ALL-UP
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.
ALL-UP


 
أحدث الصورأحدث الصور  الرئيسيةالرئيسية  س .و .جس .و .ج  بحـثبحـث  التسجيلالتسجيل  دخولدخول  
دخول
اسم العضو:
كلمة السر:
ادخلني بشكل آلي عند زيارتي مرة اخرى: 
:: لقد نسيت كلمة السر
خادم Discord

 

 تاريخ ابن خلدون

اذهب الى الأسفل 
انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4 ... 11 ... 20  الصفحة التالية
كاتب الموضوعرسالة
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 0:04

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

بسم الله الرحمن الرحيم



تمهيـــد
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي وفقه الله تعالى‏:‏ الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شي في السماوات والأرض ولا يفوت‏.‏ أنشأنا من الأرض نسماً واستعمرنا فيها أجيالاً وأمماً ويسر لنا منها أرزاقاً وقسماً‏.‏ تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمخض لفصاله الكون قبل ان تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وشهد بصدقه الحمائم والعنكبوت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في محبته واتباعه الأثر البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم كثيراً‏.‏ أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاختفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها ألاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق‏.‏ وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل‏.‏ والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل‏.‏ هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا‏.‏ والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون‏.‏ أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار‏.‏ ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك‏.‏ ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة هن الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه‏.‏ وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره واقتصر على أحاديث دولته ومصره‏.‏ كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان‏.‏ شم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال‏.‏ فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انتضيت من أغمادها ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها‏.‏ ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال مبادىء الدول ومراتبها مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثاً عن المقنع في تباينها أوتناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب‏.‏ ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل‏.‏ وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد‏.‏ ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم‏.‏ فأنشأت في التاريخ كتاباً رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف من الملوك والأنصار وهم العرب البربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما‏.‏ فهذبت مناحيه تهذيباً وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً‏.‏ وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك‏.‏ ورتبتة على مقدمة وثلاثة كتب‏:‏ المقدمة‏:‏ في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين‏.‏ الكتاب الأول‏:‏ في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب‏.‏ الكتاب الثاني‏:‏ في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة‏.‏ الكتاب الثالث‏:‏ في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول‏.‏ ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فأفدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت بها ما كتبته فى تلك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

كاتب الموضوعرسالة
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:20

الأئمة المستورين لأن الإمام عندهم قد لا يكون له شوكة فيستتر وتكون دعاته ظاهرين إقامة للحجة على الخلق وإذا كانت له شوكة ظهر وأظهر دعوته‏.‏ قالوا وبعد محمد المكتوم ابنه جعفر الصادق وبعده ابنه محمد الحبيب وهو آخر المستورين وبعده ابنه عبد الله المهدي الذي أظهر دعوته أبو عبد الله الشيعي في كتامة وتتابع الناس على دعوته ثم أخرجه من معتقله ويسمى هؤلاء الإسماعيلية نسبة إلى القول بإمامة إسماعيل ويسمون أيضاً بالباطنية نسبة إلى قولهم بالإمام الباطن أي المستور ويسمون أيضاً الملحدة لما في ضمن مقالتهم من الإلحاد‏.‏ ولهم مقالات قديمة ومقالات جديدة دعا إليها الحسن بن محمد الصباح في آخر المائة الخامسة وملك حصوناً بالشام والعراق ولم تزل دعوته فيها إلى أن توزعها الهلاك بين ملوك الترك بمصر وملوك التتر بالعراق فانقرضت‏.‏ ومقالة هذا الصباح في دعوته مذكورة في كتاب الملل والنحل للشهرستاني‏.‏ وأما الاثنا عشرية خصوا باسم الإمامية عند المتأخرين منهم فقالوا بإمامة موسى الكاظم بن جعفر الصادق لوفاة أخيه الأكبر إسماعيل الإمام في حياة أبيهما جعفر فنص على إمامة موسى هذا ثم ابنه علي الرضا الذي عهد إليه المأمون ومات قبله فلم يتم له أمر ثم ابنه محمد التقي ثم ابنه علي الهادي ثم ابنه محمد بن الحسن العسكري ثم ابنه محمد المهدي المنتظر الذي قدمناه قبل‏.‏ وفي كل واحدة من هذه المقالات للشيعة اختلاف كثيرة إلا أن هذه أشهر مذاهبهم ومن أراد استيعابها ومطالعتها فعليه بكتاب ‏"‏ الملل والنحل ‏"‏ لابن حزم والشهرستاني وغيرهما ففيها بيان ذلك‏.‏ والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم وهو العلي الكبير‏.‏ في انقلاب الخلافة إلي الملك اعلم أن الملك غاية طبيعية للعصبية ليس وقوعه عنها باختيار إنما هو بضرورة الوجود وترتيبه كما قلناه من قبل وأن الشرائع والديانات وكل أمر يحمل عليه الجمهور فلا بد فيه من العصبية إذ المطالبة لا تتم إلا بها كما قدمناه فالعصبية ضرورية للملة وبوجودها يتم أمر الله منها‏.‏ وفي الصحيح‏:‏ ‏"‏ ما بعث الله نبياً إلا في منعة من قومه ‏"‏‏.‏ ثم وجدنا الشارع قد ذم العصبية وندب إلى اطراحها وتركها فقال‏:‏ ‏"‏ إن الله أذهب عنكم عبية الجاهلية وفخرها بالآباء أنتم بنو آدم وآدم من تراب ‏"‏ وقال تعالى‏:‏ ‏"‏ إن أكرمكم عند الله أتقاكم] ‏"‏‏.‏ ووجدناه أيضاً قد ذم الملك وأهله ونعى على أهله أحوالهم من الاستمتاع بالخلاق والإسراف في غير القصد والتنكب عن صراط الله‏.‏ وإنما حض على الألفة في الدين وحذر من الخلاف والفرقة‏.‏ واعلم أن الدنيا كلها وأحوالها عند الشارع مطية للآخرة ومن فقد المطية فقد الوصول‏.‏ وليس مراده فيما ينهى عنه أو يذمه من أفعال البشر أو يندب إلى تركه إهماله بالكلية أو اقتلاعه من أصله وتعطيل القوى التي ينشأ عليها بالكلية إنما قصده تصريفها في أغراض الحق جهد الاستطاعة حتى تصير المقاصد كلها حقاً وتتحد الوجهة كما قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه ‏"‏‏.‏ فلم يذم الغضب وهو يقصد نزعه من الإنسان فإنه لو زالت منه قوة الغضب لفقد منه الانتصار للحق وبطل الجهاد إعلاء كلمة الله وإنما يذم الغضب للشيطان وللأغراض الذميمة فإذا كان الغضب لذلك كان مذموماً وإذا كان الغضب في الله ولله كان ممدوحاً وهو من شمائله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكذا ذم الشهوات أيضاً ليس المراد إبطالها بالكلية فإن من بطلت شهوته كان نقصاً في حقه وإنما المراد تصريفها فيما أبيح له باشتماله على المصالح ليكون الإنسان عبداً متصرفاً طوع الأوامر الإلهية وكذا العصبية حيث ذمها الشارع وقال‏:‏ ‏"‏ .لن تنفعكم أرحامكم ولا أولادكم] ‏"‏ فإنما مراده حيث تكون العصبية على الباطل وأحواله كما كانت في الجاهلية وأن يكون لأحد فخربها أو حق على أحد لأن ذلك مجان من أفعال العقلاء وغير نافع في الأخرة التي هي دار القرار‏.‏ فأما إذا كانت العصبية في الحق وإقامة أمر الله فأمر مطلوب ولو بطل لبطلت الشرائع إذ لا يتم قوامها إلا بالعصبية كما قلناه من قبل‏.‏ وكذا الملك لما ذمه الشارع لم يذم منه الغلب بالحق وقهر الكافة على الدين ومراعاة المصالح وإنما ذمه لما فيه من التغلب بالباطل وتصريف الأدميين طوع الأغراض والشهوات كما قلناه‏.‏ فلو كان الملك مخلصاً في غلبه للناس أنه لله ولحملهم على وقد قال سليمان صلوات الله عليه‏:‏ ‏"‏ رب هب لي ملكاً لا ينبغي لأحد من بعدي[/url] ‏"‏ لما علم من نفسه أنه بمعزل عن الباطل في النبوة والملك‏.‏ ولما لقي معاوية عمر بن الخطاب رضي الله عنهما عند قدومه إلى الشام في أبهة الملك وزيه من العديد والعدة استنكر ذلك وقال‏:‏ ‏"‏ أكسروية يا معاوية ‏"‏ فقال‏.‏ ‏"‏ يا أمير المؤمنين إنا في ثغر تجاه العدو وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة ‏"‏ فسكت ولم يخطئة لما احتج عليه بمقصد من مقاصد الحق والدين‏.‏ فلو كان القصد رفض الملك أصله لم يقنعه هذا الجواب في تلك الكسروية وانتحالها بل كان يحرض على وجه عنها بالجملة‏.‏ وإنما أراد عمر بالكسروية ما كان عليه أهل فارس في ملكهم من ارتكاب الباطل والظلم والبغي وسلوك سبله والغفلة عن الله وأجابه معاوية بأن القصد بذلك ليس كسروية فارس وباطلهم وإنما قصده بها وجه الله فسكت‏.‏ وهكذا كان شأن الصحابة في رفض الملك وأحواله ونسيان عوائده حذراً من التباسها بالباطل‏.‏ فلما استحضر رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف أبا بكر على الصلاة إذ هي أهم أمور الدين وارتضاه الناس للخلافة وهي حمل الكافة على أحكام الشريعة ولم يجر للملك ذكر لما أنه مظنة للباطل ونحلة يومئذ لأهل الكفر وأعداء الدين‏.‏ فقام بذلك أبو بكر ما شاء الله متبعاً سنن صاحبه وقاتل أهل الردة حتى اجتمع العرب على الإسلام‏.‏ ثم عهد إلى عمر فاقتفى أثره وقاتل الأمم فغلبهم وأذن للعرب في انتزاع ما بأيديهم من الدنيا والملك فغلبوهم عليه وانتزعوه منهم‏.‏ ثم صارت إلى عثمان بن عفان ثم إلى علي رضي الله عنهما والكل متبرئون من الملك متنكبون على طرقه‏.‏ وأكد ذلك لديهم ما كانوا عليه من غضاضة الإسلام وبداوة العرب فقد كانوا أبعد الأمم عن أحوال الدنيا وترفها لا من حيث دينهم الذي يدعوهم إلى الزهد في النعيم ولا من حيث بداوتهم‏.‏ ومواطنهم وما كانوا عليه من خشونة العيش وشظفه الذي ألفوه‏.‏ فلم تكن أمة من الأمم أسغب عيشاً من مضر لما كانوا بالحجاز في أرض غير ذات زرع ولا ضرع وكانوا ممنوعين من الأرياف وحبوبها لبعدها واختصاصها بمن وليها من ربيعة واليمن فلم يكونوا يتطاولون إلى خصبها ولقد كانوا كثيراً ما يأكلون العقارب والخنافس ويفخرون بأكل العلهز وهو وبر الإبل يمهونه بالحجارة في الدم ويطبخونه‏.‏ وقريباً من هذا كانت حال قريش في مطاعمهم ومساكنهم‏.‏ حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم زحفوا إلى أمم فارس والروم وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق‏.‏ فابتزوا ملكهم واستباحوا دنياهم فزخرت بحار الرفه لديهم حتى كان الفارس الواحد يقسم له في بعض الغزوات ثلاثون ألفاً من الذهب أو نحوها‏.‏ فاستولوا من ذلك على ما لا يأخذه الحصر‏.‏ وهم مع ذلك على خشونة عيشهم فكان عمر يرقع ثوبه بالجلد وكان علي يقول‏:‏ ‏"‏ يا صفراء وبا بيضاء غري غيري ‏"‏‏.‏ وكان أبو موسى يتجافى عن أكل الدجاج لأنه لم يعهدها للعرب لقلتها يومئذ‏.‏ وكانت المناخل مفقودة عندهم بالجملة وإنما كانوا يأكلون الحنطة بنخالها‏.‏ ومكاسبهم مع هذا أتم ما كانت لأحد من أهل العالم‏.‏ قال المسعودي‏:‏ في أيام عثمان اقتنى الصحابة الضياع والمال فكان له يوم قتل عند خازنه خمسون ومائة ألف دينار وألف ألف درهم وقيمة ضياعه بوادي القرى وحنين وغيرهما مائة ألف دينار وخلف إبلاً وخيلاً كثيرة‏.‏ وبلغ الثمن الواحد من متروك الزبير بعد


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 11:23 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:21

وفاته خمسين ألف دينار وخفف ألف فرس وألف أمة‏.‏ وكان غلة طلحة من العراق ألف دينار كل يوم ومن ناحية السراة أكثر من ذلك‏.‏ وكان على مربط عبد الرحمن بن عوف ألف فرس وله ألف بعير وعشرة ألاف من الغنم وبلغ الربع من متروكه بعد وفاته أربعة وثمانين ألفاً‏.‏ وخلف زيد بن ثابت من الفضة والذهب ما كان يكسر بالفؤوس غير ما خلف من الأموال والضياع بمائة ألف دينار‏.‏ وبنى الزبير داره بالبصرة وكذلك بنى بمصر والكوفة والإسكندرية‏.‏ وكذلك بنى طلحة داره بالكوفة وشيد داره بالمدينة وبناها بالجص والآجر والساج‏.‏ وبنى سعد بن أبي وقاص داره بالعقيق ورفع سمكها وأوسع فضاءها وجعل على أعلاها شرفات‏.‏ وبني المقداد داره بالمدينة وجعلها مجصصة الظاهر والباطن وخلف يعلى بن منبه خمسين ألف دينار وعقاراً وغير ذلك ما قيمته ثلاثمائة ألف درهم‏.‏ كلام المسعودي‏.‏ فكانت مكاسب القوم كما تراه ولم يكن ذلك منعياً عليهم في دينهم إذ هي أموال لأنها غنائم وفيوء ولم يكن تصرفهم فيها بإسراف إنما كانوا على قصد في أحوالهم كما قلناه فلم يكن ذلك بقادح فيهم وإن كان الاستكثار من الدنيا مذموماً فإنما يرجع إلى ما أشرنا إليه من الإسراف والخروج به عن القصد‏.‏ وإذا كان حالهم قصداً ونفقاتهم في سبل الحق ومذاهبه كان ذلك الاستكثار عوناً لهم على طرق الحق واكتساب الدار الأخرة‏.‏ فلما تدرجت البداوة والغضاضة إلى نهايتها وجاءت طبيعة الملك التي هي مقتضى العصبية كما قلناه وحصل التغلب والقهر كان حكم ذلك الملك عندهم حكم ذلك الرفه والاستكثار من الأموال فلم يصرفوا ذلك التغلب في باطل ولا خرجوا به عن مقاصد الديانة ومذاهب الحق‏.‏ ولما وقعت الفتنة بين علي ومعاوية وهي مقتضى العصبية كان طريقهم فيها الحق والاجتهاد ولم يكونوا في محاربتهم لغرض دنيوي أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقد كما قد يتوهمه متوهم وينزع إليه ملحد‏.‏ وإنما اختلف اجتهادهم في الحق وسفه كل واحد نظر صاحبه باجتهاد في الحق فاقتتلوا عليه‏.‏ وإن كان المصيب علياً فلم يكن معاوية قائماً فيها بقصد الباطل إنما قصد الحق وأخطأ‏.‏ والكل كانوا في مقاصدهم على حق‏.‏ ثم اقتضت طبيعة الملك الانفراد بالمجد واستئثار الواحد به‏.‏ ولم يكن لمعاوية أن يدفع ذلك عن نفسه وقومه فهو أمر طبيعي ساقته العصبية بطبيعتها واستشعرته بنو أمية ومن لم يكن على طريقة معاوية في اقتفاء الحق من أتباعهم فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونه‏.‏ ولم حملهم معاوية على غير تلك الطريقة وخالفهم في الانفراد بالأمر لوقع في افتراق الكلمة التي كان جمعها وتأليفها أهم عليه من أمر ليس وراءه كبير مخالفة‏.‏ وقد كان عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسم بن محمد بن أبي بكر‏:‏ ‏"‏ لو كان لي من الأمر شيء لوليته الخلافة ولو أراد أن يعهد إليه لفعل ولكنه كان يخشى من بني أمية أهل الحل والعقد لما ذكرناه فلا يقدر أن يحول الأمر عنهم لئلا تقع الفرقة‏.‏ وهذا كله إنما حمل عليه منازع الملك التي هي مقتضى العصبية‏.‏ فالملك إذا حصل وفرضنا أن الواحد انفرد به وصرفه في مذاهب الحق ووجوهه لم يكن في ذلك نكير عليه‏.‏ ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بملك بني إسرائيل لما اقتضته طبيعة الملك فيهم من الانفراد به وكانوا ما علمت من النبوة والحق‏.‏ وكذلك عهد معاوية إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أمية لم يرضوا تسليم الأمر إلى من سواهم‏.‏ فلو قد عهد إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنهم كان به صالحاً ولا يرتاب أحد في ذلك ولا يظن بمعاوبة غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعتقد ما كان عليه من الفسق حاشا لله لمعاوية من ذلك‏.‏ وكذلك كان مروان بن الحكم وابنه وإن كانوا ملوكاً فلم يكن مذهبهم في الملك مذهب أهل البطالة والبغي إنما كانوا متحرين لمقاصد الحق جهدهم إلا في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هو أهم لديهم من كل مقصد‏.‏ يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتباع والاقتداء وما علم السلف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتج مالك في الموطإ بعمل عبد الملك‏.‏ وأما مروان فكان من الطبقة الأولى من التابعين وعدالتهم معروفة‏.‏ ثم تدرج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدين بالمكان الذي كانوا عليه‏.‏ وتوسطهم عمر بن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصحابة جهده ولم يهمل‏.‏ ثم جاء خلفهم واستعملوا طبيعة الملك في أغراضهم الدنيوية ومقاصدهم ونسوا ما كان عليه سلفهم من تحري القصد فيها واعتماد الحق في مذاهبها‏.‏ فكان ذلك مما دعا الناس إلى أن نعوا عليهم أفعالهم وأدالوا بالدعوة العباسية منهم‏.‏ وولي رجالها الأمر فكانوا من العدالة بمكان وصرفوا الملك في وجوه الحق ومذاهبه ما استطاعوا حتى جاء بنو الرشيد من بعده فكان منهم الصالح
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:21

والطالح‏.‏ ثم أفضى الأمر إلى بنيهم فأعطوا الملك والترف حقه وانغمسوا في الدنيا وباطلها ونبذوا الدين وراءهم ظهرياً فتأذن الله بحربهم وانتزاع الأمر من أيدي العرب جملة وأمكن سواهم منه‏.‏ والله لا يظلم مثقال ذرة‏.‏ ومن تأمل سير هؤلاء الخلفاء والملوك واختلافهم في تحري الحق من الباطل علم صحة ما قلناه‏.‏ وقد حكى المسعودي مثله في أحوال بني أمية عن أبي جعفر المنصور وقد حضر عمومته وذكروا بني أمية فقال‏:‏ ‏"‏ أما عبد الملك فكان جباراً لا يبالي بما صنع وأما سليمان فكان همه بطنه وفرجه وأما عمر فكان أعور بين عميان وكان رجل القوم هشام ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ولم يزل بنو أمية ضابطين لما مهد لهم من السلطان يحوطونة ويصونون ما وهب الله لهم منه مع تسنمهم معالي الأمور ورفضهم دنياتها حتى أفضى الأمر إلى أبنائهم المترفين فكانت همتهم قصد الشهوات وركوب اللذات من معاصي الله جهلاً باستدراجه وأمناً لمكره مع اطراحهم صيانة الخلافة واستخفافهم بحق الرياسة وضعفهم عن السياسة فسلبهم الله العز وألبسهم الذل ونفى عنهم النعمة ‏"‏‏.‏ ثم استحضر عبد الله بن مروان فقص عليه خبره مع ملك النوبة لما دخل أرضهم فاراً أيام السفاح قال‏:‏ ‏"‏ أقمت ملياً ثم أتاني ملكهم فقعد على الأرض وقد بسطت له فرش ذات قيمة فقلت له ما منعك من القعود على ثيابنا فقال‏:‏ إني ملك‏!‏ وحق لكل ملك أن يتواضع لعظمة الله إذ رفعه الله‏.‏ ثم قال‏:‏ لم تشربون الخمر وهي محرمة عليكم في كتابكم فقلت‏:‏ اجترأ على ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تطؤون الزرع بدوابكم والفساد محرم عليكم قلت‏:‏ فعل ذلك عبيدنا وأتباعنا بجهلهم‏!‏ قال‏:‏ فلم تلبسون الديباج والذهب والحرير وهو محرم عليكم في كتابكم قلت‏:‏ ذهب منا الملك وانتصرنا بقوم من العجم دخلوا في ديننا فلبسوا ذلك على الكره منا‏.‏ فأطرق ينكت بيده في الأرض ويقول‏:‏ عبيدنا وأتباعنا وأعاجم دخلوا في ديننا ثم رفع رأسه إلي وقال‏:‏ ‏"‏ ليس كما ذكرت‏!‏ بل أنتم قوم استحللتم ما حرم الله عليكم وأتيتم ما عنه نهيتم وظلمتم فيما ملكتم فسلبكم الله العز وألبسكم الذل بذنوبكم‏.‏ ولله نقمة لم تبلغ غايتها فيكم‏.‏ وأنا خائف أن يحل بكم العذاب وأنتم ببلدي فينالني معكم‏.‏ وإنما الضيافة ثلاث‏.‏ فتزود ما احتجت إليه وارتحل عن أرضي‏.‏ فتعجب المنصور وأطرق‏.‏ فقد تبين لك كيف انقلبت الخلافة إلى الملك وأن الأمر كان في أوله خلافة ووازع كل أحد فيها من نفسه وهو الدين وكانوا يؤثرونه على أمور دنياهم وإن أفضت إلى هلاكهم وحدهم دون الكافة‏.‏ فهذا عثمان لما حصر في الدار جاءه الحسن والحسين وعبد الله بن عمر وابن جعفر وأمثالهم يريدون المدافعة عنه فأبى ومنع من سل السيوف بين المسلمين مخافة الفرقة وحفظاً للألفة التي بها حفظ الكلمة ولو أدى إلى هلاكه‏.‏ وهذا علي أشار عليه المغيرة لأول ولايته باستبقاء الزبير ومعاوية وطلحة على أعمالهم حتى يجتمع الناس على بيعته وتتفق الكلمة وله بعد ذلك ما شاء من أمره وكان ذلك من سياسة الملك فأبى فراراً من الغش الذي ينافيه الإسلام‏.‏ وغدا عليه المغيرة من الغداة فقال‏:‏ لقد أشرت عليك بالأمس بما أشرت ثم عدت إلى نظري فعلمت أنه ليس من الحق والنصيحة وأن الحق فيما رأيته أنت فقال علي‏:‏ لا والله بل أعلم أنك نصحتني بالأمس وغششتني اليوم‏.‏ ولكن منعني مما أشرت به ذائد الحق‏.‏ وهكذا كانت أحوالهم في اصطلاح دينهم بفساد دنياهم ونحن‏:‏ نرقع دنيانا بتمزيق ديننا فلا ديننا يبقى ولا ما نرقع فقد رأيت كيف صار الأمر إلى الملك وبقيت معاني الخلافة من تحري الدين ومذاهبه والجري على منهاج الحق ولم يظهر التغير إلا في الوازع الذي كان ديناً ثم انقلب عصبية وسيفاً‏.‏ وهكذا كان الأمر لعهد معاوية ومروان وابنه عبد الملك والصدر الأول من خلفاء بني العباس إلى الرشيد وبعض ولده‏.‏ ثم ذهبت معاني الخلافة ولم يبق إلا اسمها وصار الأمر ملكاً بحتاً وجرت طبيعة التغلب إلى غايتها واستعملت في أغراضها من القهر والتقلب في الشهوات والملاذ‏.‏ وهكذا كان الأمر لولد عبد الملك ولمن جاء بعد الرشيد من بني العباس واسم الخلافة باقياً فيهم لبقاء عصبية العرب‏.‏ والخلافة والملك في الطورين ملتبس بعضها ببعض‏.‏ ثم ذهب رسم الخلافة وأثرها بذهاب عصبية العرب وفناء جيلهم وتلاشي أحوالهم وبقي الأمر ملكا بحتاً كما كان الشأن في ملوك العجم بالمشرق يدينون بطاعة الخليفة تبركاً والملك بجميع ألقابه ومناحيه لهم وليس للخليفة منه شيء‏.‏ وكذلك فعل ملوك زناتة بالمغرب مثل صنهاجة مع العبيديين ومغراوة وبني يفرن أيضاً مع خلفاء بني أمية بالأندلس والعبيديين بالقيروان‏.‏ فقد تبين أن الخلافة قد وجدت بدون الملك أولاً ثم التبست معانيهما واختلطت ثم انفرد الملك حيث افترقت عصبيته من عصبية الخلافة‏.‏ والله مقدر الليل والنهار وهو الواحد القهار‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:27

الفصل التاسع والعشرون في معنى البيعة
اعلم أن البيعة هي العهد على الطاعة كأن المبايع يعاهد أميره على أنه يسلم له النظر في أمرنفسه وأمور المسلمين لا ينازغه في شيء من ذلك ويطيعه فيما يكلفه به من الأمر على المنشط والمكره‏.‏ وكانوا إذا بايعوا الأمير وعقدوا عهده جعلوا أيديهم في يده تأكيداً للعهد فأشبه ذلك فعل البائع والمشتري فسمي بيعة مصدر باع وصارت البيعة مصافحة بالأيدي‏.‏ هذا مدلولها في عرف اللغة ومعهود الشرع وهو المراد في الحديث في بيعة النبي صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة وعند الشجرة وحيثما ورد هذا اللفظ ومنه بيعة الخلفاء‏.‏ ومنه أيمان البيعة‏.‏ كان الخلفاء يستحلفون على العهد ويستوعبون الأيمان كلها لذلك فسمي هذا الاستيعاب أيمان البيعة وكان الإكراه فيها أكثر وأغلب‏.‏ ولهذا لما أفتى مالك رضي الله عنه بسقوط يمين الإكراه أنكرها الولاة عليه ورأوها قادحة في أيمان البيعة ووقع ما وقع من محنة الإمام رضي الله عنه‏.‏ وأما البيعة المشهورة لهذا العهد فهي تحية الملوك الكسروية من تقبيل الأرض أو اليد أو الرجل أو الذيل أطلق عليها اسم البيعة التي هي العهد على الطاعة مجازاً لما كان هذا الخضوع في التحية والتزام الأداب من لوازم الطاعة وتوابعها وغلب فيه حتى صارت حقيقة عرفية واستغني بها عن مصافحة أيدي الناس التي هي الحقيقة في الأصل لما في المصافحة لكل أحد من التنزل والابتذال المنافيين للرياسة وصون المنصب الملوكي إلا في الأقل ممن يقصد التواضع من الملوك فيأخذ به نفسه مع خواصه ومشاهير أهل الدين من رعيته‏.‏ فافهم معنى البيعة في العرف فإنه أكيد على الإنسان معرفته لما يلزمه من حق سلطانه وإمامه ولا تكون أفعاله عبثاً ومجاناً واعتبر ذلك من أفعالك مع الملوك‏.‏ والله القوي العزيز‏.‏ في ولاية العهد اعلم أنا قدمنا الكلام في الإمامة ومشروعيتها لما فيها من المصلحة وأن حقيقتها النظر في مصالح الأمة لدينهم ودنياهم فهو وليهم والأمين عليهم ينظر لهم ذلك في حياته ويتبع ذلك أن ينظر لهم بعد مماته ويقيم لهم من يتولى أمورهم كما كان هو يتولاها ويثقون بنظره لهم في ذلك كما وثقوا به فيما قبل‏.‏ وقد عرف ذلك من الشرع بإجماع الأمة على جوازه وانعقاده إذ وقع بعهد أبي بكر رضي الله لعمر بمحضر من الصحابة وأجازوه وأوجبوا على أنفسهم به طاعة عمر رضي الله عنه وعنهم‏.‏ وكذلك عهد عمر في الشورى إلى الستة‏:‏ بقية العشرة وجعل لهم أن يختاروا للمسلمين ففوض بعضهم إلى بعض حتى أفضى ذلك إلى عبد الرحمن بن عوف فاجتهد وناظر المسلمين فوجدهم متفقين على عثمان وعلى علي فآثر عثمان بالبيعة على ذلك لموافقته إياه على لزوم الأقتداء بالشيخين في كل ما يعن دون اجتهاده فانعقد أمر عثمان لذلك وأوجبوا طاعته‏.‏ والملأ من الصحابة حاضرون للأولى والثانية ولم ينكره أحد منهم‏.‏ فدل على أنهم متفقون على صحة هذا العهد عارفون بمشروعيته والإجماع حجة كما عرف‏.‏ ولا يتهم الإمام في هذا الأمر وإن عهد إلى أبيه أو ابنه لأنه مأمون على النظر لهم في حياته فأولى أن لا يحتمل فيها تبعة بعد مماته خلافاً لمن قال باتهامه في الولد والوالد أو لمن خصص التهمة بالولد دون الوالد فإنه بعيد عن الظنة في ذلك كله لا سيما إذا كانت هناك داعية تدعو إليه من إيثار مصلحة أو توقع مفسدة فتنتفي الظنة عند ذلك رأساً كما وقع في عهد معاوية لابنه يزيد وإن كان فعل معاوية مع وفاق الناس له حجة في الباب‏.‏ والذي دعا معاوية لإيثار ابنه يزيد بالعهد دون من سواه إنما هو مراعاة المصلحة في اجتماع الناس واتفاق أهوائهم باتفاق أهل الحل والعقد عليه حينئذ من بني أمية إذ بنو أمية يومئذ لا يرضون سواهم وهم عصابة قريش وأهل الملة أجمع وأهل الغلب منهم‏.‏ فآثره بذلك دون غيره ممن يظن أنه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهم عند الشارع وإن كان لا يظن بمعاوية غير هذا فعدالته وصحبته مانعة من سوى ذلك‏.‏ وحضور أكابر الصحابة لذلك وسكوتهم عنه دليل على انتفاء الريب فيه فليسوا ممن يأخذهم في الحق هوادة وليس معاوية ممن تأخذة العزة في قبول الحق فإنهم كلهم أجل من ذلك وعدالتهم مانعة منه‏.‏ وفرار عبد الله بن عمر من ذلك إنما هو محمول على تورعه من الدخول في شيء من الأمور مباحاً كان أو محظوراً كما هو معروف عنه‏.‏ ولم يبق في المخالفة لهذا العهد الذي اتفق عليه الجمهور إلا ابن الزبير وندور المخالف معروف‏.‏ ثم إنه وقع مثل ذلك من بعد معاوية من الخلفاء الذين كانوا يتحرون الحق ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أمية والسفاح والمنصور والمهدي والرشيد من بني العباس وأمثالهم ممن عرفت عدالتهم وحسن رأيهم للمسلمين والنظر لهم ولا يعاب عليهم إيثار أبنائهم وإخوانهم وخروجهم عن سنن الخلفاء الأربعة في ذلك فشأنهم غير شأن أولئك الخلفاء فإنهم كانوا على حين لم تحدث طبيعة الملك وكان الوازع دينياً فعند كل أحد وازع من نفسه فعهدوا إلى من يرتضيه الدين فقط وآثروه على غيره ووكلوا كل من يسمو إلى ذلك إلى وازعه وأما من بعدهم من لدن معاوية فكانت العصبية قد أشرفت على غايتها من الملك والوازع الديني قد ضعف واحتيج إلى الوازع السلطاني والعصباني‏.‏ فلو عهد إلى غير من ترتضيه العصبية لردت ذلك العهد وانتقض أمره سريعاً وصارت الجماعة إلى الفرقة والاختلاف‏.‏ سأل رجل علياً رضي الله عنه‏:‏ ما بال المسلمين اختلفوا ا عليك ولم يختلفوا على أبي بكر وعمر فقال‏:‏ لأن أبا بكر وعمر كانا واليين على مثلي وأنا اليوم وال على مثلك يشير إلى وازع الدين‏.‏ أفلا ترى إلى المأمون لما عهد إلى علي بن موسى بن جعفر الصادق وسماه الرضا كيف أنكرت العباسية ذلك ونقضوا بيعته وبايعوا لعمه إبراهيم بن المهدي وظهر من الهرج والخلاف وانقطاع السبل وتعدد الثوار والخوارج ما كاد أن يصطلم الأمر حتى بادر المأمون من خراسان إلى بغداد ورد أمرهم لمعاهده فلا بد من اعتبار ذلك في العهد فالعصور تختلف باختلاف ما يحدث فيها من الأمور والقبائل والعصبيات وتختلف باختلاف المصالح ولكل واحد منها حكم يخصه لطفاً من الله بعباده‏.‏ وأما أن يكون القصد بالعهد حفظ التراث على الأبناء فليس من المقاصد الدينية إذ هو أمر من الله يخص به من يشاء من عباده ينبغي أن تحسن فيه النية ما أمكن خوفاً من العبث بالمناصب الدينية‏.‏ والملك لله يؤتيه من يشاء‏.‏ وعرض هنا أمور تدعو الضرورة إلى بيان الحق فيها‏:‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:27

فالأول منها ما حدث في يزيد من الفسق أيام خلافته‏.‏ فإياك أن تظن بمعاوية رضي الله عنه أنه علم ذلك من يزيد فإنه أعدل من ذلك وأفضل بل كان يعذله أيام حياته في سماع الغناء وينهاه عنه وهو أقل من ذلك وكانت مذاهبهم فيه مختلفة‏.‏ ولما حدث في يزيد ما حدث من الفسق اختلف الصحابة حينئذ في شأنه‏.‏ فمنهم من رأى الخروج عليه ونقض بيعته من أجل ذلك كما فعل الحسين وعبد الله بن الزبير رضي الله عنهما ومن اتبعهما في ذلك ومنهم من أباه لما فيه من إثارة الفتنة وكثرة القتل مع العجز عن الوفاء به لأن شوكة يزيد يومئذ هي عصابة بني أمية وجمهور أهل الحل والعقد من قريش وتستتبع عصبية مضر أجمع وهي أعظم من كل شوكة ولا تطاق مقاومتهم فأقصروا عن يزيد بسبب ذلك وأقاموا على الدعاء بهدايته والراحة منه وهذا كان شأن جمهور المسلمين‏.‏ والكل مجتهدون ولا ينكر على أحد من الفريقين فمقاصدهم في البر وتحري الحق معروفة وفقنا الله للاقتداء بهم‏.‏ والأمر الثاني هو شأن العهد من النبي صلى الله عليه وسلم وما تدعيه الشيعة من وصيته لعلي رضي الله عنه‏.‏ وهو أمر لم يصح ولا نقله أحد من أئمة النقل والذي وقع في الصحيح من طلب الدواة والقرطاس ليكتب الوصية وأن عمر منع من ذلك فدليل واضح على أنه لم يقع وكذا قول عمر رضي الله عنه حين طعن وسئل في العهد فقال‏:‏ أن أعهد لقد عهد من هو خير مني يعني أبا بكر وأن أترك فقد ترك من هو خير مني يعني النبي صلى الله عليه وسلم لم يعهد‏.‏ وكذلك قول علي للعباس رضي الله عنهما حين دعاه للدخول إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه عن شأنهما في العهد فأبى علي من ذلك وقال‏:‏ إنه إن منعنا منها فلا نطمع فيها آخر الدهر وهذا دليل على أن علياً علم أنه لم يوص ولا عهد إلى أحد‏.‏ وشبهة الإمامية في ذلك إنما هي كون الإمامة من أركان الدين كما يزعمون وليس كذلك وإنما هي من المصالح العامة المفوضة إلى نظر الخلق‏.‏ ولو كانت من أركان الدين لكان شأنها شأن الصلاة ولكان يستخلف فيها كما واحتجاج الصحابة على خلافة أبي بكر بقياسها على الصلاة في قولهم ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا دليل على أن الوصية لم تقع‏.‏ ويدل ذلك أيضاً على أن أمر الإمامة والعهد بها لم يكن مهماً كما هو اليوم وشأن العصبية المراعاة في الاجتماع والافتراق في مجاري العادة لم يكن يومئذ بذلك الاعتبار لأن أمر الدين والإسلام كان كله بخوارق العادة من تأليف القلوب عليه واستماتة الناس دونه وذلك من أجل الأحوال التي كانوا يشاهدونها في حضور الملائكة لنصرهم وتردد خبر السماء بينهم وتجدد خطاب الله في كل حادثة تتلى عليهم‏.‏ فلم يحتج إلى مراعاة العصبية لما شمل الناس من صبغة الانقياد والإذعان وما يستفزهم من تتابع المعجزات الخارقة والأحوال الإلهية الواقعة والملائكة المترددة التي وجموا منها ودهشوا من تتابعها‏.‏ فكان أمر الخلافة والملك والعهد والعصبية وسائر هذه الأنواع مندرجاً في ذلك القبيل كما وقع‏.‏ فلما انحصر ذلك المدد بذهاب تلك المعجزات ثم بفناء القرون الذين شاهدوها فاستحالت تلك الصبغة قليلاً قليلاً وذهبت الخوارق وصار الحكم للعادة كما كان‏.‏ فاعتبر أمر العصبية ومجاري العوائد فيما ينشأ عنها من المصالح والمفاسد وأصبح الملك والخلافة والعهد بهما مهماً من المهمات الأكيدة كما زعموا ولم يكن ذلك من قبل‏.‏ فانظر كيف كانت الخلافة لعهد النبي صلى الله عليه وسلم غير مهمة فلم يعهد فيها‏.‏ ثم تدرجت الأهمية زمان الخلافة بعض الشيء بما دعت الضرورة إليه في الحماية والجهاد وشأن الردة والفتوحات فكانوا بالخيار في الفعل والترك كما ذكرنا عن عمر رضي الله عنه‏.‏ ثم صارت اليوم من أهم الأمور للألفة على الحماية والقيام بالمصالح فاعتبرت فيها العصبية التي هي سر الوازع عن الفرقة والتخاذل ومنشأ الاجتماع والتوافق الكفيل بمقاصد الشريعة وأحكامها‏.‏ والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسلام بين الصحابة والتابعين‏.‏ فاعلم أن اختلافهم إنما يقع في الأمور الدينية وينشأ عن الاجتهاد في الأدلة الصحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا‏:‏ فإن قلنا أن الحق في المسائل الاجتهادية واحد من الطرفين ومن لم يصادفه فهو مخطىء فإن جهته لا تتعين بإجماع فيبقى الكل على احتمال الإصابة ولا يتعين المخطىء منها والتأثيم مدفوع عن الكل إجماعاً وإن قلنا أن الكل على حق وأن كل مجتهد مصيب فأحرى بنفي الخطإ والتأثيم‏.‏ وغاية الخلاف الذي بين الصحابة والتابعين أنه خلاف اجتهادي في مسائل دينية ظنية‏.‏ وهذا حكمه‏.‏ والذي وقع من ذلك في الإسلام إنما هو واقعة علي مع معاوية ومع الزبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزبير مع عبد الملك‏:‏ فأما واقعة علي فإن الناس كانوا عند مقتل عثمان مفترقين في الأمصار فلم يشهدوا بيعة علي‏.‏ والذين شهدوا فمنهم من بايع ومنهم من توقف حتى يجتمع الناس ويتفقوا على إمام كسعد وسعيد وابن عمر وأسامة بن زيد والمغيرة بن شعبة وعبد الله بن سلام وقدامة بن مظعون وأبي سعيد الخدري وكعب بن عجرة وكعب بن مالك والنعمان بن بشير وحسان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصحابة‏.‏ والذين كانوا في
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:28

الأمصار عدلوا عن بيعته أيضاً إلى الطلب بدم عثمان وتركوا الأمر فوضى حتى يكون شورى بين المسلمين لمن يولونه‏.‏ وظنوا بعلي هوادة في السكوت عن نصر عثمان من قاتليه لا في الممالأة عليه فحاش لله من ذلك‏.‏ ولقد كان معاوية إذا صرح بملامته إنما يوجهها عليه في سكوته فقط‏.‏ ثم اختلفوا بعد ذلك فرأى علي أن بيعته قد انعقدت ولزمت من تأخر عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة‏:‏ دار النبي صلى الله عليه وسلم وموطن الصحابة وأرجأ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع الناس واتفاق الكلمة فيتمكن حينئذ من ذلك‏.‏ ورأى الأخرون أن بيعته لم تنعقد لافتراق الصحابة أهل الحل والعقد بالأفاق ولم يحضر إلا قليل ولا تكون البيعة إلا باتفاق أهل الحل والعقد ولا تلزم بعقد من تولاها من غيرهم أو من القليل منهم وأن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أولاً بدم عثمان ثم يجتمعون على إمام‏.‏ وذهب إلى هذا معاوية وعمرو بن العاص وأم المؤمنين عائشة والزبير وابنه عبد الله وطلحة وابنه محمد وسعد وسعيد والنعمان بن بشير ومعاوية بن خديج ومن كان على رأيهم من الصحابة الذين تخلفوا عن بيعة علي بالمدينة كما ذكرنا‏.‏ إلا أن أهل العصر الثاني من بعدهم اتفقوا على انعقاد بيعة علي ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رايه فيما ذهب إليه وتعين الخطإ من جهة معاوية ومن كان على رأيه وخصوصاً طلحة والزبير لانتقاضهما على علي بعد البيعة له فيما نقل مع دفع التأثيم عن كل من الفريقين كالشأن في المجتهدين‏.‏ وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثاني على أحد قولي أهل العصر الأول كما هو معروف‏.‏ ولقد سئل علي رضي الله عنه عن قتلى الجمل وصفين فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده لا يموتن أحد من هؤلاء وقلبه نقي إلا دخل الجنة ‏"‏ يشير إلى الفريقين نقله الطبري وغيره‏.‏ فلا يقعن عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهم من علمت وأقوالهم وأفعالهم إنما هي عن المستندات وعدالتهم مفروغ منها عند أهل السنة إلا قولاً للمعتزلة فيمن قاتل علياً لم يلتفت إليه أحد من أهل الحق ولا عرج عليه‏.‏ وإذا نظرت بعين الإنصاف عذرت الناس أجمعين في شأن الاختلاف في عثمان واختلاف الصحابة من بعد وعلمت أنها كانت فتنة ابتلى الله بها الأمة بينما المسلمون قد أذهب الله عدوهم وملكهم أرضهم وديارهم ونزلوا الأمصار على حدودهم بالبصرة والكوفة والشام ومصر‏.‏ وكان أكثر العرب الذين نزلوا هذه الأمصار جفاة لم يستكثروا من صحبة النبي صلى الله عليه وسلم ولا هذبتهم سيرته وآدابه ولا ارتاضوا بخلقه مع ما كان فيهم في الجاهلية من الجفاء والعصبية والتفاخر والبعد عن سكينة الإيمان‏.‏ وإذا بهم عند استفحال الدولة قد أصبحوا في ملكة المهاجرين والأنصار من قريش وكنانة وثقيف وهذيل وأهل الحجاز ويثرب السابقين الأولين إلى الإيمان فاستنكفوا من ذلك وغضوا به لما يرون لأنفسهم من التقدم بأنسابهم وكثرتهم ومصادمة فارس والروم مثل قبائل بكر بن وائل وعبد القيس بن ربيعة وقبائل كندة والأزد من اليمن وتميم وقيس من مضر‏.‏ فصاروا إلى الغض من قريش والأنفة عليهم والتمريض في طاعتهم والتعلل في ذلك بالتظلم منهم والاستعداء عليهم والطعن فيهم بالعجز عن السوية والعدل في القسم عن التسوية وفشت المقالة بذلك وانتهت إلى المدينة وهم من علمت‏.‏ فأعظموه وأبلغوه عثمان فبعث إلى الأمصار من يكشف له الخبر‏.‏ بعث ابن عمر ومحمد بن مسلمة وأسامة بن زيد وأمثالهم فلم ينكروا على الأمراء شيئاً ولا رأوا عليهم طعناً وأدوا ذلك كما علموه‏.‏ فلم ينقطع الطعن من أهل الأمصار‏.‏ وما زالت الشناعات تنمو‏.‏ ورمي الوليد بن عقبة وهو على الكوفة بشرب الخمر وشهد عليه جماعة منهم وحده عثمان وعزله‏.‏ ثم جاء إلى المدينة من أهل الأمصار يسألون عزل العمال وشكوا إلى عائشة وعلي والزبير وطلحة وعزل لهم عثمان بعض العمال‏.‏ فلم تنقطع بذلك ألسنتهم بل وفد سعيد بن العاص وهو على الكوفة فلما رجع اعترضوة بالطريق وردوه معزولاً‏.‏ ثم انتقل الخلاف بين عثمان ومن معه من الصحابة بالمدينة ونقموا عليه امتناعه عن العزل فأبى إلا أن يكون على جرحة‏.‏ ثم نقلوا النكير إلى غير ذلك من أفعاله وهو متمسك بالاجتهاد وهم أيضاً كذلك‏.‏ ثم تجمع قوم من الغوغاء وجاؤوا إلى المدينة يظهرون طلب النصفة من عثمان وهم يضمرون خلاف ذلك من قتله‏.‏ وفيهم من البصرة والكوفة ومصر‏.‏ وقام معهم في ذلك علي وعائشة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:28

والزبير وطلحة وغيرهم يحاولون تسكين الأمور ورجوع عثمان إلى رأيهم‏.‏ وعزل لهم عامل مصر فانصرفوا قليلاً‏.‏ ثم رجعوا وقد لبسوا بكتاب مدلس يزعمون أنهم لقوه في يد حامله إلى عامل مصر بأن يقتلهم وحلف عثمان على ذلك فقالوا‏:‏ مكنا من مروان فإنه كاتبك فحلف مروان فقال عثمان ليس في الحكم أكثر من هذا‏.‏ فحاصروه بداره ثم بيتوه على حين غفلة من الناس وقتلوه وانفتح باب الفتنة‏.‏ فلكل من هؤلاء عذر فيما وقع وكلهم كانوا مهتدين بأمر الدين ولا يضيعون شيئاً من تعلقاته‏.‏ ثم نظروا بعد هذا الواقع واجتهدوا‏.‏ والله مطلع على أحوالهم وعالم بهم‏.‏ ونحن لا نظن بهم إلا خيراً لما شهدت به أحوالهم ومقالات الصادق فيهم‏.‏ وأما الحسين فإنه لما ظهر فسق يزيد عند الكافة من أهل عصره بعثت شيعة أهل البيت بالكوفة للحسين أن يأتيهم فيقوموا بأمره‏.‏ فرأى الحسين أن الخروج على يزيد متعين من أجل فسقه لا سيما من له القدرة على ذلك وظنها من نفسه بأهليته وشوكته‏.‏ فأما الأهلية فكانت كما ظن وزيادة‏.‏ وأما الشوكة فغلط يرحمه الله فيها لأن عصبية مضر كانت في قريش وعصبية قريش في عبد مناف وعصبية عبد مناف إنما كانت في بني أمية تعرف ذلك لهم قريش وسائر الناس ولا ينكرونه وإنما نسي ذلك أول الإسلام لما شغل الناس من الذهول بالخوارق وأمر الوحي وتردد الملائكة لنصرة المسلمين‏.‏ فأغفلوا أمور عوائدهم وذهبت عصبية الجاهلية ومنازعها ونسيت ولم يبق إلا العصبية الطبيعية في الحماية والدفاع ينتفع بها في إقامة الدين وجهاد المشركين والدين فيها محكم والعادة معزولة‏.‏ حتى إذا انقطع أمر النبوة والخوارق المهولة تراجع الحكم بعض الشيء للعوائد فعادت العصبية كما كانت ولمن كانت وأصبحت مضر أطوع لبني أمية من سواهم بما كان لهم من ذلك قبل‏.‏ فقد تبين لك غلط الحسين إلا أنه في أمر دنيوي لا يضره الغلط فيه‏.‏ وأما الحكم الشرعي فلم يغلط فيه لأنه منوط بظنه وكان ظنه القدرة على ذلك‏.‏ ولقد عذله ابن العباس وابن الزبير وابن عمر وابن الحنفية أخوه وغيره في مسيره إلى الكوفة وعلموا غلطه في ذلك ولم يرجع عما هو وأما غير الحسين من الصحابة الذين كانوا بالحجاز ومع يزيد بالشام والعراق ومن التابعين لهم فرأوا أن الخروج على يزيد وإن كان فاسقاً لا يجوز لما ينشأ عنه من الهرج والدماء فأقصروا عن ذلك ولم يتابعوا الحسين ولا أنكروا عليه ولا أثموه لأنه مجتهد وهو أسوة المجتهدين‏.‏ ولا يذهب بك الغلط أن تقول بتأثيم هؤلاء بمخالفة الحسين وقعودهم عن نصره فإنهم أكثر الصحابة وكانوا مع يزيد ولم يروا الخروج عليه وكان الحسين يستشهد بهم وهو يقاتل بكربلاء على فضله وحقه ويقول‏:‏ ‏"‏ سلوا جابر بن عبد الله وأبا سعيد الخدري وأنس بن مالك وسهل بن سعيد وزيد بن أرقم وأمثالهم‏.‏ ولم ينكر عليهم قعودهم عن نصره ولا تعرض لذلك لعلمه أنه عن اجتهاد منهم كما كان فعلة عن اجتهاد منه‏.‏ وكذلك لا يذهب بك الغلط أن تقول بتصويب قتله لما كان عن اجتهاد وإن كان هو على اجتهاد ويكون ذلك كما يحد الشافعي والمالكي الحنفي على شرب النبيذ‏.‏ واعلم أن الأمر ليس كذلك وقتاله لم يكن عن اجتهاد هؤلاء وإن كان خلافه عن اجتهادهم وإنما انفرد بقتاله يزيد وأصحابه‏.‏ ولا تقولن إن يزيد وإن كان فاسقاً ولم يجز هؤلاء الخروج عليه فأفعاله عندهم صحيحة‏.‏ واعلم أنه إنما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً‏.‏ وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسألتنا فلا يجوز قتال الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكدة لفسقه والحسين فيها شهيد وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربي المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سماه بالعواصم والقواصم ما معناه أن الحسين قتل بشرع جده وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومن أعدل من الحسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الأراء‏!‏‏.‏ وأما ابن الزبير فإنه رأى في قيامه ما رآه الحسين وظن كما ظن وغلطه في أمر الشوكة أعظم لأن بني أسد لا يقاومون بني أمية في جاهلية ولا إسلام‏.‏ والقول بتعين الخطأ في جهة مخالفة كما كان في جهة معاوية مع علي لا سبيل إليه لأن الإجماع هنالك قضى لنا به ولم نجده ههنا‏.‏ وأما يزيد فعين خطأه فسقه‏.‏ وعبد الملك صاحب ابن الزبير أعظم الناس عدالة وناهيك بعدالته احتجاج مالك بفعله وعدول ابن عباس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزبير وهم معه بالحجاز مع أن الكثير من الصحابة كانوا يرون أن بيعة ابن الزبير لم تنعقد لأنه لم يحضرها أهل العقد والحل كبيعة مروان وابن الزبير على خلاف ذلك والكل مجتهدون محمولون على الحق في الظاهر وإن لم يتعين في جهة منهما‏.‏ والقتل الذي نزل به بعد تقرير ما قررناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنه شهيد مثاب باعتبار قصده وتحريه الحق‏.‏ هذا هو الذي ينبغي أن تحمل عليه أفعال السلف من الصحابة والتابعين فهم خيار الأمة وإذا جعلناهم عرضة للقدح فمن الذي يختص بالعدالة والنبي صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ خير الناس قرني ثم الذين يلونهم مرتين أو ثلاثاً ثم يفشو الكذب ‏"‏ فجعل الخيرة وهي العدالة مختصة بالقرن الأول والذي يليه‏.‏ فإياك أن تعود نفسك أو لسانك التعرض لأحد منهم ولا تشوش قلبك بالريب في شيء مما وقع منهم والتمس لهم مذاهب الحق وطرقة ما استطعت فهم أولى الناس بذلك وما اختلفوا إلا عن بينة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حق واعتقد مع ذلك أن اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمة ليقتدي كل واحد بمن يختاره منهم ويجعله إمامه وهاديه ودليله‏.‏ فافهم ذلك وتبين حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنه على كل شيء قدير وإليه الملجأ والمصير‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:30

الفصل الحادي والثلاثون في الخطط الدينية الخلافية
لما تبين أن حقيقة الخلافة نيابة عن صاحب الشرع في حفظ الدين وسياسة الدنيا فصاحب الشرع متصرف في الأمرين‏:‏ أما في الدين فبمقتضى التكاليف الشرعية التي هو مأمور بتبليغها وحمل الناس عليها وأما سياسة الدنيا فبمقتضي رعايته لمصالحهم في العمران البشري‏.‏ وقد قدمنا أن هذا العمران ضروري للبشر وأن رعاية مصالحه كذلك لئلا يفسد إن أهملت وقدمنا أن الملك وسطوته كاف في حصول هذه المصالح‏.‏ نعم إنما تكون أكمل إذا كانت بالأحكام الشرعية لأنه أعلم بهذه المصالح‏.‏ فقد صار الملك يندرج تحت الخلافة إذا كان إسلامياً ويكون من توابعها‏.‏ وقد ينفرد إذا كان في غير الملة‏.‏ وله على كل حال مراتب خادمة ووظائف تابعة تتعين خططاً وتتوزع على رجال الدولة وظائف فيقوم كل واحد بوظيفته حسبما يعينه الملك الذي تكون يده عالية عليهم فيتم بذلك أمره ويحسن قيامه بسلطانه‏.‏ وأما المنصب الخلافي وإن كان الملك يندرج تحته بهذا الاعتبار الذي ذكرناه فتصرفه الديني يختص بخطط ومراتب لا تعرف إلا للخلفاء الإسلاميين‏.‏ فلنذكر الآن الخطط الدينية المختصة بالخلافة ونرجع إلى الخطط الملوكية السلطانية‏.‏ فاعلم أن الخطط الدينية الشرعية من الصلاة والفتيا والقضاء والجهاد والحسبة كلها مندرجة تحت الإمامة الكبرى التي هي الخلافة فكأنها الإمام الكبير والأصل الجامع وهذه كلها متفرعة عنها وداخلة فيها لعموم نظر الخلافة وتصرفها في سائر أحوال الملة الدينية والدنيوية وتنفيذ أحكام المشرع فيها على العموم‏.‏ فأما إمامة الصلاة فهي أرفع هذه الخطط كلها وأرفع من الملك بخصوصه المندرج معها تحت الخلافة‏.‏ ولقد يشهد لذلك استدلال الصحابة في شأن أبي بكر رضي الله عنه باستخلافه في الصلاة على استخلافه في السياسة في قولهم‏:‏ ارتضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم لديننا أفلا نرضاه لدنيانا فلولا أن الصلاة أرفع من السياسة لما صح القياس‏.‏ وإذا ثبت ذلك فاعلم أن المساجد في المدينة صنفان‏:‏ مساجد عظيمة كثيرة الغاشية معدة للصلوات المشهودة وأخرى دونها مختصة بقوم أو محلة وليست للصلوات العامة‏.‏ فأما المساجد العظيمة فأمرها راجع إلى الخليفة أو من يفوض إليه من سلطان أو وزير أو قاض فينصب لها الإمام في الصلوات الخمس والجمعة والعيدين والخسوفين والاستسقاء‏.‏ وتعين ذلك إنما هو من طريق الأولى والاستحسان ولئلا يفتات الرعايا عليه في شيء من النظر في المصالح العامة‏.‏ وقد يقول بالوجوب في ذلك من يقول بوجوب إقامة الجمعة فيكون نصب الإمام لها عنده واجباً‏.‏ وأما المساجد المختصة بقوم أو محلة فأمرها راجع إلى الجيران ولا تحتاج إلى نظر خليفة ولا سلطان‏.‏ وأحكام هذه الولاية وشروطها والمولى فيها معروفة في كتب الفقه ومبسوطة في كتب الأحكام السلطانية للماوردي وغيره فلا نطول بذكرها‏.‏ ولقد كان الخلفاء الأولون لا يقلدونها لغيرهم من الناس‏.‏ وانظر من طعن من إلى خلفاء في المسجد عند الأذان بالصلاة وترصدهم لذلك في أوقاتها يشهد لك ذلك بمباشرتهم لها وأنهم لم يكونوا يستخلفون بها‏.‏ وكذا كان رجال الدولة الأموية من بعدهم استئثاراً بها واستعظاماً لرتبتها‏.‏ يحكى عن عبد الملك أنه قال لحاجبه‏:‏ قد جعلت لك حجابة بابي إلا عن ثلائة‏:‏ صاحب الطعام فإنه يفسد بالتأخير والآذن بالصلاة فإنه داع إلى الله والبريد فإن في تأخيره فساد القاصية‏.‏ فلما جاءت طبيعة الملك وعوارضه من الغلظة والترفع عن مساواة الناس في دينهم ودنياهم استنابوا في الصلاة فكانوا يستأثرون بها في الأحيان وفي الصلوات العامة كالعيدين والجمعة إشادة وتنويهاً‏.‏ فعل ذلك كثير من خلفاء بني العباس والعبيديين صدر دولتهم‏.‏ وأما الفتيا فللخليفة تصفح أهل العلم والتدريس ورد الفتيا إلى من هو أهل لها وإعانته على ذلك ومنع من ليس أهلاً لها وزجره لأنها من مصالح المسلمين في أديانهم فتجب عليه مراعاتها لئلا يتعرض لذلك من ليس له بأهل فيضل الناس‏.‏ وللمدرس الانتصاب لتعليم العلم وبثه والجلوس لذلك في المساجد‏.‏ فإن كانت من المساجد العظام التي للسلطان الولاية عليها أو النظر فى أئمتها كما مر فلا بد من استئذانه في ذلك وإن
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™




تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:30

كانت من مساجد العامة فلا يتوقف ذلك على إذن‏.‏ على أنه ينبغي أن يكون لكل أحد من المفتين والمدرسين زاجرمن نفسه يمنعه عن التصدي لما ليس له بأهل فيدل به المستهدي ويضل به المسترشد‏.‏ وفي الأثر‏:‏ ‏"‏ أجرؤكم على الفتيا أجرؤكم على جراثيم جهنم ‏"‏‏.‏ فللسطان فيهم لذلك من النظر ما توجبه المصلحة من إجازة أو رد‏.‏ وأما القضاء فهو من الوظائف الداخلة تحت الخلافة لأنه منصب الفصل بين الناس في الخصومات حسماً للتداعي وقطعاً للتنازع إلا أنه بالأحكام الشرعية المتلقاة من الكتاب والسنة فكان لذلك من وظائف الخلافة ومندرجاً في عمومها‏.‏ وكان الخلفاء في صدر الإسلام يباشرونه بأنفسهم ولا يجعلون القضاء إلى من سواهم‏.‏ وأول من دفعه إلى غيره وفوضه فيه عمر رضي الله عنه فولى أبا الدرداء منه بالمدينة وولى شريحاً بالبصرة وولى أبا موسى الأشعري بالكوفة‏.‏ وكتب له في ذلك الكتاب المشهور الذي تدور عليه أحكام القضاة وهي مستوفاة فيه‏.‏ يقول‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإن القضاء فريضة محكمة وسنة متبعة فافهم إذا أدي إليك فإنه لا ينفع تكلم بحق لا نفاذله وآس بين الناس في وجهك ومجلسك وعدلك حتى لا يطمع شريف في حيفك ولا ييأس ضعيف من عدلك‏.‏ البينة على من ادعى واليمين على من أنكر‏.‏ والصلح جائز بين المسلمين إلا صلحاً أحل حراماً أو حرم حلالاً‏.‏ ولا يمنعك قضاء قضيته أمس فراجعت اليوم فيه عقلك وهديت فيه لرشدك أن ترجع إلى الحق فإن الحق قديم ومراجعة الحق خير من التمادي في الباطل‏.‏ الفهم الفهم فيما تلجلج في صدرك مما ليس في كتاب ولا سنة‏.‏ ثم اعرف الأمثال والأشباه وقس الأمور بنظائرها‏.‏ واجعل لمن ادعى حقاً غائباً أو بينة أمداً ينتهي إليه فإن أحضر بينته أخذت له بحقه وإلا استحللت القضية عليه فإن ذلك أنفى للشك وأجلى للعمى‏.‏ المسلمون عدول بعضهم على بعض إلا مجلوداً في حد أو مجرباً عليه شهادة زور أو ظنيناً في نسب أو ولاء فإن الله سبحانه عفا عن الأيمان ودرأ بالبينات‏.‏ وإياك والقلق والضجر والتأفف بالخصوم فإن استقرار الحق في مواطن الحق يعظم الله به الأجر ويحسن به الذكر والسلام ‏"‏‏.‏ انتهى كتاب عمر‏.‏ وإنما كانوا يقفدون القضاء لغيرهم وإن كان مما يتعلق بهم لقيامهم بالسياسة العامة وكثرة أشغالها من الجهاد والفتوحات وسد الثغور وحماية البيضة ولم يكن ذلك مما يقوم به غيرهم لعظم العناية‏.‏ فاستحقوا القضاء في الواقعات بين الناس واستخلفو فيه من يقوم به تخفيفاً على أنفسهم‏.‏ وكانوا مع ذلك إنما يقفونه أهل عصبيتهم بالنسب أو الولاء ولا يقلدونه لمن بعد عنهم في ذلك‏.‏ وأما أحكام هذا المنصب وشروطه فمعروفة في كتب الفقه وخصوصاً كتب الأحكام السلطانية‏.‏ إلا أن القاضي إنما كان له في عصر الخلفاء الفصل بين الخصوم فقط ثم دفع لهم بعد ذلك أمور أخرى على التدريج بحسب اشتغال الخلفاء والملوك بالسياسة الكبرى‏.‏ واستقر منصب القضاء آخر الأمر على أنه يجمع مع الفصل بين الخصوم استيفاء بعض الحقوق العامة للمسلمين بالنظر في أموال المحجور عليهم من المجانين واليتامى والمفلسين وأهل السفه وفي وصايا المسلمين وأوقافهم وتزويج الأيامى عند فقد الأولياء على رأي من رآه والنظر في مصالح الطرقات والأبنية وتصفح الشهود والأمناء والنواب واستيفاء العلم والخبرة فيهم بالعدالة والجرح ليحصل له الوثوق بهم وصارت هذه كلها من تعلقات وظيفته وتوابع ولايته‏.‏ وقد كان الخلفاء من قبل يجعلون للقاضي النظر في المظالم وهي وظيفة ممتزجة من سطوة السلطنة ونصفة القضاء‏.‏ وتحتاج إلى علو يد وعظيم رهبة تقمع الظالم من الخصمين وتزجر المعتدي وكأنه يمضي ما عجز القضاة أو غيرهم عن إمضائه‏.‏ ويكون نظره في البينات والتقرير واعتماد الأمارات والقرائن وتأخير الحكم إلى استجلاء الحق وحمل الخصمين على الصلح واستحلاف الشهود وذلك أوسع من نظر القاضي‏.‏ وكان الخلفاء الأولون يباشرونها بأنفسهم إلى أيام المهتدي من بني العباس رربما كانوا يجعلونها لقضاتهم كما فعل عمر رضي الله عنه مع قاضيه أبي إدريس الخولاني وكما فعله المأمون
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:31

ليحيى بن أكثم والمعتصم لأحمد بن أبي دواد‏.‏ وربما كانوا يجعلون للقاضي قيادة الجهاد في عساكر الطوائف‏.‏ وكان يحيى بن أكثم يخرج أيام المأمون بالصائفة إلى أرض الروم وكذا منذر بن سعيد قاضي عبد الرحمن الناصر من بني أمية بالأندلس‏.‏ فكانت تولية هذه الوظائف إنما تكون للخلفاء أو من يجعلون ذلك له من وزير مفوض أو سلطان متغلب‏.‏ وكان أيضاً النظر في الجرائم وإقامة الحدود في الدولة العباسية والأموية بالأندلس والعبيديين بمصر والمغرب راجعاً إلى صاحب الشرطة وهي وظيفة آخرى دينية كانت من الوظائف الشرعية في تلك الدول توسع النظر فيها عن أحكام القضاء قليلاً فيجعل للتهمة في الحكم مجالاً ويفرض العقوبات الزاجرة قبل ثبوت الجرائم ويقيم الحدود الثابتة في محالها ويحكم في القود والقصاص ويقيم التعزير والتأديب في حق من لم ينته عن الجريمة‏.‏ ثم تنوسي شأن هاتين الوظيفتين في المولى التي تنوسي فيها أمر الخلافة فصار أمر المظالم راجعاً إلى السلطان كان له تفويض من الخليفة أو لم يكن‏.‏ وانقسمت وظيفة الشرطة قسمين‏:‏ منها وظيفة التهمة على الجرائم وإقامة حدودها ومباشرة القطع والقصاص حيث يتعين ونصب لذلك في هذه الدول حاكم يحكم فيها بموجب السياسة دون مراجعة الأحكام الشرعية ويسمى تارة باسم الوالي وتارة باسم الشرطة‏.‏ وبقي قسم التعازير وإقامة الحدود في الجرائم الثابتة شرعاً فجمع للقاضي مع ما تقدم وصار ذلك من توابع وظيفته وولايته‏.‏ واستقر الأمر لهذا العهد على ذلك‏.‏ وخرجت هذه الوظيفة عن أهل عصبية الدولة‏.‏ لأن الأمر لما كان خلافة دينية وهذه الخطة من مراسم الدين فكانوا لا يولون فيها إلا من أهل عصبيتهم من العرب مواليهم بالحلف أو بالرق أو بالاصطناع ممن يوثق بكفايته أو غنائه فيما يدفع إليه‏.‏ ولما انقرض شأن الخلافة وطورها وصار الأمر كله ملكاً أو سلطاناً صارت هذه الخطط الدينية بعيدة عنه بعض الشيء لأنها ليست من ألقاب الملك ولا مراسمه ثم خرج الأمر جملة من العرب وصار الملك لسواهم من أمم الترك والبربر فازدادت هذه الخطط الخلافية بعداً عنهم بمنحاها وعصبيتها‏.‏ وذلك أن العرب كانوا يرونه أن الشريعة دينهم وأن النبي صلى الله عليه وسلم منهم وأحكامه وشرائعه نحلتهم بين الأمم وطريقهم وغيرهم لا يرون ذلك إنما يولونها جانباً من التعظيم لما دانوا بالملة فقط‏.‏ فصاروا يقلدونها من غيرعصابتهم ممن كان تأهل لها في دول الخلفاء السالفة‏.‏ وكان أولئك المتأهلون لما أخذهم ترف الدول منذ مئين من السنين قد نسوا عهد البداوة وخشونتها والتبسوا بالحضارة في عوائد ترفهم ودعتهم وقلة الممانعة عن أنفسهم وصارت هذه الخطط في المولى الملوكية من بعد الخلفاء مختصة بهذا الصنف من المستضعفين في أهل الأمصار ونزل أهلها عن مراتب العز لفقد الأهلية بأنسابهم وما هم عليه من الحضارة فلحقهم من الاحتقار ما لحق الحضر المنغمسين في الترف والدعة البعداء عن عصبية الملك الذين هم عيال على الحامية وصار اعتبارهم في الدولة من أجل قيامها بالملة وأخذها بأحكام الشريعة لما أنهم الحاملون للأحكام المقتدون بها‏.‏ ولم يكن إيثارهم في الدولة حينئذ إكراماً لذواتهم وإنما هو لما يتلمح من التجمل بمكانهم في مجالس الملك لتعظيم الرتب الشرعية ولم يكن لهم فيها من الحل والعقد شيء وإن حضروه فحضور رسمي لا حقيقة وراءه إذ حقيقة الحل والعقد إنما هي لأهل القدرة عليه فمن لا قدرة له عليه فلا حل له ولا عقد لديه‏.‏ اللهم إلا أخذ الأحكام الشرعية عنهم وتلقي الفتاوى منهم فنعم‏.‏ والله الموفق‏.‏ وربما يظن بعض الناس أن الحق فيما وراء ذلك وأن فعل الملوك فيما فعلوه من إخراح الفقهاء والقضاة من الشورى مرجوح وقد قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏‏.‏ فاعلم أن ذلك ليس كما ظنه‏.‏ وحكم الملك والسلطان إنما يجري على ما تقتضيه طبيعة العمران وإلا كان بعيداً عن السياسة‏.‏ فطبيعة العمران في هؤلاء لا تقضي لهم شيئاً من ذلك لأن الشورى والحل والعقد لا تكون إلا لصاحب عصبية يقتدر بها على حل أو عقد أو فعل أو ترك وأما من لا عصبية له ولا يملك من أمر نفسه شيئاً ولا من حمايتها وإنما هو عيال على غيره فأي مدخل له في الشورى أو أي معنى يدعو إلى اعتباره فيها‏!‏ اللهم إلا شوراه فيما يعلمه من الأحكام الشرعية فموجودة في الاستفتاء خاصة‏.‏ وأما شوراه في السياسة فهو بعيد عنها لفقدانه العصبية والقيام على معرفة أحوالها وأحكامها‏.‏ وإنما إكرامهم من تبرعات الملوك والأمراء الشاهدة لهم بجميل الاعتقاد في الدين وتعظيم من ينتسب إليه بأي جهة انتسب‏.‏ وأما قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ العلماء ورثة الأنبياء ‏"‏ فاعلم أن الفقهاء في الأغلب لهذا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:31

العهد وما احتف به إنما حملوا الشريعة أقوالاً في كيفية الأعمال في العبادات وكيفية القضاء في المعاملات ينصونها على من يحتاج إلى العمل بها هذه غاية أكابرهم ولا يتصفون إلا بالأقل منها وفي بعض الأحوال‏.‏ والسلف رضوان الله عليهم وأهل الدين والورع من المسلمين حملوا الشريعة اتصافاً بها وتحققاً بمذاهبها‏.‏ فمن حملها اتصافاً وتحققاً دون نقل فهو من الوارثين مثل أهل رسالة القشيري‏.‏ ومن اجتمع له الأمران فهو العالم وهو الوارث على الحقيقة مثل فقهاء التابعين والسلف والأئمة الأربعه ومن اقتفى طريقهم وجاء على آثرهم‏.‏ وإذا انفرد واحد من الأئمة بأحد الأمرين فالعابد أحق بالوراثة من الفقيه الذي ليس بعابد لأن العابد ورث بصفة والفقيه الذي ليس بعابد لم يرث شيئاً إنما هو صاحب أقوال ينصها علينا في كيفيات العمل وهؤلاء أكثر فقهاء عصرنا ‏"‏ ]إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وقليل ما هم[/url] ‏"‏‏.‏ العدالة وهي وظيفة دينية تابعة للقضاء ومن مواد تصريفه‏.‏ وحقيقة هذه الوظيفة القيام عن إذن القاضي بالشهادة بين الناس فيما لهم وعليهم تحملاً عند الإشهاد وأداء عند التنازع وكتباً في السجلات تحفظ به حقوق الناس وأملاكهم وديونهم وسائر معاملاتهم‏.‏ وشرط هذه الوظيفة الاتصاف بالعدالة الشرعية والبراءة من الجرح ثم القيام بكتب السجلات والعقود من جهة عبارتها وانتظام فصولها ومن جهة إحكام شروطها الشرعية وعقودها فيحتاج حينئذ إلى ما يتعلق بذلك من الفقه‏.‏ ولأجل هذه الشروط وما يحتاج إليه من المران على ذلك والممارسة له اختص ذلك ببعض العدول وصار الصنف القائمون به كأنهم مختصون بالعدالة وليس كذلك وإنما العدالة من شروط اختصاصهم بالوظيفة‏.‏ ويجب على القاضي تصفح أحوالهم والكشف عن سيرهم رعاية لشرط العدالة فيهم وأن لا يهمل ذلك لما يتعيين عليه من حفظ حقوق الناس فالعهدة عليه في ذلك كله وهو ضامن دركه‏.‏ وإذا تعين هؤلاء لهذه الوظيفة عمت الفائدة في تعيين من تخفى عدالته على القضاة بسبب اتساع الأمصار واشتباه الأحوال واضطرار القضاة إلى الفصل بين المتنازعين بالبينات الموثوقة فيعولون غالباً في الوثوق بها على هذا الصنف‏.‏ ولهم في سائر الأمصار دكاكين ومصاطب يختصون بالجلوس عليها فيتعاهدهم أصحاب المعاملات للإشهاد وتقييده بالكتاب‏.‏ وصار مدلول هذه اللفظة مشتركاً بين هذه الوظيفة التي تبين مدلولها وبين العدالة الشرعية التي هي أخت الجرح‏.‏ وقد يتواردان ويفترقان‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ أما الحسبة فهي وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر الذي هو فرض على القائم بأمور المسلمين يعين لذلك من يراه أهلاً له فيتعين فرضه عليه ويتخذ الأعوان على ذلك ويبحث عن المنكرات ويعزز ويؤدب على قدرها ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة‏:‏ مثل المنع من المضايقة في الطرقات ومنع الحمالين وأهل السفن من الإكثار في الحمل والحكم على أهل المباني المتداعية للسقوط بهدمها وإزالة ما يتوقع من ضررها على السابلة والضرب على أيدي المعلمين في المكاتب وغيرها في الإبلاع في ضربهم للصبيان المتعلمين‏.‏ ولا يتوقف حكمه على تنازع أو استعداء بل له النظر والحكم فيما يصل إلى علمه من ذلك ويرفع إليه‏.‏ وليس له إمضاء الحكم في الدعاوى مطلقاً بل فيما يتعلق بالغش والتدليس في المعايش وغيرها وفي المكاييل والموازين وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم‏.‏ وكأنها أحكام ينزه القاضي عنها لعمومها وسهولة أغراضها فتدفع إلى صاحب هذه الوظيفة ليقوم بها‏.‏ فوضعها على ذلك أن تكون خادمة لمنصب القضاء‏.‏ وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي يولي فيها باختياره‏.‏ ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاماً في أمور السياسة وأما السكة فهي النظر في النقود المتعامل بها بين الناس وحفظها مما يداخلها من الغش أو النقص إن كان يتعامل بها عدداً أو ما يتعلق بذلك ويوصل إليه من جميع الاعتبارات ثم في وضع علامة السلطان على تلك النقود بالاستجادة والخلوص برسم تلك العلامة فيها من خاتم حديد اتخذ لذلك ونقش فيه نقوش خاصة به فيوضع على الدينار بعد أن يقدر ويضرب عليه بالمطرقة حتى ترسم فيه تلك النقوش وتكون علامة على جودته بحسب الغاية التي وقف عندها السبك والتخليص في متعارف أهل القطر ومذاهب الدولة الحاكمة فإن السبك والتخليص في النقود لا يقف عند غاية وإنما ترجع غايته إلى الاجتهادة فإذا وقف أهل أفق أو قطر على غاية من التخليص وقفوا عندها وسموها إماماً وعياراً يعتبرون به نقودهم وينتقدونها بمماثلته فإن نقص عن ذلك كان زيفاً‏.‏ والنظر في ذلك كله لصاحب هذه الوظيفة‏.‏ وهي دييية بهذا الاعتبار فتندرج تحت الخلافة‏.‏ وقد كانت تندرج في عموم ولاية القاضي ثم أفردت لهذا العهد كما وقع في الحسبة‏.‏ هذا آخر الكلام في الوظائف الخلافية وبقيت منها وظائف ذهبت بذهاب ما ينظر فيه وأخرى صارت سلطانية‏:‏ فوظيفة الإمارة والوزارة والحرب والخراج صارت سلطانية نتكلم عليها في أماكنها بعد وظيفة الجهاد ووظيفة الجهاد بطلت ببطلانه إلا في قليل من الدول يمارسونه وكذا نقابة الأنساب التي يتوصل بها إلى الخلافة أو الحق في بيت المال قد بطلت لدثور الخلافة ورسومها‏.‏ وبالجملة قد اندرجت رسوم الخلافة ووظائفها في رسوم الملك والسياسة في سائر الدول لهذا العهد‏.‏ والله مصرف الأمور كيف يشاء‏.‏


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 11:33 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:32

الفصل الثاني والثلاثون في اللقب بأمير المؤمنين
وأنه من سمات الخلافة وهو محدث منذ عهد الخلفاء وذلك أنه لما بويع أبو بكر رضي الله عنه كان الصحابة رضي الله عنهم وسائر المسلمين يسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يزل الأمر على ذلك إلى أن هلك‏.‏ فلما بويع لعمر بعهده إليه كانوا يدعونه خليفة خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم‏.‏ وكأنهم استثقلوا هذا اللقب بكثرته وطول إضافته وأنه يتزايد فيما بعد دائماً إلى أن ينتهي إلى الهجنة ويذهب منه التمييز بتعدد الأضافات وكثرتها فلا يعرف‏.‏ فكانوا يعدلون عن هذا اللقب إلى ما سواه مما يناسبه ويدعى به مثله‏.‏ وكانوا يسمون قواد البعوث باسم الأمير وهو فعيل من الإمارة‏.‏ وقد كان الجاهلية يدعون النبي صلى الله عليه وسلم أمير مكة وأمير الحجاز وكان الصحابة أيضاً يدعون واتفق أن دعا بعض الصحابة عمر رضي الله عنه يا أمير المؤمنين فاستحسنه الناس واستصوبوه ودعوه به يقال‏:‏ أن أول من دعاه بذلك عبد الله بن جحش وقيل‏:‏ عمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة وقيل‏:‏ بريد جاء بالفتح من بعض البعوث ودخل المدينة وهو يسأل عن عمر ويقول أين أمير المؤمنين وسمعها اصحابه فاستحسنوه وقالوا أصبت والله اسمه إنه والله أمير المؤمنين حقاً فدعوه بذلك وذهب لقباً له في الناس‏.‏ وتوارثه الخلفاء من بعده سمة لا يشاركهم فيها أحد سواهم سائر دولة بني أمية‏.‏ ثم أن الشيعة خصوا علياً باسم الإمام نعتاً له بالإمامة التي هي أخت الخلافة وتعريضاً بمذهبهم في أنه أحق بإمامة الصلاة من أبي بكر لما هو مذهبهم وبدعتهم فخصوه بهذا الفقب ولمن يسوقون إليه منصب الخلافة من بعده فكانوا كلهم يسمون بالإمام ما داموا يدعون لهم في الخفاء حتى إذا يستولون على الدولة يحولون اللقب فيمن بعده إلى أمير المؤمنين كما فعله شيعة بني العباس فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم بالإمام إلى إبراهيم الذي جهروا بالدعاء له وعقدوا الرايات للحرب على أمره فلما هلك دعي أخوه السفاح بأمير المؤمنين‏.‏ وكذا الرافضة بإفريقية فإنهم ما زالوا يدعون أئمتهم من ولد إسماعيل بالإمام حتى انتهى الأمر إلى عبيد الله المهدي وكانوا أيضاً يدعونه بالإمام ولابنه أبي القاسم من بعده‏.‏ فلما استوثق لهم الأمر دعوا من بعدهما بأمير المؤمنين‏.‏ وكذا الأدارسة بالمغرب كانوا يلقبون إدريس وتوارث الخلفاء هذا اللقب بأمير المؤمنين وجعلوه سمة لمن يملك الحجاز والشام والعراق‏:‏ المواطن التي هي ديار العرب ومراكز الدولة وأهل الملة والفتح‏.‏ وازداد كذلك في عنفوان الدولة وبذخها لقب آخر للخلفاء يتميز بعضهم عن بعض لما في أمير المؤمنين من الاشتراك بينهم فاستحدث ذلك بنو العباس حجاباً لأسمائهم الأعلام عن امتهانها في السنة السوقة وصوناً لها عن الابتذال فتلقبوا بالسفاح والمنصور والمهدي والهادي والرشيد إلى آخر الدولة‏.‏ واقتفى آثرهم في ذلك العبيديون بإفريقية ومصر وتجافى بنو أمية عن ذلك في المشرق قبلهم من الغضاضة والسذاجة لأن العروبية ومنازعها لم تفارقهم حينئذ ولم يتحول عنهم شعار البداوة إلى شعار الحضارة‏.‏ وأما بالأندلس فتلقبوا كسلفهم مع ما علموه من أنفسهم من القصور عن ذلك بالقصور عن ملك الحجاز أصل العرب والملة والبعد عن دار الخلافة التي هي مركز العصبية وأنهم إنما منعوا بإمارة القاصية أنفسهم من مهالك بني العباس‏.‏ حتى إذا جاء عبد الرحمن الداخل الآخر منهم وهو الناصر بن محمد ابن الأمير عبد الله بن محمد بن عبد الرحمن الأوسط لأول المائة الرابعة واشتهر ما نال الخلافة بالمشرق من الحجر واستبداد الموالي وعيثهم في الخلفاء بالعزل والاستبدال والقتل والسمل ذهب عبد الرحمن هذا إلى مثل مذاهب الخلفاء بالمشرق وإفريقية وتسمى بأمير المؤمنين وتلقب بالناصر لدين الله وأخذت من بعده عادة ومذهباً لقن عنه ولم واستمر الحال على ذلك إلى أن انقرضت عصبية العرب أجمع وذهب رسم الخلافة وتغلب الموالي من العجم على بني العباس والصنائع على العبيديين بالقاهرة وصنهاجة على أمراء إفريقية وزناتة على المغرب وملوك الطوائف بالأندلس على أمر بني أمية واقتسموة وافترق أمر الإسلام فاختلفت مذاهب الملوك بالمغرب والمشرق في الاختصاص بالألقاب بعد أن تسموا جميعاً باسم السلطان‏.‏ فأما ملوك المشرق من العجم فكان الخلفاء يخصونهم بألقاب تشريفية حتى يستشعر منها انقيادهم وطاعتهم وحسن ولايتهم مثل شرف الدولة وعضد الدولة وركن الدولة ومعز الدولة ونصير الدولة ونظام الملك وبهاء الدولة وذخيرة الملك وأمثال هذه‏.‏ وكان العبيديون أيضاً يخصون بها أمراء صنهاجة‏.‏ فلما استبدوا على الخلافة قنعوا بهذه الألقاب وتجافوا عن ألقاب الخلافة أدباً معها وعدولاً عن سمتها المختصة بها شأن المتغلبين المستبدين كما قلناه قبل‏.‏ ونزع المتأخرون أعاجم المشرق حين قوي استبدادهم على الملك وعلا كعبهم في الدولة والسلطان وتلاشت عصبية الخلافة واضمحلت بالجملة إلى انتحال الألقاب الخاصة بالملك مثل الناصر والمنصور زيادة على ألقاب يختصون بها قبل هذا الانتحال مشعرة بالخروج عن ربقة الولاء والاصطناع بما أضافوها إلى الدين فقط فيقولون‏:‏ صلاح الدين أسد الدين نور الدين‏.‏ وأما ملوك الطوائف بالأندلس فاقتسموا ألقاب الخلافة وتوزعوها لقوة استبدادهم عليها بما كانوا من قبيلها وعصبيتها فتلقبوا بالناصر والمنصور والمعتمد والمظفر وأمثالها كما قال ابن أبي شرف ينعى عليهم‏:‏ مما يزهدني في أرض أندلس أسماء معتمد فيها ومعتضد ألقاب مملكة في غير موضعها كالهر يحكي انتفاخاً صورة الأسد وأما صنهاجة فاقتصروا على الألقاب التي كان الخلفاء العبيديون يلقبون بها للتنويه‏:‏ مثل نصير الدولة ومعز الدولة‏.‏ واتصل لهم ذلك لما أدالوا من دعوة العبيديين بدعوة العباسيين‏.‏ ثم بعدت الشقة بينهم وبين الخلافة ونسوا عهدها فنسوا هذه الألقاب واقتصروا على اسم السلطان‏.‏ وكذا شأن ملوك مغراوة بالمغرب لم ينتحلوا شيئاً من هذه الألقاب إلا اسم السلطان جرياً على مذاهب البداوة والغضاضة‏.‏ ولما محي رسم الخلافة وتعطل دستها وقام بالمغرب من قبائل البربر يوسف بن تاشفين ملك لمتونة فملك العدوتين وكان من أهل الخير والاقتداء نزعت به همته إلى الدخول في طاعة الخليفة تكميلاً لمراسم دينه‏.‏ فخاطب المستظهر العباسي وأوفد عليه ببيعته عبد الله بن العربي وابنه القاضي أبا بكر من مشيخة إشبيلية يطلبان توليته إياه على مغرب وتقليده ذلك فانقلبوا إليه بعهد الخلافة له على المغرب واستشعار زيهم في لبوسه ورتبته وخاطبه فيه بأمير المؤمنين تشريفاً له واختصاصاً فاتخذها لقباً‏.‏ ويقال‏:‏ إنه كان دعي له بأمير المؤمنين من قبل أدباً مع رتبة الخلافة لما كان عليه‏.‏ هو وقومه المرابطون من انتحال الدين واتباع السنة‏.‏ وجاء المهدي على أثرهم داعياً إلى الحق آخذاً بمذاهب الأشعرية ناعياً على أهل المغرب عدولهم عنها إلى تقليد السلف في ترك التأويل لظواهر الشريعة وما يؤول إليه ذلك من التجسيم كما هو معروف من مذهب الأشعرية‏.‏ وسمى أتباعه الموحدين تعريضاً بذلك النكير‏.‏ وكان يرى رأي أهل البيت في الإمام المعصوم وأنه لا بد منه في كل زمان يحفظ بوجوده نظام هذا العالم فسمي بالإمام لما قلناه أولاً من مذهب الشيعة في ألقاب خلفائهم وأردف بالمعصوم إشاعة إلى مذهبه في عصمة الإمام‏.‏ وتنزه عند أتباعه عن أمير المؤمنين أخذاً بمذاهب المتقدمين من الشيعة ولما فيها من مشاركة الأغمار والولدان من أعقاب أهل الخلافة يومئذ بالمشرق‏.‏ ثم انتحل عبد المؤمن ولي عهده اللقب بأمير المؤمنين وجرى عليه من بعده خلفاء بني عبد المؤمن وآل أبي حفص من بعدهم استئثاراً به عمن سواهم لما دعا إليه شيخهم المهدي من ذلك وأنه صاحب الأمم وأولياؤه من بعده كذلك دون كل أحد لانتفاء عصبية قريش وتلاشيها‏.‏ فكان ذلك دأبهم‏.‏ ولما انتقض الأمر بالمغرب وانتزعه زناتة ذهب أولهم مذاهب البداوة والسذاجة واتباع لمتونة في انتحال اللقب بأمير المؤمنين أدباً مع رتبة الخلافة التي كانوا على طاعتها لبني عبد المؤمن أولاً ولبني أبي حفص من بعدهم‏.‏ ثم نزع المتأخرون منهم إلى اللقب بأمير المؤمنين وانتحلوه لهذا العهد استبلاغاً في منازع الملك وتتميماً لمذاهبه وسماته‏.‏ والله غالب على أمره‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:34

الفصل الثالث والثلاثون في شرح اسم البابا والبطرك في الملة النصرانية
واسم الكوهن عند اليهود اعلم أن الملة لا بد لها من قائم عند غيبة النبي يحملهم على أحكامها وشرائعها ويكون كالخليفة فيهم للنبي فيما جاء به من التكاليف‏.‏ والنوع الأنساني أيضاً بما تقدم من ضرورة السياسة فيهم للاجتماع البشري لا بد لهم من شخص يحملهم على مصالحهم ويزعهم عن مفاسدهم بالقهر وهو المسمى بالملك‏.‏ والملة الإسلامية لما كان الجهاد فيها مشروعاً لعموم الدعوة وحمل الكافة على دين الإسلام طوعاً أو كرهاً اتخذت فيها الخلافة والملك لتوجه الشوكة من القائمين بها إليهما معاً‏.‏ وأما ما سوى الملة الإسلامية فلم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعاً إلا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وإنما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني وهو ما اقتضتة لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه لأنهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية وإنما هم مطلوبون بإقامة دينهم في خاصتهم‏.‏ ولذلك بقي بنو إسرائيل من بعد موسى ويوشع صلوات الله عليهما نحو أربعمائة سنة لا يعتنون بشيء من أمر الملك إنما همهم إقامة دينهم فقط‏.‏ وكان القائم به بينهم يسمى الكوهن كأنه خليفة موسى صلوات الله عليه يقيم لهم أمر الصلاة والقربان ويشترطون فيه أن يكون من ذرية هارون صلوات الله عليه لأن موسى لم يعقب‏.‏ ثم اختاروا لإقامة السياسة التي هي للبشر بالطبع سبعين شيخاً كانوا يتولون أحكامهم العامة‏.‏ والكوهن أعظم منهم رتبة في الدين وأبعد عن شغب الأحكام‏.‏ واتصل ذلك فيهم إلى أن استحكمت طبيعة العصبية وتمحضت الشوكة للملك فغلبوا الكنعانيين على الأرض التي أورثهم الله - بيت المقدس وما جاورها - كما بين لهم على لسان موسى صلوات الله عليه فحاربتهم أمم الفلسطين والكنعانيين والأرمن وأردن وعمان ومأرب ورئاستهم في ذلك راجعة إلى شيوخهم وأقاموا على ذلك نحواً من أربعمائة سنة ولم تكن لهم صولة الملك‏.‏ وضجر بنو إسرائيل من مطالبة الأمم فطلبوا على لسان شمويل من أنبيائهم أن يأذن الله لهم في تمليك رجل عليهم فولي عليهم طالوت وغلب الأمم وقتل جالوت ملك الفلسطين‏.‏ ثم ملك بعده داود ثم سليمان صلوات الله عليهما‏.‏ واستفحل ملكه وامتد إلى الحجاز ثم أطراف اليمن ثم إلى أطراف بلاد الروم‏.‏ ثم افترق الأسباط من بعد سليمان صلوات الله عليه بمقتضى العصبية في الدول كما قدمناه إلى دولتين كانت إحداهما بالجزيرة والموصل للأسباط العشرة والأخرى بالقدس والشام لبني يهوذا وبنيامين‏.‏ ثم غلبهم بختنصر ملك بابل على ما كان بأيديهم من الملك أولاً الأسباط العشرة ثم ثانياً بني يهوذا وبيت المقدس بعد اتصال ملكهم نحو ألف سنة وخرب مسجدهم وأحرق توراتهم وأمات دينهم ونقلهم إلى أصبهان وبلاد العراق إلى أن ردهم بعض ملوك الكيانية من الفرس إلى بيت المقدس من بعد سبعين سنة من خروجهم فبنوا المسجد وأقاموا أمر دينهم على الرسم الأول للكهنة فقط والملك للفرس‏.‏ ثم غلب الإسكندر وبنو يونان على الفرس وصار اليهود في ملكتهم‏.‏ ثم فشل أمر اليونانيين فاعتز اليهود عليهم بالعصبية الطبيعية ودفعوهم عن الاستيلاء عليهم وقام بملكهم الكهنة الذين كانوا فيهم من بني حشمناي وقاتلوا اليونان حتى انقرض أمرهم وغلبهم الروم فصاروا تحت أمرهم‏.‏ ثم رجعوا إلى بيت المقدس وفيها بنو هيرودس اصهار بني حشمناي وبقيت دولتهم فحاصروهم مدة ثم افتتحوها عنوة وأفحشوا في القتل والهدم والتحريق وخربوا بيت المقدس وأجلوهم عنها إلى رومة وما وراءها وهو الخراب الثاني للمسجد ويسميه اليهود بالجلوة الكبرى‏.‏ فلم يقم لهم بعدها ملك لفقدان العصبية منهم وبقوا بعد ذلك في ملكة الروم ومن بعدهم يقيم لهم أمر دينهم الرئيس عليهم المسمى بالكوهن‏.‏ ثم جاء المسيح صلوات الله وسلامه عليه بما جاءهم به من الدين والنسخ لبعض أحكام التوراة وظهرت على يديه الخوارق العجيبة من إبراء الأكمه والأبرص وإحياء الموتى واجتمع عليه كثير من الناس وآمنوا به وأكثرهم الحواريون من أصحابه وكانوا اثني عشر وبعث منهم رسلاً إلى الأفاق داعين إلى ملته وذلك أيام أوغسطس أول ملوك القياصرة وفي مدة هيرودس ملك اليهود الذي انتزع الملك من بني حشمناي أصهاره‏.‏ فحسده اليهود وكذبوه وكاتب هيرودس ملكهم ملك القياصرة أوغسطس يغريه به فأذن لهم في قتله ووقع ما تلاه القرآن من أمره‏.‏ وافترق الحواريون شيعاً ودخل أكثرهم بلاد الروم داعين إلى دين النصرانية‏.‏ وكان بطرس كبيرهم فنزل برومة دار ملك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:34

القياصرة ثم كتبوا الإنجيل الذي أنزل على عيسى صلوات الله عليه في نسخ أربع على اختلاف رواياتهم‏:‏ فكتب متى إنجيله في بيت المقدس بالعبرانية ونقله يوحنا بن زيدى منهم إلى اللسان اللاطيني وكتب لوقا منهم إنجيله باللطيني إلى بعض أكابر الروم وكتب يوحنا بن زبدى منهم إنجيله برومة وكتب بطرس إنجيله باللطيني ونسبه إلى مرقاص تلميذه‏.‏ واختلفت هذه النسخ الأربع من الأنجيل مع أنها ليست كلها وحياً صرفاً بل مشوبة بكلام عيسى عليه السلام وبكلام الحواريين وكلها مواعظ وقصص والأحكام فيها قليلة جداً‏.‏ واجتمع الحواريون الرسل لذلك العهد برومة ووضعوا قوانين الملة النصرانية وصيروها بيد أقليمنطس تلميذ بطرس وكتبوا فيها عدد الكتب التي يجب قبولها والعمل بها‏.‏ فمن شريعة اليهود القديمة التوراة وهي خمسة أسفار وكتاب يوشع وكتاب القضاة وكتاب راعوث وكتاب يهوذا وأسفار الملوك أربعة وسفر بنيامين وكتب المقابيين لابن كريون ثلاثة وكتاب عزرا الإمام وكتاب أوشير وقصة هامان وكتاب أيوب الصديق ومزامير داود عليه السلام وكتب ابنه سليمان عليه السلام خمسة ونبوات الأنبياء الكبار والصغار ستة عشر وكتاب يشوع بن شارخ وزير سليمان‏.‏ ومن شريعة عيسى صلوات الله عليه المتلقاة من الحواريين نسخ الإنجيل الأربعة وكتب القتاليقون سبع رسائل وثامنها الأبريكسيس في قصص الرسل وكتاب بولس أربع عشرة رسالة وكتاب أقليمنطس وفيه الأحكام وكتاب أبو غالمسيس وفيه رؤيا يوحنا بن زبدى‏.‏ واختلف شأن القياصرة في الأخذ بهذه الشريعة تارة وتعظيم أهلها ثم تركها أخرى والتسلط عليهم بالقتل والبغي إلى أن جاء قسطنطين وأخذ بها واستمروا عليها‏.‏ وكان صاحب هذا الدين والمقيم لمراسمه يسمونه البطرك وهو رئيس الملة عندهم وخليفة المسيح فيهم يبعث نوابه وخلفاءه إلى ما بعد عنه من أمم النصرانية ويسمون الأسقف أي نائب البطرك ويسمون الإمام الذي يقيم الصلوات ويفتيهم في الدين بالقسيس‏.‏ ويمفون المنقطع الذي حبس نفسه في الخلوة للعبادة بالراهب‏.‏ وأكثر خلواتهم في الصوامع‏.‏ وكان بطرس الرسول رأس الحواريين وكبير التلاميذ برومة يقيم بها دين النصرانية إلى أن قتله نيرون خامس القياصرة فيمن قتل من البطارق والأساقفة ثم قام بخلافته في كرسي رومة أريوس‏.‏ وكان مرقاس الإنجيلي بالإسكندرية ومصر والمغرب داعياً سبع سنين فقام بعده حنانيا وتسمى بالبطرك وهو أول البطاركة فيها‏.‏ وجعل معه اثني عشر قساً على أنه إذا مات البطرك يكون واحد من الاثني عشر مكانة ويختار من المؤمنين واحداً مكان ذلك الثاني عشر‏.‏ فكان أمر البطاركة إلى القسوس‏.‏ ثم لما وقع الاختلاف بينهم في قواعد دينهم وعقائده واجتمعوا بنيقية ايام قسطنطين لتحرير الحق في الدين واتفق ثلثمائة وثمانية عشر من أساقفتهم على رأي واحد في الدين فكتبوه وسموه الإمام وصيروه أصلاً يرجعون إليه‏.‏ وكان فيما كتبوه أن البطرك القائم بالدين لا يرجع في تعيينه إلى اجتهاد الأقسة كما قرره حنانيا تلميذ مرقاس وأبطلوا ذلك الرأي وإنما يقدم عن ملإ واختيار من أئمة المؤمنين ورؤسائهم فبقي الأمر كذلك ثم اختلفوا بعد ذلك في تقرير قواعد الدين وكانت لهم مجتمعات في تقريره‏.‏ ولم يختلفوا في هذه القاعدة فبقي الأمر فيها على ذلك‏.‏ واتصل فيهم نيابة الأساقفة عن البطاركة‏.‏ وكان الأساقفة يدعون البطرك بالأب أيضاً تعظيماً له‏.‏ فاشتبه الاسم في أعصار متطاولة يقال آخرها بطركية هرقل بالإسكندرية فأرادوا أن يميزوا البطرك عن الأسقف في التعظيم فدعوه البابا ومعناه أبو الأباء‏.‏ وظهر هذا الأسم أول ظهوره بمصر على ما زعم جرجيس بن العميد في
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:34

تاريخه‏.‏ ثم نقلوه إلى صاحب الكرسي الأعظم عندهم وهو كرسي رومة لأنه كرسي بطرس الرسول كما قدمناه فلم يزل سمة عليه إلى الأن‏.‏ ثم اختلفت النصارى في دينهم بعد ذلك وفيما يعتقدونه في المسيح وصاروا طوائف وفرقاً واستظهروا بملوك النصرانية كل على صاحبه فاختلف الحال في العصور في ظهور فرقة دون فرقة إلى أن استقرت لهم ثلاث طوائف هي فرقهم ولا يلتفون إلى غيرها وهم الملكية واليعقوبية والنسطورية‏.‏ ثم اختصت كل فرقة منهم ببطرك فبطرك رومة اليوم المسمى بالبابا على رأي الملكية ورومة للإفرنجة وملكهم قائم بتلك الناحية‏.‏ وبطرك المعاهدين بمصر على رأي اليعقوبية وهو ساكن بين ظهرانيهم والحبشة يدينون بدينهم ولبطرك مصر فيهم أساقفة ينوبون عنه في إقامة دينهم هنالك‏.‏ واختص اسم البابا ببطرك رومة لهذا العهد‏.‏ ولا تسمي اليعاقبة بطركهم بهذا الاسم‏.‏ وضبط هذه اللفظة بباءين موحدتين من أسفل والنطق بها مفخمة والثانية مشددة‏.‏ ومن مذاهب البابا عند الإفرنجة أنه يحضهم على الانقياد لملك واحد يرجعون إليه في اختلافهم واجتماعهم تحرجاً من افتراق الكلمة ويتحرى به العصبية التي لا فوقها منهم لتكون يده عالية على جميعهم ويسمونه الأنبرذور وحرفه الوسط بين الذال والظاء المعجمتين ومباشرة يضع التاج على رأسه للتبرك فيسمى المتوج ولعله معنى لفظة الإنبرذور‏.‏ وهذا ملخص ما أوردناه من شرح هذين الاسمين اللذين هما البابا والكوهن والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:35

الفصل الرابع والثلاثون في مراتب الملك والسلطان وألقابها
اعلم أن السلطان في نفسه ضعيف يحمل أمراً ثقيلاً فلا بد له من الاستعانة بأبناء جنسه‏.‏ وإذا كان يستعين بهم في ضرورة معاشه وسائر مهنه فما ظنك بسياسة نوعه ومن استرعاه الله من خلقه وعباده‏.‏ وهو محتاج إلى حماية الكافة من عموهم بالمدافعة عنهم وإلى كف عدوان بعضهم على بعض في أنفسهم بإمضاء الأحكام الوازعة فيهم وكف العدوان عليهم في أموالهم بإصلاح سابلتهم وإلى حملهم على مصالحهم وما تعمهم به البلوى في معاشهم ومعاملاتهم من تفقد المعايش والمكاييل والموازين حذراً من التطفيف وإلى النظر في السكة بحفظ النقود التي يتعاملون بها من الغش وإلى سياستهم بما يريده منهم من الانقياد له والرضا بمقاصده منهم وانفراده بالمجد دونهم‏.‏ فيتحمل من ذلك فوق الغاية من معاناة القلوب‏.‏ قال بعض الأشراف من الحكماء‏:‏ ‏"‏ لمعاناة نقل الجبال من أماكنها أهون علي من معاناة قلوب الرجال ‏"‏‏.‏ ثم أن الاستعانة إذا كانت بأولي القربى من أهل النسب أو التربية أو الاصطناع القديم للدولة كانت أكمل لما يقع في ذلك من مجانسة خلقهم لخلقه فتتم المشاكلة في الاستعانة‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري ‏"‏‏.‏ وهو إما أن يستعين في ذلك بسيفه أو قلمه أو رأيه أو معارفه أو بحجابه عن الناس أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن النظر في مهماتهم‏.‏ أو يدفع النظر في الملك كله ويعول على كفايته في ذلك واضطلاعه‏.‏ فلذلك قد توجد في رجل واحد وقد تفترق في أشخاص‏.‏ وقد يتفرع كل واحد منها إلى فروع كثيرة‏:‏ كالقلم يتفرع إلى قلم الرسائل والمخاطبات وقلم الصكوك والإقطاعات وإلى قلم المحاسبات وهو صاحب الجباية والعطاء وديوان الجيش وكالسيف يتفرع إلى صاحب الحرب وصاحب الشرطة وصاحب البريد وولاية الثغور‏.‏ ثم اعلم أن الوظائف السلطانية في هذه الملة الإسلامية مندرجة تحت الخلافة لاشتمال منصب الخلافة على الدين والدنيا كما قدمناه‏.‏ فالأحكام الشرعية متعلقة بجميعها وموجودة لكل واحدة منها في سائر وجوهها لعموم تعلق الحكم الشرعي بجميع أفعال العباد‏.‏ والفقيه ينظر في مرتبة الملك والسلطان وشروط تقليدها استبداداً على الخلافة وهو معنى السلطان أو تعويضاً منها وهو معنى الوزارة عندهم كما يأتي وفي نظره في الأحكام والأموال وسائر السياسات مطلقاً أو مقيداً أو في موجبات العزل أن عرضت وغير ذلك من معاني الملك والسلطان وكذا في سائر الوظائف التي تحت الملك والسلطان من وزارة أو جباية أو ولاية‏.‏ لا بد للفقيه من النظر في جميع ذلك لما قدمناه من انسحاب حكم الخلافة الشرعية في الملة الإسلامية على رتبة الملك والسلطان‏.‏ إلا أن كلامنا في وظائف الملك والسلطان ورتبته إنما هو بمقتضى طييعة العمران ووجود البشر لا بما يخصها من أحكام الشرع فليس من غرض كتابنا كما علمت فلا نحتاج إلى تفصيل أحكامها الشرعية مع أنها مستوفاة في كتب الأحكام السلطانية مثل كتاب القاضي أبي الحسن الماوردي وغيره من أعلام الققهاء فإن أردت استيفاءها فعليك بمطالعتها هنالك‏.‏ وإنما تكلمنا في الوظائف الخلافية وأفردناها لنميز بينها وبين الوظائف السلطانية فقط لا لتحقيق أحكامها الشرعية فليس من غرض كتابنا وإنما نتكلم في ذلك بما تقتضيه طبيعة العمران في الوزارة وهي أم الخطط السلطانية والرتب الملوكية لأن اسمها يدل على مطلق الإعانة فإن الوزارة مأخوذة إما من المؤازرة وهي المعاونة أو من الوزر وهو الثقل كأنه يحمل مع مفاعله أوزاره وأثقاله وهو راجع إلى المعاونة المطلقة‏.‏ وقد كنا قدمنا في أول الفصل أن أحوال السلطان وتصرفاته لا تعدو أربعة‏:‏ لأنها إما أن تكون في أمور حماية الكافة وأسبابها من النظر في الجند والسلاح والحروب وسائر أمور الحماية والمطالبة وصاحب هذا هو الوزير المتعارف قي الدول القديمة بالمشرق ولهذا العهد بالمغرب وإما أن تكون في أمور مخاطباته لمن بعد عنه في المكان أو في الزمان وتنفيذه الأوامر فيمن هو محجوب عنه وصاحب هذا هو الكاتب وإما أن تكون في أمور جباية المال وإنفاقه وضبط ذلك من جميع وجوهه أن يكون بمضيعة وصاحب هذا هو صاحب المال والجباية وهو المسمى بالوزير لهذا العهد بالمشرق وإما أن يكون في مدافعة الناس ذوي الحاجات عنه أن يزدحموا عليه فيشغلوه عن فهمه وهذا راجع لصاحب الباب الذي يحجبه‏.‏ فلا تعدو أحواله هذه الأربعة بوجه‏.‏ وكل خطة أو رتبة من رتب الملك والسلطان فإليها ترجع‏.‏ إلا أن الأرفع منها ما كانت الإعانة فيه عامة فيما تحت يد السلطان من ذلك الصنف إذ هو يقتضي مباشرة السلطان دائماً ومشاركته فى كل صنف من أحوال ملكه‏.‏ وأما ما كان خاصاً ببعض الناس أو ببعض الجهات فيكون دون الرتبة الأخرى كقيادة ثغر أو ولاية جباية خاصة أو النظر في أمر خاص كحسبة الطعام أو النظر في السكة فإن هذه كلها نظر في أحوال خاصة فيكون صاحبها تبعاً لأهل النظر العام وتكون رتبته مرؤوسة لأولئك‏.‏ وما زال الأمر في الدول قبل الإسلام هكذا حتى جاء الإسلام وصار الأمر خلافة فذهبت تلك الخطط كلها بذهاب رسم الملك إلا ما
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:36

هو طبيعي من المعاونة بالرأي والمفاوضة فيه فلم يمكن زواله إذ هو أمر لا بد منه‏.‏ فكان صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه ويفاوضهم في مهماته العامة والخاصة ويخص مع ذلك أبا بكر بخصوصيات أخرى حتى كان العرب الذين عرفوا الدول وأحوالها في كسرى وقيصر والنجاشي يسمون أبا بكر وزيره‏.‏ ولم يكن لفظ الوزير يعرف بين المسلمين لذهاب رتبة الملك بسذاجة الإسلام‏.‏ وكذا عمر مع أبي بكر وعلي وعثمان مع عمر‏.‏ وأما حال الجباية والإنفاق والحسبان فلم يكن عندهم برتبة لأن القوم كانوا عرباً أميين لا يحسنون الكتاب والحساب فكانوا يستعملون في الحساب أهل الكتاب أو أفراداً من موالي العجم ممن يجيده وكان قليلاً فيهم‏.‏ وأما أشرافهم فلم يكونوا يجيدونه لأن الأمية كانت صفتهم التي امتازوا بها‏.‏ وكذا حال المخاطبات وتنفيذ الأمور لم تكن عندهم رتبة خاصة للأمية التي كانت فيهم والأمانة العامة في كتمان القول وتأديته ولم تخرج السياسة إلى اختياره لأن الخلافة إنما هي دين ليست من السياسة الملكية في شيء‏.‏ وأيضاً فلم تكن الكتابة صناعة فيستجاد للخليفة أحسنها لأن الكل كانوا يعبرون عن مقاصدهم بأبلغ العبارات‏.‏ ولم يبق إلا الخط فكان الخليفة يستنيب في كتابته متى عن له من يحسنه‏.‏ وأما مدافعة ذوي الحاجات عن أبوابهم فكان محظوراً بالشريعة فلم يفعلوه‏.‏ فلما انقلبت الخلافة إلى الملك وجاءت رسوم السلطان وألقابه كان أول شيء بدىء به في الدولة شأن الباب وسده دون الجمهور بما كانوا يخشون على أنفسهم من اغتيال الخوارج وغيرهم كما وقع بعمر وعلي ومعاوية وعمرو بن العاص وغيرهم مع ما في فتحه من ازدحام الناس عليهم وشغلهم بهم عن المهمات‏.‏ فاتخذوا من يقوم لهم بذلك وسموه الحاجب‏.‏ وقد جاء أن عبد الملك لما ولى حاجبه قال له‏:‏ قد وليتك حجابة بابي إلا عن ثلاثة‏:‏ المؤذن للصلاة فإنه داعي الله وصاحب البريد فأمر ما جاء به وصاحب الطعام لئلا يفسد‏.‏ ثم استفحل الملك بعد ذلك فظهر المشاور والمعين في أمور القبائل والعصائب واستئلافهم وأطلق عليه اسم الوزير‏.‏ وبقي أمر الحسبان في الموالي والذميين‏.‏ واتخذ للسجلات كاتب مخصوص حوطة على أسرار السلطان أن تشتهر فتفسد سياسته مع قومه ولم يكن بمثابة الوزير لأنه إنما احتيج له من حيث الخط‏.‏ والكتاب لا من حيث اللسان الذي هو الكلام إذ اللسان لذلك العهد على حاله لم يفسد‏.‏ فكانت الوزارة لذلك أرفع رتبهم يومئذ‏.‏ هذا في سائر دولة بني أمية‏.‏ فكان النظر للوزير عاماً في أحوال التدبير والمفاوضات وسائر أمور الحمايات والمطالبات وما يتبعها من النظير في ديوان الجند وفرض العطاء بالأهلية وغير ذلك‏.‏ فلما جاءت دولة بني العباس واستفحل الملك وعظمت مراتبه وارتفعت عظم شأن الوزير وصارت إليه النيابة في إنفاذ الحل والعقد وتعينت مرتبته في الدولة وعنت لها الوجوه وخضعت لها الرقاب وجعل لها النظر في ديوان الحسبان لما تحتاج إليه خطته من قسم الأعطيات في الجند فاحتاج إلى النظر في جمعه وتفريقه وأضيف إليه النظر فيه‏.‏ ثم جعل له النظر في القلم والترسيل لصون أسرار السلطان ولحفظ البلاغة لما كان اللسان قد فسد عند الجمهور‏.‏ وجعل الخاتم لسجلات السلطان ليحفظها من الذياع والشياع ودفع إليه‏.‏ فصار اسم الوزير جامعاً لخطتي السيف والقلم وسائر معاني الوزارة والمعاونة حتى لقد دعي جعفر بن يحيى بالسلطان أيام الرشيد إشارة إلى عموم نظره وقيامه بالدولة‏.‏ ولم يخرج عنه من الرتب السلطانية كلها إلا الحجابة التي هي القيام على الباب فلم تكن له لاستنكافه عن مثل ذلك‏.‏ ثم جاء في الدولة العباسية شأن الاستبداد على السلطان وتعاور فيها استبداد الوزارة مرة والسلطان آخرى‏.‏ وصار الوزير إذا استبد محتاجاً إلى استنابة الخليفة إياه لذلك لتصح الأحكام الشرعية وتجيء على حالها كما تقدم‏.‏ فانقسمت الوزارة حينئذ
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 11:36

إلى وزارة تنفيذ وهي حال ما يكون السلطان قائماً على نفسه وإلى وزارة تفويض وهي حال ما يكون الوزير مستبداً عليه‏.‏ ثم استمر الاستبداد وصار الأمر لملوك العجم وتعطل رسم الخلافة‏.‏ ولم يكن لأولئك المتغلبين أن ينتحلوا ألقاب الخلافة واستنكفوا من مشاركة الوزراء في اللقب لأنهم خول لهم فتسموا بالإمارة والسلطان‏.‏ وكان المستبد على الدولة يسمى أمير الأمراء أو بالسلطان إلى ما يحليه به الخليفة من ألقابه كما تراة في ألقابهم وتركوا اسم الوزارة إلى من يتولاها للخليفة في خاصته‏.‏ ولم يزل هذا الشأن عندهم إلى آخر دولتهم‏.‏ وفسد اللسان خلال ذلك كله وصارت صناعة ينتحلها بعض الناس فامتهنت وترفع الوزراء عنها لذلك ولأنهم عجم وليست تلك البلاغة هي المقصودة من لسانهم فتخير لها من سائر الطبقات واختصت به وصارت خادمة للوزير‏.‏ واختص اسم الأمير بصاحب الحروب والجند وما يرجع إليها ويده مع ذلك عالية على أهل الرتب وأمره نافذ في الكل إما نيابة أو استبدادا‏.‏ واستمر الأمر على هذا‏.‏ ثم جاءت دولة الترك آخراً بمصر فرأوا أن الوزارة قد ابتذلت بترفع أولئك عنها ودفعها لمن يقوم بها للخليفة المحجور ونظره مع ذلك متعتقب بنظر الأمير فصارت مرؤوسة ناقصة فاستنكف أهل هذه الرتبة المالية في الدولة عن اسم الوزارة‏.‏ وصار صاحب الأحكام والنظر في الجند يسمى عندهم بالنائب لهذا العهد وبقي اسم الحاجب في مدلوله واختص اسم الوزير عندهم بالنظر في الجباية‏.‏ وأما دولة بني أمية بالأندلس فأنفوا اسم الوزير في مدلوله أول الدولة ثم قسموا خطته أصنافاً وأفردوا لكل صنف وزيراً‏:‏ فجعلوا لحسبان المال وزيراً وللترسيل وزيراً وللنظر في حوائج المتظلمين وزيراً وللنظر في أحوال أهل الثغور وزيراً وجعل لهم بيت يجلسون فيه على فرش منضمة لهم وينفذون أمر السلطان هناك كل فيما جعل له‏.‏ وأفرد للتردد بينهم وبين الخليفة واحد منهم ارتفع عنهم بمباشرة السلطان في كل وقت فارتفع مجلسه عن مجالسهم وخصوه باسم الحاجب ولم يزل الشأن هذا إلى آخر دولتهم فارتفعت خطة الحاجب ومرتبته على سائر الرتب حتى صار ملوك الطوائف ينتحلون لقبها فأكثرهم يومئذ يسمى الحاجب كما نذكره‏.‏ ثم جاءت دولة الشيعة بإفريقية والقيروان وكان للقائمين بها رسوخ في البداوة فأغفلوا أمر هذه الخطط أولاً وتنقيح أسمائها حتى أدركت دولتهم الحضارة فصاروا إلى تقليد الدولتين قبلهم في وضع أسمائها كما تراه في أخبار دولتهم‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين من بعد ذاك أغفلت الأمر أولاً للبداوة ثم صارت إلى انتحال الأسماء والألقاب‏.‏ وكان اسم الوزير في مدلوله‏.‏ ثم اتبعوا دولة الأمويين وقلدوها في مذاهب السلطان واختاروا اسم الوزير لمن يحجب السلطان في مجلسه ويقف بالوفود والداخلين على السلطان عند الحدود في تحيتهم وخطابهم والآداب التي تلزم في الكون بين يديه ورفعوا خطة الحجابة عنه ما شاؤوا ولم يزل الشأن ذلك إلى هذا العهد‏.‏ وأما في دولة الترك بالمشرق فيسمون هذا الذي يقف بالناس على حدود الأداب في اللقاء والتحية في مجالس السلطان والتقدم بالوفود بين يديه الدويدار ويضيفون إليه استتباع كاتب السر وأصحاب البريد المتصرفين في حاجات السلطان بالقاصية وبالحاضرة‏.‏ وحالهم على ذلك لهذا العهد‏.‏ والله مولي الأمور لمن يشاء‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:42

الحجابة
قد قدمنا أن هذا اللقب كان مخصوصاً في الدولة الأمويه والعباسية بمن يحجب السلطان عن العامة ويغلق بابه دونهم أو يفتحه لهم على قدره في مواقيته‏.‏ وكانت هذه منزلة يومئذ عن الخطط مرؤوسة لها إذ الوزير متصرف فيها بما يراه‏.‏ وهكذا كانت سائر أيام بني العباس وإلى هذا العهد فهي بمصر مرؤوسة لصاحب الخطة العليا المسمى بالنائب‏.‏ وأما في الدولة الأموية بالأندلس فكانت الحجابة لمن يحجب السلطان في الخاصة والعامة ويكون واسطة بينه وبين الوزراء فمن دونهم‏.‏ فكانت في دولتهم رفيعة غاية كما تراه في أخبارهم كابن حديد وغيره من حجابهم‏.‏ ثم لما جاء الاستبداذ على الدولة اختص المستبد باسم الحجابة لشرفها‏.‏ فكان المنصور بن أبي عامر وأبناؤه كذلك‏.‏ ولما بدؤوا في مظاهر الملك وأطواره جاء من بعدهم من ملوك الطوائف فلم يتركوا لقبها وكانوا يعدونها شرفاً لهم وكان أعظمهم ملكاً بعد انتحال ألقاب الملك وأسمائه لا بد له من ذكر الحاجب وفي الوزارتين يعنون به السيف والقلم ويدلون بالحجابة على حجابة السلطان عن العامة والخاصة وبذي الوزارتين على جمعه لخطتي السيف والقلم‏.‏ ثم لم يكن في دول المغرب وإفريقية ذكر لهذا الاسم للبداوة التي كانت فيهم‏.‏ وربما يوجد في دولة العبيديين بمصر عند استعظامها وحضارتها إلا أنه قليل‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين لم تستمكن فيها الحضارة الداعية إلى انتحال الألقاب وتمييز الخطط وتعيينها بالأسماء إلا آخراً‏.‏ فلم يكن عندهم من الرتب إلا الوزير فكانوا أولاً يخصون بهذا الاسم الكاتب المتصرف المشارك للسلطان في خاص أمره كابن عطية وعبد السلام الكومي‏.‏ وكان له مع ذلك النظر في الحساب والأشغال المالية‏.‏ ثم صار بعد ذلك اسم الوزير لأهل نسب وأما بنو أبي حفص بإفريقية فكانت الرياسة في دولتهم أولاً والتقديم لوزير الرأي والمشورة‏.‏ وكان يخص باسم شيخ الموحدين‏.‏ وكان له النظر في الولايات والعزل وقود العساكر والحروب واختص الحسبان والديوان برتبة أخرى ويسمى متوليها بصاحب الأشغال ينظر فيها النظر المطلق في الدخل والخرج ويحاسب ويستخلص الأموال ويعاقب على التفريط وكان من شرطه أن يكون من الموحدين‏.‏ واختص عندهم القلم أيضاً بمن يجيد الترسيل ويؤتمن على الأسرار لأن الكتابة لم تكن من منتحل القوم ولا الترسيل بلسانهم فلم يشترط فيه النسب واحتاج السلطان لاتساع ملكه وكثرة المرتزقين بداره إلى قهرمان خاص بداره في أحواله يجريها على قدرها وترتيبها من رزق وعطاء وكسوة ونفقة في المطابخ والاصطبلات وغيرهما وحصر الذخيرة وتنفيذ ما يحتاج إليه في ذلك على أهل الجباية فخصوه باسم الحاجب‏.‏ وربما أضافوا إليه كتابة العلامة على السجلات إذا اتفق أنه يحسن صناعة الكتابة وربما جعلوه لغيره‏.‏ واستمر الأمر على ذلك وحجب السلطان نفسه عن الناس فصار هذا الحاجب واسطة بين الناس وبين أهل الرتب كلهم‏.‏ ثم جمع له آخر الدولة السيف والحرب ثم الرأي والمشورة فصارت الخطة أرفع الرتب وأوعبها للخطط‏.‏ ثم جاء الاستبداد والحجر مدة من بعد السلطان الثاني عشر منهم‏.‏ ثم استبد بعد ذلك حفيده السلطان أبو العباس على نفسه وأذهب آثار الحجر والاستبداد بإذهاب خطة الحجابة التي كانت سلماً إليه وباشر أموره كلها بنفسه من غير استعانة بأحد‏.‏ والأمر على ذلك لهذا العهد‏.‏ وأما دولة زناتة بالمغرب‏:‏ وأعظمها دولة بني مرين فلا آثر لاسم الحاجب عندهم‏.‏ وأما رياسة الحرب والعساكر فهي للوزير‏.‏ ورتبة القلم في الحسبان والرسائل راجعة إلى من يحسنها من أهلها وإن اختصت ببعض البيوت المصطنعين في دولتهم‏.‏ وقد تجمع عندهم وقد تفرق‏.‏ وأما باب السلطان وحجبه عن العامة فهي رتبة عندهم يسمى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:42

صاحبها بالمزوار ومعناه المقدم على الجنادرة المتصرفين بباب السلطان في تنفيذ أوامره وتصريف عقوباته وإنزال سطواته وحفظ المعتقلين في سجونه والعريف عليهم في ذلك‏.‏ فالباب له وأخذ الناس بالوقوف عند الحدود في دار العامة راجع إليه فكأنها وزارة صغرى‏.‏ وأما دولة بني عبد الواد‏:‏ فلا أثر عندهم لشيء من هذه الألقاب ولا تمييز الخطط لبداوة دولتهم وقصورها‏.‏ وإنما يخصون باسم الحاجب في بعض الأحوال منفذ الخاص بالسلطان في داره كما كان في دولة بني أبي حفص وقد يجمعون له الحسبان والسجل كما كان فيها حملهم على ذلك تقليد الدولة بما كانوا في تبعها وقائمين بدعوتها منذ أول أمرهم‏.‏ وأما أهل الأندلس لهذا العهد فالمخصوص عندهم بالحسبان وتنفيذ‏.‏ السلطان وسائر الأمور المالية يسمونه بالوكيل وأما الوزير فكالوزير إلا أنه قد يجمع الترسيل‏.‏ والسلطان عندهم يضع خطه على السجلات كلها فليس هناك خطة العلامة كما لغيرهم من الدول‏.‏ وأما دولة الترك بمصر‏:‏ فاسم الحاجب عندهم موضوع لحاكم من أهل وهم الترك ينفذ الأحكام بين الناس في المدينة وهم متعددون‏.‏ وهذه الوظيفة تحت وظيفة النيابة التي لها الحكم في أهل الدولة وفي العامة على الإطلاق‏.‏ وللنائب التولية والعزل في بعض الوظائف على الأحيان ويقطع القليل من الأرزاق ويثبتها وتنفذ أوامره كما تنفذ المراسم السلطانية‏.‏ وكان له النيابة المطلقة عن السلطان وللحجاب الحكم فقط في طبقات العامة والجند عند الترافع إليهم وإجبار من أبى الانقياد للحكم وطورهم تحت طور النيابة‏.‏ والوزير في دولة الترك هو صاحب الأموال في الدولة على اختلاف أصنافها من خراج أومكس أوجزبة ثم في تصريفها في الإنفاقات السلطانية أو الجرايات المقدرة وله مع ذلك التولية والعزل في سائر العمال المباشرين لهذه الجباية والتنفيذ عنى اختلاف مراتبهم وتباين أصنافهم ومن عوائدهم أن يكون هذا الوزير من صنف القبط القائمين على ديوان الحسبان والجباية لاختصاصهم بذلك في مصر منذ عصور قديمة‏.‏ وقد يوليها السلطان بعض الأحيان لأهل الشوكة من رجالات الترك أو أبنائهم على حسب الداعية لذلك‏.‏ والله مدبر الأمور ومصرفها بحكمته لا إله إلا هو رب الأولين والآخرين‏.‏ اعلم أن هذه الوظيفة من الوظائف الضرورية للملك وهي القيام على الجبايات وحفظ حقوق الدولة في الدخل والخرج وإحصاء ا لعساكر بأسمائهم وتقدير أرزاقهم وصرف أعطياتهم في إباناتها والرجوع في ذلك إلى القوانين التي يرتبها قومه تلك الأعمال وقهارمة الدولة وهي كلها مسطورة في كتاب شاهد بتفاصيل ذلك في الدخل والخرح مبني على جزء كبير من الحساب لا يقوم به إلا المهرة من أهل تلك الأعمال ويسمى ذلك الكتاب بالديوان وكذلك مكان جلوس العمال المباشرين لها‏.‏ ويقال‏:‏ إن أصل هذه التسمية أن كسرى نظر يوماً إلى كتاب ديوانه وهم يحسبون على أنفسهم كأنهم يحادثون فقال‏:‏ ديوانه أي مجانين بلغة الفرس فسمي موضعهم بذلك وحذفت الهاء لكثرة الاستعمال تخفيفاً ققيل ديوان ثم نقل هذا الاسم إلى كتاب هذه الأعمال المتضمن للقوانين والحسبانات وقيل‏:‏ إنه اسم للشياطين بالفارسية سمي الكتاب بذلك لسرعة نفوذهم في فهم الأمور ووقوفهم على الجلي والخفي منها وجمعهم لما شذ وتفرق‏.‏ ثم نقل إلى مكان جلوسهم لتلك الأعمال‏.‏ وعلى هذا فيتناول اسم الديوان كتاب الرسائل ومكان جلوسهم بباب السلطان على ما يأتي بعد‏.‏ وقد تفرد هذه الوظيفة بناظر واحد ينظر في سائر هذه الأعمال وقد يفرد كل صنف منها بناظر كما يفرد في بعض الدول النظر في العساكر وإقطاعاتهم وحسبان أعطياتهم أو غير ذلك على حسب مصطلح الدولة وما قرره أولوها‏.‏ واعلم أن هذه الوظيفة إنما تحدث في الدول عند تمكن الغلب والاستيلاء والنظر في أعطاف الملك وفنون التمهيد‏.‏ وأول من وضع الديوان في الدولة الإسلامية عمر رضي الله عنه يقال لسبب مال أتى به أبو هريرة رضي الله عنه من البحرين فاستكثروه وتعبوا في قسمه فسموا إلى إحصاء الأموال وضبط العطاء والحقوق فأشار خالد بن الوليد بالديوان وقال‏:‏ رأيت ملوك الشام يدونون فقبل منه عمر‏.‏ وقيل‏:‏ بل أشار عليه به الهرمزان لما رآه يبعث البعوث بغير ديوان فقيل له‏:‏ ومن يعلم بغيبة من يغيب منهم فإن من تخلف أخل بمكانه وإنما يضبط ذلك الكتاب‏.‏ فأثبت لهم ديواناً‏.‏ وسأل عمر عن اسم الديوان فعبر له‏.‏ ولما اجتمع ذلك أمر عقيل بن أبي طالب ومخرمة بن نوفل وجبير بن مطعم وكانوا من كتاب قريش فكتبوا ديوان العساكر الإسلامية على ترتيب الأنساب مبتدأ من قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وما بعدها الأقرب فالأقرب‏.‏ هكذا كان ابتداء ديوان الجيش‏.‏ وروى الزهري عن سعيد بن المسيب أن ذلك كان في المحرم سنة عشرين‏.‏ وأما ديوان الخراج والجبايات فبقي بعد الإسلام على ما كان عليه من قبل‏:‏ ديوان العراق بالفارسية وديوان الشام بالرومية‏.‏ وكتاب الدواوين من أهل العهد من الفريقين‏.‏ ولما جاء عبد الملك بن مروان واستحال الأمر ملكاً وانتقل القوم من غضاضة البداوة إلى رونق الحضارة ومن سذاجة الأمية إلى حذق الكتابة وظهر في العرب ومواليهم مهرة في الكتاب والحسبان فأمر عبد الملك سليمان بن سعيد والي الأردن لعهده أن ينقل ديوان الشام إلى العربية فأكمله لسنة من يوم ابتدائه ووقف عليه سرجون كاتب عبد الملك فقال لكتاب الروم‏:‏ اطلبوا العيش في غير هذه الصناعة فقد قطعها الله عنكم‏.‏ وأما ديوان العراق فأمر الحجاج كاتبه صالح بن عبد الرحمن وكان يكتب بالعربية والفارسية ولقن ذلك عن زاذان فروخ كاتب الحجاج قبله ولما قتل
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:43

زاذان في حرب عبد الرحمن بن الأشعث استخلف الحجاج صالحاً هذا مكانه وأمر أن ينقل الديوان من الفارسية إلى العربية ففعل ورغم لذلك كتاب الفرس‏.‏ وكان عبد الحميد بن يحيى يقول لله در صالح ما أعظم منته على الكتاب‏!‏‏.‏ ثم جعلت هذه الوظيفة في دولة بني العباس مضافة إلى من كان له النظر فيه كما كان شأن بني برمك وبني سهل بن نوبخت وغيرهم من وزراء الدولة‏.‏ وأما ما يتعلق بهذه الوظيفة من الأحكام الشرعية مما يختص بالجيش أو بيت المال في الدخل والخرج وتمييز النواحي بالصلح والعنوة وفي تقليد هذه الوظيفة لمن يكون وشروط الناظر فيها والكاتب وقوانين الحسبانات فأمر راجع إلى كتب الأحكام السلطانية وهي مسطورة هنالك وليست من غرض كتابنا وإنما نتكلم فيها من حيث طبيعة الملك الذي نحن بصدد الكلام فيه‏.‏ وهذه الوظيفة جزء عظيم من الملك بل هي ثالثة أركانه لأن الملك لا بد له من الجند والمال والمخاطبة لمن غاب عنه فاحتاج صاحب الملك إلى الأعوان في أمر السيف وأمر القلم وأمر المال فينفرد صاحبها لذلك بجزء من رياسة الملك‏.‏ وكذلك كان الأمر في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف بعدهم‏.‏ وأما في دولة الموحدين فكان صاحبها إنما يكون من الموحدين يستقل بالنظر في استخراج الأموال وجمعها وضبطها وتعقب نظر الولاة والعمال فيها ثم تنفيذها على قدرها وفي مواقيتها‏.‏ وكان يعرف بصاحب الأشغال وكان ربما يليها في الجهات غير الموحدين ممن يحسنها‏.‏ ولما استبد بنو أبي حفص بإفريقية وكان شأن الجالية من الأندلس فقدم عليهم أهل البيوتات وفيهم من كان يستعمل ذلك في الأندلس مثل بني سعيد أصحاب القلعة جوار غرناطة المعروفين ببني أبي الحسن فاستكفوا بهم في ذلك وجعلوا لهم النظر في الأشغال كما كان لهم بالأندلس ودالوا فيها بينهم وبين الموحدين‏.‏ ثم استقل بها أهل الحسبان والكتاب وخرجت عن الموحدين‏.‏ ثم لما استغلظ أمر الحاجب ونفذ أمره في كل شأن من شؤون الدولة تعطل هذا الرسم وصار صاحبه مرؤوساً للحاجب وأصبح من جملة الجباة وذهبت تلك الرياسة التي كانت له في الدولة‏.‏ وأما دولة بني مرين لهذا العهد فحسبان العطاء والخراج مجموع لواحد وصاحب هذه الرتبة هو الذي يصحح الحسبانات كلها ويرجع إلى ديوانه ونظره معقب بنظر السلطان أو الوزير وخطه معتبر في صحة الحسبان في الخراج والعطاء‏.‏ هذه أصول الرتب والخطط السلطانية وهي الرتب العالية التي هي عامة النظر ومباشرة للسلطان‏.‏ وأما هذه الرتبة في دولة الترك فمتنوعة‏.‏ وصاحب ديوان العطاء يعرف بناظر الجيش صاحب المال مخصوص باسم الوزير وهو الناظر في ديوان الجباية العامة للدولة وهو أعلى رتب الناظرين في الأموال لأن النظر في الأموال عندهم يتنوع إلى رتب كثيرة لانفساح دولتهم وعظمة سلطانهم واتساع الأموال والجبايات عن أن يستقل بضبطها الواحد من الرجال ولو بلغ في الكفاية مبالغه فتعين للنظر العام منها هذا المخصوص باسم الوزير وهو مع ذلك رديف لمولى من موالي السلطان وأهل عصبيته وأرباب السيوف في الدولة يرجع نظر الوزير إلى نظره ويجتهد جهده في متابعته ويسمى عندهم استاذ الدولة وهو أحد الأمراء الأكابر في الدولة من الجند وأرباب السيوف‏.‏ ويتبع هذه الخطة خطط عندهم آخرى كلها راجعة إلى الأموال والحسبان مقصورة النظر على أمور خاصة مثل ناظر الخاص وهو المباشر لأموال السلطان الخاصة به من إقطاعه أو سهمانه من أموال الخراج وبلاد الجباية مما ليس من أموال المسلمين العامة‏.‏ وهو تحت يد الأمير استاذ الدار‏.‏ وإن كان الوزير من الجند فلا يكون لاستاذ الدار نظر عليه‏.‏ وناظر الخاص تحت يد الخازن لأموال السلطان من مماليكه المسمى خازن الدار لاختصاص وظيفتهما بمال السلطان الخاص‏.‏ وهذا بيان هذه الخطة بدولة الترك بالمشرق بعدما قدمناه من أمرها بالمغرب‏.‏ والله مصرف الأمور لا رب غيره‏.‏ ديوان الرسائل والكتابة هذه الوظيفة غير ضرورية في الملك لاستغناء كثير من الدول عنها رأساً كما في الدول العريقة في البداوة التي لم يأخذها تهذيب الحضارة ولا استحكام الصنائع‏.‏ وإنما أكد الحاجة إليها في الدولة الإسلامية شأن اللسان العربي والبلاغة في العبارة عن المقاصد‏.‏ فصار الكتاب يؤدي كنه الحاجة بأبلغ من العبارة اللسانية في الأكثر‏.‏ وكان الكاتب للأمير يكون من أهل نسبه ومن عظماء قبيله كما كان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:43

للخلفاء وأمراء الصحابة بالشام والعراق لعظم أمانتهم وخلوص أسرارهم‏.‏ فلما فسد اللسان وصار صناعة اختص بمن يحسنه‏.‏ ‏.‏ وكانت عند بني العباس رفيعة‏.‏ وكان الكاتب يصدر السجلات مطلقة ويكتب في آخرها اسمه ويختم عليها بخاتم السلطان وهو طابع منقوش فيه اسم السلطان أو شارته يغمس في طين أحمر مذاب بالماء ويسمى طين الختم ويطبع به على طرفي السجل عند طيه وإلصاقه‏.‏ ثم صارت السجلات من بعدهم تصدر باسم السلطان ويضع الكاتب فيها علامته أولاً أو آخراً على حسب الاختيار في محلها وفي لفظها‏.‏ ثم قد تنزل هذه الخطة بارتفاع المكان عند السلطان لغير صاحبها من أهل المراتب في الدولة أو استبداد وزير عليه فتصير علامة هذا الكتاب ملغاة الحكم بعلامة الرئيس عليه يستدل بها فيكتب صورة علامته المعهودة والحكم لعلامة ذلك الرئيس‏.‏ كما وقع آخر الدولة الحفصية لما ارتفع شأن الحجابة وصار أمرها إلى التفويض ثم الاستبداد صار حكم العلامة التي للكاتب ملغى وصورتها ثابتة اتباعاً لما سلف من أمرها‏.‏ فصار الحاجب يرسم للكاتب إمضاء كتابه ذلك بخط يصنعه ويتخير له من صيغ االإنفاذ ما شاء فيأتمر الكاتب له ويضع العلامة المعتادة‏.‏ وقد يختص السلطان بنفسه بوضع ذلك إذا كان مستبداً بأمره قائماً على نفسه فيرسم الأمر للكاتب ليضع علامته‏.‏ ومن خطط الكتابة التوقيع وهو أن يجلس الكاتب بين يدي السلطان في مجالس حكمه وفصله ويوقع على القصص المرفوعة إليه أحكامها و الفصل فيها متلقاة من السلطان بأوجز لفظ وأبلغه‏:‏ فإما أن تصدر كذلك وإما أن يحذو الكاتب على مثالها في سجل يكون بيد صاحب القصة‏.‏ ويحتاج الموقع إلى عارضة من البلاغة يستقيم بها توقيعه وقد كان جعفر بن يحيى يوقع القصص بين يدي الرشيد ويرمي بالقصة إلى صاحبها فكانت توقيعاته يتنافس البلغاء في تحصيلها للوقوف فيها على أساليب البلاغة وفنونها حتى قيل‏:‏ إنها كانت تباع كل قصة منها بدينار‏.‏ وهكذا كان شأن الدول‏.‏ واعلم أن صاحب هذه الخطة لا بد أن يتخير من أرفع طبقات الناس وأهل المروءة والحشمة منهم وزيادة العلم وعارضة البلاغة فإنه معرض للنظر في أصول العلم لما يعرض في مجالس الملوك ومقاصد أحكامهم من أمثال ذلك مع ما تدعو إليه عشرة الملوك من القيام على الأداب والتخلق بالفضائل مع ما يضطر إليه في الترسيل وتطبيق مقاصد الكلام من البلاغة وأسرارها‏.‏ وقد تكون الرتبة في بعض الدول مستندة إلى أرباب السيوف لما يقتضيه طبع الدولة من البعد عن معاناة العلوم لأجل سذاجة العصبية فيختص السلطان أهل عصبيته بخطط دولته وسائر رتبه فيقلد المال والسيف والكتابة منهم‏.‏ فأما رتبة السيف فتستغني عن معاناة العلم وأما المال والكتابة فيضطر إلى ذلك للبلاغة في هذه والحسبان في الأخرى فيختارون لها من هذه الطبقة ما دعت إليه الضرورة ويقلدونه إلا أنه لا تكون يد آخر من أهل العصبية غالبة على يده ويكون نظره متصرفاً عن نظره‏.‏ كما هو في دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فإن الكتابة عندهم وإن كانت لصاحب الانشاء إلا أنه تحت يد أمير من أهل عصبية السلطان يعرف بالدويدار وتعويل السلطان ووثوقه به واستنامتة في غالب أحواله إليه وتعويله على الآخر في أحوال البلاغة وتطبيق المقاصد وكتمان الأسرار وغير ذلك من توابعها‏.‏ وأما الشروط المعتبرة في صاحب هذه الرتبة التي يلاحظها السلطان في اختياره وانتقائه من أصناف الناس فهي كثيرة وأحسن من استوعبها عبد الحميد الكاتب في رسالته إلى الكتاب وهي‏:‏ رسالة عبد الحميد الكاتب إلى الكتاب أما بعد حفظكم الله يا أهل صناعة الكتابة وحاطكم ووفقكم وأرشدكم‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الناس بعد الأنبياء والمرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومن بعد الملوك المكرمين أصنافاً وإن كانوا في الحقيقة سواء وصرفهم في صنوف الصناعات وضروب المحاولات إلى أسباب معاشهم وأبواب أرزاقهم فجعلكم معشر الكتاب في أشرف الجهات أهل الأدب والمروءات والعلم والرزانة‏.‏ بكم ينتظم للخلافة محاسنها وتستقيم أمورها‏.‏ وبنصحائكم يصلح الله للخلق سلطانهم وتعمر بلدانهم‏.‏ لا يستغني الملك عنكم ولا يوجد كاف إلا منكم‏.‏ فموقعكم من الملوك موقع أسماعهم التي بها يسمعون وأبصارهم التي بها يبصرون وألسنتهم التي بها ينطقون وأيديهم التي بها يبطشون‏.‏ فأمتعكم الله بما خصكم من فضل صناعتكم ولا نزع عنكم ما أضفاه من النعمة عليكم‏.‏ وليس أحد من أهل الصناعات كلها أحوج إلى اجتماع خلال الخير المحمودة وخصال الفضل المذكورة المعدودة منكم‏.‏ أيها الكتاب‏:‏ إذا كنتم على ما يأتي في هذا الكتاب من صفتكم فإن الكاتب يحتاج من نفسه ويحتاج منه صاحبه الذي يثق به في مهمات أموره أن يكون حليماً في موضع الحلم فهيماً في موضع الحكم مقداماً في موضع الإقدام محجماً في موضع الإحجام مؤثراً للعفاف والعدل والإنصاف كتوماً للأسرار وفياً عند الشدائد عالماً بما يأتي من النوازل يضع الأمور مواضعها والطوارق في أماكنها قد نظر في كل فن من فنون العلم فأحكمه وإن لم يحكمه أخذ منه بمقدار ما يكتفي به يعرف بغريزة عقله وحسن أدبه وفضل تجربته ما يرد عليه قبل وروده وعاقبة ما يصدر عنه قبل صدوره فيعد لكل أمر عدته وعتاده ويهيىء لكل وجه هيئته وعادته‏.‏ فتنافسوا يا معشر الكتاب في صنوف الأداب وتفقهوا في الدين‏.‏ وابدؤوا بعلم كتاب الله عز وجل والفرائض ثم العربية فإنها ثقاف ألسنتكم ثم أجيدوا الخط فإنه حلية كتبكم وارووا الأشعار واعرفوا غريبها ومعانيها وأيام العرب والعجم وأحاديثها وسيرها فإن ذلك معين لكم على ما تسمو إليه هممكم ولا تضيعوا النظر في الحساب فإنه قوام كتاب الخراج‏.‏ وارغبوا بأنفسكم عن المطامع سنيها ودنيها وسفساف الأمور ومحاقرها فإنها مذلة للرقاب مفسدة للكتاب‏.‏ ونزهوا صناعتكم عن الدناءة واربؤوا بأنفسكم عن السعاية والنميمة وما فيه أهل الجهالات‏.‏ وإياكم والكبر والسخف والعظمة فإنها عداوة مجتلبة من غير إحنة‏.‏ وتحابوا في الله عز وجل في صناعتكم وتواصوا عليها بالذي هو أليق لأهل الفضل والعدل والنبل من سلفكم‏.‏ وإن نبا الزمان برجل منكم فاعطفوا عليه وواسوه حتى يرجع إليه حاله ويثوب إليه أمره‏.‏ وإن أقعد أحداً منكم الكير عن مكسبه ولقاء إخوانه فزوروه وعظموه وشاوروه واستظهروا بفضل تجربته وقديم معرفته وليكن الرجل منكم على من اصطنعه واستظهر به ليوم حاجته إليه أحوط منه على ولده وأخيه‏.‏ فإن عرضت في الشغل محمدة فلا يصرفها إلا إلى صاحبه وإن عرضت مذمة فليحملها هو من دونه‏.‏ وليحذر السقطة والزلة والملل عند تغير الحال‏.‏ فإن العيب إليكم معشر الكتاب أسرع منه إلى القراء وهو لكم أفسد منه لهم‏.‏ فقد علمتم أن الرجل منكم إذا صحبه من يبذل له من نفسه ما يجب له عليه من حقه فواجب عليه أن يعتقد له من وفائه وشكره واحتماله وخيره ونصيحته وكتمان سره وتدبير
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:44

أمره ما هو جزاء لحقه ويصدق ذلك بفعاله عند الحاجة إليه والاضطرار إلى ما لديه‏.‏ فاستشعروا ذلك‏.‏ وفقكم الله من أنفسكم‏.‏ في حالة الرخاء والشدة والحرمان والمواساة والإحسان والسراء والضراء‏.‏ فنعمت الشيمة هذه من وسم بها من أهل هذه الصناعة الشريفة‏.‏ وإذا ولي الرجل منكم أو صير إليه من أمر خلق الله وعياله أمر فليراقب الله عز وجل وليؤثر طاعته وليكن مع الضعيف رفيقاً وللمظلوم منصفاً فإن الخلق عيال الله وأحبهم إليه أرفقهم بعياله‏.‏ ثم ليكن بالعدل حاكماً وللأشراف مكرماً وللفيء موفراً وللبلاد عامراً وللرعية متألفاً وعن أذاهم متخلفاً وليكن في مجلسه متواضعاً حليماً وفي سجلات خراجه واستقضاء حقوقه رفيقاً‏.‏ وإذا صحب أحدكم رجلاً فليختبر خلائقه فإذا عرف حسنها وقبيحها أعانه على ما يوافقه من الحسن واحتال على صرفه عما يهواه من القبح بألطف حيلة وأجمل وسيلة‏.‏ وقد علمتم أن سائس البهيمة إذا كان بصيراً بسياستها التمس معرفة أخلاقها‏:‏ فإن كانت رموحاً لم يهجها إذا ركبها وإن كانت شبوباً اتقاها من بين يديها وإن خاف منها شروداً توقاها من ناحية رأسها وإن كانت حروناً قمع برفق هواها في طرقها فإن استمرت عطفها يسيراً فيسلس له قيادها‏.‏ وفي هذا الوصف من السياسة دلائل لمن ساس الناس وعاملهم وجربهم وداخلهم‏.‏ والكاتب لفضل أدبه وشريف صنعته ولطيف حيلته ومعاملته لمن يجاوره من الناس ويناظره ويفهم عنه أو يخاف سطوته أولى بالرفق لصاحبه ومداراته وتقويم أوده من سائس البهيمة التي لا تحير جواباً ولا تعرف صواباً ولا تفهم خطاباً إلا بقدر ما يصيرها إليه صاحبها الراكب عليها‏.‏ إلا فارفقوا رحمكم الله في النظر واعملوا ما أمكنكم فيه من الروية والفكر تأمنوا بإذن الله ممن صحبتموه النبوة والاستثقال والجفوة ويصير منكم إلى الموافقة وتصيروا منه إلى المواخاة والشفقة إن شاء الله‏.‏ ولا يجاوزن الرجل منكم في هيئة مجلسه وملبسه ومركبه ومطعمه ومشربه وبنائه وخدمه وغير ذلك من فنون أمره قدر حقه فإنكم مع ما فضلكم الله به من شرف صنعتكم خدمة لا تحملون في خدمتكم على التقصير حفظة لا تحتمل منكم أفعال التضييع والتبذير‏.‏ واستعينوا على عفافكم بالقصد في كل ما ذكرته لكم وقصصته عليكم‏.‏ واحذروا متالف السرف وسوء عاقبة الترف فإنهما يعقبان الفقر ويذلان الرقاب‏.‏ ويفضحان أهلهما ولا سيما الكتاب وأرباب الأداب‏.‏ وللأمور أشباه وبعضها دليل على بعض فاستدلوا على مؤتنف أعمالكم بما سبقت إليه تجربتكم‏.‏ ثم اسلكوا من مسالك التدبير أوضحها محجة وأصدقها حجة وأحمدها عاقبة‏.‏ واعلموا أن للتدبير آفة متلفة وهو الوصف الشاغل لصاحبه عن إنفاذ علمه ورويته‏.‏ فليقصد الرجل منكم في مجلسه قصد الكافي من منطقه وليوجز في ابتدائه وجوابه وليأخذ بمجامع حججه فإن ذلك مصلحة لفعله ومدفعة للشاغل عن إكثاره‏.‏ وليضرع إلى الله في صلة توفيقه وإمداده بتسديده مخافة وقوعه في الغلط المضر ببدنه وعقله وآدابه‏.‏ فإنه إن ظن منكم ظان أو قال قائل إن الذي برز من جميل صنعته وقوة حركته إنما هو بفضل حيلته وحسن تدبيره فقد تعرض بحسن ظنه أو مقالته إلى أن يكله الله عز وجل إلى نفسه فيصير منها إلى غير كاف وذلك على من تأمله غير كاف‏.‏ ولا يقول أحد منكم إنه أبصر بالأمور وأحمل لعبء التدبير من مرافقه في صناعته ومصاحبه في خدمته فإن أعقل الرجلين عند ذوي الالباب من رمى بالعجب وراء ظهره ورأى أن أصحابه أعقل منه وأجمل في طريقته‏.‏ وعلى كل واحد من الفريقين أن يعرف فضل نعم الله جل ثناؤه من غير اغترار برأيه ولا تزكية لنفسه ولا يكاثرعلى أخيه أو نظيره وصاحبه وعشيره‏.‏ وحمد الله واجب على الجميع وذلك بالتواضع لعظمته والتذلل لعزته والتحدث بنعمته‏.‏ وأنا أقول في كتابي هذا ما سبق به المثل‏:‏ من تلزمه النصيحة يلزمه العمل‏.‏ وهو جوهر هذا الكتاب وغرة كلامه بعد الذي فيه من ذكر الله عز وجل‏.‏ فلذلك جعلته آخره وتممته به‏.‏ تولانا الله وإياكم يا معشر الطلبة والكتبة بما يتولى به من سبق علمه بإسعاده وإرشاده فإن ذلك إليه وبيده‏.‏ والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:46

الشرطة
ويسمى صاحبها لهذا العهد بإفريقية الحاكم وفي دولة أهل الأندلس صاحب المدينة وفي دولة الترك الوالي‏.‏ وهي وظيفة مرؤوسة لصاحب السيف في الدولة وحكمه نافذ في صاحبها في بعض الأحيان‏.‏ وكان أصل وضعها في الدولة العباسية لمن يقيم أحكام الجرائم في حال استبدائها أولاً ثم الحدود بعد استيفائها‏.‏ فإن التهم التي تعرض في الجرائم لا نظر للشرع إلا في استيفاء حدودها وللسياسة النظر في استيفاء موجباتها بإقرار يكرهه عليه الحاكم إذا احتفت به القرائن لما توجبه المصلحة العامة في ذلك‏.‏ فكان الذي يقوم بهذا الاستبداء وباستيفاء الحدود بعده إذا تنزه عنه القاضي يسمى صاحب الشرطة وربما جعلوا إليه النظر في الحدود والدماء بإطلاق وأفردوها من نظر القاضي‏.‏ ونزهوا هذه المرتبة وقلدوها كبار القواد وعظماء الخاصة من مواليهم‏.‏ ولم تكن عامة التنفيذ في طبقات الناس إنما كان حكمهم على الدهماء وأهل الريب والضرب على أيدي الرعاع والفجرة‏.‏ ثم عظمت نباهتها في دولة بني أمية بالأندلس ونوعت إلى شرطة كبرى وشرطة صغرى‏.‏ وجعل حكم الكبرى على الخاصة والدهماء‏.‏ وجعل له الحكم على أهل المراتب السلطانية والضرب على أيديهم في الظلامات وعلى أيدي أقاربهم ومن إليهم من أهل الجاه‏.‏ وجعل صاحب الصغرى مخصوصاً بالعامة‏.‏ ونصب لصاحب الكبرى كرسي بباب دار السلطان ورجال يتبؤون المقاعد بين يديه فلا يبرحون عنها إلا في تصريفه‏.‏ وكانت ولايتها للأكابر من رجالات الدولة حتى كانت ترشيحاً للوزارة والحجابة‏.‏ وأما في دولة الموحدين بالمغرب فكان لها حظ من التنويه وإن لم يجعلوها عامة‏.‏ وكان لا يليها إلا رجالات الموحدين وكبراؤهم‏.‏ ولم يكن له التحكم على أهل المراتب السلطانية‏.‏ ثم فسد اليوم منصبها وخرجت عن رجال الموحدين وصارت ولايتها لمن قام بها من المصطنعين‏.‏ وأما في دولة بني مرين لهذا العهد بالمشرق فولايتها في بيوت من مواليهم وأهل اصطناعهم وفي دولة الترك بالمشرق في رجالات الترك أو أعقاب أهل الدولة قبلهم من الكرد يتخيرونهم لها في النظر بما يظهر منهم من الصلابة والمضاء في الأحكام لقطع مواد الفساد وحسم أبواب الدعارة وتخريب مواطن الفسوق وتفريق مجامعه مع إقامة الحدود الشرعية والسياسية كما تقتضيه رعاية المصالح العامة في المدينة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار وهو العزيز الجبار والله تعالى أعلم‏.‏ قيادة الأساطيل وهي من مراتب الدولة وخططها في ملك المغرب وإفريقية ومرؤوسة لصاحب السيف وتحت حكمه في كثير من الأحوال‏.‏ ويسمى صاحبها في عرفهم الملند بتفخيم اللام منقولاً من لغة الأفرنجة فإنه اسمها في اصطلاح لغتهم‏.‏ وإنما اختصت هذه المرتبة بملك إفريقية والمغرب لأنهما جميعاً على ضفة البحر الرومي من جهة الجنوب وعلى عدوته الجنوبية بلاد البربر كلهم من سبتة إلى الإسكندرية إلى الشام وعلى عدوته الشمالية بلاد الأندلس والإفرنجة والصقالبة والروم إلى بلاد الشام أيضاً ويسمى البحر الرومي والبحر الشامي نسبة إلى أهل عدوته‏.‏ والساكنون بسيف هذا البحر وسواحله من عدوتيه يعانون من أحواله ما لا تعانيه أمة من أمم البحار‏.‏ فقد كانت الروم والإفرنجة والقوط بالعدوة الشمالية من هذا البحر الرومي وكانت أكثر حروبهم ومتاجرهم في السفن فكانوا مهرة في ركوبه والحرب في أساطيله‏.‏ ولما أسف من أسف منهم إلى ملك العدوة الجنوبية مثل الروم إلى إفريقية والقوط إلى المغرب أجازوا في الأساطيل وملكوها وتغلبوا على البربر بها وانتزعوا من أيديهم أمرها وكان لهم بها المدن الحافلة مثل قرطاجنة وسبيطلة وجلولاء ومرناق وشرشال وطنجة‏.‏ وكان صاحب قرطاجنة من قبلهم يحارب صاحب رومة‏.‏ ويبعث الأساطيل لحربه مشحونة بالعساكر والعدد فكانت هذه عادة لأهل هذا البحر الساكنين حفافيه معروفة في القديم والحديث‏.‏ ولما ملك المسلمون مصر كتب عمر بن الخطاب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنهما أن صف لي البحر فكتب إليه‏:‏ ‏"‏ إن البحر خلق عظيم يركبه خلق ضعيف دود على عود ‏"‏‏.‏ فأوعز حينئذ بمنع المسلمين من ركوبه‏.‏ ولم يركبه أحد من العرب إلا من افتأت على عمر في ركوبه ونال من عقابه كما فعل بعرفجة بن هرثمة الأزدي سيد بجيلة لما أغزاه عمان فبلغه غزوه في البحر فأنكر عليه وعنفه أنه ركب البحر للغزو‏.‏ ولم يزل الشأن ذلك حتى إذا كان لعهد معاوية أذن للمسلمين في ركوبه والجهاد على أعواده‏.‏ والسبب في ذلك أن العرب كانوا لبداوتهم لم يكونوا أول الأمر مهرة في ثقافته وركوبه والروم والإفرنجة لممارستهم أحواله ومرباهم في التقلب على أعواده مرنوا عليه وأحكموا الدراية بثقافته‏.‏ فلما استقر الملك للعرب وشمخ سلطانهم وصارت أمم العجم خولاً لهم وتحت أيديهم وتقرب كل ذي صنعة إليهم بمبلغ صناعته واستخدموا من النواتية في حاجاتهم البحرية أمماً وتكررت ممارستهم للبحر وثقافته استحدثوا بصراء بها فشرهوا إلى الجهاد فيه وأنشؤوا السفن فيه والشواني وشحنوا الأساطيل بالرجال والسلاح وأمطوها العساكر والمقاتلة لمن وراء البحر من أمم الكفر واختصوا بذلك من ممالكهم وثغورهم ما كان أقرب لهذا البحر وعلى حافته مثل الشام وإفريقية والمغرب والأندلس‏.‏ وأوعز الخليفة عبد الملك إلى حسان بن النعمان عامل إفريقية باتخاذ دار الصناعة بتونس لإنشاء الألات البحرية حرصاً على مراسم الجهاد‏.‏ ومنها كان فتح صقلية أيام زيادة الله الأول بن إبراهيم بن الأغلب على يد أسد بن الفرات شيخ الفتيا وفتح قوصرة أيضاً في أيامه بعد أن كان معاوية بن حديج أغزي صقلية أيام معاوية بن أبي سفيان فلم يفتح الله على يديه وفتحت على يد ابن الأغلب وقائده أسد بن الفرات‏.‏ وكانت من بعد ذلك أساطيل إفريقية والأندلس في دولة العبيديين والأمويين تتعاقب إلى بلادهما في سبيل الفتنة فتجوس خلال السواحل بالإفساد والتخريب‏.‏ وانتهى أسطول الأندلس أيام عبد الرحمن الناصر إلى مائتي مركب أو نحوها وأسطول إفريقية كذلك مثله أو قريباً منه وكان قائد الأساطيل بالأندلس ابن رماحس ومرفأها للحط والإقلاع بجاية والمرية‏.‏ وكانت أساطيلها مجتمعة من سائر الممالك من كل بلد يتخذ فيه السفن أسطول يرجع نظره إلى قائد من النواتية يدبر أمر حربه وسلاحه ومقاتلته ورئيس يدبر أمر جريته بالريح أو بالمجاذيف وأمر إرسائه في مرفئه‏.‏ فإذا اجتمعت الأساطيل لغزو محتفل أو غرض سلطاني مهم عسكرت بمرفئها المعلوم وشحنها السلطان برجاله وأنجاد عساكره ومواليه وجعلهم لنظر أمير واحد من أعلى طبقات أهل مملكته يرجعون كلهم إليه ثم يسرحهم لوجههم وينتظر إيابهم بالفتح والغنيمة‏.‏ وكان المسلمون لعهد الدولة الإسلامية قد غلبوا على هذا البحر من جميع جوانبه وعظمت صولتهم وسلطانهم فيه فلم يكن للأمم النصرانية قبل بأساطيلهم بشيء من جوانبه وامتطوا ظهره للفتح سائر أيامهم فكانت لهم المقامات المعلومة من الفتح والغنائم وملكوا سائر الجزائر المنقطعة عن السواحل فيه مثل ميورقة ومنورقة ويابسة وسردانية وصقلية وقوصرة ومالطة وأقريطش وقبرص وسائر ممالك الروم والإفرنج‏.‏ وكان أبو القاسم الشيعي وأبناؤه يغزون أساطيلهم من المهدية جزيرة جنوة فتنقلب بالظفر والغنيمة‏.‏ وافتتح مجاهد العامري صاحب دانية من ملوك الطوائف جزيرة سردانية في أساطيله سنة خمس وأربعمائة وارتجعها النصارى لوقتها‏.‏ والمسلمون خلال ذلك كله قد تغلبوا على كثيبر من لجة هذا البحر وسارت أساطيلهم فيهم جائية وذاهبة والعساكر الإسلامية تجيز البحر في الأساطيل من صقلية إلى البر الكبير المقابل لها من العدوة الشمالية فتوقع بملوك الإفرنج
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:47

وتثخن في ممالكهم كما وقع في أيام بني الحسين ملوك صقلية القائمين فيها بدعوة العبيديين وانحازت أمم النصرانية بأساطيلهم إلى الجانب الشمالي الشرقي منه من سواحل الإفرنجة والصقالبة وجزائر الرومانية لا يعدونها‏.‏ وأساطيل المسلمين قد ضريت عليهم ضراء الأسد على فريسته وقد ملأت الأكثر من بسيط هذا البحر عدة وعدداً واختلفت في طرقه سلماً وحرباً فلم تسبح للنصرانية فيه ألواح‏.‏ حتى إذا أدرك الدولة العبيدية والأموية الفشل والوهن وطرقها الاعتلال مد النصارى أيديهم إلى جزائر البحر الشرقية مثل صقلية وإقريطش ومالطة فملكوها‏.‏ ثم ألحوا على سواحل الشام في تلك الفترة وملكوا طرابلس وعسقلان وصور وعكا واستولوا على جميع الثغور بسواحل الشام وغلبوا على بيت المقدس وبنوا عليه كنيسة لإظهار دينهم وعبادتهم وغلبوا بني خزرون على طرابلس ثم على قابس وصفاقس ووضعوا عليهم الجزية ثم ملكوا المهدية مقر ملوك العبيديين من يد أعقاب بلكين بن زيري وكانت لهم في المائة الخامسة الكرة بهذا البحر‏.‏ وضعف شأن الأساطيل في دولة مصر والشام إلى أن انقطع ولم يعتنوا بشيء من أمره لهذا العهد بعد أن كان لهم به في الدولة العبيدية عناية تجاوزت الحد كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ فبطل رسم هذه الوظيفة هنالك وبقيت بإفريقية والمغرب فصارت مختصة بها‏.‏ وكان الجانب الغربي من هذا البحر لهذا العهد موفور الأساطيل ثابت القوة لم يتحيفه عدو ولا كانت لهم به كرة‏.‏ فكان قائد الأسطول به لعهد لمتونة بني ميمون رؤساء جزيرة قادس ومن أيديهم أخذها عبد المؤمن بتسليمهم وطاعتهم وانتهى عدد أساطيلهم إلى المائة من بلاد العدوتين جميعاً‏.‏ ولما استفحلت دولة الموحدين في المائة السادسة وملكوا العدوتين أقاموا خطة هذا الأسطول على أتم ما عرف وأعظم ما عهد‏.‏ وكان قائد أسطولهم أحمد الصقلي أصله من صدغيار الموطنين بجزيرة جربة من سرويكش أسره النصارى من سواحلها وربي عندهم واستخلصه صاحب صقلية واستكفاه ثم هلك وولي ابنه فأسخطه ببعض النزعات وخشي على نفسه ولحق بتونس ونزل على السيد بها من بني عبد المؤمن وأجاز إلى مراكش فتلقاه الخليفة يوسف بن عبد المؤمن بالمبرة والكرامة وأجزل الصلة وقلده أمر أساطيله فجلى في جهاد أمم النصرانية وكانت له آثار وأخبار ومقامات مذكورة في دولة الموحدين‏.‏ وانتهت أساطيل المسلمين على عهده في الكثرة والاستجادة إلى ما لم تبلغه من قبل ولا بعد فيما عهدناه‏.‏ ولما قام صلاح الدين يوسف بن أيوب ملك مصر والشام لعهده باسترجاع ثغور الشام من يد أمم النصرانية وتطهير بيت المقدس تتابعت أساطيلهم بالمدد لتلك الثغور من كل ناحية قريبة لبيت المقدس الذي كانوا قد استولوا عليه فأمدوهم بالعدد والأقوات ولم تقاومهم أساطيل الإسكندرية لاستمرار الغلب لهم في ذلك الجانب الشرقي من البحر وتعدد أساطيلهم فيه وضعف المسلمين منذ زمان طويل عن ممانعتهم هناك كما أشرنا إليه قبل‏.‏ فأوفد صلاح الدين على أبي يعقوب المنصور سلطان المغرب لعهده من الموحدين رسوله عبد الكريم بن منقذ من بيت بني منقذ ملوك شيزر وكان ملكها من أيديهم وأبقى عليهم في دولته فبعث عبد الكريم منهم هذا إلى ملك المغرب طالباً مدد الأساطيل لتجول في البحر بين أساطيل الأجانب وبين مرامهم من إمداد النصرانية بثغور الشام وأصحبه كتابه إليه في ذلك من إنشاء الفاضل البيساني يقول في افتتاحه‏:‏ ‏"‏ فتح الله لسيدنا أبواب المناجح والميامن ‏"‏ حسبما نقله العماد الأصفهاني في كتاب الفتح القدسي‏.‏ فنقم عليهم المنصور تجافيهم عن خطابه بأمير المؤمنين وأسرها في نفسه وحملهم على مناهج البر والكرامة وردهم إلى مرسلهم ولم يجبه إلى حاجته من ذلك‏.‏ وفي هذا دليل على اختصاص ملك المغرب بالأساطيل وما حصل للنصرانية في الجانب الشرقي من هذا البحر من الإستطالة وعدم عناية الدول بمصر والشام لذلك العهد وما بعده بشأن الأساطيل البحرية والاستعداد منها للدولة‏.‏ ولما هلك أبو يعقوب المنصور واعتلت دولة الموحدين واستولت أمم الجلالقة على الأكثر من بلاد الأندلس وألجأوا المسلمين إلى سيف البحر وملكوا الجزائر التي بالجانب الغربي من البحر الرومي قويت ريحهم في بسيط هذا البحر واشتدت شوكتهم وكثرت فيه أساطيلهم وتراجعت قوة
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:47

المسلمين فيه إلى المساواة معهم كما وقع لعهد السلطان أبي الحسن ملك زناتة بالمغرب فإن أساطيله كانت عند مرامه الجهاد مثل عدة النصرانية وعديدهم‏.‏ ثم تراجعت عن ذلك قوة المسلمين في الأساطيل لضعف الدولة ونسيان عوائد البحر بكثرة العوائد البدوية بالمغرب وانقطاع العوائد الأندلسية‏.‏ ورجع النصارى فيه إلى دينهم المعروف من الدربة فيه والمران عليه والبصر بأحواله وغلب الأمم في لجته وعلى أعواده‏.‏ وصار المسلمون فيه كالأجانب إلا قليلاً من أهل البلاد الساحلية لهم المران عليه لو وجدوا كثرة من الأمصار والأعوان أو قوه من الدولة تستجيش لهم أعواناً وتوضح لهم في هذا الغرض مسلكاً‏.‏ وبقيت الرتبة لهذا العهد في الدولة الغربية محفوظة والرسم في معاناة الأساطيل بالإنشاء والركوب معهوداً لما عساه أن تدعو إليه الحاجة من الأغراض السلطانية في البلاد البحرية‏.‏ والمسلمون يستهبون الريح على الكفر وأهله‏.‏ فمن المشتهر بين أهل المغرب عن كتب الجدثان انه لا بد للمسلمين من الكرة على النصرانية وافتتاح ما وراء البحر من بلاد الإفرنجة وإن ذلك يكون في الأساطيل‏.‏ والله ولي المؤمنين وهو حسبنا ونعم الوكيل‏.‏

]
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:48

الفصل الخامس والثلاثون في السيف والقلم
اعلم أن السيف والقلم كلاهما آلة لصاحب الدولة يستعين بهما على أمره‏.‏ إلا أن الحاجة في أول الدولة إلى السيف ما دام أهلها في تمهيد أمرهم أشد من الحاجة إلى القلم لأن القلم في تلك الحال خادم فقط منفذ للحكم السلطاني والسيف شريك في المعونة‏.‏ وكذلك في آخر الدولة حيث تضعف عصبيتها كما ذكرناه ويقل أهلها بما ينالهم من الهرم الذي قدمناه فتحتاج الدولة إلى الاستظهار بأرباب السيوف وتقوى الحاجة إليهم في حماية الدولة والمدافعة عنها كما كان الشأن أول الأمر في تمهيدها‏.‏ فيكون للسيف مزية على القلم في الحالتين‏.‏ ويكون أرباب السيف حينئذ أوسع جاهاً وأكثر نعمة وأسنى إقطاعاً‏.‏ وأما في وسط الدولة فيستغني صاحبها بعض الشيء عن السيف لأنه قد تمهد أمره ولم يبق همه إلا في تحصيل ثمرات الملك من الجباية والظبط ومباهاة الدول وتنفيذ الأحكام والقلم هو المعين له في ذلك فتعظم الحاجة إلى تصريفه وتكون السيوف مهملة في مضاجع أغمادها إلا إذا نابت نائبة أو دعيت إلى سد فرجة وما سوى ذلك فلا حاجة إليها‏.‏ فيكون أرباب الأقلام في هذه الحاجة أوسع جاهاً وأعلى رتبة وأعظم نعمة وثروة وأقرب من السلطان مجلساً وأكثر إليه تردداً وفي خلواته نجياً لأنه حينئذ آلته التي بها يستظهر على تحصيل ثمرات ملكه والنظر في أعطافه وتثقيف أطرافه والمباهاة بأحواله ويكون الوزراء حينئذ وأهل السيوف مستغنى عنهم مبعدين عن باطن السلطان حذرين على أنفسهم من بوادره‏.‏ وفي معنى ذلك ما كتب به أبو مسلم للمنصور حين أمره بالقدوم‏:‏ ‏"‏ أما بعد فإنه مما حفظناه من وصايا الفرس أخوف ما يكون الوزراء إذا سكنت الدهماء ‏"‏‏.‏ سنة الله في عباده والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:49

الفصل السادس والثلاثون في شارات الملك والسلطان الخاصة به
اعلم أن للسلطان شارات وأحوالاً تقتضيها الأبهة والبذخ فيختص بها ويتميز بانتحالها عن الرعية والبطانة وسائر الرؤساء في دولته‏.‏ فلنذكر ما هو مشتهر منها بمبلغ المعرفة ‏"‏ وفوق كل ذي علم عليم ‏"‏‏.‏ الآلة‏:‏ فمن شارات الملك اتخاذ الألة من نشر الألوية والرايات وقرع الطبول والنفخ في الأبواق والقرون‏.‏ وقد ذكر أرسطو في الكتاب المنسوب إليه في السياسة أن السر في ذلك إرهاب العدو في الحرب فإن الأصوات الهائلة لها تأثير في النفوس بالروعة‏.‏ ولعمري إنه أمر وجداني في مواطن الحرب يجده كل أحد من نفسه‏.‏ وهذا السبب الذي ذكره أرسطو - إن كان ذكره - فهو صحيح ببعض الاعتبارات‏.‏ وأما الحق في ذلك فهو أن النفس عند سماع النغم والأصوات يدركها الفرح والطرب بلا شك فيصيب مزاج الروح نشوة يستسهل بها الصعب ويستميت في ذلك الوجه الذي هو فيه‏.‏ وهذا موجود حتى في الحيوانات العجم بانفعال الإبل بالحداء والخيل بالصفير والصريخ كما علمت‏.‏ ويزيد ذلك تأثيراً إذا كانت الأصوات متناسبة كما في الغناء‏.‏ وأنت تعلم ما يحدث لسامعه من مثل هذا المعنى‏.‏ ولأجل ذلك تتخذ العجم في مواطن حروبهم الألات الموسيقية لا طبلاً ولا بوقاً فيحدق المغنون بالسلطان في موكبه بآلاتهم ويغنون فيدركون نفوس الشجعان بضربهم إلى الاستماتة‏.‏ ولقد رأينا في حروب العرب من يتغنى أمام الموكب بالشعر ويطرب فتجيش همم الأبطال بما فيها ويسارعون إلى مجال الحرب وينبعث كل قرن إلى قرنه‏.‏ وكذلك زناتة من أمم المغرب‏.‏ يتقدم الشاعر عندهم أمام الصفوف ويتغنى فيدرك بغنائه الجبال الرواسي ويبعث على الاستماتة من لا يظن بها ويسمون ذلك الغناء تاصوكايت‏.‏ وأصله كله قرح يحدث في النفس فتنبعث عنه الشجاعة كما تنبعث عن نشوة الخمر بما حدث عنها من الفرح‏.‏ والله أعلم‏.‏ وأما تكثير الرايات وتلوينها وإطالتها فالقصد به التهويل لا أكثر وربما يحدث في النفوس من التهويل زيادة في الإقدام وأحوال النفوس وتلوناتها غريبة‏.‏ والله الخلاق العليم‏.‏ ثم إن الملوك والدول يختلفون في اتخاذ هذه الشارات فمنهم مكثر ومنهم مقلل بحسب اتساع الدولة وعظمها‏.‏ فأما الرايات فإنها شعار الحروب من عهد الخليقة ولم تزل الأمم تعقدها في مواطن الحروب والغزوات لعهد النبي صلى الله عليه وسلم ومن بعده من الخلفاء‏.‏ وأما قرع الطبول والنفخ في الأبواق فكان المسلمون لأول الملة متجافين عنه تنزهاً عن غلظة الملك ورفضاً لأحواله واحتقاراً لأبهته التي ليست من الحق في شيء‏.‏ حتى إذ ا انقلبت الخلافة ملكاً وتبجحوا بزهرة الدنيا ونعيمها ولابسهم الموالي من الفرس والروم أهل الدول السالفة وأروهم ما كان أولئك ينتحلونه من مذاهب البذخ والترف فكان مما استحسنوه اتخاذ الألة فأخذوها وأذنوا لعمالهم في اتخاذها تنويهاً بالملك وأهله‏.‏ فكثيراً ما كان العامل صاحب الثغر أو قائد الجيش يعقد له الخليفة من العباسيين أو العبيديين لواءه ويخرج إلى بعثه أو عمله من دار الخليفة أو داره في موكب من أصحاب الرايات والآلات فلا يميز بين موكب العامل والخليفة إلا بكثرة الألوية وقلتها أو بما اختص به الخليفة من الألوان لرايته كالسواد في رايات بني العباس فإن راياتهم كانت سوداً حزناً على شهدائهم من بني هاشم ونعياً على بني أمية في قتلهم ولذلك سموا المسودة‏.‏ ولما افترق أمر الهاشميين وخرج الطالبيون على العباسيين في كل جهة وعصر ذهبوا إلى مخالفتهم في ذلك فاتخذوا الرايات بيضاً وسموا المبيضة لذلك سائر أيام العبيديين ومن خرج من الطالبيين في ذلك العهد بالمشرق كالداعي بطبرستان وداعي صعدة أو من دعا إلى بدعة الرافضة من ولما نزع المأمون عن لبس السواد وشعاره في دولته عدل إلى لون الخضرة فجعل رايته خضراء‏.‏ وأما الاستكثار منها فلا ينتهي إلى حد وقد كانت آلة العبيديين لما خرج العزيز إلى فتح الشام خمسمائة من البنود وخمسمائة من الأبواق‏.‏ وأما ملوك البربر بالمغرب من صنهاجة وغيرها فلم يختصوا بلون واحد بل وشوها بالذهب واتخذوها من الحرير الخالص ملونة واستمروا على الإذن فيها لعمالهم‏.‏ حتى إذا جاءت دولة الموحدين ومن بعدهم من زناتة قصروا الألة من الطبول والبنود على السلطان وحظروها على من سواه من عماله وجعلوا لها موكباً خاصاً يتبع أثر السلطان في مسيره يسمى الساقة‏.‏ وهم فيه بين مكثر ومقلل باختلاف مذاهب الدول في ذلك‏:‏ فمنهم من يقتصر على سبع من العدد تبركاً بالسبعة كما هو في دولة الموحدين وبني الأحمر بالأندلس ومنهم من يبلغ العشرة والعشرين كما هو عند زناتة‏.‏ وقد بلغت في أيام السلطان أبي الحسن فيما أدركناه مائة من الطبول ومائة من البنود ملونة بالحرير منسوجة بالذهب ما بين كبير وصغير‏.‏ ويأذنون للولاة والعمال والقواد في اتخاذ راية واحدة صغيرة من الكتان بيضاء وطبل صغير أيام الحرب لا يتجاوزون ذلك‏.‏ وأدا دولة الترك لهذا العهد بالمشرق فيتخذون أولاً راية واحدة عظيمة وفي رأسها خصلة كبيرة من الشعر يسمونها الشالش والجتر وهي شعار السلطان عندهم ثم تتعدد الرايات ويسمونها السناجق واحدها سنجق وهي الراية بلسانهم‏.‏ وأما الطبول فيبالغون في الاستكثار منها ويسمونها الكوسات ويبيحون لكل أمير أو قائد عسكر أن يتخذ من ذلك ما يشاء إلا الجتر فإنه خاص بالسلطان‏.‏ وأما الجلالقة لهذا العهد من أمم الإفرنجة بالأندلس فأكثر شأنهم اتخاذ الألوية القليلة ذاهبة في الجو صعداً ومعها قرع الأوتار من الطنابير ونفخ الغيطات يذهبون فيها مذهب الغناء وطريقه في مواطن حروبهم وهكذا يبلغنا عنهم وعمن وراءهم من ملوك العجم‏.‏ ‏"‏ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّلْعَالِمِينَ ‏"‏‏.‏ السرير‏:‏ وأما السرير والمنبر والتخت والكرسي فهي أعواد منصوبة أو أرائك منضدة لجلوس السلطان عليها مرتفعاً عن أهل مجلسه أن يساويهم في الصعيد‏.‏ ولم يزل ذلك من سنن الملوك قبل الإسلام وفي دول العجم‏.‏ وقد كانوا يجلسون على أسرة الذهب‏.‏ وكان لسليمان بن داود صلوات الله عليهما وسلامه كرسي وسرير من عاج مغشى بالذهب‏.‏ إلا أنه لا تأخذ به الدول إلا بعد الاستفحال والترف شأن الأبهة كلها كما قلناه‏.‏ وأما في أول الدولة عند البداوة فلا يتشوفون إليه‏.‏ وأول من اتخذه في الإسلام معاوية واستأذن الناس فيه وقال لهم‏:‏ إني قد بدنت فأذنوا له فاتخذه واتبعه الملوك الإسلاميون فيه وصار من منازع الأبهة‏.‏ ولقد كان عمرو بن العاص بمصر يجلس في قصره على الأرض مع العرب ويأتيه المقوقس إلى قصره ومعه سرير من الذهب محمول على الأيدي لجلوسه شأن الملوك فيجلس عليه وهو أمامه ولا يغيرون عليه وفاء له بما عقد معهم من الذمة واطراحاً لأبهة الملك‏.‏ ثم كان بعد ذلك لبني العباس والعبيديين وسائر ملوك الإسلام شرقاً وغرباً من الأسرة والمنابر والتخوت ما عفا عن الأكاسرة والقياصرة‏.‏ والله مقلب الليل والنهار‏.‏ السكة‏:‏ وهي الختم على الدنانير والدراهم المتعامل بها بين الناس بطابع حديد ينقش فيه صور أو كلمات مقلوبة ويضرب بها على الدينار أو الدرهم فتخرج رسوم تلك النقوش عليها ظاهرة مستقيمة بعد أن يعتبر عيار النقد من ذلك الجنس في خلوصه بالسبك مرة بعد أخرى وبعد تقدير أشخاص الدراهم والدنانير بوزن معين صحيح يصطلح عليه فيكون التعامل بها عدداً وإن لم تقدر أشخاصها يكون التعامل بها وزناً‏.‏ ولفظ السكة كان اسماً للطابع وهي الحديدة المتخذة لذلك ثم نقل إلى أثرها وهي النقوش الماثلة على الدنانير والدراهم ثم نقل إلى القيام على ذلك والنظر في استيفاء حاجاته وشروطه وهي الوظيفة فصار علماً عليها في عرف الدول‏.‏ وهي وظيفة ضرورية للملك إذ بها يتميز الخالص من المغشوش بين الناس في النقود عند المعاملات ويتقون في سلامتها الغش بختم السلطان عليها بتلك النقوش المعروفة‏.‏ وكان ملوك العجم يتخذونها وينقشون فيها تماثيل تكون مخصوصة بها مثل تمثال السلطان لعهدها أو تمثيل حصن أو حيوان أو مصنوع أو غير ذلك ولم يزل هذا الشأن عند العجم إلى آخر أمرهم‏.‏ ولما جاء الإسلام أغفل ذلك لسذاجة الدين وبداوة العرب‏.‏ وكانوا يتعاملون بالذهب والفضة وزناً وكانت دنانير الفرس ودراهمهم بين أيديهم يردونها في معاملتهم إلى الوزن ويتصارفون بها بينهم إلى أن تفاحش الغش في الدنانير والدراهم لغفلة الدولة عن ذلك وأمر عبد الملك الحجاج على ما نقل سعيد بن المسيب وأبو الزناد بضرب الدراهم وتمييز المغشوش من الخالص وذلك سنة أربع وسبعين وقال المدايني سنة خمس وسبعين ثم أمر بصرفها في سائر النواحي سنة ست وسبعين وكتب عليها‏:‏ ‏"‏ الله أحد الله الصمد ‏"‏‏.‏ ثم ولي ابن هبيرة العراق أيام
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:50

يزيد بن عبد الملك فجود السكة ثم بالغ خالد القسرفي في تجويدها ثم يوسف بن عمر بعده‏.‏ وقيل‏:‏ أول من ضرب الدنانير والدراهم مصعب بن الزبير بالعراق سنة سبعين بأمر أخيه عبد الله لما ولي الحجاز وكتب عليها في أحد الوجهين‏:‏ ‏"‏ بركة الله ‏"‏ وفي الآخر ‏"‏ اسم الله ‏"‏ ثم غيرها الحجاج بعد ذلك بسنة وكتب عليها اسم الحجاج وقدر وزنها على ما كانت استقرت أيام عمر‏.‏ وذلك أن الدرهم كان وزنه أول الإسلام ستة دوانق والمثقال وزنه درهم وثلاثة أسباع درهم فتكون عشرة دراهم بسبعة مثاقيل‏.‏ وكان السبب في ذلك ان أوزان الدرهم أيام الفرس كانت مختلفة وكان منها على وزن المثقال عشرون قيراطاً ومنها اثنا عشر ومنها عشرة فلما احتيج إلى تقديره في الزكاة أخذ الوسط وذلك اثنا عشر قيراطاً فكان المثقال درهماً وثلاثة أسباع درهم‏.‏ وقيل كان منها البغلي بثمانية دوانق والطبري أربعة دوانق والمغربي ثمانية دوانق واليمني ستة دوانق فأمر عمر أن ينظر الأغلب في التعامل فكان البغلي والطبري وهما اثنا عشر دانقاً‏.‏ وكان الدرهم ستة دوانق وإن زدت ثلاثة أسباعه كان مثقالاً وإذا أنقصت ثلاثة أعشار المثقال كان درهماً‏.‏ فلما رأى عبد الملك اتخاذ السكة لصيانة النقدين الجاريين في معاملة المسلمين من الغش عين مقدارها على هذا الذي استقر لعهد عمر رضي الله عنه واتخذ طابع الحديد واتخذ فيه كلمات لا صوراً لأن العرب كان الكلام والبلاغة أقرب مناحيهم وأظهرها مع أن الشرع ينهى عن الصور‏.‏ فلما فعل ذلك استمر بين الناس في أيام الملة كلها‏.‏ وكان الدينار والدرهم على شكلين مدورين والكتابة عليهما في دوائر متوازية يكتب فيها من أحد الوجهين أسماء الله تهليلاً وتحميداً وصلاة على النبي وآله وفي الوجه الثاني التاريخ واسم الخليفة‏.‏ وهكذا أيام العباسيين والعبيديين والأمويين‏.‏ وأما صنهاجة فلم يتخذوا سكة إلا آخر الأمر اتخذها منصور صاحب بجاية ذكر ذلك ابن حماد في تاريخه‏.‏ ولما جاءت دولة الموحدين كان مما سن لهم المهدي اتخاذ سكة الدرهم مربع الشكل وأن يرسم في دائرة الدينار شكل مربع في وسطه ويملأ من أحد الجانبين تهليلاً وتحميداً ومن الجانب الآخر كتباً في السطور باسمه واسم الخلفاء من بعده ففعل ذلك الموحدون وكانت سكتهم على هذا الشكل لهذا العهد‏.‏ ولقد كان المهدي فيما ينقل ينعت قبل ظهوره بصاحب الدرهم المربع نعته بذلك المتكلمون بالحدثان من قبله المخبرون في ملاحمهم عن دولته‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:50

وأما أهل المشرق لهذا العهد فسكتهم غير مقدرة وإنما يتعاملون بالدنانير والدراهم وزناً بالصنجات المقدرة بعدة منها ولا يطبعون عليها بالسكة نقوش الكلمات بالتهليل والصلاة واسم السلطان كما يفعله أهل المغرب‏.‏ ‏"‏ .yoo7ذلك تقدير العزيز العليم[/url] ‏"‏‏.‏ ولنختم الكلام في السكة بذكر حقيقة الدرهم والدينار الشرعيين وبيان حقيقة مقدارهما‏.‏ مقدار الدرهم والدينار الشرعيين وذلك أن الدينار والدرهم مختلفا السكة في المقدار والموازين بالأفاق والأمصار وسائر الأعمال والشرع قد تعرض لذكرهما وعلق كثيراً من الأحكام بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها‏.‏ فلا بد لهما عنده من حقيقة ومقدار معين في تقدير تجري عليهما أحكامه دون غير الشرعي منهما‏.‏ فاعلم أن الاجماع منعقد منذ صدر الإسلام وعهد الصحابة والتامعين أن الدرهم الشرعي هو الذي تزن العشرة منه سبعة مثاقيل من الذهب والأوقية منه أربعين درهماً وهو على هذا سبعة أعشار الدينار ووزن المثقال من الذهب اثنتنان وسبعون حبة من الشعير‏.‏ فالدرهم الذي هو سبعة أعشاره خمسون حبة وخمسا حبة‏.‏ وهذه المقادير كلها ثابتة بالإجماع‏.‏ فإن الدرهم الجاهلي كان بينهم على أنواع أجودها الطبري وهو أربعة دوانق والبغلي وهو ثمانية دوانق فجعلوا الشرعي بينهما وهو ستة دوانق‏.‏ فكانوا يوجبون الزكاة في مائة ددرهم بغلية ومائة طبرية خمسة دراهم وسطاً‏.‏ وقد اختلف الناس هل كان ذلك من وضع عبد الملك وإجماع الناس بعد عليه كما ذكرناه ذكر ذلك الخطام في كتاب معالم السنن والماوردي في الأحكام السلطانية وأنكره المحققون من المتأخرين لما يلزم عليه أن يكون الدينار والدرهم الشرعيان مجهولين في عهد الصحابة ومن بعدهم مع تعلق الحقوق الشرعية بهما في الزكاة والأنكحة والحدود وغيرها كما ذكرناه‏.‏ والحق أنهما كانا معلومي المقدار في ذلك العصر لجريان الأحكام يومئذ بما يتعلق بهما من الحقوق‏.‏ وكان مقدارهما غير مشخص في الخارج وإنما كان متعارفاً بينهم بالحكم الشرعي على المقدر في مقدارهما وزنتهما‏.‏ حتى استفحل الإسلام وعظمت الدولة ودعت الحال إلى تشخيصهما في المقدار والوزن كما هو عند الشرع ليستريحوا من كلفة التقدير‏.‏ وقارن ذلك أيام عبد الملك فشخص مقدارهما وعينهما في الخارج كما هو في الذهن ونقش عليهما السكة باسمه وتاريخه إثر الشهادتين الإيمانتين وطرح النقود الجاهلية رأساً حتى خلصت ونقش عليها سكة وتلاشى وجودها‏.‏ فهذا هو الحق الذي لا محيد عنه‏.‏ ومن بعد ذلك وقع اختيار أهل السكة في الدول على مخالفة المقدار الشرعي في الدينار والدرهم واختلفت في كل الأقطار والآفاق ورجع الناس إلى تصور مقاديرهما الشرعية ذهناً كما كان في الصدر الأول وصار أهل كل أفق يستخرجون الحقوق الشرعية من سكتهم بمعرفة النسبة التى بينها وبين مقاديرها الشرعية‏.‏ وأما وزن الدينار باثنين وسبعين حبة من الشعير الوسط فهو الذي نقله المحققون وعليه الإجماع إلا ابن حزم خالف ذلك وزعم أن وزنه أربعة وثمانون حبة نقل ذلك عنه القاضي عبد الحق ورده المحققون وعدوه وهماً وغلطاً وهو الصحيح‏.‏ ‏"‏.ويحق الله الحق بكلماته ‏"‏‏.‏ وكذلك تعلم أن الأوقية الشرعية ليست هي المتعارفة بين الناس لأن المتعارفة مختلفة باختلاف الأقطار والشرعية متحدة ذهناً لا اختلاف فيها‏.‏ ‏"‏ والله خلق كل شيء فقدره تقديراً ‏"‏‏.‏ وأما الخاتم فهو من الخطط السلطانية والوظائف الملوكية‏.‏ والختم على الرسائل والصكوك معروف للملوك قبل الإسلام وبعده‏.‏ وقد ثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم أراد أن يكتب إلى قيصر فقيل له‏:‏ إن العجم لا يقبلون كتاباً إلا أن يكون مختوماً فاتخذ خاتماً من فضة ونقش فيه‏:‏ ‏"‏ .محمد رسول الله ‏"‏‏.‏ قال البخاري‏:‏ ‏"‏ جعل ثلاث كلمات في ثلاثة أسطر وختم به وقال‏:‏ لا ينقش أحد مثله ‏"‏ قال‏:‏ ‏"‏ وتختم به أبو بكر وعمر وعثمان ثم سقط من يد عثمان في بئر أريس وكانت قليلة الماء فلم يدرك قعرها بعد واغتم عثمان وتطير منه وصنع آخر على مثله‏.‏ وفي كيفية نقش الخاتم والختم به وجوه‏.‏ وذلك أن الخاتم يطلق على الألة التي تجعل في الأصبع ومنه تختم إذا لبسه‏.‏ ويطلق على النهاية والتمام ومنه ختمت الأمر إذا بلغت آخره وختمت القرآن كذلك ومنه خاتم النبيين وخاتم الأمر‏.‏ ويطلق على السداد الذي يسد به الأواني والدنان ويقال فيه ختام ومنه قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ ]ختامه مسك[/url] ‏"‏ وقد غلط من فسر هذا بالنهاية والتمام قال لأن آخر ما يجدونة في شرابهم ريح المسك وليس المعنى عليه وإنما هو من الختام الذي هو السداد لأن الخمر يجعل لها في الدن سداد الطين أو القار يحفظها ويطيب عرفها وذوقها فبولغ في وصف خمر الجنة بأن سدادها من المسك وهو أطيب عرفاً وذوقاً من القار والطين فإذا صح إطلاق الخاتم على هذه كلها صح إطلاقه على أثرها الناشىء عنها‏.‏ وذلك أن الخاتم إذا نقشت به كلمات أو أشكال ثم غمس في مذاق من الطين أو مداد ووضع على صفح القرطاس بقي أكثر الكلمات في ذلك الصفح‏.‏ وكذلك إذا طبع به على جسم لين كالشمع فإنه يبقى نقش ذلك المكتوب مرتسماً فيه‏.‏ وإذا كانت كلمات وارتسمت فقد يقرأ من الجهة اليسرى إذا كان النقش على الاستقامة من اليمنى وقد يقرأ من الجهة اليمنى إذا كان النقش من الجهة اليسرى لأن الختم يقلب جهة الخط في الصفح كما كان في النقش من يمين أو يسار‏.‏ فيحتمل أن يكون الختم بهذا الخاتم بغمسه في المداد أو الطين ووضعه على الصفح فتنتقش الكلمات فيه ويكون هذا من معنى النهاية والتمام بمعنى صحة ذلك المكتوب ونفوذه كأن الكتاب إنما يتم العمل به بهذه العلامات وهو من دونها ملغى ليس بتمام‏.‏ وقد يكون هذا الختم بالخط آخر الكتاب أو أوله بكلمات منتظمة من تحميد أو تسبيح أو باسم السلطان أو الأمير أو صاحب الكتاب كائناً من كان أو شيء من نعوته يكون ذلك الخط علامة على صحة الكتاب ونفوذه ويسمى ذلك في المتعارف علامة ويسمى ختماً تشبيهاً له بأثر الخاتم الأصفي في النقش ومن هذا خاتم القاضي الذي يبعث به للخصوم أي علامته وخطه الذي ينفذ بهما أحكامه ومنه خاتم السلطان أو الخليفة أي علامته‏.‏ قال الرشيد ليحيى بن خالد لما أراد أن يستوزر جعفراً ويستبدل به من الفضل أخيه فقال لأبيهما يحيى‏:‏ ‏"‏ يا أبت إني أردت أن أحول الخاتم من يميني


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 14:53 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:51

إلى شمالي ‏"‏‏.‏ فكنى له بالخاتم عن الوزارة لما كانت العلامة على الرسائل والصكوك من وظائف الوزارة لعهدهم‏.‏ ويشهد لصحة هذا الإطلاق ما نقله الطبري أن معاوية أرسل إلى الحسن عند مراودته إياه في الصلح صحيفة بيضاء ختم على أسفلها وكتب إليه أن اشترط في هذه الصحيفة التي ختمت أسفلها ما شئت فهو لك‏.‏ ومعنى الختم هنا علامة في آخر الصحيفة بخطه أو غيره‏.‏ ويحتمل أن يختم به في جسم لين فتنتقش فيه حروفه ويجعل على موضع الحزم من الكتاب إذا حزم وعلى المودوعات وهو من السداد كما مر‏.‏ وهو في الوجهين آثار الخاتم فيطلق عليه خاتم‏.‏ وأول من أطلق الختم على الكتاب أي العلامة معاوية لأنه أمر لعمر بن الزبير عند زياد بالكوفة بمائة ألف ففتح الكتاب وصير المائة مائتين ورفع زياد حسابه فأنكرها معاوية وطلب بها عمر وحبسه حتى قضاها عنه أخوه عبد الله‏.‏ واتخذ معاوية عند ذلك ديوان الخاتم ذكره الطبري‏.‏ وقال آخرون‏:‏ وحزم الكتب ولم تكن تحزم أي جعل لها السداد‏.‏ وديوان الختم عبارة عن الكتاب القائمين على إنفاذ كتب السلطان والختم عليها إما بالعلامة أو بالحزم‏.‏ وقد يطلق الديوان على مكان جلوس هؤلاء الكتاب كما ذكرناه في ديوان الأعمال‏.‏ والحزم للكتب يكون إما بمس الورق كما في عرف كتاب المغرب وأما بلصق رأس الصحيفة على ما تنطوي عليه من الكتاب كما في عرف أهل المشرق‏.‏ وقد يجعل على مكان الدس أو الإلصاق علامة يؤمن معها من فتحه والاطلاع على ما فيه‏.‏ فأهل المغرب يجعلون على مكان الدس قطعة من الشمع ويختمون عليها بخاتم نقشت فيه علامة لذلك فيرتسم النقش في الشمع‏.‏ وكان في المشرق في الدول القديمة يختم على مكان اللصق بخاتم منقوش أيضاً قد غمس في مذاق من الطين معد لذلك صبغه أحمر فيرتسم ذلك النقش عليه‏.‏ وكان هذا الطين في الدولة العباسية يعرف بطين الختم وكان يجلب من سيراف فيظهر أنه مخصوص بها‏.‏ فهذا الخاتم الذي هو العلامة المكتوبة أو النقش للسداد والحزم للكتب خاص بديوان الرسائل‏.‏ وكان ذلك للوزير في الدولة العباسية‏.‏ ثم اختلف العرف وصار لمن إليه الترسيل وديوان الكتاب في الدولة‏.‏ ثم صاروا في دول المغرب يغدون من علامات الملك وشاراته الخاتم للأصبع فيستجيدون صوغه من الذهب ويرصعونه بالفصوص من الياقوت والفيروزج والزمرد ويلبسه السلطان شارة في عرفهم كما كانت البردة والقضيب في الدولة العباسية والمظلة في الدولة العبيدية‏.‏ والله مصرف الأمور بحكمه‏.‏ من أبهة الملك والسلطان ومذاهب الدول أن ترسم أسماوهم أو علامات تختص بهم في طراز أثوابهم المعدة للباسهم من الحرير أو الديباج أو الإبريسم تعتبر كتابة خطها في نسج الثوب ألحاماً وأسداء بخيط الذهب أو ما يخالف لون الثوب من الخيوط الملونة من غير الذهب على ما يحكمه الصناع في تقدير ذلك ووضعه في صناعة نسجهم فتصير الثياب الملوكية معلمة بذلك الطراز قصد التنويه بلابسها من السلطان فمن دونه أو التنويه بمن يختصه السلطان بملبوسه إذا قصد تشريفه بذلك أو ولايته لوظيفة من وظائف دولته‏.‏ وكان ملوك العجم من قبل الإسلام يجعلون ذلك الطراز بصور الملوك وأشكالهم أو أشكال وصور معينة لذلك‏.‏ ثم اعتاض ملوك الإسلام عن ذلك بكتب أسمائهم مع كلمات أخرى تجري مجرى الفأل أو السجلات‏.‏ وكان ذلك في الدولتين من أبهة الأمور وأفخم الأحوال‏.‏ وكانت الدور المعدة لنسج أثوابهم في قصورهم تسمى دور الطراز لذلك‏.‏ وكان القائم على النظر فيها يسمى صاحب الطراز ينظر في أمور الصباغ والآلة والحاكة فيها وإجراء أرزاقهم وتسهيل آلالتهم ومشارفة أعمالهم‏.‏ وكانوا يقلدون ذلك لخواص دولتهم وثقات مواليهم‏.‏ وكذلك كان الحال في دولة بني أمية بالأندلس والطوائف من بعدهم وفي دولة العبيديين بمصر ومن كان على عهدهم من ملوك العجم بالمشرق‏.‏ ثم لما ضاق نطاق الدول عن الترف والتفنن فيه لضيق نطاقها في ولما جاءت دولة الموحدين بالمغرب بعد بني أمية أول المائة السادسة لم يأخذوا بذلك أول دولتهم لما كانوا عليه من منازع الديانة والسذاجة التي لقنوها عن إمامهم محمد بن تومرت المهدي وكانوا يتوزعون عن لباس الحرير والذهب فسقطت هذه الوظيفة من دولتهم واستدرك منها أعقابهم آخر الدولة طرفاً لم يكن بتلك النباهة‏.‏ وأما لهذا العهد فأدركنا بالمغرب في الدولة المرينية لعنفوانها وشموخها رسماً جليلاً لقنوه من دولة ابن الأحمر معاصرهم بالأندلس واتبع هو في ذلك ملوك الطوائف فأتى منه بلمحة شاهدة بالأثر‏.‏ وأما دولة الترك بمصر والشام لهذا العهد ففيها من الطراز تحرير آخر على مقدار ملكهم وعمران بلادهم إلا أن ذلك لا يصنع في دورهم وقصورهم وليست من وظائف دولتهم وإنما ينسج ما تطلبه الدولة من ذلك عند صناعه من الحرير ومن الذهب الخالص ويسمونه المزركش لفظة أعجمية ويرسم اسم السلطان أو الأمير عليه ويعده الصناع لهم فيما يعدونه للدولة من طرف الصناعة اللائقة بها‏.‏ والله مقدر الليل والنهار والله خير الوارثين‏.‏ الفساطيط والسياج اعلم أن من شارات الملك وترفه اتخاذ الأخبية والفساطيط والفازات من ثياب الكتان والصوف والقطن بجدل الكتان والقطن فيباهى بها في الأسفار وتنوع منها الألوان ما بين كبير وصغير على نسبة الدولة في الثروة واليسار وإنما يكون الأمر في أول الدولة في بيوتهم التي جرت عادتهم باتخاذها قبل الملك‏.‏ وكان العرب لعهد الخلفاء الأولين من بني أمية إنما يسكنون بيوتهم التي كانت لهم خياماً من الوبر والصوف‏.‏ ولم تزل العرب لذلك العهد بادين إلا الأقل منهم‏.‏ فكانت أسفارهم لغزواتهم وحروبهم بظعونهم وسائر حللهم وأحيائهم من الأهل والولد كما هو شأن العرب لهذا العهد‏.‏ وكانت عساكرهم لذلك كثيرة الحلل بعيدة ما بين المنازل متفرقة الأحياء يغيب كل واحد منها عن نظر صاحبه في الأخرى كشأن العرب‏.‏ ولذلك كان عبد الملك يحتاج إلى ساقة تحشد الناس على آثره أن يقيموا إذا ظعن‏.‏ ونقل أنه استعمل في ذلك الحجاج حين أشار به روح بن زنباع وقصتها في إحراق فساطيط روح وخيامه لأول ولايته حين وجدهم مقيمين في يوم رحيل عبد الملك قصة مشهورة‏.‏ ومن هذه الولاية تعرف رتبة الحجاج بين العرب فإنه لا يتولى إرادتهم على الظعن إلا من يأمن بوادر السفهاء من أحيائهم بما له من العصبية الحائلة دون ذلك ولذلك اختصه عبد الملك بهذه الرتبة ثقة بغنائه فيها بعصبيته وصرامته‏.‏ فلما تفننت الدولة العربية في مذاهب الحضارة والبذخ ونزنوا المدن والأمصار وانتقلوا من سكنى الخيام إلى سكنى القصور ومن ظهر الخف إلى ظهر الحافر اتخذوا للسكنى في أسفارهم ثياب الكتان يستعملون منها بيوتاً مختلفة الأشكال مقدرة الأمثال من القوراء والمستطيلة والمربعة ويحتفلون فيها بأبلغ مذاهب الاحتفال والزينة ويدير الأمير القائد للعساكر على فساطيطه وفازاته من بينهم سياجاً من الكتان يسمى في المغرب بلسان البربر الذي هو لسان أهله ‏"‏ أفراك بالكاف التي بين الكاف والقاف ويختص به السلطان بذلك القطر لا يكون لغيره‏.‏ وأما في المشرق فيتخذه كل أمير وإن كان دون السلطان‏.‏ ثم جنحت الدعة بالنساء والولدان إلى المقام بقصورهم ومنازلهم فخف لذلك ظهرهم وتقاربت الساح بين منازل العسكر واجتمع الجيش والسلطان في معسكر واحد يحصره البصر في بسيطة زهواً أنيقاً لاختلاف ألوانه‏.‏ واستمر الحال على ذلك في مذاهب الدول في بذخها وترفها‏.‏ وكذا كانت دولة الموحدين وزناتة التي أظلتنا‏.‏ كان سفرهم أول أمرهم في بيوت سكناهم قبل الملك من الخيام والقياطن حتى إذا أخذت الدولة في مذاهب الترف وسكنى
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:53

القصور عادوا إلى سكنى الأخبية والفساطيط وبلغوا من ذلك فوق ما أرادوه وهو من الترف بمكان‏.‏ إلا أن العساكر به تصير عرضة للبيات لاجتماعهم في مكان واحد تشملهم فيه الصيحة ولخفتهم من الأهل والولد الذين تكون الاستماتة دونهم فيحتاج في ذلك إلى تحفظ آخر‏.‏ والله القوى العزيز‏.‏ وهما من الأمور الخلافية ومن شارات الملك الإسلامي ولم يعرف في غير دول الإسلام‏.‏ فأما البيت المقصورة من المسجد لصلاة السلطان فيتخذ سياجاً على المحراب فيحوزه وما يليه‏.‏ فأول من اتخذها معاوية بن أبي سفيان حين طعنه الخارجي والقصة معروفة وقيل أول من اتخذها مروان بن الحكم حين طعنه اليماني‏.‏ ثم اتخذها الخلفاء من بعدهما وصارت سنة في تمييز السلطان عن الناس في الصلاة‏.‏ وهي إنما تحدث عند حصول الترف في الدول والاستفحال شأن أحوال الأبهة كلها‏.‏ وما زال الشأن ذلك في الدول الإسلامية كلها‏.‏ وعند افتراق الدولة العباسية وتعدد الدول بالمشرق وكذا بالأندلس عند انقراض الدولة الأموية وتعدد ملوك الطوائف‏.‏ وأما المغرب فكان بنو الأغلب يتخذونها بالقيروان ثم الخلفاء العبيديون ثم ولاتهم على المغرب من صنهاجة بنو باديس بفاس وبنو حماد بالقلعة‏.‏ ثم ملك الموحدون سائر المغرب والأندلس ومحوا ذلك الرسم على طريقة البداوة التي كانت شعارهم‏.‏ ولما استفحلت الدولة وأخذت بحظها من الترف وجاء أبو يعقوب المنصوز ثالث ملوكهم فاتخذ هذه المقصورة وبقيت من بعده سنة لملوك المغرب والأندلس‏.‏ وهكذا كان الشأن في سائر الدول‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏ وأما الدعاء على المنابر في الخطبة فكان الشأن أولاً عند الخلفاء ولاية الصلاة بأنفسهم‏.‏ فكانوا يدعون لذلك بعد الصلاة بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم والرضا عن أصحابه‏.‏ وأول من اتخذ المنبر عمرو بن العاص لما بنى جامعه بمصر‏.‏ وأول من دعا للخليفة على المنبر ابن عباس دعا لعلي رضي الله عنهما في خطبته وهو بالبصرة عامل له عليها قال‏:‏ اللهم انصر علياً على الحق‏.‏ واتصل العمل على ذلك فيما بعد‏.‏ وبعد أخذ عمرو بن العاص المنبر بلغ عمر بن الخطاب ذلك فكتب إليه عمر بن الخطاب‏:‏ ‏"‏ أما مد فقد بلغني أنك اتخذت منبراً ترقى به على رقاب المسلمين أو ما يكفيك أن تكون قائماً والمسلمون تحت عقبك‏!‏ فعزمت عليك إلا ما كسرته‏.‏ فلما حدثت الأبهة وحدث في الخلفاء المانع من الخطبة والصلاة استنابوا فيهما‏.‏ فكان الخطيب يشيد بذكر الخليفة على المنبر تنويهاً باسمه ودعاء له بما جعل الله مصلحة العالم فيه ولأن تلك ساعة مظنة للإجابة ولما ثبت عن السلف في قولهم‏:‏ من كانت له دعوة صالحة ليضعها في السلطان‏.‏ وكان الخليفة يفرد بذلك‏.‏ فلما جاء الحجر والاستبداد صار المتغلبون على الدول كثيراً ما يشاركون الخليفة بذذلك ويشاد باسمهم عقب اسمه‏.‏ وذهب ذلك بذهاب تلك الدول وصار الأمر إلى ختصاص السلطان بالدعاء له على المنبر دون من سواه وحظر أن يشاركه فيه أحد يسمو إليه‏.‏ وكثيراً ما يغفل الماهدون من أهل الدول هذا الرسم عندما تكون الدولة في أسلوب الغضاضة ومناحي البداوة في التغافل والخشونة ويقنعون بالدعاء على الإبهام والإجمال لمن ولي أمور المسلمين‏.‏ ويسمون مثل هذه الخطبة إذا كانت على هذا المنحى عباسية يعنون بذلك أن الدعاء على الإجمال إنما يتناول العباسي تقليداً في ذلك لما سلف من الأمر ولا يحفلون بما وراء ذلك من تعيينه والتصريح باسمه‏.‏ يحكى أن يغمراسن بن زيان ماهد دولة بني عبد الواد لما غلبه الأمير أبو زكريا يحيى بن أبي حفص على تلمسان ثم بدا له في إعادة الأمر إليه على شروط شرطها كان فيها ذكر اسمه على منابر عمله فقال يغمراسن‏:‏ تلك أعوادهم يذكرون عليها من شاؤوا‏.‏ وكذلك يعقوب بن عبد الحق ماهد دولة بني مرين حضره رسول المستنصر الخليفة بتونس من بني أبي حفص وثالث ملوكهم وتخلف بعض أيامه عن شهود الجمعة فقيل له لم يحضر هذا الرسول كراهية لخلو الخطبة من ذكر سلطانه فأذن في الدعاء له وكان ذلك سبباً لأخذهم بدعوته‏.‏ وهكذا شأن الدول في بدايتها وتمكنها في الغضاضة والبداوة‏.‏ فإذا انتبهت عيون سياستهم ونظروا في أعطاف ملكهم واستتموا شيات الحضارة ومعاني البذخ والأبهة انتحلوا جميع هذه السمات وتفننوا فيها وتجاروا إلى غايتها وأنفوا من المشاركة فيها وجزعوا من افتقادها وخلو دولتهم من آثارها‏.‏ والعالم بستان‏.‏ والله على كل شيء رقيب‏.‏ في الحروب ومذاهب الأمم في ترتيبها اعلم أن الحروب وأنواع المقاتلة لم تزل واقعة في الخليقة منذ برأها الله‏.‏ وأصلها إرادة انتقام بعض البشر من بعض ويتعصب لكل منها أهل عصبيته‏.‏ فإذا تذامروا لذلك وتوافقت الطائفتان إحداهما تطلب الإنتقام والأخرى تدافع كانت الحرب وهو أمر طبيعي في البشر لا تخلو عنه أمة ولا جيل‏.‏ وسبب هذا الإنتقام في الأكثر‏:‏ إما غيرة ومنافسة وإما عدوان ة وإما غضب لله ولدينه ث وإما غضب للملك وسعي في تمهيده‏.‏ فالأول أكثر ما يجري بين القبائل المتجاورة والعشائر المتناظرة‏.‏ والثاني وهو العدوان أكثر ما يكون من الأمم الوحشية الساكنين بالقفر كالعرب والترك والتركمان والأكراد وأشباههم لأنهم جعلوا أرزاقهم في رماحهم ومعاشهم فيما بأيدي غيرهم ومن دافعهم عن متاعه آذنوه بالحرب ولا بغية لهم فيما وراء ذلك من رتبة ولا ملك وإنما همهم ونصب أعينهم غلب الناس على ما في أيديهم‏.‏ والثالث هو المسمى في الشريعة بالجهاد‏.‏ والرابع هو حروب الدول مع الخارجين عليها والمانعين لطاعتها فهذه أربعة أصناف من الحروب‏:‏ الصنفان الأولان منها حروب بغي وفتنة والصنفان الأخيران حروب جهاد وعدل وصفة الحروب الواقعة بين الخليقة منذ أول وجودهم على نوعين‏:‏ نوع بالزحف صفوفاً ونوع بالكر والفر‏.‏ أما الذي بالزحف فهو قتال العجم كلهم على تعاقب أجيالهم‏.‏ وأما الذي بالكر والفر فهو قتال العرب والبربر من أهل المغرب‏.‏ وقتال الزحف أوثق وأشد من قتال الكر والفر‏.‏ وذلك لأن قتال الزحف ترتب فيه الصفوف وتسوى كما تسوى القداح أو صفوف الصلاة ويمشون بصفوفهم إلى العدو قدماً‏.‏ فلذلك تكون أثبت عند المصارع وأصدق في القتال وأرهب للعدو لأنه كالحائط الممتد والقصر المشيد لا يطمع في إزالته‏.‏ وفي التنزيل‏:‏ ‏"‏ .]إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص ‏"‏ أي يشد بعضهم بعضاً بالثبات‏.‏ وفي الحديث
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:55

الكريم‏:‏ ‏"‏ المؤمن للمؤمن كالبنيان يسد بعضه بعضاً‏.‏ ومن هنا يظهر لك حكمة إيجاب الثبات وتحريم التولي في الزحف فإن المقصود من الصف في القتال حفظ النظام كما قلناه فمن ولى العدو ظهره فقد أخل بالمصاف وباء بإثم الهزيمة إن وقعت وصار كأنه جرها على المسلمين وأمكن منهم عدوهم فعظم الذنب لعموم المفسدة وتعديها إلى الدين بخرق سياجه فغد من الكبائر‏.‏ ويظهر من هذه الأدلة أن قتال الزحف أشد عند الشارع‏.‏ وأما قتال الكر والفر فليس فيه من الشدة والأمن من الهزيمة ما في قتال الزحف‏.‏ إلا أنهم قد يتخذون وراءهم في القتال مصافاً ثابتاً يلجأون إليه في الكر والفر ويقوم لهم مقام قتال الزحف كما نذكره بعد‏.‏ ثم إن الدول القديمة الكثيرة الجنود المتسعة الممالك كانوا يقسمون الجيوش والعساكر أقساماً يسمونها كراديس ويسوون في كل كردوس صفوفه‏.‏ وسبب ذلك أنه لما كثرت جنودهم الكثرة البالغة وحشدوا من قاصية النواحي استدعى ذلك أن يجهل بعضهم بعضاً إذا اختلطوا في مجال الحرب واعتوروا مع عدوهم الطعن والضرب فيخشى من تدافعهم فيما بينهم لأجل النكراء وجهل بعضهم ببعض فلدلك كانوا يقسمون العساكر جموعاً ويضمون المتعارفين بعضهم لبعض ويرتبونها قريباً من الترتيب الطبيعي في الجهات الأربع‏.‏ ورئيس العساكر كلها من سلطان أو قائد في القلب‏.‏ ويسمون هذا الترتيب التعبئة وهو مذكور في أخبار فارس والروم والدولتين صدر الإسلام‏.‏ فيجعلون بين يدي الملك عسكراً منفرداً بصفوفه متميزاً بقائده ورايته وشعاره ويسمونه المقدمة ثم عسكراً آخر من ناحية اليمين عن موقف الملك وعلى سمته يسمون الميمنة ثم عسكراً آخر من ناحية الشمال كذلك يسمون الميسرة ثم عسكراً آخر من وراء العسكر يسمونه الساقة ويقف الملك وأصحابه في الوسط بين هذه الأربع ويسمون موقفه القلب‏.‏ فإذا تم لهم هذا الترتيب المحكم إما في مدى واحد للبصر أو على مسافة بعيدة أكثرها اليوم واليومان بين كل عسكرين منها أو كيفما أعطاه حال العساكر في القلة والكثرة فحينئذ يكون الزحف من بعد هذه التعبئة‏.‏ وانظر ذلك في أخبار الفتوحات وأخبار الدولتين بالمشرق وكيف كانت العساكر لعهد عبد الملك تتخفف عن رحيله لبعد المدى في التعبئة فاحتيج لمن يسوقها من خلفه وعين لذلك الحجاج بن يوسف كما أشرنا إليه وكما هو معروف في أخباره‏.‏ وكان في الدولة الأموية بالأندلس أيضاً كثير منه وهو مجهول فيما لدينا لأنا إنما أدركنا دولاً قليلة العساكر لا تنتهي في مجال الحرب إلى التناكر بل أكثر الجيوش من الطائفتين معاً يجمعهم لدينا حلة أو مدينة ويعرف كل واحد منهم قرنه ويناديه في حومة الحرب باسمه ولقبه فاستغني عن تلك التعبئة‏.‏ ضرب المصاف وراء العسكر ومن مذاهب أهل الكر والفر في الحروب ضرب المصاف وراء عسكرهم من الجمادات والحيوانات العجم فيتخذونها ملجأ للخيالة في كرهم وفرهم يطلبون به ثبات المقاتلة ليكون أدوم للحرب وأقرب إلى الغلب‏.‏ وقد يفعله أهل الزحف أيضاً ليزيدهم ثباتاً وشدة‏.‏ فقد كان الفرس وهم أهل الزحف يتخذون الفيلة في الحروب ويحملون عليها أبراجاً من الخشب أمثال الصروح مشحونة بالمقاتلة والسلاح والرايات ويصفونها وراءهم في حومة الحرب كأنها حصون فتقوى بذلك نفوسهم ويزداد وثوقهم‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك في القادسية وأن فارس في اليوم الثالث اشتدوا بها على المسلمين حتى اشتدت رجالات من العرب فخالطوهم وبعجوها بالسيوف على خراطيمها فنفرت ونكصت على أعقابها إلى مرابطها بالمدائن فجفا معسكر فارس لذلك وانهزموا في اليوم الرابع‏.‏ وأما الروم وملوك القوط بالأندلس وأكثر العجم فكانوا يتخذون لذلك الأسرة ينصبون للملك سريره في حومة الحرب ويحف به من خدمه وحاشيته وجنوده من هو زعيم بالاستماتة دونه وترفع الرايات في أركان السرير ويحدق به سياج آخر من الرماة والرجالة فيعظم هيكل السرير ويصير فئة للمقاتلة وملجأ للكر والفر‏.‏ وجعل ذلك الفرس أيام القادسية وكان رستم جالساً على سرير نصبه لجلوسه حتى إختلفت صفوف فارس وخالطه العرب في سريره ذلك فتحول عنه إلى الفرات وقتل‏.‏ وأما أهل الكر والفر من العرب وأكثر الأمم البدوية الرحالة فيصفون لذلك إبلهم والظهر الذي يحمل ظعائنهم فيكون فئة لهم ويسمونها المجبوذة وليس أمة من الأمم إلا وهي تفعل ذلك في حروبها وتراه أوثق في الجولة وآمن من الغرة والهزيمة‏.‏ وهو أمر مشاهد‏.‏ وقد أغفلته الدول لعهدنا بالجملة واعتاضوا عنه بالظهر الحامل للأثقال والفساطيط يجعلونها ساقة من خلفهم ولا تغني غناء الفيلة والإبل‏.‏ فصارت العساكر بذلك عرضة للهزائم ومستشعرة للفرار في المواقف‏.‏ وكان الحرب أول الإسلام كله زحفاً‏.‏ وكان العرب إنما يعرفون الكر والفر‏.‏ لكن حملهم على ذلك أول الإسلام أمران‏:‏ أحدهما أن عدوهم كانوا يقاتلون زحفاً فيضطرون إلى مقاتلتهم بمثل قتالهم الثاني‏:‏ أنهم كانوا مستميتين في جهادهم لما رغبوا فيه من الصبر ولما رسخ فيهم من الإيمان والزحف إلى الاستماتة أقرب‏.‏ وأول من أبطل الصف في الحروب وصار إلى التعبئة كراديس مروان بن الحكم في قتال الضحاك الخارجي والحبيري بعده‏.‏ قال الطبري‏:‏ لما ذكر قتال الحبيري‏:‏ فولى الخواربخ عليهم شيبان بن عبد العزيز اليشكري ويلقب أبا الذلفاء وقاتلهم مروان بعد ذلك بالكراديس وأبطل الصف من يومئذ انتهى‏.‏ فتنوسي قتال الزحف بإبطال الصف ثم تنوسي الصف وراء المقاتلة بما داخل الدول من الترف‏.‏ وذلك إنها حينما كانت بدوية وسكناهم الخيام كانوا يستكثرون من الإبل وسكنى النساء والولدان معهم في الأحياء‏.‏ فلما حصلوا على ترف الملك وألفوا سكنى القصور والحواضر وتركوا شأن البادية والقفر نسوا لذلك عهد الأبل والظعائن وصعب عليهم اتخاذها فخلفوا النساء في الأسفار وحملهم الملك والترف على اتخاذ الفساطيط والأخبية فاقتصروا على الظهر الحامل للأثقال والأبنية وكان ذلك صفتهم في الحرب‏.‏ ولايغني كل الغناء لأنه لا يدعو إلى الاستماتة كما يدعو إليها الأهل والمال‏.‏ فيخف الصبر من أجل ذلك وتصرفهم الهيعات وتخرم صفوفهم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:57

فصل‏:‏ ولما ذكرناه من ضرب المصاف وراء العساكر وتأكده في قتال الكر والفر
صار ملوك المغرب يتخذون طائفة من الأفرنج في جندهم واختصوا بذلك لأن قتال أهل وطنهم كله بالكر والفر‏.‏ والسلطان يتأكد في حقه ضرب المصاف ليكون ردءاً للمقاتلة أمامه فلا بد وأن يكون أهك ذلك الصف من قوم متعودين للثبات في الزحف وإلا أجفلوا على طريقة أهل الكر والفر فانهزم السلطان والعساكر بإجفالهم فاحتاج الملوك بالمغرب أن يتخذوا جنداً من هذه الأمة المتعودة الثبات في الزحف وهم الأفرنج ويرتبون مصافهم المحدق بهم منها هذا على ما فيه من الأستعانة بأهل الكفر‏.‏ وإنما استخفوا ذلك للضرورة التي أريناكها من تخوف الأجفال على مصاف السلطان والإفرنج لا يعرفون غير الثبات في ذلك لأن عادتهم في القتال الزحف فكانوا أقوم بذلك من غيرهم‏.‏ مع أن الملوك في المغرب إنما يفعلون ذلك عند الحرب مع أمم العرب والبربر وقتالهم على الطاعة وأما في الجهاد فلا يستعينون بهم حذراً من ممالأتهم على المسلمين‏.‏ فصل‏:‏ وبلغنا أن أمم الترك لهذا العهد قتالهم مناضلة بالسهام وأن تعبئة الحرب عندهم بالمصاف وأنهم يقسمون بثلاثة صفوف يضربون صفاً وراء صف ويترجلون عن خيولهم ويفرغون سهامهم بين أيديهم ثم يتناضلون جلوساً وكل صف ردء للذي أمامه أن يكبسهم العدو إلى أن يتهيأ النصر لإحدى الطائفتين على الأخرى‏.‏ وهي تعبئة محكمة غريبة‏.‏ فصل‏:‏ وكان من مذاهب الأول في حروبهم حفر الخنادق على معسكرهم عندما يتقاربون للزحف حذراً من معرة البيات والهجوم على العسكر بالليل لما في ظلمته ووحشته من مضاعفة الخوف فيلوذ الجيش بالفرار وتجد النفوس في الظلمة ستراً من عاره فإذا تساووا في ذلك أرجف العسكر ووقعت الهزيمة‏.‏ فكانوا لذلك يحتفرون الخنادق على معسكرهم إذا نزلوا وضربوا أبنيتهم ويديرون الحفائر نطاقاً عليهم من جميع جهاتهم حرصاً أن يخالطهم العدو بالبيات فيتخاذلوا‏.‏ وكانت للدول في أمثال هذا قوة وعليه اقتدار باحتشاد الرجال وجمع الأيدي عليه في كل منزل من منازلهم بما كانوا عليه من وفور العمران وضخامة الملك‏.‏ فلما خرب العمران وتبعه ضعف الدول وقلة الجنود وعدم الفعلة نسي هذا الشان جملة كأنه يكن‏.‏ والله خير القادرين‏.‏ وتحريضه لأصحابه يوم صفين‏:‏ وانظر وصية علي رضي الله عنه وتحريضه لأصحابه يوم صفين تجد كثيراً من علم الحرب ولم يكن أحد أبصر بها منه‏.‏ قال في كلام له‏:‏ ‏"‏ فسووا صفوفكم كالبنيان المرصوص وقدموا الدارع وأخروا الحاسر‏.‏ وعضوا على الأضراس فإنه أنبى للسيوف عن الهام‏.‏ والتووا على أطراف الرماح فإنه أصون للأسنة‏.‏ وغضوا الأبصار فإنه أربط للجأش وأسكن للقلوب‏.‏ واخفتوا الأصوات فإنه أطرد للفشل وأولى بالوقار‏.‏ وأقيموا راياتكم فلا تميلوها ولا تجعلوها إلا بأيدي شجعانكم‏.‏ واستعينوا بالصدق والصبر فإنه بقدر الصبر ينزل النصر ‏"‏‏.‏ وقال الأشتر يومئذ يحرض الأزد‏:‏ ‏"‏ عضوا على النواجذ من الأضراس واستقبلوا القوم بهامكم وشدوا شدة قوم موتورين يثارون بآبائهم وإخوانهم حناقاً على عدوهم وقد وطنوا على الموت أنفسهم لئلا يسبقوا بوتر ولا يلحقهم في الدنيا عار‏.‏ وقد أشار إلى كثير من ذلك أبو بكر الصيرفي شاعر لمتونة وأهل الأندلس في كلمة يمدح بها تاشفين بن علي بن يوسف ويصف ثباته في حرب شهدها ويذكره بأمور الحرب في وصايا وتحذيرات تنبهك على معرفة كثير من سياسة الحرب يقول فيها‏:‏ ومن الذي غدر العدو به دجى فانفض كل وهو لا يتزعزع تمضي الفوارس والطعان يصدها عنه ويدمرها الوفاء فترجع والليل من وضح الترائك إنه صبح على هام الجيوش يلمع أنى فزعتم يا بني صنهاجة وإليكم في الروع كان المفزع إنسان عين لم يصبه منكم حضن وقلب أسلمته الأضلع وصددتم عن تاشفين وإنه لعقابه لو شاء فيكم موضع ما أنتم إلا اسود خفية كل لكل كريهة مستطلع يا تاشفين أقم لجيشك عذره بالفيل والعذر الذي لا يدفع ومنها في سياسة الحرب‏:‏ أهديك من أدب السياسة ما به كانت ملوك الفرس قبلك تولع لا إنني أدري بها لكنها ذكرى تحض المؤمنين وتنفع والبس من الحلق المضاعفة التي وصى بها صنع الصنائع تبع والواد لا تعبره وانزل عنده بين العدو وبين جيشك يقطع واجعل مناجزة الجيوش عشية ووراءك الصدق الذي هو أمنع وإذا تضايقت الجيوش بمعرك ضنك فأطراف الرماح توسع واصدمه أول وهلة لا تكترث شيئاً فإظهار النكول يضعضع واجعل من الطلاع أهل شهامة للصدق فيهم شيمة لاتخدع لا تسمع الكذاب جاءك مرجفاً لا رأي للكذاب فيما يصنع قوله‏:‏ ‏"‏ واصدمة أول وهلة لا تكترث ‏"‏ البيت مخالف لما عليه الناس في أمر الحرب‏.‏ فقد قال عمر لأبي عبيد بن مسعود الثقفي لما ولاه حرب فارس والعراق فقال له‏:‏ اسمع وأطع من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وأشركهم في الأمر ولا تجيبن مسرعاً حتى تتبين فإنها الحرب ولا يصلح لها إلا الرجل المكيث الذي يعرف الفرصة والكف‏.‏ وقال له في أخرى‏:‏ ‏"‏ إنه لن يمنعني أن أؤمر سليطا إلا سرعته في الحرب‏.‏ وفي التسرع في الحرب إلا عن بيان ضياع‏.‏ والله لولا ذلك لأمرته‏.‏ لكن الحرب لا يصلحها إلا الرجل المكيث ‏"‏‏.‏ هذا كلام عمر وهو شاهد بأن التثاقل في الحرب أولى من الخفوف حتى يتبين حال تلك الحرب‏.‏ وذلك عكس ما قاله الصيرفي إلا أن يريد أن الصدم بعد البيان فله وجه‏.‏ والله تعالى ولا وثوق في الحرب بالظفر وإن حصلت أسبابه من العدة والعديد وإنما الظفر فيها والغلب من قبيل البخت والاتفاق‏.‏ وبيان ذلك أن أسباب الغلب في الأكثر مجتمعة من أمور ظاهرة وهي الجيوش ووفورها وكمال الأسلحة واستجادتها وكثرة الشجعان وترتيب المصاف ومنه صدق القتال وما جرى مجرى ذلك ومن أمور خفية وهي إما من خدع البشر وحيلهم في الإرجاف والتشانيع التي يقع بها التخذيل وفي التقدم إلى الأماكن المرتفعة ليكون الحرب من أعلى فيتوهم المنخفض لذلك وفي الكمون في الغياض ومطمئن الأرض والتواري بالكدى عن العدو حتى يتداولهم العسكر دفعة وقد تورطوا فيتلفتون إلى النجاة وأمثال ذلك‏.‏ وأما أن تكون تلك الأسباب الخفية أموراً سماوية لا قدرة للبشر على اكتسابها تلقى في القلوب فيستولي الرهب عليهم لأجلها فتختل مراكزهم فتقع الهزيمة‏.‏ وأكثر ما تقع الهزائم عن هذه الأسباب الخفية لكثرة ما يعتمل لكل واحد من الفريقين فيها حرصاً على الغلب فلا بد من وقوع التأثير في ذلك لأحدهما ضرورة‏.‏ ولذلك قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الحرب خدعة ‏"‏‏.‏ ومن أمثال العرب‏:‏ ‏"‏ رب حيلة أنفع من قبيلة ‏"‏‏.‏ فقد تبين أن وقوع الغلب في الحروب غالباً عن أسباب خفية غير ظاهرة ووقوع الأشياء عن الأسباب الخفية هو معنى البخت كما تقرر في موضعه‏.‏ فاعتبره وتفهم من وقوع الغلب عن الأمور السماوية كما شرحناه معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ نصرت بالرعب مسيرة شهر ‏"‏ وما وقع من غلبه للمشركين في حياته بالعدد القليل وغلب المسلمين من بعده كذلك في الفتوحات‏.‏ فإن الله سبحانه وتعالى تكفل لنبيه بإلقاء الرعب في قلوب الكافرين حتى يستولي على قلوبهم فينهزموا معجزة لرسوله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:57

صلى الله عليه وسلم فكان الرعب في قلوبهم سبباً للهزائم في الفتوحات الإسلامية كلها إلا أنه خفي عن العيون‏.‏ وقد ذكر الطرطوشي‏:‏ أن من أسباب الغلب في الحروب أن تفضل عدة الفرسان المشاهير من الشجعان في أحد الجانبين على عدتهم في الجانب الأخر مثل أن يكون أحد الجانبين فيه عشرة أو عشرون من الشجعان المشاهير وفي الجانب الآخر ثمانية أو ستة عشر فالجانب الزائد ولو بواحد يكون له الغلب وأعاد في ذلك وأبدى وهو راجح إلى الأسباب الظاهرة التي قدمنا وليس بصحيح‏.‏ وإنما الصحيح المعتبر في الغلب حال العصبية أن يكون في أحد الجانبين عصبية واحدة جامعة لكلهم وفي الجانب الآخر عصائب متعددة لأن العصائب إذا كانت متعددة يقع بينها من التخاذل ما يقع في الوحدان المتفرقين الفاقدين للعصبية إذ تنزل كل عصابة منهم منزلة الواحد ويكون الجانب الذي عصابته متعددة لا يقاوم الجانب الذي عصبيته واحدة لأجل ذلك فتفهمه‏.‏ واعلم أنه أصح في الاعتبار مما ذهب إليه الطرطوشي ولم يحمله على ذلك إلا نسيان شأن العصبية في حلته وبلده وأنهم إنما يردون ذلك الدفاع والحماية والمطالبة إلى الوحدان والجماعة الناشئة عنهم لا يعتبرون في ذلك عصبية ولا نسباً‏.‏ وقد بينا ذلك أول الكتاب مع أن هذا وأمثاله على تقدير صحته إنما هو من الأسباب الظاهرة مثل اتفاق الجيش العدة وصدق القتال وكثرة الأسلحة وما أشبهها فكيف يجعل ذلك كفيلاً بالغلب‏.‏ ونحن قد قررنا لك الآن أن شيئاً منها لايعارض الأسباب الخفية من الحيل والخداع ولا الأمور السماوية من الرعب والخذلان الإلهي‏.‏ فافهمه وتفهم أحوال الكون‏.‏ والله مقدر الليل والنهار‏.‏ فصل‏:‏ ويلحق بمعنى الغلب في الحروب وأن أسبابه خفية وغير طبيعية حال الشهرة والصيت‏.‏ فقل أن تصادف موضعها في أحد من طبقات الناس من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها‏.‏ وقد تصادف موضعها وتكون طبقاً على صاحبها‏.‏ والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل ويدخلها التعصب والتشيع ويدخلها الأوهام ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل ويدخلها التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية بالثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك والنفوس مولعة بحب الثناء والناس متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه أو ثروة وليسوا في الأكثر براغبين في الفضائل ولا متنافسين في أهلها وأين مطابقة الحق مع هذه كلها فتختل الشهرة عن أسباب خفية من هذه وتكون غير مطابقة‏.‏ وكل ما حصل بسبب خفي فهو الذي يعبر عنه بالبخت كما تقرر‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Up الفصل الثامن والثلاثون في الجباية وسبب قلتها وكثرتها
اعلم أن الجباية أول الدولة تكون قليلة الوزائع كثيرة الجملة و آخر الدولة تكون كثيرة الوزائع قليلة الجملة‏.‏ والسبب في ذلك أن الدولة‏:‏ إن كانت على سنن الدين فليست تقتضي إلا المغارم الشرعية من الصدقات والخراج والجزية وهي قليلة الوزائع لأن مقدار الزكاة من المال قليل كما علمت وكذا زكاة الحبوب والماشية وكذا الجزية والخراج وجميع المغارم الشرعية وهي حدود لا تتعدى وإن كانت على سنن التغلب والعصبية فلا بد من البداوة في أولها كما تقدم والبداوة تقتضي المسامحة والمكارمة وخفض الجناح والتجافي عن أموال الناس والغفلة عن تحصيل ذلك إلا في النادر فيقل لذلك مقدار الوظيفة الواحدة والوزيعة التي تجمع الأموال من مجموعها‏.‏ وإذا قلت الوزائع والوظائف على الرعايا
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:57

نشطوا للعمل ورغبوا فيه فيكثر الاعتمار ويتزايد محصول الاغتباط بقلة المغرم وإذا كثر الاعتمار كثرت أعداد تلك الوظائف والوزائع فكثرت الجباية التي هي جملتها‏.‏ فإذا استمرت الدولة واتصلت وتعاقب ملوكها واحداً بعد واحد واتصفوا بالكيس وذهب شر البداوة والسذاجة وخلقها من الإغضاء والتجافي وجاء الملك العضوض والحضارة الداعية إلى الكيس وتخلق أهل الدولة حينئذ بخلق التحذلق وتكثرت عوائدهم وحوائجهم بسبب ما انغمسوا فيه من النعيم والترف فيكثرون الوظائف والوزائع حينئذ على الرعايا والأكرة والفلاحين وسائر أهل المغارم ويزيدون في كل وظيفة ووزيعة مقداراً عظيماً لتكثر لهم الجباية ويضعون المكوس على المبايعات وفي الأبواب كما نذكر بعد ثم تتدرج الزيادات فيها بمقدار بعد مقدار لتدرج عوائد الدولة في الترف وكثرة الحاجات والإنفاق بسببه حتى تثقل المغارم على الرعايا وتنهضم وتصير عادة مفروضة لأن تلك الزيادة تدرجت قليلاً قليلاً ولم يشعر أحد بمن زادها على التعيين ولا من هو واضعها إنما تثبت على الرعايا كأنها عادة مفروضة‏.‏ ثم تزيد إلى الخروج عن حد الاعتدال فتذهب غبطة الرعايا في الاعتمار لذهاب الأمل من نفوسهم بقلة النفع إذا قابل بين نفعه ومغارمه وبين ثمرته وفائدته فتنقبض كثير من الأيدي عن الاعتمار جملة فتنقص جملة الجباية حينئذ بنقصان تلك الوزائع منها‏.‏ وربما يزيدون في مقدار الوظائف إذا رأوا ذلك النقص في الجباية ويحسبونه جبراً لما نقص حتى تنتهي كل وظيفة ووزيعة إلى غاية ليس وراءها نفع ولا فائدة لكثرة الانفاق حينئذ في الاعتمار وكثرة المغارم وعدم وفاء الفائدة المرجوة به‏.‏ فلا تزال الجملة في نقص ومقدار الوزائع والوظائف في زيادة لما يعتقدونه من جبر الجملة بها إلى أن ينتقص العمران بذهاب الأمال من الاعتمار ويعود وبال ذلك على الدولة لأن فائدة الاعتمار عائدة إليها‏.‏ وإذا فهمت ذلك علمت أن أقوى الأسباب في الاعتمار تقليل مقدار الوظائف على المعتمرين ما أمكن فبذلك تنبسط النفوس إليه لثقتها بإدراك المنفعة فيه‏.‏ والله سبحانه وتعالى مالك الأمور كلها ‏"‏ وبيده ملكوت كل شيء ‏"‏‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:58

الفصل التاسع والثلاثون في ضرب المكوس أواخر الدولة
اعلم أن الدولة تكون في أولها بدوية كما قلنا فتكون لذلك قليلة الحاجات لعدم الترف وعوائده فيكون خرجها وإنفاقها قليلاً فيكون في الجباية حينئذ وفاء بأزيد منها بل يفضل منها كثير عن حاجاتهم‏.‏ ثم لا تلبث أن تأخذ بدين الحضارة في الترف وعوائدها وتجري على نهج الدول السابقة قبلها فيكثر لذلك خراج أهل الدولة ويكثر خراج السلطان خصوصاً كثرة بالغة بنفقته في خاصته وكثرة عطائه ولا تفي بذلك الجباية‏.‏ فتحتاج الدولة إلى الزيادة في الجباية لما تحتاج إليه الحامية من العطاء والسلطان من النفقة فيزيد في مقدار الوظائف والوزائع أولا كما قلناه ثم يزيد الخراج والحاجات والتدريج في عوائد الترف وفي العطاء للحامية ويدرك الدولة الهرم وتضعف عصابتها عن جباية الأموال من الأعمال والقاصية فتقل الجباية وتكثر العوائد ويكثر بكثرتها أرزاق الجند وعطاؤهم‏.‏ فيستحدث صاحب الدولة أنواعاً من الجباية يضربها على البيعات ويفوض لها قدراً معلوماً على الأثمان في الأسواق وعلى أعيان السلع في أموال المدينة‏.‏ وهو مع هذا مضطر لذلك بما دعاه إليه ترف الناس من كثرة العطاء مع زيادة الجيوش والحامية‏.‏ وربما يزيد ذلك في أواخر الدولة زيادة بالغة فتكسد الأسواق لفساد الأمال ويؤن ذلك باختلال العمران ويعود على الدولة ولا يزال ذلك يتزايد إلى أن تضمحل‏.‏ وقد كان وقع منه بأمصار المشرق في أخريات الدولة العباسية والعبيدية كثير وفرضت المغارم حتى على الحاج في الموسم وأسقط صلاح الدين أيوب تلك الرسوم جملة وأعاضها بآثار الخير‏.‏ وكذلك وقع بالأندلس لعهد الطوائف حتى محا رسمه يوسف بن تاشفين أمير المرابطينن‏.‏ وكذلك وقع بأمصار الجريد بإفريقية لهذا العهد حين استبد بها رؤساؤها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:58

الفصل الأربعون مفسدة للجباية
اعلم أن الدولة إذا ضاقت جبايتها بما قدمناه من الترف وكثرة العوائد والنفقات وقصر الحاصل من جباييها على الوفاء بحاجاتها ونفقاتها واحتاجت إلى مزيد المال والجباية فتارة توضع المكوس على بياعات الرعايا وأسواقهم كما قدمنا ذلك في الفصل قبله وتارة بالزيادة في ألقاب المكوس إن كان قد استحدث من قبل وتارة بمقاسمة العمال والجباة وامتكاك عظامهم لما يرون أنهم قد حصلوا على شيء طائل من أموال الجباية لا يظهره الحسبان وتارة باستحداث التجارة والفلاحة للسلطان على تسمية الجباية لما يرون التجار والفلاحين يحصلون على الفوائد والغلات مع يسارة أموالهم وأن الأرباح تكون على نسبة رؤوس الأموال‏.‏ فيأخذون في اكتساب الحيوان والنبات لاستغلاله في شراء البضائع والتعرض بها لحوالة الأسواق ويحسبون ذلك من إدرار الجباية‏:‏ تكثير الفوائد‏.‏ وهو غلط عظيم وإدخال الضرر على الرعايا من وجوه متعددة‏.‏ فأولاً مضايقة الفلاحين والتجار في شراء الحيوان والبضائع وتيسير أسباب ذلك فإن الرعايا متكافئون في اليسار متقاربون ومزاحمة بعضهم بعضاً تنتهي إلى غاية موجودهم أو تقرب وإذا رافقهم السلطان في ذلك وماله أعظم كثيراً منهم فلا يكاد أحد منهم يحصل على غرضه في شيء من حاجاته ويدخل على النفوس من ذلك غم ونكد‏.‏ ثم إن السلطان قد ينتزع الكثير من ذلك إذا تعرض له غضاً أو بأيسر ثمن إذ لا يجد من يناقشه في شرائه فيبخس ثمنه على بائعه‏.‏ ثم إذا حصل فوائد الفلاحة ومغلها كله من زرع أو حرير أو عسل أو سكر أو غير ذلك من أنواع الغلات وحصلت بضائع التجارة من سائر الأنواع فلا ينتظرون به حوالة الأسواق ولا نفاق البياعات لما يدعوهم إليه تكاليف الدولة فيكلفون أهل تلك الأصناف من تاجر أو فلاح بشراء تلك البضائع ولا يرضون في أثمانها إلا القيم وأزيد فيستوعبون في ذلك ناض أموالهم وتبقى تلك البضائع بأيديهم عروضاً جامدة ويمكثون عطلاً من الإدارة التي فيها كسبهم ومعاشهم‏.‏ وربما تدعوهم الضرورة إلى شيء من المال فيبيعون تلك السلع على كساد من الأسواق بأبخس ثمن‏.‏ وربما يتكرر ذلك على التاجر والفلاح منهم بما يذهب رأس ماله فيقعد عن سوقه ويتعدد ذلك ويتكرر ويدخل به على الرعايا من العنت والمضايقة وفساد الأرباح ما يقبض آمالهم عن السعي في ذلك جملة ويؤدي إلى فساد الجباية فإن معظم الجباية إنما هي من الفلاحين والتجار لا سيما بعد وضع المكوس ونمو الجباية بها فإذا انقبض الفلاحون عن الفلاحة وقعد التجار عن التجارة ذهبت الجباية جملة أو دخلها النقص المتفاحش‏.‏ وإذا قايس السلطان بين ما يحصل له من الجياية وبين هذه الأرباح القليلة وجدها بالنسبة إلى الجباية أقل من القليل‏.‏ ثم إنه ولو كان مفيداً فيذهب له بحظ عظيم من الجباية فيما يعانيه من شراء أو بيع فإنه من البعيد أن يوجد فيه من المكس‏.‏ ولو كان غيره في تلك الصفقات لكان تكسبها كلها حاصلاً من جهة الجباية‏.‏ ثم فيه التعرض لأهل عمرانه واختلال الدولة بفسادهم ونقصه فإن الرعايا إذا قعدوا عن تثمير أموالهم بالفلاحة والتجارة نقصت وتلاشت بالنفقات وكان فيها تلاف أحوالهم فافهم ذلك‏.‏ وكان الفرس لا يملكون عليهم إلا من أهل بيت المملكة ثم يختارونه من أهل الفضل والدين والأدب والسخاء والشجاعة والكرم ثم يشترطون عليه مع ذلك العدل وأن لا يتخذ صنعة فيضر بجيرانه ولا يتاجر فيحب غلاء الأسعار في البضائع وأن لا يستخدم العبيد فإنهم لا يشيرون بخير ولا مصلحة‏.‏ واعلم أن السلطان لا ينمي ماله ولايدر موجوده إلا الجباية وإدرارها إنما يكون بالعدل في أهل الأموال والنظر لهم بذلك فبذلك تنبسط آمالهم وتنشرح صدورهم للأخذ في تثمير الأموال وتنميتها فتعظم منها جباية السلطان‏.‏ وأما غير ذلك من تجارة أو فلح فإنما هو مضرة عاجلة للرعايا وفساد للجباية ونقص للعمارة‏.‏ وقد ينتهي الحال بهؤلاء المنسلخين للتجارة والفلاحة من الأمراء والمتغلبين في البلدان أنهم يتعرضون لشراء الغلات والسلع من أربابها الواردين على بلدهم ويفرضون لذلك من الثمن ما يشاؤون وببيعونها في وقتها لمن تحت أيديهم من الرعايا بما يفرضون من الثمن‏.‏ وهذه أشد من الأولى وأقرب إلى فساد الرعية واختلال أحوالهم‏.‏ وربما يحمل السلطان على ذلك من يداخله من هذه الأصناف أعني التجار والفلاحين لما هي صناعته التي نشأ عليها فيحمل السلطان على ذلك ويضرب معه بسهم لنفسه ليحصل على غرضه من جمع المال سريعاً سيما مع ما يحصل له من التجارة بلا مغرم ولا مكس فإنها أجدر بنمو الأموال وأسرع في تثميره ولا يفهم ما يدخل على السلطان من الضرر بنقص جبايته‏.‏ فينبغي للسلطان أن يحذر من هؤلاء ويعرض عن سعايتهم المضرة بجبايته وسلطانه والله يلهمنا رشد أنفسنا وينفعنا بصالح الأعمال والله تعالى أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 14:59

الفصل الحادي والأربعون في أن ثروة السلطان
وحاشيته إنما تكون في وسط الدولة والسبب في ذلك أن الجباية في أول الدولة تتوزع على أهل القبيل والعصبية بمقدار غنائهم وعصبيتهم ولأن الحاجة إليهم في تمهيد الدولة كما قلناه من قبل‏.‏ فرئيسهم في ذلك متجاف لهم عما يسمون إليه من الجباية معتاض عن ذلك بما هو يروم من الاستبداد عليهم فله عليهم عزة وله إليهم حاجة‏.‏ فلا يطير في سهمانه من الجباية إلى الأقل من حاجته‏.‏ فتجد حاشيته لذلك وأذياله من الوزراء والكتاب والموالي مملقين في الغالب وجاههم متقلص لأنه من جاه مخدومهم ونطاقه قد ضاق بمن يزاحمه فيه من أهل عصبيته‏.‏ فإذا استفحلت طبيعة الملك وحصل لصاحب الدولة الاستبداد على قومه قبض أيديهم عن الجبايات إلا ما يطير لهم بين الناس في سهمانهم وتقل حظوظهم إذ ذاك لقلة غنائهم في الدولة بما انكبح من أعنتهم وصار الموالي والصنائع مساهمين لهم في القيام بالدولة وتمهيد الأمر فينفرد صاحب الدولة حينئذ بالجباية أو معظمها ويحتوي على الأموال ويحتجنها للنفقات في مهمات الأحوال فتكثر ثروته وتمتلىء خزائنه ويتسع نطاق جاهه ويعتز على سائر قومه فيعظم حال حاشيته وذويه من وزير وكاتب وحاجب ومولى وشرطي ويتسع جاههم ويقتنون الأموال ويتأثلونها‏.‏ ثم إذا أخذت الدولة في الهرم بتلاشي العصبية وفناء القبيل الماهدين للدولة احتاج صاحب الأمر حينئذ إلى الأعوان والأنصار ولكثرة الخوارج والمنازعين والثوار وتوهم الانتقاض فصار خراجه لظهرائه وأعوانه وهم أرباب السيوف وأهل العصبيات وأنفق خزائنه وحاصله في مهمات الدولة وقلت مع ذلك الجباية لما قدمناه من كثرة العطاء والإنفاق فيقل الخراج وتشتد حاجة الدولة إلى المال فيتقلص ظل النعمة والترف عن الخواص والحجاب والكتاب بتقلص الجاه عنهم وضيق نطاقه على صاحب الدولة‏.‏ ثم تشتد حاجة صاحب الدولة إلى المال وتنفق أبناء البطانة والحاشية ما تأثله آباؤهم من الأموال في غير سبيلها من إعانة صاحب الدولة ويقبلون على غير ما كان عليه آباؤهم وسلفهم من المناصحة‏.‏ ويرى صاحب الدولة أنه أحق بتلك الأموال التي اكتسبت في دولة سلفه وبجاههم فيصطلمها وينتزعها منهم لنفسه شيئاً فشيئاً وواحداً بعد واحد على نسبة رتبهم وتنكر الدولة لهم ويعود وبال ذلك على الدولة بفناء حاشيتها ورجالاتها وأهل الثروة والنعمة من بطانتها ويتقوض بذلك كثير من مباني المجد بعد أن يدعمه أهله ويرفعوه‏.‏ وانظر ما وقع من ذلك لوزراء الدولة العباسية في بني قحطبة وبني برمك وبني سهل وبني طاهر وأمثالهم في الدولة الأموية بالأندلس عند انحلالها أيام الطوائف في بني شهيد وبني أبي عبدة وبني حديرة وبني برد وأمثالهم وكذا في الدولة التي أدركناها لعهدنا‏.‏ سنة الله التي قد خلت في عباده‏.‏ فصل‏:‏ ولما يتوقعه أهل الدولة من أمثال هذه المعاطب صار الكثير منهم ينزعون إلى الفرار عن الرتب والتخلص من ربقة السلطان بما حصل في أيديهم من مال الدولة إلى قطر آخر ويرون أنه أهنأ لهم وأسلم في إنفاقه وحصول ثمرته‏.‏ وهو من الأغلاط الفاحشة والأوهام المفسدة لأحوالهم ودنياهم‏.‏ واعلم أن الخلاص من ذلك بعد الحصول فيه عسير ممتنع‏.‏ فإن صاحب هذا الغرض إذا كان هو الملك نفسه فلا تمكنه الرعية من ذلك طرفة عين ولا أهل العصبية المزاحمون له بل في ظهور ذلك منه هدم لملكه وإتلاف لنفسه بمجاري العادة بذلك لأن ربقة الملك يعسر الخلاص منها سيما عند استفحال الدولة وضيق نطاقها وما يعرض فيها من البعد عن المجد والخلال والتخلق بالشر‏.‏ وأما إذا كان صاحب هذا الغرض من بطانة السلطان وحاشيته وأهل الرتب في دولته فقل أن يخلى بينه وبين ذلك أما أولاً فلما يراه الملوك أن ذويهم وحاشيتهم بل وسائر رعاياهم مماليك لهم مطلعون على ذات صدورهم فلا يسمحون بحل ربقته من الخدمة ضناً بأسرارهم وأحوالهم أن يطلع عليها أحد وغيرة من خدمته لسواهم‏.‏ ولقد كان بنو أمية بالأندلس يمنعون أهل دولتهم من السفر لفريضة الحج لما يتوهمونه من وقوعهم بأيدي بني العباس فلم يحج سائر أيامهم أحد من أهل دولتهم وما أبيح الجج لأهل الدول من الأندلس إلا بعد فراغ شأن الأموية ورجوعها إلى الطوائف‏.‏ وأما ثانياً فلأنهم وإن سمحوا بحل ربقته هو فلا يسمحون بالتجافي عن ذلك المال لما يرون أنه جزء من مالهم كما يرون أنه جزء من دولتهم إذ لم يكتسب إلا بها وفي ظل جاهها فتحوم نفوسهم على انتزاع ذلك المال والتقامه كما هو جزء من الدولة ينتفعون به‏.‏ ثم إذا توهمنا أنه خلص بذلك المال إلى قطر آخر وهو في النادر الأقل فتمتد إليه أعين الملوك بذلك القطر وينتزعونه بالإرهاب والتخويف تعريضاً أو بالقهر ظاهراً لما يرون أنه مال الجباية والدول وأنه مستحق للإنفاق في المصالح‏.‏ وإذا كانت أعينهم تمتد إلى أهل الثروة واليسار المكتسبين من وجوه المعاش فأحرى بها أن تمتد إلى أموال الجباية والدول التي تجد السبيل إليه بالشرع والعادة‏.‏ ولقد حاول السلطان أبو يحيى زكريا بن أحمد اللحياني تاسع أو عاشر ملوك الحفصيين بإفريقية الخروج عن عهدة الملك واللحاق بمصر فراراً من طلب صاحب الثغور الغربية لما استجمع لغزو تونس فاستعمل اللحياني الرحلة إلى ثغر طرابلس يوري بتمهيده وركب السفين من هنالك وخلص إلى الإسكندرية بعد أن حمل جميع ما وجده ببيت المال من الصامت والذخيرة وباع كل ما كان بخزائنهم من المتاع والعقار والجواهر حتى الكتب واحتمل ذلك كله إلى مصر ونزل على الملك الناصر محمد بن قلاون سنة سبع عشرة من المائة الثامنة فأكرم نزله ورفع مجلسه ولم يزل يستخلص ذخيرته شيئاً فشيئاً بالتعريض إلى أن حصل عليها ولم يبق معاش ابن اللحياني إلا في جرايته التي فرضت له إلى أن هلك سنة ثمان وعشرين حسبما نذكره في أخباره‏.‏ فهذا وأمثاله من جملة الوسواس الذي يعتري أهل الدول لما يتوقعونه من ملوكهم من المعاطب وإنما يخلصون إن اتفق لهم الخلاص بأنفسهم وما يتوهمونة من الحاجة فغلط ووهم‏.‏ والذي حصل لهم من الشهرة بخدمة الدول كاف في وجدان المعاش لهم بالجرايات السلطانية أو بالجاه في انتحال طرق الكسب من التجارة والفلاحة‏.‏ والدول أنساب لكن‏:‏ النفس راغبة إذا رغبتها وإذا ترد إلى قليل تقنع والله سبحانه هو الرزاق وهو الموفق بمنه وفضله والله أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زائر
زائر
Anonymous



تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 15:00

:م1:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 15:11

:م1: :م1: :م1:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 15:12

:م1: :م1: :م1:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:07

الفصل الثاني والأربعون في أن نقص العطاء من السلطان نقص في الجباية
والسبب في ذلك أن الدولة والسلطان هي السوق الأعظم للعالم ومنه مادة العمران‏.‏ فإذا احتجن السلطان الأموال أو الجبايات أو فقدت فلم يصرفها في مصارفها قل حينئذ ما بأيدي الحاشية والحامية وانقطع أيضاً ما كان يصل منهم لحاشيتهم وذويهم وقلت نفقاتهم جملة وهم معظم السواد ونفقاتهم أكثر مادة للأسواق ممن سواهم‏.‏ فيقع الكساد حينئذ في الأسواق وتضعف الأرباح في المتاجر فيقل الخراج لذلك لأن الخراج والجباية إنما تكون من الاعتمار والمعاملات ونفاق الأسواق وطلب الناس للفوائد والأرباح‏.‏ ووبال ذلك عائد على الدولة بالنقص لقلة أموال السلطان حينئذ بقلة الخراج‏.‏ فإن الدولة كما قلناه هي السوق الأعظم أم الأسواق كلها وأصلها ومادتها في الدخل والخرح فإن كسدت وقلت مصارفها فأجدر بما بعدها من الأسواق أن يلحقها مثل ذلك وأشد منه‏.‏ وأيضاً فالمال إنما هو متردد بين الرعية والسلطان منهم إليه ومنه إليهم فإذا حبسه السلطان عنده فقدته الرعية‏.‏ سنة الله في عباده‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:08

الفصل الثالث والأربعون في أن الظلم مؤذن بخراب العمران
اعلم أن العمران على الناس في أموالهم ذاهب بآمالهم في تحصيلها واكتسابها لما يرونه حينئذ من أن غايتها ومصيرها انتهابها من أيديهم وإذا ذهبت آمالهم في اكتسابها وتحصيلها انقبضت أيديهم عن السعي في ذلك‏.‏ وعلى قدر الاعتداء ونسبته يكون انقباض الرعايا عن السعي في الاكتساب فإذا كان الاعتداء كثيراً عاماً في جميع أبواب المعاش كان القعود عن الكسب كذلك لذهابه بالأمال جملة بدخوله من جميع أبوابها‏.‏ وإن كان الاعتداء يسيراً كان الانقباض عن الكسب على نسبته‏.‏ والعمران ووفوره ونفاق أسواقه إنما هو بالأعمال وسعي الناس في المصالح والمكاسب ذاهبين وجائين‏.‏ فإذا قعد الناس عن المعاش وانقبضت أيديهم عن المكاسب كسدت أسواق العمران وانتقضت الأحوال وابذعر الناس في الأفاق من غير تلك الإيالة في طلب الرزق فيما خرج عن نطاقها فخف ساكن القطر وخلت دياره وخربت أمصارة واختل باختلاله حال الدولة والسلطان لما أنها صورة للعمران تفسد بفساد مادتها ضرورة‏.‏ وانظر في ذلك ما حكاه المسعودي في أخبار الفرس عن الموبذان صاحب الدين عندهم أيام بهرام بن بهرام وما عرض به للملك في إنكار ما كان عليه من الظلم والغفلة عن عائدته على الدولة بضرب المثال في ذلك على لسان البوم حين سمع الملك أصواتها وسأله عن فهم كلامها فقال له‏:‏ أن بوماً ذكراً يروم نكاح بوم أنثى وإنها شرطت عليه عشرين قرية من الخراب في أيام بهرام فقبل شرطها وقال لها‏:‏ إن دامت أيام الملك أقطعتك ألف قرية وهذا أسهل مرام‏.‏ فتنبه الملك من غفلته وخلا بالموبذان سأله عن مراده فقال له‏:‏ أيها الملك إن الملك لا يتم عزه إلا بالشريعة والقيام لله بطاعته والتصرف تحت أمره ونهيه ولا قوام للشريعة إلا بالملك ولا عز للملك إلا بالرجال ولا قوام للرجال إلا بالمال ولا سبيل إلى المال إلا بالعمارة ولا سبيل للعمارة إلا بالعدل‏.‏ والعدل الميزان المنصوب بين الخليقة نصبة الرب وجعل له قيماً وهو الملك وأنت أيها الملك عمدت إلي الضياع فانتزعتها من أربابها وعمارها وهم أرباب الخراج ومن تؤخذ منهم الأموال وأقطعتها الحاشية والخدم وأهل البطالة فتركوا العمارة والنظر في العواقب وما يصلح الضياع وسومحوا في الخراج لقربهم من الملك‏.‏ ووقع الحيف على من بقي من أرباب الخراج وعمار الضياع فانجلوا عن ضياعهم وخلوا ديارهم وآووا إلى ما تعذر من الضياع فسكنوها فقلت العمارة وخربت الضياع وقلت الأموال وهلكت الجنود والرعية وطمع في ملك فارس من جاورهم من الملوك لعلمهم بانقطاع القواد التي لا تستقيم دعائم الملك إلا بها‏.‏ فلما سمع الملك ذلك أقبل على النظر في ملكه وانتزعت الضياع من أيدي الخاصة وردت على أربابها وحملوا على رسومهم السالفة وأخذوا في العمارة وقوي من ضعف منهم فعمرت الأرض وأخصبت البلاد وكثرت الأموال عند جباة الخراج وقويت الجنود وقطعت مواد الأعداء وشحنت الثغور وأقبل الملأ على مباشرة أموره بنفسه فحسنت أيامه وانتظم ملكه‏.‏ فتفهم من هذه الحكاية أن الظلم مخرب للعمران وإن عائدة الخراب في العمران على الدولة بالفساد والانتقاض‏.‏ ولا تنظر في ذلك إلى أن الاعتداء قد يوجد بالأمصار العظيمة من الدول
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:08

التي بها ولم يقع فيها خراب‏.‏ واعلم أن ذلك إنما جاء من قبل المناسبة بين الاعتداء وأحوال أهل المصر‏.‏ فلما كان المصر كبيراً وعمرانه كثيراً وأحواله متسعة بما لا ينحصر كان وقوع النقص فيه بالاعتداء والظلم يسيراً لأن النقص إنما يقع بالتدريج‏.‏ فإذا خفي بكثرة الأحوال واتساع الأعمال في المصر لم يظهر أثره إلا بعد حين‏.‏ وقد تذهب تلك الدولة المعتدية من أصلها قبل خراب المصر وتجيء الدولة الأخرى فترفعه بجدتها وتجبر النقص الذي كان خفياً فيه فلا يكاد يشعر به إلا أن ذلك في الأقل النادر‏.‏ والمراد من هذا أن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان أمر واقع لا بد منه لما قدمناه ووباله عائد على الدول‏.‏ ولا تحسبن الظلم إنما هو أخذ المال أو الملك من يد مالكه من غير عوض ولا سبب كما هو المشهور بل الظلم أعم من ذلك‏.‏ وكل من أخذ ملك أحد أو غضبه في عمله أو طالبه بغير حق أو فرض عليه حقاً لم يفرضه الشرع فقد ظلمه‏.‏ فجباة الأموال بغير حقها ظلمة والمعتدون عليها ظلمة والمنتهبون لها ظلمة والمانعون لحقوق الناس ظلمة وغصاب الأملاك على العموم ظلمة ووبال ذلك كله عائد على الدولة بخراب العمران الذي هو مادتها لإذهابه الأمال من أهله‏.‏ واعلم أن هذه هي الحكمة المقصودة للشارع في تحريم الظلم وهو ما ينشأ عنه من فساد العمران وخرابه وذلك مؤذن بانقطاع النوع البشري وهي الحكمة العامة المراعية للشرع في جميع مقاصده الضرورية الخمسة من حفظ الدين والنفس والعقل والنسل والمال‏.‏ فلما كان الظلم كما رأيت مؤذناً بانقطاع النوع لما أدى إليه من تخريب العمران كانت حكمة الحظر فيه موجودة فكان تحريمه مهماً‏.‏ وأدلته من القرآن والسنة كثيرة أكثر من أن يأخذها قانون الضبط والحصر‏.‏ ولو كان كل واحد قادراً عليه لوضع بإزائه من العقوبات الزاجرة ما وضع بإزاء غيره من المفسدات للنوع التي يقدر كل أحد على اقترافها من الزنا والقتل والسكر‏.‏ إلا أن الظلم لا يقدر عليه إلا من يقدر عليه لأنه إنما يقع من أهل القدرة والسلطان فبولغ في ذمه وتكرير الوعيد فيه عسى أن يكون الوازع فيه للقادر عليه في نفسه‏.‏ ‏"‏ [)]وما ربك بظلام للعبيد ‏"‏‏.‏ ولا تقولن أن العقوبة قد وضعت بإزاء الحرابة في الشرع وهي من ظلم القادر لأن المحارب زمن حرابته قادر‏.‏ فإن في الجواب عن ذلك طريقين‏.‏ أحدهما أن تقول‏:‏ العقوبة على ما يقترفه من الجنايات في نفس أو مال على ما ذهب إليه كثير وذلك إنما يكون بعد القدرة عليه والمطالبة بجنايته وأما نفس الحرابة فهي خلو من العقوبة‏.‏ الطريق الثاني أن تقول‏:‏ المحارب لا يوصف بالقدرة لأنا إنما نعني بقدرة الظالم اليد المبسوطة التي لا تعارضها قدرة فهي المؤذنة بالخراب وأما قدرة المحارب فإنما هي إخافة يجعلها ذريعة لأخذ الأموال والمدافعة عنها بيد الكل موجودة شرعاً وسياسة فليست من القدر المؤذن بالخراب‏.‏ والله قادر على ما يشاء‏.‏ فصل‏:‏ ومن أشد الظلامات وأعظمها في إفساد العمران تكليف الأعمال وتسخير الرعايا بغير حق‏.‏ وذلك أن الأعمال من قبيل المتمولات كما سنبين في باب الرزق لأن الرزق والكسب إنما هو قيم أعمال أهل العمران‏.‏ فإذا


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 17:10 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:09

مساعيهم وأعمالهم كلها متمولات ومكاسب لهم بل لا مكاسب لهم سواها فإن الرعية المعتملين في العمارة إنما معاشهم ومكاسبهم من اعتمالهم ذلك‏.‏ فإذا كلفوا العمل في غير شأنهم واتخذوا سخرياً في معاشهم بطل كسبهم واغتصبوا قيمة عملهم ذلك وهو متمولهم فدخل عليهم الضرر وذهب لهم حظ كبير من معاشهم بل هو معاشهم بالجملة‏.‏ وإن تكرر ذلك عليهم أفسد آمالهم في العمارة وقعدوا عن السعي فيها جملة فأدى إلى انتقاض العمران وتخريبه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ الاحتكار وأعظم من ذلك في الظلم وإفساد العمران والدولة التسلط على أموال الناس بشراء ما بين ايديهم بأبخس الأثمان ثم فرض البضائع عليهم بأرفع الأثمان على وجه الغصب والإكراه في الشراء والبيع‏.‏ وربما تفرض عليهم تلك الأثمان على التراخي والتأجيل فيتعللون في تلك الخسارة التي تلحقهم بما تحدثهم المطامع من جبر ذلك بحوالة الأسواق في تلك البضائع التي فرضت عليهم بالغلاء إلى بيعها بأبخس الأثمان وتعود خسارة ما بين الصفقتين على رؤوس أموالهم‏.‏ وقد يعم ذلك أصناف التجار المقيمين بالمدينة والواردين من الأفاق في البضائع وسائر السوقة وأهل الدكاكين في المآكل والفواكه وأهل الصنائع فيما يتخذ من الألات والمواعين فتشمل الخسارة سائر الأصناف والطبقات وتتوالى على الساعات وتجحف برؤوس الأموال ولا يجدون عنها وليجة إلا القعود عن الأسواق لذهاب رؤوس الأموال في جبرها بالأرباح ويتثاقل الواردون من الأفاق لشراء البضائع وبيعها من أجل ذلك فتكسد الأسواق ويبطل معاش الرعايا لأن عامته من البيع والشراء‏.‏ وإذا كانت الأسواق عطلاً منها بطل معاشهم وتنقص جباية السلطان أو تفسد لأن معظمها من أواسط الدولة وما بعدها إنما هو من المكوس على البياعات كما قدمناه‏.‏ ويؤول ذلك إلى تلاشي الدولة وفساد عمران المدينة‏.‏ ويتطرق هذا الخلل على التدريج ولا يشعر به‏.‏ هذا ما كان بأمثال هذه الذرائع والأسباب إلى أخذ الأموال وأما أخذها مجاناً والعدوان على الناس في أموالهم وحرمهم ودمائهم وأسرارهم وأعراضهم فهو يفضي إلى الخلل والفساد دفعة وتنتقض الدولة سريعاً بما ينشأ عنه من الهرج المفضي إلى الانتقاض‏.‏ ومن أجل هذه المفاسد حظر الشرع ذلك كله وشرع المكايسة في البيع والشراء وحظر أكل واعلم أن الداعي لذلك كله إنما هو حاجة الدولة والسلطان إلى الإكثار من المال بما يعرض لهم من الترف في الأحوال فتكثر نفقاتهم ويعظم الخرج ولا يفي به الدخل على القوانين المعتادة فيستحدثون ألقاباً ووجوهاً يوسعون بها الجباية ليفي لهم الدخل بالخرج‏.‏ ثم لا يزال الترف يزيد والخرج بسببه يكثر والحاجة إلى أموال الناس تشتد ونطاق الدولة بذلك يزيد إلى أن تنمحي دائرتها ويذهب رسمها ويغلبها طالبها‏.‏ والله أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:10

الفصل الرابع والأربعون في الحجاب كيف يقع في الدول
وأنه يعظم عند الهرم اعلم أن الدولة في أول أمرها تكون بعيدة عن منازع الملك كما قدمناه لأنه لا بد لها من العصبية التي بها يتم أمرها ويحصل استيلاؤها والبداوة هي شعار العصبية والدولة إن كان قيامها بالدين فإنه بعيد عن منازع الملك وإن كان قيامها بعز الغلب فقط فالبداوة التي بها يحصل الغلب بعيدة أيضاً عن منازع الملك ومذاهبه‏.‏ فإذا كانت الدولة في أول أمرها بدوية كان صاحبها على حال الغضاضة والبداوة والقرب من الناس وسهولة الأذن‏.‏ فإذا رسخ عزه وصار إلى الانفراد بالمجد واحتاج إلى الانفراد بنفسه عن الناس للحديث مع أوليائه في خواص شؤونه لما يكثر حينئذ من بحاشيته فيطلب الانفراد عن العامة ما استطاع ويتخذ الأذن ببابه على من لا يأمنه من أوليائه وأهل دولته ويتخذ حاجباً له عن الناس يقيمه ببابه لهذه الوظيفة‏.‏ ثم إذا استفحل الملك وجاءت مذاهبه ومنازعه استحالت خلق صاحب الدولة إلى خلق الملك وهي خلق غريبة مخصوصة يحتاج مباشرها إلى مداراتها ومعاملتها بما يجب لها‏.‏ وربما جهل تلك الخلق منهم بعض من يباشرهم فوقع فيما لا يرضيهم فسخطوه وصاروا إلى حالة الانتقام منه‏.‏ فانفرد بمعرفة هذه الأداب الخواص من أوليائهم وحجبوا غير أولئك الخاصة عن لقائهم في كل وقت حفظاً على أنفسهم من معاينة ما يسخطهم وعلى الناس من التعرض لعقابهم‏.‏ فصار لهم حجاب آخر أخص من الحجاب الأول يفضي إليهم منه خواصهم من الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الثاني يفضي إلى مجالس الأولياء ويحجب دونه من سواهم من العامة‏.‏ والحجاب الأول يكون في أول الدولة كما ذكرنا كما حدث لأيام معاوية وعبد الملك وخلفاء بني أمية وكان القائم على ذلك الحجاب يسمى عندهم الحاجب جرياً على ثم لما جاءت دولة بني العباس وجدت الدولة من الترف والعز ما هو معروف وكملت خلق الملك على ما يجب فيها فدعا ذلك إلى الحجاب الثاني وصار اسم الحاجب أخص به وصار بباب الخلفاء داران للعباسية‏:‏ دار الخاصة ودار العامة كما هو مسطور في أخبارهم‏.‏ ثم حدث في الدول حجاب ثالث أخص من الأولين وهو عند محاولة الحجر على صاحب الدولة‏.‏ وذلك أن أهل الدولة وخواص الملك إذا نصبوا الأبناء من الأعقاب وحاولوا الاستبداد عليهم فأول ما يبدأ به ذلك المستبد أن يحجب عنه بطانة أبيه وخواص أوليائه يوهمه أن في مباشرتهم إياه خرق حجاب الهيبة وفساد قانون الأدب ليقطع بذلك لقاء الغير ويعوده ملابسة أخلاقه هو حتى لا يتبدل به سواه إلى أن يستحكم الاستيلاء عليه فيكون هذا الحجاب من دواعيه‏.‏ وهذا الحجاب لا يقع في الغالب إلا أواخر الدولة كما قدمناه في الحجر‏.‏ ويكون دليلاً على هرم الدولة ونفاد قوتها‏.‏ وهو مما يخشاه أهل الدول على أنفسهم لأن القائمين بالدولة يحاولون ذلك بطباعهم عند هرم الدولة وذهاب الاستبداد من أعقاب ملوكهم لما ركب في النفوس من محبة الاستبداد بالملك وخصوصاً مع الترشيح لذلك وحصول دواعيه ومباديه‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:11

الفصل الخامس والأربعون فيما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها
اعلم أن أول ما يقع من آثار الهرم في الدولة انقسامها‏.‏ وذلك أن الملك عندما يستفحل ويبلغ من أحوال الترف والنعيم إلى غايتها ويستبد صاحب الدولة بالمجد وينفرد به يأنف حينئذ عن المشاركة ويصير إلى قطع أسبابها ما استطاع بإهلاك من استراب به من ذوي قرابته المرشحين لمنصبه‏.‏ فربما ارتاب المساهمون له في ذلك بأنفسهم ونزعوا إلى القاصية واجتمع إليهم من يلحق بهم مثل حالهم من الاغترار والاسترابة‏.‏ ويكون نطاق الدولة قد أخذ في التضايق ورجع عن القاصية فيستبد ذلك النازع من القرابة فيها‏.‏ ولا يزال أمر يعظم بتراجع نطاق الدولة حتى يقاسم الدولة أو يكاد‏.‏ وانظر ذلك في الدولة الإسلامية العربية حين كان أمرها حريزاً مجتمعاً ونطاقها ممتداً في الاتساع وعصبية بني عبد مناف واحدة غالبة على سائر مضر فلم ينبض عرق من الخلاف سائر أيامه إلا ما كان من بدعة الخوارج المستميتين في شأن بدعتهم لم يكن ذلك لنزعة ملك ولا رئاسة ولم يتم أمرهم لمزاحمتهم العصبية القوية‏.‏ ثم لما خرج الأمر من بني أمية واستقل بنو العباس بالأمر وكانت الدولة العربية قد بلغت الغاية من الغلب والترف وآذنت بالتقلص عن القاصية نزع عبد الرحمن الداخل إلى الأندلس قاصية دولة الإسلام فاستحدث بها ملكاً واقتطعها عن دولتهم وصير الدولة دولتين‏.‏ ثم نزع إدريس إلى المغرب وخرج به وقام بأمره وأمر ابنه من بعده البرابرة من أوربة ومغيلة وزناتة واستولى على ناحية المغربين‏.‏ ثم ازدادت الدولة تقلصاً فاضطرب الأغالبة في الامتناع عليهم‏.‏ ثم خرج الشيعة وقام بأمرهم كتامة وصنهاجة واستولوا على إفريقية والمغرب ثم مصر والشام والحجاز وغلبوا على الأدارسة وقسموا الدولة دولتين أخريين وصارت الدولة العربية ثلاث دول‏:‏ دولة بني العباس بمركز العرب وأصلهم ومادتهم الإسلام ودولة بني أمية المجددين بالإندلس ملكهم القديم وخلافتهم بالمشرق ودولة العبيديين بإفريقية ومصر والشام والحجاز‏.‏ ولم تزل هذه الدول إلى أن كان انقراضها متقارباً أو جميعاً‏.‏ وكذلك انقسمت دولة بني العباس بدول أخرى‏:‏ وكان بالقاصية بنو سامان فيما وراء النهر وخراسان والعلوية في الديلم وطبرستان وآل ذلك إلى استيلاء الديلم على العراقين وعلى بغداد والخلفاء‏.‏ ثم جاء السلجوقية فملكوا جميع ذلك‏.‏ ثم انقسمت دولتهم أيضاً بعد الاستفحال كما هو معروف في أخبارهم‏.‏ وكذلك اعتبره في دولة صنهاجة بالمغرب وإفريقية لما بلغت إلى غايتها أيام باديس بن المنصور خرح عليه عمه حماد واقتطع ممالك الغرب لنفسه ما بين جبل أوراس إلى تلمسان وملوية واختط القلعة بجبل كتامة حيال المسيلة ونزلها واستولى على مركزهم أشير بجبل تيطري واستحدث ملكاً آخر قسيماً لملك آل باديس وبقي آل باديس بالقيروان وما إليها ولم يزل ذلك إلى أن انقرض أمرهما جميعاً‏.‏ وكذلك دولة الموحدين لما تقلص ظلها ثار بإفريقية بنو أبي حفص فاستقلوا بها واستحدثوا ملكاً لأعقابهم بنواحيها‏.‏ ثم لما استفحل أمرهم واستولى على الغاية خرج على الممالك الغربية من أعقابهم الأمير أبو زكريا يحيى ابن السلطان أبي إسحاق إبراهيم رابع خلفائهم واستحدث ملكاً ببجاية وقسنطينة وما إليها أورثه بنيه وقسموا به الدولة قسمين ثم استولى على كرسي الحضرة بتونس ثم انقسم الملك ما بين أعقابهم ثم عاد الاستيلاء فيهم‏.‏ وقد ينتهي الانقسام إلى أكثر من دولتين وثلاث وفي غير أعياص الملك من قومه كما وقع في ملوك الطوائف بالأندلس وملوك العجم بالمشرق وفي ملك صنهاجة بإفريقية فقد كان لآخر دولتهم في كل حصن من حصون إفريقية ثائر مستقل بأمره كما تقدم ذكره‏.‏ وكذا حال الجريد والزاب من إفريقية قبيل هذا العهد كما نذكره‏.‏ وهكذا شأن كل دولة لا بد وأن يعرض فيها عوارض الهرم بالترف والدعة وتقلص ظل الغلب فيقتسم أعياصها أو من يغلب من رجال دولتها الأمر وتتعدد فيها الدول‏.‏ والله وارث الأرض ومن عليها‏.‏ في أن الهرم إذا نزل بالدولة لا يرتفع قد قدمنا ذكر العوارض المؤذنة بالهرم وأسبابه واحداً بعد واحد وبينا أنها تحدث للدولة بالطبع وأنها كلها أمور طبيعية لها‏.‏ وإذا كان الهرم طبيعياً في الدولة كان حدوثه بمثابة حدوث الأمور الطبيعية كما يحدث الهرم في المزاج الحيواني‏.‏ والهرم من الأمراض المزمنة التي لا يمكن دواؤها ولا ارتفاعها لما أنه طبيعي والأمور الطبيعية لا تتبدل‏.‏ وقد يتنبه كثير من أهل الدول ممن له يقظة في السياسة فيرى ما نزل بدولتهم من عوارض الهرم ويظن أنه ممكن الارتفاع فيأخذ نفسه بتلافي الدولة وإصلاح مزاجها عن ذلك الهرم ويحسبه أنه لحقها بتقصير من قبله من أهل الدولة وغفلتهم وليس كذلك فإنها أمور طبيعية للدولة والعوائد هي المانعة له من تلافيها‏.‏ والعوائد منزلة طبيعية أخرى فإن من أدرك مثلاً أباه وأكثر أهل بيته يلبسون الحرير والديباج ويتحلون بالذهب في السلاح والمراكب ويحتجبون عن الناس في المجالس والصلوات فلا يمكنه مخالفة سلفه في ذلك إلى الخشونة في اللباس والزي والاختلاط بالناس إذ العوائذ حينئذ تمنعه وتقبح عليه مرتكبه‏.‏ ولو فعله لرمي بالجنون والوسواس في الخروج عن العوائد دفعة وخشي عليه عائدة ذلك وعاقبته في سلطانه‏.‏ وانظر شأن الأنبياء في إنكار العوائد ومخالفتها لولا التأييد الإلهي والنصر السماوي‏.‏ وربما تكون العصبية قد ذهبت فتكون الأبهة تعوض عن موقعها من النفوس‏.‏ فإذا أزيلت تلك الأبهة مع ضعف العصبية تجاسرت الرعايا على الدولة بذهاب أوهام الأبهة فتتدرع الدولة بتلك الأبهة ما أمكنها حتى ينقضي الأمر‏.‏ وربما يحدث عند آخر الدولة قوة توهم أن الهرم قد ارتفع عنها ويومض ذبالها الماضة الخمود كما يقع في الذبال المشتعل فإنه عند مقاربة انطفائه يومض إيماضة توهم أنها اشتعال وهي انطفاء‏.‏ فاعتبر ذلك ولا تغفل سر الله تعالى وحكمته في اطراد وجوده على ما قدر فيه‏.‏ ‏"‏ و[لكل أجل كتاب‏


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 17:14 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:11

الفصل السابع والأربعون في كيفية طروق الخلل للدولة
اعلم أن مبنى الملك على أساسين لا بد منهما‏.‏ فالأول الشوكة والعصبية وهو المعبر عنه بالجند والثاني المال الذي هو قوام أولئك الجند وإقامة ما يحتاج إليه الملك من الأحوال‏.‏ والخلل إذا طرق الدولة طرقها في هذين الأساسين‏.‏ فلنذكر أولاً طروق الخلل في الشوكة والعصبية ثم نرجع واعلم أن تمهيد الدولة وتأسيسها كما قلناه إنما يكون بالعصبية وأنه لا بد من عصبية كبرى جامعة للعصائب مستتبعة لها وهي عصبية صاحب الدولة الخاصة من عشيرة وقبيلة‏.‏ فإذا جاءت الدولة طبيعة الملك من الترف وجدع أنوف أهل العصبية كان أول ما يجدع أنوف عشيرته ذوي قرباه المقاسمين له في اسم الملك فيستبد في جدع أنوفهم بما بلغ من سوادهم‏.‏ ويأخذهم الترف أيضاً أكثر من سواهم لمكانهم من الملك والعز والغلب فيحيط بهم هدمان وهما الترف والقهر‏.‏ ثم يصير القهر آخراً إلى القتل لما يحصل من مرض قلوبهم عند رسوخ الملك لصاحب الأمر فيقلب غيرته منهم إلى الخوف على ملكه فيأخذهم بالقتل والإهانة وسلب النعمة والترف الذي تعودوا الكثير منه فيهلكون ويقفون وتفسد عصبية صاحب الدولة منهم وهي العصبية الكبرى التي كانت تجمع بها العصائب وتستتبعها فتنحل عروتها وتضعف شكيمتها وتستبدل عنها بالبطالة من موالي النعمة وصنائع الإحسان ويتخذ منهم عصبية إلا أنها ليست مثل تلك الشدة الشكيمية لفقدان الرحم والقرابة منها‏.‏ وقد كنا قدمنا أن شأن العصبية وقوتها إنما هي بالقرابة والرحم لما جعل الله في ذلك‏.‏ فينفرد صاحب الدولة عن العشير والأنصار الطبيعية ويحس بذلك أهل العصائب الأخرى فيتجاسرون عليه وعلى بطانته تجاسراً طبيعياً فيهلكهم صاحب الدولة ويتبعهم بالقتل واحداً بعد واحد‏.‏ ويقفد الآخر من أهل الدولة في ذلك الأول مع ما يكون قد نزل بهم من مهلكة الترف الذي قدمنا‏.‏ فيستولي عليهم الهلاك بالترف والقتل حتى يخرجوا عن صبغة تلك العصبية وينسوا نعرتها وسورتها ويصيروا أجراء على الحماية ويقلون لذلك فتقل الحامية التي تنزل بالأطراف والثغور فيتجاسر الرعايا على نقض الدعوة في الأطراف ويبادر الخوارج على الدولة من الأعياص وغيرهم إلى تلك الأطراف لما يرجون حينئذ من حصول غرضهم بمبايعة أهل القاصية لهم وأمنهم من وصول الحامية إليهم‏.‏ ولا يزال يتدرج ونطاق الدولة يتضايق حتى تصير الخوارج في أقرب الأماكن إلى مركز الدولة‏.‏ وربما انقسمت الدولة عند ذلك بدولتين أو ثلاث على قدر قوتها في الأصل كما قلناه ويقوم بأمرها غير أهل عصبيتها لكن إذعاناً لأهل عصبيتها ولغلبهم المعهود‏.‏ واعتبر هذا في دولة العرب في الإسلام انتهت أولاً إلى الأندلس والهند والصين‏.‏ وكان أمر بني أمية نافذاً في جميع العرب بعصبية بني عبد مناف حتى لقد أمر سليمان بن عبد الملك من دمشق بقتل عبد العزيز بن موسى بن نصير بقرطبة فقتل ولم يرد أمره‏.‏ ثم تلاشت عصبية بني أمية بما أصابهم من الترف فانقرضوا‏.‏ وجاء بنو العباس فغضوا من أعنة بني هاشم وقتلوا الطالبيين وشردوهم فانحلت عصبية عبد مناف وتلاشت وتجاسر العرب عليهم فاستبد عليهم أهل القاصية مثل بني الأغلب بإفريقية وأهل الأندلس وغيرهم وانقسمت الدولة‏.‏ ثم خرج بنو إدريس بالمغرب وقام البربر بأمرهم إذعاناً للعصبية التي لهم وأمناً أن تصلهم مقاتلة أو حامية للدولة‏.‏ فإذا خرج الدعاة آخراً فيتغلبون على الأطراف والقاصية وتحصل لهم هناك دعوة وملك تنقسم به الدولة‏.‏ وربما يزيد ذلك متى زادت الدولة تقلصاً إلى أن ينتهي إلى المركز وتضعف البطانة بعد ذلك بما أخذ منها الترف فتهلك وتضمحل وتضعف الدولة المنقسمة كلها‏.‏ وربما طال أمدها بعد ذلك فتستغني عن العصبية بما حصل لها من الصبغة في نفوس أهل إيالتها وهي صبغة الانقياد والتسليم منذ السنين الطويلة التي لا يعقل أحد من الأجيال مبدأها ولا أوليتها فلا يعقلون إلا التسليم لصاحب الدولة فيستغني بذلك عن قوة العصائب ويكفي صاحبها بما حصل لها في تمهيد أمرها الأجراء على الحامية من جندي ومرتزق‏.‏ ويعضد ذلك ما وقع في النفوس عامة من التسليم فلا يكاد أحد أن يتصور عصياناً أو خروجاً إلا والجمهور منكرون عليه مخالفون له فلا يقدر على التصدي لذلك ولو جهد جهده‏.‏ وربما كانت الدولة في هذا الحال أسلم من الخوارج والمنازعة لاستحكام صبغة التسليم والانقياد لهم‏.‏ فلا تكاد النفوس تحدث سرها بمخالفة ولا يختلج في ضميرها انحراف عن الطاعة فيكون أسلم من الهرج والانتقاض الذي يحدث من العصائب والعشائر‏.‏ ثم لا يزال أمر الدولة كذلك وهي تتلاشى في ذاتها شأن الحرارة الغريزية في البدن العادم للغذاء إلى أن تنتهي إلى وقتها المقدور‏.‏ ولكل أجل كتاب ولكل دولة أمد‏.‏ ‏"‏ .والله يقدر الليل والنهار‏"‏ وهو الواحد القهار‏.‏ وأما الخلل الذي يتطرق من جهة المال فاعلم أن الدولة في أولها تكون بدوية كما مر فيكون خلق الرفق بالرعايا والقصد في النفقات والتعفف عن الأموال فتتجافى عن الإمعان في الجباية والتحذلق والكيس في جمع الأموال وحسبان العمال ولا داعية حينئذ إلى الإسراف في النفقة فلا تحتاج الدولة إلى كثرة المال‏.‏ ثم يحصل الاستيلاء ويعظم ويستفحل الملك فيدعو إلى الترف ويكثر الأنفاق بسببه فتعظم نفقات السلطان وأهل الدولة على العموم بل يتعدى ذلك إلى أهل المصر ويدعو ذلك إلى الزيادة في أعطيات الجند وأرزاق أهل الدولة‏.‏ ثم يعظم الترف فيكثر الإسراف في النفقات وينتشر ذلك في الرعية لأن الناس على دين ملوكها وعوائدها‏.‏ ويحتاج السلطان إلى ضرب المكوس على أثمان البياعات في الأسواق لإدرار الجباية لما يراه من ترف المدينة الشاهد عليهم بالرفه ولما يحتاج هو إليه من نفقات سلطانه وأرزاق جنده‏.‏ ثم تزيد عوائد الترف فلا تفي بها المكوس وتكون الدولة قد استفحلت في الاستطالة والقهر لمن تحت يدها من الرعايا فتمتد أيديهم إلى جمع المال من أموال الرعايا من مكس أو تجارة أو نقد في بعض الأحوال بشبهة أو بغير شبهة‏.‏ ويكون الجند في ذلك الطور قد تجاسرعلى الدولة بما لحقها من الفشل والهرم في العصبية فتتوقع ذلك منهم وتداوى بسكينة العطايا وكثرة الإنفاق فيهم ولا تجد عن ذلك وليجة‏.‏ ويكون جباة الأموال في الدولة قد عظمت ثروتهم في هذا الطور بكثرة الجباية وكونها بأيديهم وبما اتسع لذلك من جاههم فيتوجه إليهم باحتجان الأموال من الجباية وتفشو السعاية فيهم بعضهم عن بعض للمنافسة والحقد فتعمهم النكبات والمصادرات واحداً واحداً إلى أن تذهب ثروتهم وتتلاشى أحوالهم ويفقد ما كان للدولة من االأبهة والجمال بهم‏.‏ فإذا اصطلمت نعمتهم تجاوزتهم الدولة إلى أهل الثروة من الرعايا سواهم‏.‏ ويكون الوهن في هذا الطور قد لحق الشوكة وضعفت عن الاستطالة والقهر فتنصرف سياسة صاحب الدولة حينئذ إلى مداراة الأمور ببذل المال ويراه أرفع من السيف لقلة غنائه‏.‏ فتعظم حاجته إلى الأموال زيادة على النفقات وأرزاق الجند ولا يغني فيما يريد‏.‏ ويعظم الهرم بالدولة ويتجاسر عليها أهل النواحي والدولة تنحل عراها في كل طور من هذه إلى أن تفضي إلى الهلاك وتتعرض لاستيلاء الطلاب‏.‏ فإن قصدها طالب انتزعها من أيدي القائمين بها وإلا بقيت وهي تتلاشى إلى أن تضمحل كالذبال في السراج إذا فني زيته وطفىء‏.‏ والله مالك الأمور ومدبر الأكوان لا إله إلا هو‏.‏ أولاً إلى نهايته ثم تضايقه طوراً بعد طور إلى فناء الدولة واضمحلالها قد كان تقدم لنا في فصل الخلافة والملك وهو الثالث من هذه المقدمة أن كل دولة لها حصة من الممالك والعمالات لا تزيد عليها‏.‏ واعتبر ذلك بتوزيع عصابة الدولة على حماية أقطارها وجهاتها‏.‏ فحيث نفد عددهم فالطرف الذي انتهى عنده هو الثغر ويحيط بالدولة من سائر جهاتها كالنطاق‏.‏ وقد تكون النهاية هي نطاق الدولة الأولى‏.‏ وقد يكون أوسع منه إذا كان عدد العصابة أوفر من الدولة قبلها‏.‏ وهذا كله عندما تكون الدولة في شعار البداوة وخشونة الباس‏.‏ فإذا استفحل العز والغلب وتوفرت النعم والأرزاق بدرور الجبايات وزخر بحر الترف والحضارة ونشأت الأجيال على اعتبار ذلك لطفت أخلاق الحامية ورقت حواشيهم‏.‏ وعاد من ذلك إلى نفوسهم هيئات الجبن والكسل بما يعانونه من خنث الحضارة المؤدي إلى الانسلاخ من شعار البأس والرجولية بمفارقة البداوة وخشونتها وبأخذهم العز بالتطاول إلى الرياسة والتنازع عليها فيفضي إلى قتل بعضهم بيعض ويكبحهم السلطان عن ذلك بما يؤدي إلى قتل أكابرهم وإهلاك رؤسائهم فتفقد الأمراء والكبراء ويكثر التابع والمرؤوس فيفل ذلك من حد الدولة لكسر من شوكتها‏.‏ ويقع الخلل الأول في الدولة وهو الذي من جهة الجند والحامية كما تقدم‏.‏ ويساوق ذلك السرف في النفقات بما يعتريهم من أبهة العز وتجاوز الحدود بالبذخ بالمناغاة في المطاعم والملابس وتشييد القصور واستجادة السلاح وارتباط خيول فيقصر دخل الدولة حينئذ عن خرجها ويطرق الخلل الثاني في الدولة وهو الذي من جهة المال والجباية‏.‏ ويحصل العجز والانتقاص بوجود الخللين‏.‏ وربما تنافس رؤساؤهم فتنازعوا وعجزوا عن مغالبة المجاورين والمنازعين ومدافعتهم‏.‏ وربما اعتز أهل الثغور والأطراف بما يحسون من ضعف الدولة وراءهم فيصيرون إلى الاستقلال والاستبداد بما في أيديهم من العمالات ويعجز صاحب الدولة عن حملهم على الجادة فيضيق نطاق الدولة عما كانت انتهت إليه في أولها وترجع العناية في تدبيرها بنطاق دونه إلى أن يحدث في النطاق الثاني ما حدث في الأول بعينه من العجز والكسل في العصابة وقلة الأموال والجباية‏.‏ فيذهب القائم بالدولة إلى تغيير القوانين التي كانت عليها سياسة الدولة من قبل الجند والمال والولايات ليجري حالها على استقامة بتكافؤ الدخل والخرج والحامية والعمالات وتوزيع الجباية على الأرزاق ومقايسة ذلك بأول الدولة في سائر الأحوال‏.‏ والمفاسد مع ذلك متوقعة من كل جهة‏.‏ فيحدث في هذا الطور من بعد ما حدث في الأول من قبل‏.‏ ويعتبر صاحب الدولة ما اعتبره الأول ويقايس بالوزان الأول أحوالها الثانية يروم دفع مفاسد الخلل الذي يتجدد في كل طور ويأخذ من كل طرف حتى يضيق نطاقها الآخر إلى نطاق دونه كذلك ويقع فيه ما وقع في الأول‏.‏ فكل واحد من هؤلاء المغيرين للقوانين قبلهم كأنهم منشئون دولة أخرى ومجددون ملكاً‏.‏ حتى تنقرض الدولة وتتطاول الأمم حولها إلى التغلب عليها وإنشاء دولة أخرى لهم فيقع من ذلك ما قدر الله وقوعه‏.‏ واعتبر ذلك في الدولة الإسلامية كيف اتسع نطاقها بالفتوحات والتغلب على الأمم ثم تزايد الحامية وتكاثر عددهم بما تخولوه من النعم والأرزاق إلى أن انقرض أمر بني أمية وغلب بنو العباس‏.‏ ثم تزايد الترف ونشأت الحضارة وطرق الخلل فضاق النطاق من الأندلس والمغرب بحدوث الدولة الأموية المروانية والعلوية واقتطعوا ذينك الثغرين عن نطاقها إلى أن وقع الخلاف بين بني الرشيد وظهر دعاة العلوية من كل جانب وتمهدت لهم دول ثم قتل المتوكل واستبد الأمراء على الخلفاء وحجروهم واستقل الولاة بالعمالات في الأطراف‏.‏ وانقطع الخراج منها وتزايد الترف‏.‏ وجاء المعتضد فغير قوانين الدولة إلى قانون آخر من السياسة أقطع فيه ولاة الأطراف ما غلبوا عليه مثل بني سامان وراء النهر وبني طاهر العراق وخراسان وبني الصفار السند وفارس وبني طولون مصر وبنى الأغلب إفريقية إلى أن افترق أمر العرب وغلب العجم واستبد بنو بويه والديلم بدولة الإسلام وحجروا الخلافة وبقي بنو سامان في استبدادهم وراء النهر وتطاول الفاطميون من المغرب إلى مصر والشام فملكوه‏.‏ ثم قامت الدولة السلجوقية من الترك فاستولوا على ممالك الإسلام وأبقوا الخلفاء في حجرهم إلى أن تلاشت دولهم‏.‏ واستبد الخلفاء منذ عهد الناصر في نطاق أضيق من هالة القمر وهو عراق العرب إلى أصبهان وفارس والبحرين‏.‏ وأقامت الدولة كذلك بعض الشيء إلى أن انقرض أمر الخلفاء على يد هولاكو بن طولى بن دوشي خان ملك التتر والمغل حين غلبوا السلجوقية وملكوا ما كان بأيديهم من ممالك الإسلام‏.‏ وهكذا يتضايق نطاق كل دولة على نسبة نطاقها الأول‏.‏ ولا يزال طوراً بعد طور إلى أن تنقرض الدولة‏.‏ واعتبر ذلك في كل دولة عظمت أو صغرت‏.‏ فهكذا سنة الله في الدول إلى أن يأتي ما قدرالله من الفناء على خلقه‏.‏ و ‏"‏ .كل شيء هالك إلا وجهه‏"‏‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:14

الفصل الثامن والأربعون في حدوث الدولة وتجددها كيف يقع
اعلم أن نشأة الدول وبدايتها إذا أخذت الدولة المستقرة في الهرم والانتقاص يكون على نوعين‏:‏ إما بأن يستبد ولاة الأعمال في الدولة بالقاصية عندما يتقلص ظلها عنهم فتكون لكل واحد منهم دولة يستجدها لقومه وما يستقر في نصابه يرثه عنه أبناؤه أو مواليه ويستفحل لهم الملك بالتدريج وربما يزدحمون على ذلك الملك ويتقارعون عليه ويتنازعون في الاستئثار به ويغلب منهم من يكون له فضل قوة على صاحبه وينتزع ما في يده كما وقع في دولة بني العباس حين أخذت دولتهم في الهرم وتقلص ظلها عن القاصية واستبد بنو سامان بما وراء النهر وبنو حمدان بالموصل والشام وبنو طولون بمصر وكما وقع بالدولة الأموية بالأندلس وافترق ملكها في الطوائف الذين كانوا ولاتها في الأعمال وانقسمت دولاً وملوكاً أورثوها من بعدهم من قرابتهم أو مواليهم‏.‏ وهذا النوع لا يكون بينهم وبين الدولة المستقرة حرب لأنهم مستقرون في رئاستهم ولا يطمعون في الاستيلاء على الدولة المستقرة بحرب وإنما الدولة أدركها الهرم وتقلص ظلها عن القاصية وعجزت عن الوصول إليها‏.‏ والنوع الثاني بأن يخرج على الدولة خارج ممن يجاوزها من الأمم والقبائل إما بدعوة يحمل الناس عليها كما أشرنا إليه أو يكون صاحب شوكة وعصبية كبيراً في قومه قد استفحل أمره فيسمو بهم إلى الملك وقد حدثوا به أنفسهم بما حصل لهم من الاعتزازعلى الدولة المستقرة وما نزل بها من الهرم فيتعين له ولقومه الاستيلاء عليها ويمارسونها بالمطالبة إلى أن يظفروا بها ويزنون أمرها كما يتبين‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:17

الفصل الخمسون في وفور العمران آخر الدولة وما يقع فيها من كثرة الموتان والمجاعات
اعلم أنه قد تقرر لك فيما سلف أن الدولة في أول أمرها لا بد لها من الرفق في ملكتها والاعتدال في إيالتها إما من الدين إن كانت الدعوة دينية أو من المكارمة والمحاسنة التي تقتضيها البداوة الطبيعية للدول‏.‏ وإذا كانت الملكة رفيقة محسنة انبسطت آمال الرعايا وانتشطوا للعمران وأسبابه فتوفر ويكثر التناسل‏.‏ وإذا كان ذلك كله بالتدريج فإنما يظهر أثره بعد جيل أو جيلين في الأقل‏.‏ وفي انقضاء الجيلين تشرف الدولة على نهاية عمرها الطبيعي فيكون حينئذ العمران في غاية الوفور والنماء‏.‏ ولا تقولن إنه قد مر لك أن أواخر الدولة يكون فيها الإجحاف بالرعايا وسوء الملكة فذلك صحيح ولا يعارض ما قلناه لأن الإجحاف وإن حدث حينئذ وقلت الجبايات فإنما يظهر أثره في تناقص العمران بعد حين من أجل التدريج في الأمور الطبيعية‏.‏ ثم إن المجاعات والموتان تكثر عند ذلك في أواخر الدول‏.‏ والسبب فيه‏:‏ أما المجاعات فلقبض الناس أيديهم عن الفلح في الأكثر بسبب ما يقع في آخر الدولة من العدوان في الأموال والجبايات أو الفتن الواقعة في انتقاص الرعايا وكثرة الخوارج لهرم الدولة فيقل احتكار الزرع غالباً وليس صلاح الزرع وثمرته بمستمر الوجود ولا على وتيرة واحدة فطبيعة العالم في كثرة الأمطار وقلتها مختلفة والمطر يقوى ويضغف ويقل ويكثر والزرع والثمار والضرع على نسبته إلا أن الناس واثقون في أقواتهم بالاحتكار‏.‏ فإذا فقد الاحتكار عظم توقع الناس للمجاعات فغلا الزرع وعجز عنه أولو الخصاصة فهلكوا وكان بعض السنوات والاحتكار وأما كثرة الموتان فلها أسباب من كثرة المجاعات كما ذكرناه أو كثرة الفتن لاختلال الدولة فيكثر الهرج والقتل أو وقوع الوباء‏.‏ وسببه في الغالب فساد الهواء بكثرة العمران لكثرة ما يخالطه من العفن والرطوبات الفاسدة‏.‏ وإذا فسد الهواء وهو غذاء الروح الحيواني وملابسه دائماً فيسري الفساد إلى مزاجه‏.‏ فإن كان الفساد قوياً وقع المرض في الرئة‏.‏ وهذه هي الطواعين وأمراضها مخصوصة بالرئة‏.‏ وإن كان الفساد دون القوي والكثير فيكثر العفن ويتضاعف فتكثر الحميات في الأمزجة وتمرض الأبدان وتهلك‏.‏ وسبب كثرة العفن والرطوبات الفاسدة في هذا كله كثرة العمران ووفوره آخر الدولة لما كان في أوائلها من حسن الملكة ورفقها وقلة المغرم وهو ظاهر‏.‏ ولهذا تبين في موضعه من الحكمة أن تخلل الخلاء والقفر بين العمران ضروري ليكون تموج الهواء يذهب بما يحصل في الهواء من الفساد والعفن بمخالطة الحيوانات ويأتي بالهواء الصحيح‏.‏ ولهذا أيضاً فإن الموتان يكون في المدن الموفورة العمران أكثر من غيرها بكثير كمصر بالمشرق وفاس بالمغرب‏.‏ والله يقدر ما يشاء‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:21

الفصل الحادي والخمسون في أن العمران البشري
اعلم أنه قد تقدم لنا في غير موضع أن الاجتماع للبشر ضروري وهو معنى العمران الذي نتكلم فيه وأنه لا بد لهم في الاجتماع من وازع حاكم يرجعون إليه وحكمه فيهم‏:‏ تارة يكون مستنداً إلى شرع منزلي من عند الله يوجب انقيادهم إليه إيمانهم بالثواب والعقاب عليه الذي جاء به مبلغه وتارة إلى سياسة عقلية يوجب انقيادهم إليها ما يتوقعونه من ثواب ذلك الحاكم بعد معرفته بمصالحهم‏.‏ فالأولى يحصل نفعها في الدنيا والآخرة لعلم الشارع بالمصالح في العاقبة ولمراعاته نجاة العباد في الأخرة والثانية إنما يحصل نفعها في الدنيا فقط‏.‏ وما تسمعه من السياسة المدنية فليس من هذا الباب وإنما معناه عند الحكماء ما يجب أن يكون عليه كل واحد من أهل ذلك المجتمع في نفسه وخلقه حتى يستغنوا عن الحكام رأساً‏.‏ ويسمون المجتمع الذي يحصل فيه ما يسمى من ذلك بالمدينة الفاضلة ‏"‏ والقوانين المراعاة في ذلك بالسياسة المدنية وليس مرادهم السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع بالمصالح العامة فإن هذه غير تلك‏.‏ وهذه المدينة الفاضلة عندهم نادرة أو بعيدة الوقوع وإنما يتكلمون عليها على جهة الفرض والتقدير‏.‏ ثم إن السياسة العقلية التي قدمناها تكون على وجهين‏:‏ أحدهما يراعى فيها المصالح على العموم ومصالح السلطان في استقامة ملكه على الخصوص‏.‏ وهذه كانت سياسة الفرس وهي على جهة الحكمة‏.‏ وقد أغنانا الله تعالى عنها في الملة ولعهد الخلافة لأن الأحكام الشرعية مغنية عنها في المصالح العامة والخاصة والآداب وأحكام الملك مندرجة فيها‏.‏ الوجه الثاني أن يراعى فيها مصلحة السلطان وكيف يستقيم له الملك مع القهر والاستطالة وتكون المصالح العامة في هذه تبعاً‏.‏ وهذه السياسة التي يحمل عليها أهل الاجتماع التي لسائر الملوك في العالم من مسلم وكافر إلا أن ملوك المسلمين يجرون منها على ما تقتضيه الشريعة الإسلامية بحسب جهدهم فقوانينها إذاً مجتمعة من أحكام شرعية وآداب خلقية وقوانين في الاجتماع طبيعية وأشياء من مراعاة الشوكة والعصبية ضرورية والاقتداء فيها بالشرع أولاً ثم الحكماء في آدابهم والملوك في سيرهم‏.‏ ومن أحسن ما كتب في ذلك وأودع كتاب طاهر بن الحسين لابنه عبد الله بن طاهر لما ولاه المأمون الرقة ومصر وما بينهما‏.‏ فكتب إليه أبوه طاهر كتابه المشهور عهد إليه فيه ووصاه بجميع ما يحتاج إليه في دولته وسلطانه من الأداب الدينية والخلقية والسياسة الشرعية والملوكية وحثه على مكارم الأخلاق ومحاسن الشيم بما لا يستغني عنه ملك ولا سوقة‏.‏ ونص الكتاب‏:‏ نص كتاب طاهر بن الحسين بسم الله الرحمن الرحيم ‏"‏ أما بعد فعليك بتقوى الله وحده لا شريك له وخشيته ومراقبته عز وجل ومزايلة سخطه‏.‏ واحفظ رعيتك في الليل والنهار‏.‏ والزم ما ألبسك الله من العافية بالذكر لمعادك وما أنت صائر إليه وموقوف عليه ومسوؤل عنه والعمل في ذلك كله بما يعصمك الله عز وجل وينجيك يوم القيامة من عقابه وأليم عذابه‏.‏ فإن الله سبحانه قد أحسن إليك وأوجب الرأفة عليك بمن استرعاك أمرهم من عباده وألزمك العدل فيهم والقيام بحقه وحدوده عليهم والذب عنهم والدفع عن حريمهم ومنصبهم والحقن لدمائهم والأمن لسربهم وإدخال الراحة عليهم‏.‏ ومؤاخذك بما فرض عليك وموقفك عليه وسائلك عنه ومثيبك عليه بما قدمت وأخرت‏.‏ ففرغ لذلك فهمك وعقلك وبصرك ولا يشغلك عنه شاغل وإنه رأس أمرك وملاك شأنك وأول ما يوقفك الله عليه‏.‏ وليكن أول ما تلزم به نفسك وتنسب إليه فعلك المواظبة على ما فرض الله عزوجل عليك من الصلوات الخمس والجماعة عليها بالناس قبلك وتوقعها على سننها من إسباغ الوضوء لها وافتتاح ذكر الله عزوجل فيها ورتل في قراءتك وتمكن في ركوعك وسجودك وتشهدك ولتصرف فيه رايك ونيتك واحضض عليه جماعة ممن معك وتحت يدك وادأب عليها فإنها كما قال الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ تنهى عن الفحشاء والمنكر ‏"‏‏.‏ ثم اتبع ذلك بالأخذ بسنن رسول الله صلى الله عليه وسلم والمثابرة على خلائقه واقتفاء أثر السلف الصالح من بعده‏.‏ وإذا ورد عليك أمر فاستعن عليه باستخارة الله عز وجل وتقواه وبلزوم ما أنزل الله عز وجل في كتابه من أمره ونهيه وحلاله وحرامه وائتمام ما جاءت به الأثارعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قم فيه بالحق لله عزوجل‏.‏ ولا تميلن عن العدل فيما أحببت أو كرهت لقريب من الناس أو لبعيد‏.‏ وآثر الفقه وأهله والدين وحملته وكتاب الله عز وجل والعاملين به فإن أفضل ما يتزين به المرء الفقه في الدين والطلب له والحث عليه والمعرفة بما يتقرب به إلى الله عز وجل فإنه الدليل على الخير كله والقائد إليه والآمر به والناهي عن المعاصي والموبقات كلها‏.‏ ومع
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:22

توفيق الله عز وجل يزداد المرء معرفة وإجلالاً له ودركاً للدرجات العلى في المعاد مع ما في ظهوره للناس من التوقير لأمرك والهيبة لسلطانك والأنسة بك والثقة بعدلك‏.‏ وعليك بالاقتصاد في الأمور كلها فليس شيء أبين نفعاً ولا أخص أمناً ولا أجمع فضلاً منه‏.‏ والقصد داعية إلى الرشد والرشد دليل على التوفيق والتوفيق قائد إلى السعادة وقوام الدين والسنن الهادية بالاقتصاد فآثره في دنياك كلها‏.‏ ولا تقصر في طلب الأخرة والأجر والأعمال الصالحة والسنن المعروفة ومعالم الرشد والإعانة والاستكثار من البر والسعي له إذا كان يطلب به وجه الله تعالى ومرضاته ومرافقة أولياء الله في دار كرامته‏.‏ واعلم أن القصد في شأن الدنيا يورث العز ويمخص من الذنوب وأنك لن تحوط نفسك من قائل ولا تنصلح أمورك بأفضل منه فأته واهتد به تتم أمورك وتزد مقدرتك وتصلح عامتك وخاصتك‏.‏ وأحسن ظنك بالله عز وجل تستقم لك رعيتك والتمس الوسيلة إليه في الأمور كلها تستدم به النعمة عليك‏.‏ ولا تتهمن أحداً من الناس فيما توليه من عملك قبل أن تكشف أمره فإن إيقاع التهم بالبرآء والظنون السيئة بهم آثم إثم‏.‏ فاجعل من شأنك حسن الظن بأصحابك واطرد عنك سوء الظن بهم وارفضه فيهم يعنك ذلك على استطاعتهم ورياضتهم‏.‏ ولا تتخذن عدو الله الشيطان في أمرك معمداً فإنه إنما يكتفي بالقليل من وهنك ويدخل عليك من الغم بسوء الظن بهم ما ينقص لذاذة عيشك‏.‏ واعلم أنك تجد بحسن الظن قوة وراحة وتكتفي به ما أحببت كفايته من أمورك وتدعو به الناس إلى محبتك والاستقامة في الأمور كلها‏.‏ ولا يمنعك حسن الظن بأصحابك والرأفة برعيتك أن تستعمل المسألة والبحث عن أمورك‏.‏ والمباشرة لأمور الأولياء وحياطة الرعية والنظر في حوائجهم وحمل مؤوناتهم أيسر عندك مما سوى ذلك فإنه أقوم للدين وأحيا للسنة‏.‏ واخلص نيتك في جميع هذا وتفرد بتقويم نفسك تفرد من يعلم أنه مسؤول عما صنع ومجزي بما أحسن ومؤاخذ بما أساء‏.‏ فإن الله عز وجل جعل الدين حرزاً وعزاً ورفع من اتبعه وعززه‏.‏ واسلك بمن تسوسه وترعاه نهج الدين وطريقه الأهدى‏.‏ وأقم حدود الله تعالى في أصحاب الجرائم على قدر منازلهم وما استحقوه ولا تعطل ذلك ولا تتهاون به ولا تؤخر عقوبة أهل العقوبة فإن في تفريطك في ذلك ما يفسد عليك حسن ظنك‏.‏ واعتزم على أمرك في ذلك بالسنن المعروفة وجانب البدع والشبهات يسلم لك دينك وتتم لك مروءتك‏.‏ وإذا عاهدت عهداً فأوف به وإذا وعدت الخير فأنجزه‏.‏ واقبل الحسنة وادفع بها‏.‏ واغمض عن عيب كل في عيب من رعيتك واشدد لسانك عن قول الكذب والزور وابغض أهل النميمة فإن أول فساد أمورك في عاجلها وآجلها تقريب الكذوب والجراءة على الكذب لأن الكذب رأس المآثم والزور والنميمة خاتمتها لأن النميمة لا يسلم صاحبها وقائلها لا يسلم له صاحب ولا يستقيم له أمر‏.‏ وأحبب أهل الصلاح والصدق وأعز الأشراف بالحق وأعن الضعفاء وصل الرحم وابتغ بذلك وجه الله تعالى وإعزاز أمره والتمس فيه ثوابه والدار الأخرة‏.‏ واجتنب سوء الأهواء والجور واصرف عنهما رأيك وأظهر براءتك من ذلك لرعيتك‏.‏ وأنعم بالعدل سياستهم وقم بالحق فيهم وبالمعرفة التي تنتهي بك إلى سبيل الهدى‏.‏ واملك نفسك عند وإياك أن تقول أنا مسلط أفعل ما أشاء فإن ذلك سريع إلى نقص الرأي وقلة اليقين لله عز وجل‏.‏ وأخلص لله وحده النية فيه واليقين به‏.‏ واعلم أن الملك لله سبحانه وتعالى يؤتيه من يشاء وينزعه ممن يشاء‏.‏ ولن تجد تغير النعمة وحلول النقمة إلى أحد أسرع منه إلى جهلة النعمة من أصحاب السلطان والمبسوط لهم في الدولة إذا كفروا نعم الله وإحسانه واستطالوا بما أعطاهم الله عز وجل من فضله‏.‏ ودع عنك شره نفسك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:22

ولتكن ذخائرك وكنوزك التي تدخر وتكنز البر والتقوى واستصلاح الرعية وعمارة بلادهم والتفقد لأمورهم والحفظ لحمائهم والإغاثة لملهوفهم‏.‏ واعلم أن الأموال إذا اكتنزت واذخرت في الخزائن لا تنمو وإذا كانت في صلاح الرعية وإعطاء حقوقهم وكف الأذية عنهم نمت وزكت وصلحت بها العامة وترتبت بها الولاية وطاب بها الزمان واعتقد فيها العز والمنفعة‏.‏ فليكن كنز خزائنك تفريق الأموال في عمارة الإسلام وأهله‏.‏ ووفر منه على أولياء أمير المومنين قبلك حقوقهم وأوف من ذلك حصصهم وتعهد ما يصلح أمورهم ومعاشهم فإنك إذا فعلت ذلك قرت النعمة لك واستوجبت المزيد من الله تعالى وكنت بذلك على جباية أموال رعيتك وخراجك أقدر وكان الجميع لما شملهم من عدلك وإحسانك أسلس لطاعتك‏.‏ وطب نفساً بكل ما أردت وأجهد نفسك فيما حمدت لك في هذا الباب وليعظم حقك فيه وإنما يبقى من المال ما أنفق في سبيل الله وفي سبيل حقه‏.‏ وأعرف للشاكرين حقهم وأثبهم عليه وإياك أن تنسيك الدنيا وغرورها هول الآخرة فتتهاون بما يحق عليك فإن التهاون يورث التفريط والتفريط يورث البوار‏.‏ وليكن عملك لله عز وجل وفيه وارج الثواب منه فإن الله سبحانه قد أسبغ فضله‏.‏ واعتصم بالشكر وعليه فاعتمد يزدك الله خيراً وإحساناً فإن الله عز وجل يثيب بقدر شكر الشاكرين وإحسان المحسنين‏.‏ ولا تحقرن ذنباً ولا تمالئن حاسداً ولا ترحمن فاجراً ولا تصلن كفوراً ولا تداهنن عدواً ولا تصدقن نماماً ولا تأمنن غداراً ولا توالين فاسقاً ولا تتبعن غاوياً ولا تحمدن مرائياً ولا تحقرن إنساناً ولا تردن سائلاً فقيراً ولا تحسنن باطلاً ولا تلاحظن مضحكاً ولا تخلفني وعداً ولا تزهون فخراً ولا تظهرن غضباً ولا تباينن رجاء ولا تمشين مرحاً ولا تزكين سفيهاً ولا تفرطن في طلب الأخرة ولا ترفعن للنمام عيناً ولا تغمضن عن ظالم رهبة منه أو محاباة ولا تطلبن ثواب الآخرة في الدنيا‏.‏ وأكثر مشاورة الفقهاء واستعمل نفسك بالحلم وخذ عن أهل التجارب وذوي العقل والرأي والحكمة‏.‏ ولا تدخلن في مشورتك أهل الرفه والبخل ولا تسمعن لهم قولاً فإن ضررهم أكثر من نفعهم‏.‏ وليس شيء أسرع فساداً لما استقبلت فيه أمر رعيتك من الشح‏.‏ واعلم أنك إذا كنت حريصاً كنت كثير الأخذ قليل العطية وإذا كنت كذلك لم يستقم أمرك إلا قليلاً فإن رعيتك إنما تعقد على محبتك بالكف عن أموالهم وترك الجور عليهم‏.‏ ووال من صافاك من أوليائك بالإفضال عليهم وحسن العطية لهم‏.‏ واجتنب الشح واعلم أنه أول ما عصى الأنسان به ربه وأن العاصي بمنزلة الخزي وهو قول الله عز وجل‏:‏ ‏"‏ ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون[/url] ‏"‏‏.‏ فسهل طريق الجود بالحق واجعل للمسلمين كلهم في فيئك حظاً ونصيباً وايقن أن الجود أفضل أعمال العباد فأعده لنفسك خلقاً و أرض به عملاً ومذهباً‏.‏ وتفقد الجند في دواوينهم ومكاتبهم وأدر عليهم أرزاقهم ووسع عليهم في معايشهم يذهب الله عز وجل بذلك فاقتهم فيقوى لك أمرهم وتزيد قلوبهم فى طاعتك وأمرك خلوصاً وانشراحاً‏.‏ وحسب في السلطان من السعادة أن يكون على جنده ورعيته ذا رحمة في عدله وعطيته وإنصافه وعنايته وشفقته وبره وتوسعته‏.‏ فزايل مكروه أحد البابين باستشعار فضل الباب الأخر ولزوم العمل به تلق أن شاء الله تعالى به نجاحاً وصلاحاً وفلاحاً‏.‏ واعلم أن القضاء من الله تعالى بالمكان الذي ليس فوقه شيء من الأمور لأنه ميزان الله الذي تعدل عليه أحوال الناس في الأرض‏.‏ وبإقامة العدل في القضاء والعمل تصلح أحوال الرعية وتؤمن السبل وينتصف المظلوم وتأخذ الناس حقوق وتحسن المعيشة ويودى حق الطاعة ويرزق الله العافية والسلامة ويقيم الدين‏.‏ ويجري السنن والشرائع في مجاريها‏.‏ واشتد في أمر الله عز وجل‏.‏ وتورع عن النطف وامض لإقامة الحدود‏.‏ وأقلل العجلة وابعد عن الضجر والقلق واقنع بالقسم وانتفع بتجربتك وانتبه في صحتك واسدد في منطقك وأنصف الخصم وقف عند الشبهة وأبلغ في الحجة ولا يأخذك في أحد من رعيتك محاباة ولا مجاملة ولا لومة لائم وتثبت وتأن وراقب وانظر وتفكر وتدبر واعتبر وتواضع لربك وارفق بجميع الرعية وسلط الحق على نفسك ولا تسرعن إلى سفك دم فإن الدماء من الله عزوجل بمكان عظيم فلا تبغ انتهاكاً لها بغير حقها‏.‏ وانظر هذا الخراج الذي استقامت عليه الرعية وجعله الله للإسلام عزاً ورفعة ولأهله توسعة ومنعةً ولعدوه كبتاً وغيظاً ولأهل الكفر من معاديهم ذلاً وصغاراً فوزعه بين أصحابه بالحق والعدل والتسوية والعموم ولا تدفعن شيئاً منه عن شريف لشرفه ولا عن غني لغناه ولا عن كاتب لك ولا عن أحد من خاصتك ولا حاشيتك ولا تأخذن منه فوق الأحتمال له‏.‏ ولا تكلف أمراً فيه شطط‏.‏ واحمل الناس كلهم على أمر الحق فإن ذلك اجمع لإلفتهم وألزم لرضاء العامة‏.‏ واعلم أنك جعلت بولايتك خازناً وحافظاً وراعياً وإنما سمي أهل عملك رعيتك لأنك راعيهم وقيمهم‏.‏ فخذ منهم ما أعطوك من عفوهم ونفذه في قوام أمرهم وصلاحهم وتقويم أودهم‏.‏ واستعمل عليهم أولي الرأي والتدبير والتجربة والخبرة بالعلم والعدل بالسياسة والعفاف‏.‏ ووسع عليهم في الرزق فإن ذلك من الحقوق اللازمة لك فيما تقلدت وأسند إليك فلا يشغلك عنه شاغل ولا يصرفك عنه صارف‏.‏ فإنك متى آثرته وقمت فيه بالواجب استدعيت به زيادة النعمة من ربك وحسن الأحدوثة في عملك واستجررت به المحبة من رعيتك وأعنت على الصلاح فدرت الخيرات ببلدك وفشت العمارة بناحيتك وظهر الخصب في كورك وكثر خراجك وتوفرت أموالك وقويت بذلك على ارتياض جندك وإرضاء العامة بإفاضة العطاء فيهم من نفسك وكنت محمود السياسة مرضي العدل في ذلك عند عدوك وكنت في أمورك كلها ذا عدل وآلة وقوة وعدة‏.‏ فتنافس فيها ولا تقدم عليها شيئاً تحمد عاقبة أمرك‏.‏ أن شاء الله تعالى‏.‏ واجعل في كل كورة من عملك أميناً يخبرك خبر عمالك ويكتب إليك بسيرهم وأعمالهم حتى كأنك مع كل عامل في عمله معايناً لأموره كلها‏.‏ وإذا أردت أن تأمرهم بأمر فانظر في عواقب ما أردت من ذلك فإن رأيت السلامة فيه والعافية ورجوت فيه حسن الدفاع والصنع فأمضه وإلا فتوقف عنه وراجع أهل البصر والعلم به ثم خذ فيه عدته فإنه ربما نظر الرجل في أمره وقد أتاه على ما يهوى فأغواه ذلك وأعجبه فإن لم ينظر في عواقبه أهلكه ونقض عليه أمره‏.‏ فاستعمل الحزم في كل ما أردت وباشره بعد عون الله عز وجل بالقوة‏.‏ وأكثر من استخارة ربك في جميع أمورك‏.‏ وافرغ من عمل يومك ولا تؤخره لغدك وأكثر مباشرته بنفسك فإن لغد أموراً وحوادث تلهيك عن عمل يومك الذي أخرت‏.‏ واعلم أن اليوم إذا مضى ذهب بما فيه فإذا أخرت عمله اجتمع عليك عمل يومين فيشغلك ذلك حتى تمرض منه‏.‏ وإذا أمضيت لكل يوم عمله أرحت بدنك ونفسك وجمعت أمر سلطانك‏.‏ وانظر أحرار الناس وذوي الفضل منهم ممن بلوت صفاء طويتهم وشهدت مودتهم لك ومظاهرتهم بالنصح والمحافظة على أمرك فاستخلصهم وأحسن إليهم‏.‏ وتعاهد أهل البيوتات ممن قد دخلت عليهم الحاجة واحتمل مؤونتهم وأصلح حالهم حتى لا يجدوا لخلتهم منافراً وأفرد نفسك بالنظر في أمور الفقراء والمساكين ومن لا يقدر على ربع مظلمته إليك والمحتقر الذي لا علم له بطلب حقه فسل عنه أحفى مسألة وكل بأمثاله أهل الصلاح في رعيتك ومرهم برفع حوائجهم وخلالهم إليك لتنظر فيما يصلح الله به أمرهم‏.‏ وتعاهد ذوي البأساء ويتماهم وأراملهم واجعل لهم أرزاقاً من بيت المال اقتداء بأمير المؤمنين أعزه الله تعالى في العطف عليهم والصلة لهم ليصلح الله بذلك عيشهم ويرزقك به بركة وزيادة‏.‏ وأجر للأضراء من بيت المال وقدم حملة القرآن منهم والحافظين لأكثره في الجراية على غيرهم‏.‏ وانصب لمرضى المسلمين دوراً تأويهم وقواماً يرفقون بهم وأطباء يعالجون أسقامهم وأسعفهم بشهواتهم ما لم يود ذلك إلى سرف في بيت المال‏.‏ واعلم أن الناس إذا أعطوا حقوقهم وأفضل أمانيهم لم يرضهم ذلك ولم تطب أنفسهم دون رفع حوائجهم إلى ولاتهم طمعاً في نيل الزيادة وفضل الرفق بهم‏.‏ وربما تبرم المتصفح لأمور الناس لكثرة ما يرد عليه ويشغل ذكره وفكره منها ما يناله به من مؤونة


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الأحد 4 مايو 2008 - 20:40 عدل 1 مرات
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:23

ومشقة‏.‏ وليس من يرغب في العدل ويعرف محاسن أموره في العاجل وفضل ثواب الأجل كالذي يستقل ما يقربه من الله تعالى وتلتمس به رحمته‏.‏ وأكثر الإذن للناس عليك وأرهم وجهك وسكن لهم حواسك واخفض لهم جناحك وأظهر لهم بشرك ولن لهم في المسألة والنطق واعطف عليهم بجودك وفضلك‏.‏ وإذا أعطيت فأعط بسماحة وطيب نفس والتماس للصنيعة والأجر من غير تكدير ولا امتنان فإن العطية على ذلك تجارة مربحة إن شاء الله تعالى‏.‏ واعتبر بما ترى من أمور الدنيا ومن مضى قبلك من أهل السلطان والرياسة في القرون الخالية ثم اعتصم في أحوالك كلها بالله سبحانه وتعالى والوقوف عند محبته والعمل بشريعته وسنته وبإقامة دينه وكتابه واجتنب ما فارق ذلك وخالفه ودعا إلى سخط الله عز وجل‏.‏ واعرف ما يجمع عمالك من الأموال وما ينفقون منها‏.‏ ولا تجمع حراماً ولا تنفق إسرافاً‏.‏ وأكثر مجالسة العلماء ومشاورتهم ومخالطتهم وليكن هواك اتباع السنن وإقامتها وإيثار مكارم الأخلاق ومعاليها‏.‏ وليكن أكرم دخلائك وخاصتك عليك من إذا رأى عيباً لم تمنعه هيبتك من إنهاء ذلك إليك في ستر وإعلامك بما فيه من النقص فإن أولئك أنصح أوليائك ومظاهريك‏.‏ وانظر عمالك الذين بحضرتك وكتابك فوقت لكل رجل منهم في كل يوم وقتاً يدخل فيه بكتبه ومؤامرته وما عنده من حوائج عمالك وأمور الدولة ورعيتك‏.‏ ثم فرغ لما يورد عليك من ذلك سمعك وبصرك وفهمك وعقلك وكرر النظر فيه والتدبر له فما كان موافقاً للحق والحزم فأمضه واستخر الله عز وجل فيه وما كان مخالفاً لذلك فاصرفه إلى المسألة عنه والتثبت منه‏.‏ ولا تمنن على رعيتك ولا غيرهم بمعروف تؤتيه إليهم‏.‏ ولا تقبل من أحد إلا الوفاء والاستقامة والعون في أمور المسلمين ولا تضعن المعروف إلا على ذلك‏.‏ وتفهم كتابي إليك وأمعن النظر فيه والعمل به واستعن بالله على جميع أمورك واستخره فإن الله عز وجل مع الصلاح وأهله‏.‏ وليكن أعظم سيرتك وأفضل رغبتك ما كان لله عز وجل رضاً ولدينه نظاماً ولأهله عزاً وتمكيناً وللملة والذمة عدلاً وصلاحاً‏.‏ وأنا أسأل الله عز وجل أن يحسن عونك وتوفيقك ورشدك وكلاءتك والسلام‏.‏ وحدث الإخباريون أن هذا الكتاب لما ظهر وشاع أمره أعجب به الناس واتصل بالمأمون فلما قرىء عليه قال‏:‏ ما أبقى أبو الطيب يعني طاهراً شيئاً من أمور الدنيا والدين والتدبير والرأي والسياسة وصلاح الملك والرعية وحفظ السلطان وطاعة الخلفاء وتقويم الخلافة إلا وقد أحكمه وأوصى به‏.‏ ثم أمر المأمون فكتب به إلى جميع العمال في النواحي ليقتدوا به ويعملوا بما فيه‏.‏ هذا أحسن ما وقفت عليه في هذه السياسة‏.‏ والله أعلم‏.‏
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:32

الفصل الثاني والخمسون في أمر الفاطمي وما يذهب إليه الناس في شأنه وكشف الغطاء عن ذلك
اعلم أن المشهور بين الكافة من أهل الإسلام على ممر الأعصار أنه لا بد في آخر الزمان من ظهور رجل من أهل البيت يؤيد الدين ويظهر العدل ويتبعه المسلمون ويستولي على الممالك الإسلامية ويسمى بالمهدي ويكون خروج الدجال وما بعده من أشراط الساعة الثابتة في الصحيح عل أثره وأن عيسى ينزل من بعده فيقتل الدجال أو ينزل معه فيساعده على قتله ويأتم بالمهدي في صلاته‏.‏ ويحتجون في هذا الشأن بأحاديث خرجها الأئمة وتكلم فيها المنكرون لذلك وربما عارضوها ببعض الأخبار‏.‏ وللمتصوفة المتأخرين في أمر هذا الفاطمي طريقة أخرى ونوع من الاستدلال وربما يعتمدون في ذلك على الكشف الذي هو أصل طرائقهم‏.‏ ونحن الآن نذكر هنا الأحاديث الواردة في هذا الشأن وما للمنكرين فيها من المطاعن وما لهم في إنكارهم من المستند ثم نتبعه بذكر كلام المتصوفة ورأيهم ليتبين لك الصحيح من ذلك إن شاء الله تعالى‏.‏ فنقول‏:‏ إن جماعة من الأئمة خرجوا أحاديث المهدي منهم الترمذي وأبو داود والبزاز وابن ماجة والحاكم والطبراني وأبو يعلى الموصلي وأسندوها إلى جماعة من الصحابة‏:‏ مثل علي وابن عباس وابن عمر وطلحة وابن مسعود وأبي هريرة وأنس وأبي سعيد الخدري وأم حبيبة وأم سلمة وثوبان وقرة بن إياس وعلي الهلالي وعبد الله بن الحارث بن جزء بأسانيد ربما يعرض لها المنكرون كما نذكره‏.‏ إلا أن المعروف عند أهل الحديث أن الجرح مقدم على التعديل‏.‏ فإذا وجدنا طعناً في بعض رجال الأسانيد بغفلة أو بسوء حفظ أو ضعف أو سوء رأي تطرق ذلك إلى صحة الحديث وأوهن منها‏.‏ ولا تقولن‏:‏ مثل ذلك ربما يتطرق إلى رجال الصحيحين فإن الاجماع قد اتصل في الأمة على تلقيهما بالقبول والعمل بما فيهما وفي الاجماع أعظم حماية وأحسن دفع‏.‏ وليس غير الصحيحين بمثابتهما في ذلك فقد نجد مجالاً للكلام في أسانيدها بما نقل عن أئمة الحديث في ذلك‏.‏ ولقد توغل أبو بكر بن أبي خيثمة على ما نقل السهيلي عنه في جمعه للأحاديث الواردة في المهدي فقال‏:‏ ومن أغربها إسناداً ما ذكره أبو بكر الإسكاف في فوائد الأخبار مسنداً إلى مالك بن أنس عن محمد بن المنكدر عن جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من كذب بالمهدي فقد كفر ومن كذب بالدجال فقد كذب ‏"‏‏.‏ وقال في طلوع الشمس من مغربها مثل ذلك فيما أحسب‏.‏ وحسبك هذا غلواً‏.‏ والله أعلم بصحة طريقه إلى مالك بن أنس‏.‏ على أن أبا بكر الإسكاف عندهم متهم وضاع‏.‏ وأما الترمذي فخرج هو وأبو داود بسنديهما إلى ابن عباس من طريق عاصم بن أبي النجود أحد القراء السبعة إلى زر بن حبيش عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدنيا إلا يوم لطول الله ذلك اليوم حتى يبعث الله فيه رجلاً مني أو من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي واسم أبيه اسم أبي ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ وقال في رسالته المشهورة‏:‏ إن ما سكت عليه في كتابه فهو صالح‏.‏ ولفظ الترمذي‏:‏ ‏"‏ لا تذهب الدنيا حتى يملك العرب رجل من أهل بيتي يواطىء اسمه اسمي ‏"‏ وفي لفظ آخر‏:‏ ‏"‏ حتى يلي رجل من أهل بيتي وكلاهما حديث حسن صحيح‏.‏ ورواه أيضاً من طريق موقوفاً على أبي هريرة‏.‏ وقال الحاكم‏:‏ رواه الثورى وشعبة وزائدة وغيرهم من أئمة المسلمين عن عاصم قال‏:‏ وطرق عاصم عن زرعن عبد الله كلها صحيحة على ما أصلته من الاحتجاج بأخبار عاصم إذ هو إمام من أئمة المسلمين‏.‏ انتهى‏.‏ إلأ أن عاصماً قال فيه أحمد بن حنبل‏:‏ كان رجلاً صالحاً قارئاً للقرآن خيراً ثقة والأعمش أحفظ منه‏.‏ وكان شعبة يختار الأعمش عليه في تثبيت الحديث‏.‏ وقال العجلي‏:‏ كان يختلف عليه في زر وأبي وائل يشير بذلك إلى ضعف روايته عنهما‏.‏ وقال محمد بن سعد‏:‏ كان ثقة إلا أنه كثير الخطإ في حديثه‏.‏ وقال يعقوب بن سفيان‏:‏ في حديثه اضطراب‏.‏ وقال عبد الرحمن بن أبي حاتم‏:‏ قلت لأبي أن أبا زرعة يقول‏:‏ عاصم ثقة فقال‏:‏ ليس محله هذا‏.‏ وقد تكلم فيه ابن علية فقال‏:‏ كل من اسمه عاصم سيىء الحفظ‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ محله عندي محل الصدق صالح الحديث ولم يكن بذلك الحافظ‏.‏ واختلف فيه قول النسائي‏.‏ وقال ابن حراش‏:‏ في حديثه نكرة‏.‏ وقال أبو جعفر العقيلي‏:‏ لم يكن فيه إلا سوء الحفظ وقال
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:32

الدار قطني‏:‏ في حفظه شيء‏.‏ وقال يحيى القطان‏:‏ ما وجدت رجلاً اسمه عاصم إلا وجدته رديء الحفظ‏.‏ وقال أيضاً سمعت شعبة يقول‏:‏ حدثنا عاصم بن أبي النجود وفي الناس ما فيها وقال الذهبي‏:‏ ثبت في القراءة وهو في الحديث دون التثبت صدوق فهم وهو حسن الحديث‏.‏ وإن احتج أحد بأن الشيخين أخرجا له فنقول أخرجا له مقروناً بغيره لا أصلاً‏.‏ والله أعلم‏.‏ وخرج أبو داود في الباب عن علي رضي الله عنه من رواية فطر بن خليفة عن القاسم بن أبي مرة عن أبي الطفيل عن علي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ لو لم يبق من الدهر إلا يوم لبعث الله رجلاً من أهل بيتي يملؤها عدلاً كما ملئت جوراً ‏"‏‏.‏ وفطر بن خليفة وإن وثقه احمد ويحيى بن القطان وابن معين والنسائي وغيرهم إلا أن العجلي قال‏:‏ حسن الحديث وفيه تشيع قليل‏.‏ وقال ابن معين مرة‏:‏ ثقة شيعي‏.‏ وقال أحمد بن عبد الله بن يونس‏:‏ كنا نمر على فطر وهو مطروح لا نكتب عنه‏.‏ وقال مرة‏:‏ كنت أمر به وأدعه مثل الكلب‏.‏ وقال الدار قطني‏:‏ لا يحتج به‏.‏ وقال أبو بكر بن عياش‏:‏ ما تركت الرواية عنه إلا لسوء مذهبه‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ زائغ غير ثقة‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً بسنده إلى علي رضي الله عنه عن هارون بن المغيرة عن عمر بن أبي قيس عن شعيب بن أبي خالد عن أبي إسحاق السبيعي قال‏:‏ قال علي ونظر إلى ابنه الحسين‏:‏ ‏"‏ إن ابني هذا سيد كما سماه رسول الله صلى الله عليه وسلم سيخرج من صلبه رجل يسمى باسم نبيكم يشبهه في الخلق ولا يشبهه في الخلق يملأ الأرض عدلاً ‏"‏‏.‏ وقال هارون‏:‏ حدثنا عمر بن أبي قيس عن مطرف بن طريف عن أبي الحسن عن هلال بن عمر سمعت علياً يقول قال النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من وراء النهر يقال له الحارث على مقدمته رجل يقال له منصور يوطىء أو يمكن لآل محمد كما مكنت قريش لرسول الله صلى الله عليه وسلم وجب على كل مؤمن نصره أو قال إجابته ‏"‏ سكت أبو داود عليه‏.‏ وقال في موضع آخر في هارون‏:‏ هو من ولد الشيعة‏.‏ وقال السليماني‏:‏ فيه نظر‏.‏ وقال أبو داود في عمر بن أبي قيس‏:‏ لا بأس به في حديثه خطأ‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ صدق له أوهام‏.‏ وأما أبو إسحاق السبيعي وإن خرج عنه في الصحيحين فقد ثبت أنه اختلط آخر عمره وروايته عن علي منقطعة وكذلك رواية أبي داود عن هارون بن المغيرة‏.‏ وأما السند الثاني فأبو الحسن فيه وهلال بن عمر مجهولان ولم يعرف أبو الحسن إلا من رواية مطرف بن طريف عنه‏.‏ انتهى‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً عن أم سلمة وكذا ابن ماجة والحاكم في المستدرك من طريق علي بن نفيل عن سعيد بن المسيب عن أم سلمة قالت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ المهدي من ولد فاطمة ‏"‏‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر المهدي فقال‏:‏ ‏"‏ نعم هو حق وهو من بني فاطمة ‏"‏‏.‏ ولم يتكلم عليه بصحيح ولا غيره وقد ضعفه أبو جعفرالعقيلي وقال‏:‏ ‏"‏ لا يتابع علي بن نفيل عليه ولايعرف إلا به ‏"‏‏.‏ وخرج أبوداود أيضاً عن أم سلمة من رواية صالح بن الخليل عن صاحب له عن أم سلمة قال‏:‏ ‏"‏ يكون اختلاف عند موت خليفة فيخرج رجل من أهل المدينة هارباً إلى مكة فيأتيه ناس من أهل مكة فيخرجونه وهو كاره فيبايعونه بين الركن والمقام فيبعث إليه بعث من الشام فيخسف بهم بالبيداء بين مكة والمدينة فإذا رأى الناس ذلك أتاه أبدال أهل الشام وعصائب أهل العراق فيبايعونه‏.‏ ثم ينشأ رجل من قريش أخواله كلب فيبعث إليهم بعثاً فيظهرون عليهم وذلك بعث كلب‏.‏ والخيبة لمن لم يشهد غنيمة كلب فيقسم المال ويعمل في الناس بسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم ويلقي الإسلام بجرانه على الأرض فيلبث سبع سنين ‏"‏‏.‏ وقال بعضهم تسع سنين‏.‏ ثم رواه أبو داود من رواية أبي خليل عن عبد الله بن الحارث عن أم سلمة فتبين بذلك المبهم في الإسناد الأول‏.‏ ورجاله
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 17:33

رجال الصحيحين لا مطعن فيهم ولا مغمز‏.‏ وقد يقال‏:‏ إنه من رواية قتادة عن أبي الخليل وقتادة مدلس وقد عنعنه والمدلس لا يقبل من حديثه إلا ما صرح فيه بالسماع‏.‏ مع أن الحديث ليس فيه تصريح بذكر المهدي نعم ذكره أبو داود في أبوابه‏.‏ وخرج أبو داود أيضاً وتابعه الحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق عمران القطان عن قتادة عن أبي بصرة عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي مني أجلى الجبهة أقنى الأنف يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وجوراً يملك سبع سنين ‏"‏‏.‏ هذا لفظ أبي داود وسكت عليه‏.‏ ولفظ الحاكم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت أشم الأنف أقنى أجلى يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعيش هكذا وبسط يساره وإصبعين من يمينه السبابة والإبهام وعقد ثلاثة ‏"‏ قال الحاكم‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه وعمران القطان مختلف في الاحتجاج به إنما أخرج له البخاري استشهاداً لا أصلاً‏.‏ وكان يحيى القطان لا يحدث عنه‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ليس بالقوي وقال مرة‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ أرجو أن يكون صالح الحديث‏.‏ وقال يزيد بن زريع‏:‏ كان حرورياً وكان يرى السيف على أهل القبلة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال أبو عبيد الأجري‏:‏ سالت أبا داود عنه فقال من أصحاب الحسن وما سمعت إلا خيراً‏.‏ وسمعتة مرة أخرى ذكره فقال‏:‏ ضعيف أفتى في أيام إبراهيم بن عبد الله بن حسن بفتوى شديدة فيها سفك الدماء وخرج الترمذي وابن ماجة والحاكم عن أبي سعيد الخدري من طريق زيد العمي عن أبي صديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال‏:‏ خشينا أن يكون بعض شيء حدث فسألنا نبي الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ إن في أمتي المهدي يخرج يعيش خمساً أو سبعاً أو تسعاً ‏"‏‏.‏ زيد الشاك قال قلنا‏:‏ وما ذاك قال‏:‏ سنين‏!‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيجيء إليه الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ فيحثو له في ثوبه ما استطاع أن يحمله ‏"‏‏.‏ لفظ الترمذي قال‏:‏ هذا حديث حسن‏.‏ وقد روي من غير وجه عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولفظ ابن ماجة والحاكم‏:‏ ‏"‏ يكون في أمتي المهدي إن قصر فسبع وإلا فتسع فتنعم أمتي فيه نعمة لم ينعموا بمثلها قط تؤتي الأرض أكلها ولا يذخر منه شيء‏.‏ والمال يومئذ كدوس فيقوم الرجل فيقول‏:‏ يا مهدي أعطني‏!‏ فيقول خذ‏!‏‏.‏ انتهى‏.‏ وزيد العمي وإن قال فيه الدار قطني وأحمد بن حنبل ويحيى بن معين إنه صالح وزاد أحمد‏:‏ إنه فوق يزيد الرقاشي وفضل بن عيسى إلا أنه قال فيه أبو حاتم‏:‏ ضعيف يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال يحيى بن معين في رواية أخرى‏:‏ لا شيء‏.‏ وقال مرة‏:‏ يكتب حديثة وهو ضعيف‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ متماسك وقال أبو زرعة‏:‏ ليس بقوي واهي الحديث ضعيف‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بذاك وقد حدث عنه شعبة‏.‏ وقال النسائي‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ عامة ما يرويه ومن يروي عنهم ضعفاء على أن شعبة قد روى عنه ولعل شعبة لم يرو عن أضعف منه‏.‏ وقد يقال أن حديث الترمذي وقع تفسيراً لما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر أمتي خليفة يحثو المال حثواً‏.‏ لا يعده عداً ‏"‏‏.‏ ومن حديث أبي سعيد قال‏:‏ ‏"‏ من خلفائكم خليفة يحثو المال حثواً ‏"‏‏.‏ ومن طريق أخرى عنهما قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان خليفة يقسم المال ولا يعده ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وأحاديث مسلم لم يقع فيها ذكر المهدي ولا دليل يقوم على أنه المراد منها‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق عوف الأعرابي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ‏"‏‏.‏ وقال فيه الحاكم‏:‏ هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
محمد منسى
المدير العام™
المدير العام™
محمد منسى


نشاط العضو نشاط العضو : 5911

تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Empty
مُساهمةموضوع: رد: تاريخ ابن خلدون   تاريخ ابن خلدون - صفحة 3 Emptyالأحد 4 مايو 2008 - 20:47

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لا تقوم الساعة حتى تملأ الأرض جوراً وظلماً وعدواناً ثم يخرج من أهل بيتي رجل يملأها قسطاً وعدلاً كما ملئت ظلماً وعدواناً ‏"‏‏.‏ وقال فيه الحاكم‏:‏ هذا صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه‏.‏ ورواه الحاكم أيضاً من طريق سليمان بن عبيد عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يخرج في آخر أمتي المهدي يسقيه الله الغيث وتخرج الأرض نباتها ويعطي المال صحاحاً وتكثر الماشية وتعظم الأمة يعيش سبعاً أو ثماني ‏"‏‏.‏ يعني حججاً‏.‏ وقال فيه حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه‏.‏ مع أن سليمان بن عبيد لم يخرج له أحد من الستة لكن ذكره ابن حيان في الثقات ولم يرد أن أحداً تكلم فيه‏.‏ ثم رواه الحاكم أيضاً من طريق أسد بن موسى عن حماد بن سلمة عن مطر الوراق وأبو هارون العبدي عن أبي الصديق الناجي عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ تملأ الأرض جوراً وظلماً فيخرج رجل من عترتي فيملك سبعاً أو تسعاً فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ‏"‏‏.‏ وقال الحاكم فيه‏:‏ هذا حديث صحيح على شرط مسلم وإنما جعله على شرط مسلم لأنه أخرج عن حماد بن سلمة وعن شيخه مطر الوراق‏.‏ وأما شيخه الآخر وهو أبو هارون العبدي فلم يخرج له‏.‏ وهو ضعيف جداً متهم بالكذب ولا حاجة إلى بسط أقوال الأئمة في تضعيفه‏.‏ وأما الراوي له عن حماد بن سلمة وهو أسد بن موسى ويلقب أسد السنة وإن قال البخاري‏:‏ مشهور الحديث واستشهد به في صحيحه واحتج به أبو داود والنسائي إلا أنه قال مرة أخرى‏:‏ ثقة لو لم يصنف كان خيراً له‏.‏ وقال فيه محمد بن حزم‏:‏ منكر الحديث‏.‏ ورواه الطبراني في معجمه الأوسط من رواية أبي الواصل عبد الحميد بن واصل عن أبي الصديق الناجي عن الحسن بن يزيد السعدي أحد بني بهدلة عن أبي سعيد الخدري قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول‏:‏ ‏"‏ يخرج رجل من أمتي يقول بسنتي ينزل الله عز وجل له القطر من السماء وتخرج الأرض بركتها وتملأ الأرض منه قسطاً وعدلاً كما ملئت جوراً وظلماً يعمل على هذه الأمة سبع سنين وينزل على بيت المقدس ‏"‏‏.‏ وقال الطبراني فيه ورواه جماعة عن أبي الصديق ولم يدخل أحد منهم بينه وبين أبي سعيد أحداً ا إلا أبا الواصل فإنه رواه عن الحسن بن يزيد عن أبي سعيد‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحسن بن يزيد ذكره ابن أبي حاتم ولم يعرفه بأكثر مما في هذا الإسناد من روايته عن أبي سعيد ورواية أبي الصديق عنه‏.‏ وقال الذهبي في الميزان إنه مجهول‏.‏ لكن ذكره ابن حبان في الثقات‏.‏ وأما أبو الواصل الذي رواه عن أبي الصديق فلم يخرج له أحد من الستة‏.‏ وذكره ابن حبان في الثقات في الطبقة الثانية وقال فيه‏:‏ يروي عن أنس وروى عنه شعبة وعتاب بن بشر‏.‏ وخرج ابن ماجة في كتاب السنن عن عبد الله بن مسعود من طريق يزيد بن أبي زياد عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله قال‏:‏ بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ أقبل فتية من بني هاشم فلما رآهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذرفت عيناه وتغير لونه قال فقلت ما نزال نرى في وجهك شيئاً نكرهه فقال‏:‏ إنا أهل البيت اختار الله لنا الأخرة على الدنيا وإن أهل بيتي سيلقون بعدي بلاء وتشريداً وتطريداً حتى يأتي قوم من قبل المشرق معهم رايات سود فيسألون الخير فلا يعطونه فيقاتلون وينصرون فيعطون ما سألوا فلا يقبلونه حتى يدفعوها إلى رجل من أهل بيتي فيملأها قسطاً كما ملؤوها جوراً‏.‏ فمن أدرك ذلك منكم فليأتهم ولو حبوا على الثلج‏.‏ انتهى‏.‏ وهذا الحديث يعرف عند المحدثين بحديث الرايات‏.‏ ويزيد بن أبي زياد راوية قال فيه شعبة‏:‏ كان رفاعاً يعني يرفع الأحاديث التي لا تعرف مرفوعة‏.‏ وقال محمد بن الفضيل‏:‏ كان من كبار أئمة الشيعة‏.‏ وقال أحمد بن حنبل‏:‏ لم يكن بالحافظ وقال مرة‏:‏ حديثه ليس بذلك‏.‏ وقال يحيى بن معين‏:‏ ضعيف‏.‏ وقال العجلي‏:‏ جائز الحديث‏.‏ وكان بآخره يلقن‏.‏ وقال أبو زرعة‏:‏ لين يكتب حديثه ولا يحتج به‏.‏ وقال أبو حاتم‏:‏ ليس بالقوي‏.‏ وقال الجرجاني‏:‏ سمعتهم يضعفون حديثه‏.‏ وقال أبو داود‏:‏ لا أعلم أحداً ترك حديثة وغيره أحب إلي منه‏.‏ وقال ابن عدي‏:‏ هو من شيعة أهل الكوفة ومع ضعفه يكتب حديثه‏.‏ وروى له مسلم لكن مقروناً بغيره‏.‏ وبالجملة فالأكثرون على ضعفه‏.‏ وقد صرح الأئمة بتضعيف هذا الحديث الذي رواه عن إبراهيم عن علقمة عن عبد الله وهو حديث الرايات‏.‏ وقال وكيع بن الجراح فيه‏:‏ ليس بشيء‏.‏ وكذلك قال أحمد بن حنبل‏.‏ وقال أبو قدامة‏:‏ سمعت أبا أسامة يقول في حديث يزيد عن إبراهيم في الرايات لو حلف عندي خمسين يميناً قسامة ما صدقته أهذا مذهب إبراهيم أهذا مذهب علقمة أهذا مذهب عبد الله‏!‏ وأورد العقيلي هذا الحديث في الضعفاء‏.‏ وقال الذهبي‏:‏ ليس بصحيح‏.‏ وخرج ابن ماجة عن علي رضي الله عنه من رواية ياسين العجلي عن إبراهيم بن محمد بن الحنفية عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ المهدي منا أهل البيت يصلح الله به في ليلة ‏"‏‏.‏ وياسين العجلي وإن قال فيه ابن معين ليس به بأس فقد قال البخاري‏:‏ فيه نظر‏.‏ وهذه اللفظة من اصطلاحه قوية في التضعيف جداً‏.‏ وأورد له ابن عدي في الكامل والذهبي في الميزان هذا الحديث على وجه الاستنكار له وقال هو معروف به‏.‏ وخرج الطبراني في معجمه الأوسط عن علي رضي الله عنه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم أمنا المهدي أم من غيرنا يا رسول الله فقال‏:‏ ‏"‏ بل منا بنا يختم الله كما بنا فتح وبنا يستنقذون من الشرك وبنا يؤلف الله بين قلوبهم بعد عداوة بينة كما بنا ألف بين قلوبهم بعد عداوة الشرك ‏"‏‏.‏ قال علي‏:‏ أمومنون أم كافرون قال‏:‏ ‏"‏ مفتون وكافر ‏"‏‏.‏ انتهى‏.‏ وفيه عبد الله بن لهيعة وهو ضعيف معروف الحال‏.‏ وفيه عمر بن جابر الحضرمي وهو أضعف منه‏.‏ قال أحمد بن حنبل‏:‏ روي عن جابر مناكير وبلغني أنه كان يكذب وقال النسائي‏:‏ ليس بثقة وقال كان ابن لهيعة شيخاً أحمق ضعيف العقل وكان يقول‏:‏ ‏"‏ علي في السحاب ‏"‏ وكان يجلس معنا فيبصر سحابة فيقول‏:‏ ‏"‏ هذا علي قد مر في السحاب ‏"‏‏.‏ وخرج الطبراني عن علي رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏ يكون في آخر الزمان فتنة يحصل الناس فيها كما يحصل الذهب في المعدن‏.‏ فلا تسبوا أهل الشام ولكن سبوا أشرارهم فإن فيهم الأبدال يوشك أن يرسل على أهل الشام صيب من السماء فيفرق جماعتهم حتى لو قاتلتهم الثعالب غلبتهم‏.‏ فعند ذلك يخرج خارج من أهل بيتي في ثلاث رايات المكثر يقول هم خمسة عشر ألفاً والمقلل يقول هم اثنا عشر ألفاً وأمارتهم ‏"‏ أمت أمت ‏"‏ يلقون سبع رايات تحت كل راية منها رجل يطلب الملك فيقتلهم الله جميعاً ويرد الله إلى المسلمين ألفتهم
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
تاريخ ابن خلدون
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 3 من اصل 20انتقل الى الصفحة : الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4 ... 11 ... 20  الصفحة التالية
 مواضيع مماثلة
-
» تاريخ عيد الحب
» تاريخ الخلفاء الراشدين
» موسوعة تاريخ مصر
» تاريخ عمرو دياب
» لمحة عن تاريخ "السيسي" في أمريكا

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
ALL-UP ::  القسم العام :: المنتدى المفتوح-
انتقل الى: