عطر من التاريخ
روت لي ام هارون قصتها مع الخيال. قالت
زارني في الأمس جارنا القديم جحا. جاءني مرتدياً جلباباً مزركشاً وموشحاً بخيوط الذهب والفضة، طاقيّة مرصّعة باحجار تلتقط بريق الشمس وسناء القمر… فركت عينيّ بقوة كي اتأكد مما أرى… انه جحا بعينه… وهرعت كي احضر الكرسي المتماسك الوحيد في بيتنا الصغير. . وامسكت بطرف ثوبي امسح به ما علق بالكرسي من غبار. ونظر جحا الى الكرسي بتردّد مرتين، ثم لملم جلبابه المزركش حول جسده، وجلس على الكرسي بتأنٍ وحذر.
وتطلعت اليه بعينين ملؤها الاستغراب والتساؤل وقلت:
– مبارك ما انت به من نعمة وجاه. . ولكن من اين لك هذا يا جارنا القديم . . ؟
ففرك جحا كفيه ببعضهما وكأنه يصفق فرحاً وقال:
– اتذكرين ذلك الفانوس القديم يا ام هارون . . ؟
– أجل أذكره . . فقد كان مكانه دائماً على طرف تلك الكوة الصغيرة التي ينحدر منها الهواء والضوء الى الغرفة الصغيرة . . وفي الليل ينوب هو عن ضوء الشمس . . فينير اقدامكم. وذكر كيف كانت تصيبه الرجفة كلما ارتفع صرير باب البيت بفعل الهواء، او طارق عابر . . متسرع، وكيف كانت زوجتك الطيبة تبسمل عليه وتعيده الى مكانه . .
– ما زلت تذكرين كل شيء يا ام هارون … – ثم أردف قائلاً – أجل، لقد زادت رجفة ذلك الفانوس حتى سقط ذات يوم في وسط الغرفة وانكسر… وانتصب من داخله مارد أسود طويل يكاد رأسه يصل السماء … واخذ يفرك يديه كالخادم المطيع مردداً “شبّيك لبّيك . . عبدك بين يديك”.
– ها . . ماذا حصل بعد ذلك . . الم تَخَفْ وزوجتك من رؤيته . . . ؟
– اجل . . اجل . . ولكن لنتعدّ ذلك للأهم . . .
– أكمل. . فكلي آذان تتلهّف للسمع. .
– لقد طلبنا من المارد ان يغير بيتنا القديم المبني بالطين والاعشاب الجافة الى قصر . . غرفه اكثر من اصابع اليدين . . وجدرانه عالية . . وفي القصر غلمان وخدم، وحول القصر حديقة غناء بها كل ما لذّ وطاب من منَن المولى على عباده . . .
– وحمارك المشهور ماذا فعلت به؟
– لقد حوله المارد الى سيارة فارهة . . . امتطيها فتنهب الارض وتمخر عباب السماء…
– وزوجتك الطيبة يا جحا، هل اسعدها المال والقصر والحديقة . . ؟
– مسكينة . . لقد اطار المارد الأسود صوابها . . قشعثت شعرها وانكمشت في احدى زوايا القصر . . تبكي حظها . .
– هجرتها اذن . . . ؟
– لا طلّقتها. . .
– مسكين . . فانت بائس وحيد في ذلك البيت الكبير . . .
– لا . . لست وحيداً . . فلقد تزوجت صبية تصغرني سنوات بعدد اصابع اليدين مرتين. .
– لا شك انها سعيدة . . . بالقصر والحديقة.
– لا وقت عند زوجتي للحب والتسلية . . فكل ما يشغلها هو كيف تستنفذ كل طاقات المارد الاسود قبل ان تدركها السنوات العجاف.
– عفوك يا جارنا القديم! نسيت ان اسألك: أتشرب كوباً من الشاي أو القهوة . . لقد اخذنا الحديث حتى نسيت حق الضيافة لجارنا العزيز . .
– كأنني شربتها يا ام هارون . . فالوقت قد سرقني . . وزوجتي الصبية تعد عليّ غيابي باللحظة والدقيقة . . ولكن لي مطلباً جئتك من اجله . . أخشى ان يسبب لجارتي القديمة ضيقاً واحراجاً . .
– تفضل، ما هو مطلبك . . . ؟
– أتذكرين قِدْرنا القديم . . الذي اعارته لك زوجتي القديمة؟ اتذكرين ذلك القدر الاحمر الذي تغير لونه من لوعة النار على اطرافه . . ؟
– اجل . . قدرك الاسود المشروخ الطرف من الأعلى . .
– هو بعينه . . اما زال عندكم يا ام هارون . . . ؟
– ربما وجدته بين القدور القديمة في مطبخي الصغير . . ولكن ماذا تريد من قدر مكسور. . اليس في قصرك قدور جديدة واوان؟
– بلى! لكنّها قدور من نحاس وحديد . . وأوانٍ من فضة وزجاج شفاف كالمرايا . .
– عجباً . . وماذا تريد اذن من قدر قديم . . تجرحت اصابعي من طرفه المكسور اكثر من عدد اصابع اليدين مرتين . . ؟
– ذكرى من القديم في بيتي الذي استبدله المارد بالقصر الكبير . . ولم يبق َ لي من الماضي سوى هذا القدر القديم . . اتعلمين من صنع هذا القدر يا ام هارون . . ؟
أجابت ام هارون وقد انهكها الحديث:
– من . . زوجتك الاولى . . ؟
– لا . . بل ام جحا . . اجل . . امي هي التي جبلت حبات طينة بعضلات قلبها الحنون . . وسقت جفاف ترابه بعرق جبينها قطرة قطرة . . وتشقّقت اطراف اناملها حتى تدوّر قاعه وجوانبه الحمراء واصبحت ناعمة ملساء . . وعندما تشكلت صورته نفخت اليه من لهيب صدرها . . حتى جفت عروقه وقوي عوده . . وحول ذاك القدر تجمعت قلوبنا بالالفة والمحبة يوماً بعد يوم، سنة بعد سنة . . وعندما اسود قاعه وانشرخ طرفه . . امتزج الطين بلقمتنا، وانساب حُب الارض في عروقنا . . حتى حماري المشهور، كان يلعق بقايا الطعام من الوعاء ونظرات الحب والامتنان في عينيه، اذ نطعمه من قدرنا الذي جمعنا على الحب كما جمعنا على الصبر . . ارجوك يا ام هارون أسرعي اليّ بالقدر القديم كي اعود لزوجتي الصبية، فهي تعد عليّ غيابي باللحظة والدقيقة . .
وقامت ام هارون تسير متثاقلة وهي تجر السنين على كتفها . . واستوقفها صوت جحا قائلا:
– يا جارتي العزيزة . . نسيت ان اسألك . . هل خلّف قدرنا القديم بعد التزاوج مع قدورك القديمة قدوراً من الصلصال غصة حمراء أزين بها مطبخي الجديد . . فقصري الكبير ينقصه عطر من التاريخ . .
ووقفت ام هارون في وسط الغرفة وادارت وجهها بدهشة قائلة:
– يا جارنا العزيز . . خشيت ان اخبرك بان قدرك القديم .. كبيتك القديم . . تحلّلت اجزاؤه . . تفتت جبات رملة وصلصالة، مع لهيب الجشع في القمقم المسحور . . .