك . . فكما آكل وأشرب وأنام . . . كذلك أبكي واضحك واحدث نفسي . . . ذهب فؤاد، يحمل بعض الألم . . . وترك لي الألم كله . . وغصة في الحلق تلازمني ملازمة روحي . . . كم شعرت بالفراغ بعده والحقد يملأ كياني، يدفعني للكفر بكل شيء. . . ومع ذلك لا ألومه . . . فقصص الاخلاص والتفاني هي في سير الاولين، خرافات وأمثال . . . وما قصتي لا فصل من قصص الأخرين . . وهي اغرب من اي خيال، مهما شطت تصورات ذاك الخيال. . .
أعود لغرفتي . . . بحيطانها البيضاء العالية . . . وأثاثها المبعثر القليل. لقد ألفتها، عرفت كل شبر فيها وأحببتها . . فكم شكوت لها آلامي وتحملتني في وحدتي دون ان تشكو او تتذمر . . . والوجوه الباردة حولي التي شهدت مماتي ومولدي، أحببتها . . . هم أهلي ورفاقي، أراهم في فرحهم، أشاركهم ولو من بعيد آلامهم المغلفة بابتساماتهم المشدودة . . هم وقفوا بجانبي بينما تركني أهلي وحبيبي . . . قريباً . . ستنتهي اقامتي بينهم . . سأترك غرفتي بعد سنوات ثلاث، وأخرج على كرسيّ المتحرك خارج فناء المستشفى . . الى الشارع الطويل . . الى عالم واسع . . حتى كرسيّ الأصم يأبى الخروج من الأمان الى المجهول . . . يخاف العجلات العملاقة تدوسه وهو كالقزم بينهما . . وأنا، كيف أترك غرفتي . . ليت جدرانها تحميني وتخنقني . . . كيف أترك سجني الصغير الى سجن بوسع العالم كله . . . ليس فيه ممرضون يلبسون البياض، بل أشباح مؤشحة بالسواد . . ولا أطباء بابتسامات مشدودة . . بل أفواه تقهقه بضحكة جوفاء . . . تتساءل كلها لماذا . . . لماذا ما زلت أعيش . . . من سيمنحك سقفاً يحمي رأسك من تساؤلات النجوم وتعجب القمر . . من سيسد جوعك برغيف خبز . . . كم سأحن للصحون المعدنية تحضرها الممرضة بحساء ساخن يدفئ جوفي . . . وطعام لا لذة فيه ولكنه يسكت جوع الجسد الذي ما زال يطلب أسباب الحياة ليبقى . . .
كيف أترك غرفتي الصغيرة، وقد أصبحتُ جزءاً منها . . . من أثاثها المبعثر، ونافذة تطل على الشمس منها كل صباح فتدفئ أوصالي، وعصفور مثلي وحيد، يزورني يشاركني وحدتي . . . أيكون لي نافذة أرى من خلالها ما أريد، أم اواجه الكون من باب مشرع على مصراعيه . . . يدخل منه الهواء القارص كما الشمس المحرقة . . والعصافير الوديعة كما الثعابين القاتلة . . .
لن أموت من الصدمة . . . فأيام عمري لم تنته بعد، وقد تخطيت صعاباً اقسى وأمّر ولكن كل صخرة قابلتها، كل العراقيل تخطيتها، بالأمل . . ولذة الوصول الى الأمل تذيب المصاعب والاهوال . . . والآن لا أمل يحدوني ولا لذة بالوصول تشد عزيمتي . . فمصيري مقاتم مجهول . . ليس به عصافير تغرد، ولا زهور تتفتح . . لا شمس تدفئ أوصالي او قمر يزيل الوحشة عني في ليلي الطويل . . . لا كلمة تفرحني أو تغضبني، تحرك مشاعر الانسان في قلبي . . .
همي الوحيد . . . اين أضع رأسي كي أنام . . . كيف أجد رغيف خبز يكسر جوع جسد مريض . . ولا نوافذ امامي، بل ابواب مغلقة . . لا أعلم ما يخبئ الزمن خلفها . . سوى طريق أسود طويل . . طريق بلا أمل . . .