مواضيع دون رد

محمد منسى
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
نشاط العضو نشاط العضو :
5862
نجوى

 

          نجوى، يا نسمة هواء رقيقة عطرة، إن مرّ القمر بعطرها توقف وأخذ من عبيرها رشفة.

* * *

 

         وفقدت نجوى زوجها كامل، تركها وهو في أوج قوته وشبابه، والحيوية تملأ أيامه ولياليه. وصدمتها المفاجأة كما صدمت جميع من كان حولها من أقرباء وأصدقاء.

 

         وانزوت نجوى في عقر دارها لا تعرف من أين تبدأ، فزوجها كان كل شيء في حياتها فهو سيد البيت يديره كما يشاء وهو سيد عمله يعالج جميع مشاكل عمله وحده. وتركت نجوى كل خيوط حياتها بين يدي كامل يحركها كيفما شاء حتى جاءت صدمتها الكبيرة وأفاقت ذات صباح لتجده قد ذهب بعيداً وتركها وحدها وهي لا تعرف ما عليه وما لديه.

 

         وأحست نجوى بجسامة المسؤولية الملقاة على عاتقها يوماً بعد يوم، فمن مسؤولية البيت الى نصيب زوجها من عمله مع أخوته، الى مسؤولية دراسة وحيدها كريم، الى هموم وحدتها. . هي في كل ذلك تتخبط بالحيرة بين الصواب والخطأ.

 

         وتماسكت نجوى كي تقف من جديد، فإبنها ما زال في أولى مراحل دراسته الثانوية وفي مراحل مراهقته الحائرة ويحتاج منها للكثيرمن الصبر والحب، وتحاول ان تقلد كامل في معاملته لابنه بالقسوة حيناً وباللين والرأفة حيناً آخر، وهي تظن انها بذلك تملأ فراغ السطوة الكبرى التي كان يمارسها كامل في ادارة شؤون بيته. وأخفقت نجوى وازداد كريم تمرداً.

 

         كان كريم الطفل الوحيد المدلل لوالديه، لا يُرفض له طلب ولا يُمنع عنه مال، حتى اصبح مشاكساً لا يكف عن التبرم أو البكاء حتى ينال مآربه، وكان كامل لا يتورع عن توبيخ ابنه وضربه أحياناً كي يقوّم اعوجاج عوده الطري.

 

         وازدادت مشاكسة كريم وتمرده بعد وفاة والده وكأنه يعاقب امه ويعاقب الزمن على حرمانه من والده، وكان بذلك يزيد الى هموم امه هماً جديداً كل يوم، فنتائجه المدرسية تتأخر من فصل لآخر، وان تأخر ليلاً وبخته أمه بسبب رفاق السوء، رد بأنه لا يقبل وصاية أحد عليه، فهو شاب ولا يأخذ أوامرها أو نصائح عمومته على محمل الجديد.

 

         وبعد اجتماعات طويلة بين الأم واخوة زوجها كامل . . استقر الرأي على ارسال كريم لمدرسة داخلية في احدى القرى بعيداً عن المدينة والفساد المنتشر فيها، كي ينهي هناك دراسته الثانوية ويتعود الاعتماد على نفسه.

         وبكت نجوى فراق وحيدها .. فقد أصبح كريم كل شيء في حياتها، رجل بيتها وحجره الرئيسي، فهي تعيش من أجله فقط، لا تفتح عينيها صباحاً الا كي تكحلها برؤيته، ولا تنام ليلاً الا بعد أن تطمئن على وجوده في غرفته، حتى اصبحت حياتها تدور حول محور وجوده وغيابه.

 

         وتحملت الأم فراق وحيدها على مضض وأخذت تنتظر زياراته في نهاية  الأسبوع والعطل المدرسية، أو عند زيارته في مدرسته كلما اشتد بها الحنين حتى باتت تعد أيام عمرها بتلك التي تلقى كريم بها فتحضنه بين جفنيها وتغدق عليه الحب والعطاء. وازدادت نفقات كريم المدرسية عاماً بعد آخر وازدادت طلباته المادية كلما انكمش نصيبها من تركة زوجها. وتحاملت على نفسها تحرمها الكثير كي توفر لوحيدها الرفاهية واليسر وهي سعيدة راضية، سعيدة بتقدمه في دراسته فصلاً بعد آخر حتى وصل الى الفصل الأخير من دراسته الثانوية. واجتمعت العائلة تناقش جدوى ارسال كريم للجامعة أو اكفائه بالشهادة الثانوية كي يتحمل عبء البيت بعد والده، ويقف بجانب امه التي تحملت الكثير من أجله. وأصرت نجوى على ان يواصل كريم تعليمه الجامعي مهما كان الثمن، ولن تبخل بالغالي كي يتسلح بالعلم حتى لو اضطرتها الظروف للعمل كي تواجه المسؤوليات الجديدة الملقاة على عاتقها، وأخيراً استقر الرأي على ارسال كريم للدراسة في الخارج لابعاده عن أجواء سياسية وحزبية بدأ ينخرط فيها.

 

         وعادت نجوى لوحدتها القاسية تبحث في جدران بيتها الصغير عن سبب لوجودها، فالأيام كلها متشابهة مملة . . . والليالي تمضي موحشة طويلة، وكريم بعيد هناك في غربته، بعيد عنها ولا أمل في أن يطرق باب البيت ويطل عليها بوجهه المشرق الجميل كما كان يفعل، وتقفز هي من مجلسها فتحضنه طويلاً وتتمسك به حتى لا يفلت منها وتجلس بقربه لساعات طويلة تقص عليه ما حدث لها أثناء غيابه وهو منصت ومتفهم لشوقها اليه، والأصدقاء؟ أين أصدقاؤه؟ لم يعد يطرق باب بيتها أحد يسأل عنه أو يطمئن عليها سوى شخص يحضر دائماً مع نهاية كل شهر بمظروف فيه مخصصاتها المالية من نصيب زوجها. وما بداخله من مال يتقلص فترة بعد أخرى . . ومسؤولياتها تتعاظم شهراً بعد شهر كلما ازدادت طلبات كريم التي لا تنتهي. . . وشعرت نجوى بالجوع يزحف على بيتها الصغير وهي تحرم نفسها من ضروريات الحياة الأساسية.

 

         واقترحت عليها صديقتها وجارتها سهى بأن تعمل معها في احدى رياض الاطفال، وتخبطت نجوى بين القبول والرفض، فهي لم تعتد العمل والتقيد بمواعيد العمل المحددة لكن الحاجة الى المال بدأت تزحف على بيتها الصغير ونفقات كريم الدراسية تتزايد شهراً بعد آخر والوحدة القاتلة تكاد تفقدها عقلها . . “لماذا لا تخرج من قوقعتها الى العالم حولها فهي بحاجة اليه كحاجته لها ” . . . واقتنعت نجوى بعرض صديقتها والأحاسيس تتجاذبها من كل صوب.

 

         وانخرطت نجوى في عملها الجديد ومشاعر الخوف والترقب والأمل تلاحقها مع كل خطوة، مع كل اطلالة شمس، ومع كل ابتسامة طفل. وتكيفت نجوى مع عملها، تعطيه كل وقتها وحبها وهي التي جادت بالعطاء والحب طيلة أيام حياتها حتى أصبحت رمزاً لهما ومع الأيام أصبح عملها كل شيء في حياتها تحرق نفسها في أتونه كي تنسى وحدتها وهمومها وفراق وحيدها وقسوة الأهل عليها.

 

         وظهر فؤاد في حياتها، قابلته ذات صباح عند بوابة  المدرسة والأطفال يتدافعون للدخول ويتراكضون، واصطدم بها بعض الاطفال اثناء جريهم وزلت قدمها على الدرجة الأخيرة من السلم وكادت تسقط على الأرض بما تحمل بين يديها من كتب ودفاتر . . وتدلت حقيبة يدها عن كتفها وسقطت بمحتوياتها على الأرض، وأحست بيد قوية تمسك بكتفها وتساعدها على النهوض. . ورأته ينحني على الأرض يجمع ما تبعثر من حقيبتها، وفرّ الأطفال خوفاً من توبيخ مدرستهم وهم يتضاحكون ببراءة الأطفال وشقاؤتهم.

 

         ووقفت نجوى وأمعنت النظر بذالك الغريب الذي تركت جسدها الهزيل بين يديه، وكانت نظراتها تحمل الكثير من الامتنان والريبة معا، ثم شكرته بنظرة وكلمة وسارعت بخطواتها بعيداً عن نظراته الثاقبة الجريئة.

 

         وفي اليوم التالي رأته خارجاً من مكتب مديرة دار الحضانة، فحيته بهزة من رأسها وامتدت يدها لا شعورياً الى كتفها تتحسس مكان كفّه القوية، وقالت في نفسها: لماذا أفكر بهذا الرجل، وما هو الا واحد من أولياء الأمور، ربما له أكثر من طفل واحد في الحضانة وما قدمه لي من مساعدة صدفة، يقدمها لأي امرأة تمر به وتحتاج ليد قوية تحميها من السقوط الى الأرض.

 

         ومضى يومان أو أكثر لم تر وجه ذاك الرجل في باحة الحضانة، وفي صباح يوم الثلاثاء وجدته واقفاً قرب باب المدرسة والأطفال يتراكضون ويتدافعون للدخول فتنحت نجوى جانباً كي تفسح لهم طريق الدخول واقترب فؤاد خطوة نحوها وقال وهو يبتسم ابتسامته الساحرة:

–         لا يلدغ مؤمن من جحر مرتين. ام انك تخافين أن يتكرر مني ما حدث ذاك الصباح.

قالت: أجل أحاول أن أتفادى ما حصل من شقاوة الأطفال ذاك الصباح، وبالمناسبة أكرر لك شكري.

واستمر فؤاد بالحديث وكأنه يكمل موضوعاً معها . .

قال: أعرف أنك تعملين هنا منذ مدة قصيرة ومع ذلك تشهد لك المديرة بالتفاني في عملك . .  بالمناسبة أنا أعمل هنا أيضاً، فأنا المحاسب الجديد للحضانة، وقد عرفت الآن موعد حضورك وسوف أحاول أن أكون متواجداً كي أمنع الشياطين من التدافع عند مرورك . .

 

         وانفرجت شفتاها عن ابتسامة سعيدة ومضت في طريقها، وتكرر لقاؤها بفؤاد في باحة الملعب تارة أو في مكتب المديرة تارة أخرى فيتبادلان السلام أو ابتسامة عابرة ويمضي كل واحد الى عمله. وانقطع فؤاد عن الحضور الى المدرسة، وأصابها قلق الانتظار والترقب وعيناها تبحثان عنه في أرجاء المدرسة يوماً بعد آخر، حتى علمت أنه لا يأتي الى الحضانة الا مرة أو مرتين في الاسبوع بعد انتظام الدراسة في الحضانة.

          وأصبح يوما الثلاثاء والخميس أهم أيام الاسبوع كله، وكأن كلّا منهما يوم عيد ومهرجان، تقف امام خزانة ملابسها مترددة أي الفساتين تختار وأي الألوان تلبس . . . ثم تجلس أمام المرآة تحاول أن تمحو بأطراف أناملها خطوطاً ملأت وجهها الهادىء الجميل، الذي بدا مشرقاً سعيداً وكأن دماء الشباب عادت تحرك الحيوية في مسامه كي تعيد له الحياة، وبدأت نجوى تهتم بنفسها ولبسها وزينتها بعد أن أهملت كل ذلك طيلة تلك السنين، حتى لفت اشراق وجهها اهتمام زميلاتها وصديقاتها فبادرتها صفية قائلة:

–         ان وجهك يشرق سعادة وبشراً وذلك يؤكد ان كريم قد كافأك بأحسن العلامات في دراسته . .

وقالت لها مديرة الحضانة وهي تربت على كتفها:

–         أنا فخورة بك يا نجوى، فخورة بجديتك وتفانيك بالعمل، فأنت مثال للأم التي تضحي بنفسها من أجل ابنائها. من أجل سعادة الطفولة، والسعادة التي تبدو على وجهك هي مرآة لقلبك المعطاء وروحك الكريمة.

وانكمشت نجوى في ركن غرفتها تفكر بنظرات زميلاتها وتعليقاتهن وتملكتها الحيرة، لماذا تستغرب ناظرة المدرسة ان تكون سعادتي نابعة من اعماق قلبي . . لماذا تستكثر صفية أن تنبع سعادتي من مشاعري بأن احساساً جديداً يتملك كياني، وينمو في فؤادي . . ولكن كيف الوم صفية أو غيرها وقد أصبحت منذ ذهاب كامل قلباً يمنح الحب للجميع ويغدق الحنان بلا حدود، ونسيت في خضم الأيام والآلام نفسي، نسيت حتى مشاعري وقلبي، والسنين تهرب من بين أناملي سنة بعد أخرى فترتسم خطوطاً من الألم على قسمات وجهي.

وفؤاد ذاك الغريب الذي طرق باب قلبي النائم منذ مائة عام، هل يشعر بوجودي؟

وفؤاد ذلك الغريب الذي بحت له بأسرار حياتي وهمومي بأنصت؟؟ طويلاً حتى باتت كل همومي ذكرى لوجوده قربي، ونظراته الصامتة الهادئة التي فجرت كل ذاك الدفء في قلبي، أيكون كله من نسج خيالي الذي عاد الذي عاد للأحلام والتمني، كطفلة تحلم بأن تمتلك أجمل نجمة في السماء أو كمراهقة تعيش أوهام مشاعرها بعيداً عن أرض الواقع وعثراته.

وتوالت الأفكار والصور في رأسها وعيناها معلقتان في سقف الغرفة حتى طلوع الشمس.

ورأته في اليوم التالي في باحة المدرسة، ومشى مسرعاً باتجاهها يحييها بلهفة واهتمام وقال:

–         نجوى أنت مدعوة للعشاء غداً.

أجابت وقلبها يقفز من مكانه فرحاً . .

–         ومن الداعي؟

قال وابتسامته تسبقه: أنا . . أترفضين العشاء معنا؟

قالت نجوى وهي تضغط على مخارج كلماتها حتى لا تبدو متسرعة متلهفة . .

–         كيف أرفض دعوتك . . وأنت صديق عزيز . .

فؤاد: اذن نتقابل في “سقراط” الساعة السابعة والنصف.

          وأمضت نجوى اليوم كله تفكر وتعيد التفكير فيما ستقوله له غداً حين يبوح له بحبه، ولن تبخل عليه أيضاً بما اختزنته له من حب طيلة سنوات عمرها العجاف. وبحبهما سيتغلبان معاً على جميع المشاكل والعقبات التي ستواجههما وأمضت الليل كله في احلامها الجميلة.

          ودخلت نجوى مطعم “سقراط” قبل السابعة والنصف بقليل، متعمدة ان تصل قبل فؤاد. . كي تختار الطاولة التي سيجلسان عليها، بعيداً عن أعين المتطفلين والواشين. ووقفت لبرهة عند مدخل المطعم تجيل البصر على الطاولات المنتشرة في أرجاء المطعم الهادىء، ومع الأنوار الخافتة رأت فؤاد يتقدم نحوها من ركن بعيد وابتسامته تنير المكان بفراشات الحب، ومشت هي نحوه يسبقها قلبها اليه . . فأمسكها من ذراعها وسار بها الى طاولة في ركن شاعري هادىء. رأت شابة جميلة تقف لملاقاتهما، وأحاط فؤاد كتفي نجوى بحنان قائلاً:

–         هالة حبيبتي، هذه هي نجوى التي حدثتك عنها كثيراً كثيراً.

ثم أدار وجهه لنجوى وقال بزهو ظاهر . .

–         وهذه يا نجوى . . هالة زوجتي الجميلة !!
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى