سعـــاد
صفحة 1 من اصل 1 • شاطر
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
inShare
سعـــاد
سعـــاد
– الفصل الأول –
رعد وعاصفة ، والمطر ينهمر كشلال من السماء والبيت الجبلي الصغير يتلقى غضب الطبيعة بأناة وصبر… فداخل جدرانه عاصفة هوجاء أشد خطراً وأكثر تدميراً.
وفجأة يتوقف المطر ويتعالى صراخ في غرفة النوم في المنزل الصغير، وتخرج القابلة إلى صالة البيت حيث يجلس صاحبه مع بعض القريبات من النساء فتتقدم منه باستحياء وخوف قائلة:
– الف مبروك يا أبو أسعد مثل القمر، الوالدة والمولودة بخير وعقبال أسعد قريبا.
واكفهر وجه الزوج وبقية الوجوه حوله، وتوارت القابلة بسرعة إلى غرفة النوم وصراخ المولوده يملأ أرجاء البيت الحزين لقدومها، وصفير الهواء يلهو بأغصان الأشجار فيبدو بكاء وعويلاً.
ينهض أبو أسعد وكابوس النبأ على كتفيه كصخرة صلبة يمشي متحاملاً إلى غرفة نومه ليهنئ زوجته بقيامها بالسلامة… دون أن ينظر ولو بلمحة إلى كتلة اللحم التي ترقد بقربها، وقلبه الحزين يلعن ويجدف… فكم تمنى على الله أن يمنحه ولداً… عشرون عاما من الانتظار والدعاء… عشرون عاما من اللهفة كلما توعكت صحة زوجته أو مرضت متوهمة أنه حمل… سرعان ما يظهر بطلانه حتى توفت زوجته الأولى وبقي لسنوات أرملا، زاهدا بالحياة راضيا بما قسم الله له منها. حتى ظهرت سنية في حياته، أرملة تصغره بسنوات عدة وصديقة لأخته الصغرى جورجيت، وتضافرت جهود أخواته وعجائز العائلة على إقناعه بأمنية تداعب قلبه سرا، يندها خوفا من تجربة أليمة ثانية تحرمه الزوجة وتضن عليه بالوريث.
ودب الشباب بالجسد الواهي ليضاهي حيوية عروسه وشبابها.. وصدق حدسه واستجاب الله لدعائه… فجن فرحا حين علم بحمل سنية فقدوم أسعد أصبح واقعاً وستعوضه الأيام حرمان الأبوة دهرا كاملا… وسنية تحولت إلى أم أسعد كما كان الجميع ينادون زوجته الأولى… ولكن حكمة الله أرادت له أن يرزق بالبنت أولا… وسمّى الطفلة سعاد متمنيا بأن يتبعها أسعد…
ومر عام وآخر وأبو أسعد يترقب لحظة تبشره زوجته فرحا بترقب طفل… او حتى بحمل كاذب وهي تعيد إلى آماله المتلاشية كعمره واقعا بأن مسبحة الأيام تكر بين أنامله المعروقة إلا من حبة ملكت قلبه… سعاد.
وكبرت سعاد وهي ما تزال طفلة غراء تملكها هاجس بفطرة الطفولة بأنها جاءت إلى دنيا العذاب عنوة، رغم إرادة أمها أو رغبة أبيها فهي الملومة إذ خذلته لكونها بنت وزرعت قلبه غابة موحشة تمتد أغصانها العارية لتكسو وجهه بخطوط محفورة بالخذلان والخيبة ونظراته المتداعية الكسيرة تنظر دائما إلى البعيد المجهول، حتى في تلك اللحظات الحنونة الرائعة وحبه الأبوي الجارف يغسل الحزن عن قلبها الصغير وذراعيه الهزيلتين تحتويانها بوهن وضعف. وهي ببراءة الطفولة تربت على خده وتضمه تقبيلا واعدة إياه بأن تصبح في الغد ولداَ… فتكسو ملامح وجهه ابتسامة يائسة خجولة فيربت على وجهها بحنان ودمعة عينيه تحرق قلبها الحزين.
وتعلقت سعاد بأبيها كتعلقه بها مغدقا عليها من كنوز الحنان والحب التي اختزنها طيلة سنوات الجفاف والعقم، فتهرع عند عودته كي تساعده على خلع حذائه وإحضار كل ما يحتاجه… ثم تحشر نفسها بقربه في مقعده أو تجلس على ركبتيه كي ترفه عنه وتؤنس وحشته… وقلبها الصغير يمتص هموم العجز والهرم، فتخلد على سريرها الصغير في غرفة تشاركها بها عمتها مريم عند قدومها من ( تربل ) والمبيت عندهم من حين لآخر، فتركع سعاد عند قائمة السرير وتضم كفاها بخشوع وعيناها شاخصتان إلى صورة مريم العذراء تحضن السيد المسيح وتصلي والدموع تنهمر من عيني طفلة عرف قلبها الحزن والهم وهي تتضرع بخشوع كي تتحول إلى صبي يسعد قلب والدها الحزين ويعيد إلى وجهه الطمأنينة والأمل. وتنام بعد أن ينهكها البكاء فترى نفسها في أحلامها وقد تحولت الى صبيا، يسمع صوت أبيه الجهوري يناديه بفخر واعتزاز… أسعد … تعال يا بني وأحمل بعدي سيرة آبائي وأجدادي.! وترى نفسها ( أسعد ) وهو يجري مع والده في القرية يحيي الرجال كما يفعل والده واضعا يده في بنطاله كالرجال ، وعند منعطف يهرع إلى شجرة وينزل بنطاله كي يبول… كما كان يفعل أبو أسعد وكما كانت تفعل هي نفسها في حمام المنزل سرا.
ودرات فصول السنة حتى جاء فصل البرد والمطر، والشتاء في قرية كفر حنا القابعة على سفح الجبل تعرضها كمثيلاتها من القرى في الشمال اللبناني لتقلبات في الجو تجعلها كالريشة تعصف بها الرياح وتضربها الصواعق والأمطار. وتذكر أبو أسعد شتاء مماثلا منذ عشرين عاما أو يزيد حين اضطر الجميع ملازمة البيت لأكثر من أسبوع والثلوج تتساقط والهواء الذي يقطع الصخر يقتلع الأخضر واليابس والسحاب القاتم يخيم على القرية ليمتزج ببياض السهل والجبل.
وكان هو ورجال القرية وشبابها يتحدَّون العواصف والثلوج لإنقاذ ما يمكن إنقاذه من محصول القرية أو لتوزيع الحطب والمؤن على سكان القرية الصغيرة وعاد أبو أسعد وبين ذراعيه كومة من الحطب والرطب وعظام جسده المبلل الواهي تصطك وترتجف، وهرعت سعاد وهي تتعثر بخطاها كي تحمي كهولته وتحتويه بذراعيها الدافئتين وقلبها المفعم بالحب والحنان، فابعدتها أمها بقسوة مرددة كلمات، أصبحت محفورة في قلب الصغيرة كالوشم.
– أتركيه لهمه… لو كنت صبيا ما قام والدك بأعمال تهد حيله تقصر عمره.
وانزوت سعاد في غرفتها ككل ليلة تبكي وهي جاثمة تصلي قرب سريرها قبل أن تأوي إلى فراشها بأن يبزغ صباح الغد وقد تحولت ولدا يفرح قلب أبيها ويفرج عنه هموماً سكنت فؤاده وجسده. وما أن سكن النوم جفن الصغيرة حتى سمعت لغطا وحركة في باحة الدار امتزج بالبرق يكاد يخترق الأسقف والجدران وهي تهتز وكأن حجارة السماء تتساقط مع قوة وتكرار الرعد. فقفزت من سريرها وأسنانها تصطك من البرد بعد حنان ودفئ الفراش لتستطلع الأمر. وما أن فتحت باب غرفتها حتى زجرتها عمتها مريم بقسماتها الصارمة.
مريم – ماذا تفعلين في هذا الوقت من الليل – عودي إلى فراشك.
سعاد – ماذا حصل – حتى حضر الجميع إلى بيتنا.
مريم – والدك مريض والطبيب عنده الآن – عودي إلى غرفتك حالا.
سعاد – ولكني أود أن أراه.
مريم – ليس هذا وقت الدلع الآن … عودي إلى فراشك وسأناديك لتجلسي قرب والدك بعد أن يذهب الجميع.
ومات أبو أسعد في الساعات الأولى من صباح ذاك اليوم الرمادي والسماء تزأر برعد وبرق لتقتلع السعادة من ذاك المنزل وتهز أركان بيوت القرية والهادئة القابعة على سفح الجبل الشامخ.
وتيتمت طفلة السبع سنين وقلبها الصغير الذي حرم حنان الأم وحبها كبر و شاخ لذنب لم تقترفه، وإثم فرضه واقع كونها فتاة لم تستطع رغم الحب والحنان أن تسعد قلب أبيها في حياته أو بعد مماته، بأنه ترك بعده ولدا يحمل اسمه ويرعى أرضه واهله، وتحملت والجرح يكبر في قلبها سباب أمها وتجريحها وإيلامها حتى تأصل في قلب سعاد شعور بأن الله يعاقبها فعلا فلا يستجيب لدعائها وصلاتها ويحرمها من الأب الحنون الذي أحبته وحده وشعرت في كنفه بالأمان والاطمئنان.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل الثاني –
وتعاقبت الشهور وسعاد تزداد بعدا عن عطف وحنان أمها يوما بعد يوم ولحظة بعد أخرى، ولا تجد سعاد في البيت بعد عودتها من المدرسة سوى الجلوس على مقعد أبيها في الصالة، تتذكر تلك السويعات الجميلة وهي تربض بين أحضانه كالقطة الأليفة، تستمد من المقعد وهو يحتويحا بين خشبه الصامت بدافع يحثها على الاستمرار، يمدها بالقوة على مواجهة متغيرات جديدة طرأت على حياتها، على تصرف أمها، ولم يمض على موت أبيها سنة واحدة. كانت أمها ومنذ موت أبو أسعد تتشح بالسواد من قمة رأسها بشعرها الأسود الطويل حتى أخمص قدميها. ولكن منذ أشهر بدأ لون الشعر يتغير والثوب الأسود يتبدل بألوان زاهية والوجه الأبيض المائل للاصفرار يطلي بالابيض والأحمر. وكان سبب هذا التغيير التدريجي العم إلياس، أحد معارف والدها المتوفي الذي أخذ يتحوذ على قلب وعقل أمها من ناحية وعلى رفض وكراهية سعاد التي لم تسامح أمها على خيانة ذكرى زوجها – ذلك الرجل الطيب الذي دفنته منذ عام أو يزيد وأحلت في قلبها وبيته رجلاً غريبا… جاء ليعيش معهما في البيت وفي غرفة والدها المتوفي بعد احتفال مختصر في كنيسة القرية.
واصبح للبيـت سيد جديد، والدموع على سيده القديم لم تجف بعد، وتناست سنية ( أم أسعد ) أن لها ابنة ما زالت تبحث عن أمومة ضائعة في قلب امرأة وهبت نفسها ومالها لرجل ضخم كالثور استولى على البيت وأهله وهي سعيدة تستعيد به ومعه شبابا دفنته مع رجل كبرها بأهوام كثيرة ، فأخذت تبهره بعطائها وزينتها ودلالها حتى أصبح السيد المطلق لا يرد له طلب أو أمر. وتزداد سعاد انزواء وهروبا وتزداد جروحها إيلاما كلما وجدته يجلس على مقعد والدها ، يدنسه بالكراهية والخيانة.
تخرج إلى المدرسة باكرا تمشي الهوينى ، تتقاذف الحصى بقدمها الصغيرة وتغيب عما حولها بأفكار وصور وتتذكر سعاد حين التحقت بمدرسة القرية بعد أن تعدت السادسة من عمرها بعدة اشهر تمشيا مع قاعدة عدم قبول الطلبة دون سن السادسة أو قبلها بشهرين على الاكثر. واحست سعاد منذ لقائها بأقرانها من الطلبة والطالبات ، إذ كانت الدراسة مختلطة في سني الابتدائي الأولى بأنها تكبرهم بأعوام عدة فلا لعب الفتيات يستهويها ولا ألعابهم الناعمة الخجولة تستنفذ طاقة الكراهية والحقد المترسخة في أعماقها منذ نعومة أظفارها. فانجرفت في اللعب مع الأولاد في ألعابهم الخشنة المتهورة، تتسلق معهم سور المدرسة لتعاكس الصبية في الشارع وتتبارى معهم في الجري وكرة القدم في ساحة المدرسة، لا تأبه بتغامز الفتيات عليها لإصرارها على مخالطة الأولاد والإصرار على لبس البنطلون تحت مريول المدرسة بل تفرح كلما نادينها ” بحسن صبي ” لعنفها في اللعب ومشاكستها للجميع.
بعد الأسابيع الاولى في المدرسة اصبح لسعاد هيبة وسلطة يهابها الصغار من الفتيات والصبية ويقرب إليها الكبار منهم. عندها أخذت تنفذ فكرة استحوذت على تفكيرها منذ أمد طويل، فاهملت اللعب مع الاولاد واخذت تتقرب من الفتيات في لعبهن الناعم كالأكس والقفز بالحبال والاستغماية التي كانت اللعبة المفضلة لصغار الفتية والفتيات، وفرحت الفتيات صغارهن وكبارهن باشتراك سعاد معهن باللعب وحمايتهن من تحرش الصبية ومشاكستهم. وجاءت فرصة تنفيذ فكرتها في فسحة ذاك الصباح بعد ان اقنعت بعضهم في مرات سابقة بالاخباء في حمام المدرسة هربا من المطر المتساقط من أغصان الأشجار والجدران ولجعل لعبة الاستغماية أكثر إثارة وصعوبة. واخذت معها سامي وليلى للاختباء معها في الحمام وهناك طلبت منهما بمكر أن ينزلا سروالهما بحجة اقنعتت الطفلين ببراءة مطلبها. وتأكدت سعاد شواهد ثابت بأنها أنثى. وما الذكروة إلا قطعة لحم صغيرة متدلية من جسم سامي أو غيره من الذكور وهي لا تملك ان تحظى بحب أمها القاسية أو سعادة ابيها الطيب إلا بمعجزة تحولها من أنثى ضعيفة الى ذكر قوي. ولكن ما جدوى كل ذلك الآن وقد ذهب الحنان مع ذهاب والدها الغالي ولم يبقى لها إلا الكراهية والإهمال من أمها وزوجها الذي ازدادت كراهيتها له وبعدا عن أمها وبيتها بسببه. تعود من المدرسة مكرهة إلى جحيم المنزل فتنزوي في غرفتها أو تساعد أمها من وقت لآخر في شؤون اليبت كي تخلو بها وتتقرب إليها فلربما شعرت بحاجة الابنة لحب الأم وحنانها. والأم لاهية عن الابنة التوَّاقة لحنانها بأمور زوجها وبيتها همومها التي تكشو؟؟ وجهها بسحابات من الحزن والألم المكبوت يفضح بعض ما تسمعه سعاد من نقاش يدور في الغرفة المجاروة يتحول إلى صراخ يزمجر في أركان اليبت كالرعد العاصف ما يلبث ان يخبو يعود للبيت هدوءه، فتتسحب سعاد خلسة في الظلام إلى كرسي والدها المتوفي لتتكوم فيه وتضم ركبتيها إلى صدرها الحزين وهي تهز جسدها الصغير يهتز كريشة في مهب الريح.
ودخلت سعاد إلى غرفتها وجسدها المنهك من تنظيف البيت والدراسة يتسجدي النوم والراحة، وعيناها معلقتان في سقف الحجرة بخيالات طفولة حزية، وصلوات غبية لا جدوى منها، ومكرها مع ليلى وسامي لتكتشف سر الذكورة والأنوثة ومشاكستها لجميع الصبية الأقوياء وهي فتاة، بنت ضعيفة كبقية البنات، وحزينة كأمها المكسورة الجناح… وعلا الصراخ في ارجاء البيت فجأة. الأم تصرخ وزوجها يزمجر كالرعد وسعاد ترتجف خوفا في زاوية السرير… وما أن عاد إلى البيت هدوءه حتى انسلت سعاد إلى الصالة في الظلام لتستمد من مقعد والدها بعض الحنان والصبر. وما أن رمت بنفسها على الكرسي حتى رأت نور باهت يتسرب من خلال الستائر المنسدلة أمامها وقد تكومت في مقعد والدها، وما أن أحست الأم بابنتها تحت احتوتها بين ذراعيها وهي تضع كفها على فم سعاد خوفا من أن يصدر منها صوتا أو صراخ. وفوجئت الاثنتنان بذاك الموقف الذي جمعهما في لحظة صفاء وحنين ، فامسكت بيد امها ودخلت معها إلى غرفتها وأضاءت النور الخافت قرب السرير والأم تمسح بكفها الدموع المنهمرة على وجهها … وتجهش نواح خافت يكب ثورة وبركانا.
وصرخت سعاد والذهول يتملك عقلها لحالة الانهيار والخنوع التي رأتها على وجه أمها الحزين.
سعاد – ما الذي حدث… هل تشكين من علة …؟
واسرعت الأم تقفل الباب وهي ترجو ابنتها قائلة:
الام – اخفضي صوتك يا ابنتي أرجوك … تعالي واجلسي هنا بقربي.
وتقدمت سعاد لتجلس قرب والدتها على حافة السير… حينئذ رات الخطوط الحمراء تعلو خدي أمها وذراعيها العاريتين، فاتقدت نار الغضب في قلبها الصغير وصرخت في ذهول:
سعاد – أيضربك هذا الوحش ، كيف تسكتين وتخضعين ، ساقتله لو امتدت يده عليك مرة أخرى.
امسكت الأم بجسد سعاد الثائر واحتضنتها وهي تهمس:
الأم – هس، سوف يسمعك ويصدعك بمطرقة كفيه كما يفعل بي، فهو جبار ظالم، وقلبه لا يعرف الرحمة.
وسكنت سعاد بين الذراعين المرتعشتين، وأحست بضعف أمها وهشاشة الصورة العالقة في ذهنها عن الأم القاسية الظالمة… لم تنس سعاد حتى في تلك اللحظة الأحاسيس المتناقضة تجاه أمها الخائفة المرتعشة… لكنها وفي قرارة نفسها شعرت بضآلة وانكماش حتى أضحت نملة تافهة يدوسها ذلك الوحش بحذائه أو يضرب أمها بكفه الغليظة وهي ملتصقة بالأرض لا حول لها ولا قوة لا تستطيع حماية نفسها أو ذود الضرر عن أمها المهانة.
وانبرت سعاد قائلة:
سعاد – فليترك بيتنا إذا ، ويريحنا من همه وغمه، فنحن وبفضل الرب ووالدي لسنا بحاجة إليه.
الأم – ومن بعده من يحميني وإياك، سيأكلنا أهل القرية، الاقرباء قبل الغرباء فهو الذي نحتمي به ويصد عنا الكلاب والذئاب.
سعاد – لكنه الذئب.. هو بعينه.
الأم – الذئب يا ابنتي، مهما جاع لا يأكل لحم أهله وعياله.
وشعرت سعاد بخنجر الماضي ينغرس في قلبها من جديد، فهي بنت… شعيفة نملة تافهة لم تستطع أن تسعد قلب ابيها وتبعد عنه الهم والموت… ولا تستطيع الآن حماية أمها والذود عنها وقالت بانكسار ظاهر:
سعاد – ماذا يريد منك… أعطه ما يريد.
الأم – انك صغيرة يا ابنتي، يكفي ما تحملين في قلبك فغدا تكبرين وتعرفين الحياة.
وتعلقت سعاد بعنق أمها تقبلها بشوق عمر من اللهفة وقالت لها بصدق:
سعاد – سامحيني إن كنت سبب تعاستك يا أماه ولكن أعدك بأن لا أدع أحدا يؤذيك أبداً….
واحتضنتها أمها وشملتها بنظرة إشفاق عابرة وقالت معترضة:
الأم – اذهبي إلى فراشك الآن.. فالسهر كل ليلة في الصالة لن يعيد الغياب والأحباب – ورجائي أن لا تذكري لعمك إلياس من حديثنا شيئا، والأفضل ان تنسي ما قلتِه أو قلتُه في لحظة غضب.
جلست سعاد في فراشها ورائحة أمها وصوت نحيبها ودموعها تتفجر من حوائط الغرفة بتمازج غريب ونظرات أمها التعيسة ترمقها من سقف الحجرة كأنها تحملها وزر شقائها مع هذا الرجل – فلو كانت ولداً لما تحملت عنف هذا الوحش وقسوته. وانهمرت بالدموع من عيني سعاد تشهق ببكاء خافت مكبوت وبقلبها وضمة من حب جارف لأمها ونظرات والدها تطل عليها من الحائط بعينيه الواسعتين وابتسامته الحانية لتملأ المكان بحضورة القوي حباً وحناناً ومباركة للألفة بين الأم وابنتها يزداد النشيج والبكاء فتحضن سعاد الوسادة تبللها بدموعها وتبثها آهاتها حتى مطلع النهار.
وعادت الحياة في البيت الريفي إلى سابق عهده وكأن تلك اللحظات الخالدة من التقارب بين سعاد وأمها كانت من الحلم فقط، وكم حاولت سعاد الرجوع بأمها إلى تلك اللحظات ومعين العطف والحب الذي شعرت به، لكن برود الأم كان يبتعد بها خطوات كلما اقتربت سعاد خطوة، حتى اقتنعتبان؟؟ ما حدث في تلك الليلة من تواصل وحب بينها وبين أمها لم يكن سوى أحلام فقط.
ولم يغب عن سعاد تقارباً خفياً جميع الاثنين، أمها وعمها إلياس برباط جديد، أضفى على البيت جواً من الفرح والسعادة. فتقوم أمها في الصباح متعكرة المزاج تتقيأ تارة او تلح في طلب بعض أصناف الطعام تارة، والزوج السعيد، لا يرفض لها طلباً خوفاً من أن يظهر الوحم على جسد الطفل او وجهه، وسعاد لاهية بدروسها وامتحانات نهاية العالم الدراسي على الأبواب.
ومرت الإجازة الصيفية كأنها أيام فصار وسعاد تلاحظ انتفاخ بطن أمها وازدياد وزن عمها إلياس… وانشغالهما بالطفل القادم والاستعداد له. فالطفل بالنسبة لسنية تذكرة للأمان والاستقرار مع الزوج الشرس الذي تحول ظاهريا إلى حمل وديع، أما بالنسبة له فكان إثبات رجولة وشباب.
وكانت سعاد تقوم بكثير من أعمال البيت أو تخرج إلى السوق لإحضار بعض المشتروات، فتهرع فرحة حين ترسلها أمها للشراء لتلقى اترابها أو لتتواعد معهم على اللقاء أثناء غياب عمها ونوم أمها.
وكان الصبية والفتيات يتجمعن خلف البيوت أو في الساحة القريبة، فيتبارى الكبار منهم بتسلق الأشجار والاستيلاء على صغار العصافير المعششة بين الأغصان الوارفة الظلال. ويلعب الآخرون بكرة القدم أو بطائرات من ورق صنعوها من المجلات والجرائد القديمة والدفاتر الملونة. أما الفتيات فيتجمعن للعب في الاكس والقفز على الحبل أو لتشجيع الأولاد في ألعابهم ومغامراتهم الصبيانية التي كانت سعاد تشاركهم بها في معظم الأحيان. وتطل أمها من النافذة الخلفية وتزجها بهلع قائلة:
الأم – ادخلي قبل أن يعود عمك إلياس ويقطع رجليك، الم ينبهك ألف مرة بعدم الخروج – كل الفتيات دخلن بيوتهن وأنت تلعبين وتتنططين… عاملة حالِك ولد، لا نافعة بنت ولا نافعة ولد.
فتطأطئ سعاد راسها وقهقهة الصبية والفتيات تملأ أذنيها وتدخل إلى غرفتها لتلعق جرح قلبها النازف وتكتم جرح جسدها الذي ألمه ضربة كرة طائشة أو غصن أهوج اصاب صدرها. فيتملكها الحزن والاكتئاب لأيام فتلزم البيت وتقوم بأشغال مضنية من تنظيف وغسل وكي لتستنفذ طاقة جسدها وحين يهدها التعب تخلو إلى نفسها مع كتاب من كتبها المدرسية او قصاصات أوراق وكتب قديمة من درج والدها. أو تخرج إلى قن الدجاج في حديقة المنزل فتغير الماء في الأوعية وترش لهم الحب فتتراكش الدجاجات بتدافع لتلتقط الحب… ويأتي الديك متهادياً في مشيته كالملك فتتقهقر الدجاجات تفسحن له الطريق – وتقول سعاد في سرها… إنه الذكر… يسود ويحكم حتى بين الدجاج… وأنا دجاجة أضع على رأسي عرف ديك مزيف.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل الثالث –
رزقت سنية بطفل ملأ البيت صراخاً وبهجة وسمي باسم ثناني هو سليم أسعد، سليم تيمناً باسم والد إلياس وأسعد إرضاء لسنية التي عرف بام أسعد منذ زواجها الأول في القرية كلها. فرحت العائلة بقدوم أسعد الصغير حتى عمات سعاد فرحن بقدوم أسعد بطريقتهن الخاصة، أما سعاد فكان فرحها ممزوج بالغصة والألم لكون أسعد قد جاء ليسعد قلباً غير قلب ابيها المسكين.
وانشغلت الأم بطفلها الجديدن وانشغل ابو سليم باصدقائه القدامى والسهر معهم حتى الفجر…. يعود ورائحة الخمر تفوح منه – فينطلق بالسباب والصراخ كسابق عهده… ثم يهدأ البيت إلا من صوت نشيج أمها الخافت أو صراخ سليم الذي أفزعته الأنوار والضجيج. وسعاد بعيدة كل البعد عما يدور حولها وكانها ألفته حتى صمت آذانها عنه… فشتائم زوج أمها وصراخه أصبح جزءا من انسدال الليل أو صياح الديك عند بزوغ الفجر… وبكاء اسعد في بهيم الليل أو مع طلوع الشمس اضحى لحناً من ألحان الطبيعة كتدافع العصافير مزقزقة إلى أعشاشها هرباً من هبات البرد القاسية أو حفيف الأغصان الغاضبة من عاصفة هوجاء… وبكاء أمها ونشيجها وصلة تربط اللحن بالوتر كاتصال قلب الشمس بأنفاس الليل البهيم. وقلبها أضحى هو أيضا جبال ثلج وعاصفة هوجاء، تعتلج في قلب الفتاة التي تمحورت حول نفسها حتى بات مسكنها وأهلها أناساً تنتمي لهم بالصدفة والقرابة. وأصبحت المدرسة منفذها إلى العالم من علاقات وتجارب مع مدرسيها وأترابها من فتيات وفتية وبالأخص صديقتها وجارتها سلوى التي كانت الأقرب إلى قلبها.
وبدأت سعاد تشعر ببعض التغيرات تطرأ على جسدها من ألم في الصدر وزغب تحت الإبطين وازدياد في الطول والنحول، ولم تستغرب تلك التطورات بل رضخت لها بعد الاستماع عن الموضوع من صديقاتها وبالأخص ماري الجميلة وهي تسهب في تفاصيل أنوثتها المبكرة بفخر واستعلاء مشيرة بالغمز واللمز عن اللواتي يسرن كالزرافة طولا وكالصبية شكلاً… وسعاد المعنية بتعليقات ماري تتألم من جرح نازف أو تفرح بذاك الوصف ضمناً.
برزت سعاد رغم مشاكستها وشراستها في المرحلة الأخيرة من دراستها في تحصيلها العلمي والنشاطات المدرسية الأخرى لتتميز عن الفتيات بتفوقها عليهن بعد أن تمَّ فصل الفتيات عن الفتيان في الفصول النهائية من المرحلة الابتدائية تجعهم ملاعب واحدة بها سياج خشبي. وقد ساعدتها لياقتها البدنية في البروز فاختارتها مدرسة الرياضة رئيسة فريق الفتيات لكرة السلة والطائرة.
وفي أواخر العام الدراسي نظمت إدارة المدرسة مباريات بين فصول المدرسة في شتى النشاطات كان آخرها مباراة كرة السلة للفصل السادس بين فتيات الفصل وفتيانه.
وفي اليوم المحدد للمباراة تقدمت مدرسة الرياضة قائلة:
المدرسة – اثتان من الفريق لن يلعبا، ماري وبسمة. سأترك لك اختيار البديل.
سعاد باستنكار وغضب – لكنهما أطول المتباريات وأكبرهن، وأن تخلفتا لن نفوز أبدا.
المدرسة – ليس بمقدوري تغيير الواقع، بسمة متغيبة وماري تشعر بتوعك.
سعاد – لكن ماري في المدرسة. وطالما هي هنا تستطيع اللعب.
المدرسة – لها عذرها، ولا استطيع إكراهها على اللعب.
سعاد – فلنؤجل المباراة للأسبوع القادم إذا.
المدرسة – والامتحانات… يبدو أن فورة الحماس أنستكِ الكثير، فالرياضة حب وتسامح في الفوز والخسارة.
ولم تسمع سعاد شيئاً بل خرجت متجهة إلى ملعب المدرسة تبحث عن ماري الجالسة على مقعد خشبي، فهرولت نحوها وأمسكتها من كتفها وهي تهزها بعنف.
سعاد – عجبي من عذر سخيف لعدم اللعب، أو جبن ام هدفك إحراجي وإحراج فريقنا أما فريق الأولاد.
وذعرت ماري من هجوم سعاد المفاجئ ودفعتها بعيداً وهي تقول:
ماري – ماذا تفهمين بأمور البنات يبدو إنكِ ما زلتِ صغيرة على فهم ما يحدث أو انكِ ولد بجسم فتاة.
وهمّت سعاد أن تصفعها والنظرات تنصب عليها والابتسامات الماكرة تعلو كل الشفاه فامسكتها صديقتها سلوى وأخذتها بعيداً. وهي تقول لها:
سلوآ – هدئي من غضبكِ… ماذا دهاكِ فجأة.
سعاد – لا أعرف ما تثيره بي هذه الفتاة – لكنها ماكرة وتريد أن نخسر المباراة.
سلوى – وماذا لو خسرنا … أهي نهاية العالم.
سعاد – انهما يكيدان لي لأنني رئيسة الفريق وهما أكبر مني سنا.
سلوى – وأدرك منك بأمور الحياة. فرغم ذكائك وتفوقك في أمور كثيرة تجهلين يا صديقتي ما يبدو بديهياً من أمور الفتيات لابتعادك عن أحاديث البنات واخبارهن.
واستفزتها كلمات سلوى… رغم عمق العلاقة بينهما وقالت سعاد كمن تبوح بمعلومات خطرة:
سعاد – أعرف ما بهما ، هل العادة الشهرية سببّ كاف أم أن دلال وغنج؟
سلوى – قريباً يا عزيزتي ستمرين بآلام ، تخف عند بعضهن بعد ذلك وتستمر الآلام عند الأخريات… ألم تحدثك والدتك بالأمر…؟
وطأطأت سعاد رأسها قائلة:
سعاد – تلميحاً فقط وكأن الأمر رجس من عمل الشيطان.
سلوى – سِنة الطبيعة لكل فتاة مهما تأخر حدوثها.
وخسر فريق الفتيات المباراة، وجرت سعاد أذيال الخيبة عائدة إلى البيت وانزوت في غرفتها حزينة في فرصة ضاعت للزهو على جميع أترابها، وفي أعماقها جرح من طلقات رصاص قذفتها ماري بها. ” صبي في جسد فتاة ” وتذكرت قول سلوى بان معظم فتيات فصلهن بدأن الحيض… لكنه يتأخر عن بعضهن… أم أنها حقاً صبياً في جسد فتاة. والنظرات الماكرة تنصب عليها من الفتيات والأولاد… والتغيرات التي طرأت على جسدها… وتحسست صدرها بأناملها وضغطت على حبتين صغيرتين فشعرت بألم وامتدت أناملها لترى الزغب تحت إبطها بالمرأة… هي فتاة دون شك وسيأتيها الحيض قريباً وشعرت بالغثيان يملأ فمها وأسرعت على الحمام تفرغ ما في جوفها، ثم خلعت ملابسها ووقفت تحت الماء تغتسل وكررت عادة تسعدها. ففتحت فخذيها وبالت والماء ينسكب على جسدها فيختلط ماء الاستحمام بالبول. ثم دعكت جسدها بالصابون واغتسلت ثم مشت الهوينى إلى غرفتها وتسرب إلى مستعها شخير زوج أمها وصراخ اخيها سليم مع صياح الديك.
وخرجت سعاد إلى المدرسة كعادتها كل صباح تحمل عذابات اليوم السابق وهواجس ليله، وسارت الهوينى تقذف بحصى صغيرة بقدمها خطوة خطوة وكانت وسيلتها لتسلي نفسها عن هموم بيتها فتعد الأشجار تارة وبلاط الرصيف تارة أخرى أو تعد الرجال والنساء الذي يمرون بها. وما أن تصل إلى باب المدرسة حتى تكون نفسها قد هدأت أو تناست ما حدث لها، أما ذاك الصباح فرغم قذف الحصى وعد الأشجار بقي بركان الغضب يغلي بداخلها وما أن وصلت حتى رأت رؤوف يقف متربصاً، وكان رؤوف رئيس فريق الأولاد لا يترك مناسبة للتحرش بها واستفزازها فبادرها مبتسماً:
رؤوف – صباح الخير، يبدو التعب على وجهك يا سعاد، لا بد أن هزيمة الأمس لم تدع النوم يغافل جفنيك.
ونظرت إليه سعاد دون أن تنبس ببنت شفة ودلفت إلى الفصل لتضع شنطة الكتب وجلست وحدها حتى سمعت جرس طابور الصباح وبدات الفتيات بالدخول إلى الفصل افرادا وجماعات. وفي الفسحة جلست سعاد مع سلوى على مقعد خشبي بعيد، متفادية نظرات ماري الشامتة وتقريع بعض الصبية خلف السور الخشبي يتزعمهم رؤوف، واستخفت ماري بمؤازرة الفتيان فاخذت تستهزئ بسعاد بغمزات ولمزات جارحة أضحكت الجميع… ونهضت سعاد بعد أن فاض بها الكيل وسلوى تحاول تهدئتها واتجهت نحو ماري وأمسكتها من كتفيها ورمتها إلى الخلف حتى كادت أن تقع ورؤوف يحث ماري متودداً ومشجعاً.
رؤوف – أضربيها… لا تخافي … فيه طول بلا غلة.
فتقدمت ماري وصفعتها على وجهها، فتفجر الغضب في قلب سعاد واندفعت نحوها كنمر هائج تدفعها بقسوة مرة بعد أخرى وماري تحاول الهروب نحو السور الخشبي املا بالخلاص فعلق ذيل مريولها وتمزق من الخصر إلى الأسفل، وبدت سيقان ماري المكتنزة البيضاء من الثوب الممزق وعلا صراخ الفتيات وضحكن وصفير الفتيان وعيونهم النهمة تلتهم الحدث بتفاصيله الكاملة. وشعرت سعاد بهول ما حدث، فأسرعت ترفع ماري من الأرض بعد أن أثبتت تفوقها وقوتها، وتطلعت ماري باستغراب وسعاد ترفعها برفق مع إحدى البنات وتضم شقي الثوب لتقيها النظرات التي تطلب المزيد. وجاءت المدرسة لتأخذ الفتاتين إلى مكتب المديرة التي عاقبتهما بالوقوف في زاوية الغرفة والوجهة للحائط، على أن تحضر كل منهما ولي أمرها في صباح الغد. وقفت الفتاتان في زاوية الغرفة ويداهما مرفوعتان للأعلى ووجههما للحائط ، والمديرة لاهية عنهما بأوراق أمامها. ونظرت ماري بطرف عينها إلى سعاد خلسة فهالها انكسارها وهي تسند رأسها للحائط والدموع تغسل وجهها ، وسرت بينهما رغبة بأن تتشابك يديهما كما تشابك مصيرهما بلحظة صفاء صادقة دون أن تتفوه أي منهما بكلمة واحدة.
وسقطت الطامة الكبرى على رأس سعاد… من يذهب معها كوليّ أمرها… أمها التي تتقيأ من جديد كل صباح أم سليم أسعد الأخ الذي ما يزال طفلاً… وزوج أمها كيف ترجوه وتسترحمه وهي تكرهه ولا تعترف به ولياً وماذا تفعل ودراستها الابتدائية تشارف على الانتهاء وتعب السنين والصبر.
لطمت الأم خديها وهي تزيد الهم على قلب سعاد وتزيدها تقريعاً ولوماً…قائلة:
الأم – انقبري في غرفتك – عاملة قبضاي وتضربين البنات يجب أن يضربك عمك حتى تتأدبي، لا لزوم لدراستك وشهادتك – اقعدي في البيت فأنا تعبت من العمل طول النهار ، فمصيرك البيت. لن تفلحي وتزرعي ولن تصبحي مهندساً أو دكتور.
وبقيت سعاد في البيت اليومين التاليين، تقضي الوقت في تلبية أوامر أمها، وتكرر عليها ما حدث وتحاول أن تقنع أمها بأنها سوف تجلس في البيت معها كما تشاء بعد أن تنهي هذه السنة فقط وتنال شهادة أمضت سنوات في تحصيلها. حنَّ قلب الأم ووعدتها بأن تقنع عمها إلياس بالذهاب معها لتنهي الأشهر الباقية من دراستها. وأقبلت سعاد على أمها توسعها تقبيلاً وتلثم يدها مراراً عرفاناً بالجميل.
وفي الصباح سارت سعاد إلى المدرسة بخطى سريعة تحاول اللحاق بعمها إلياس وهي تقفز فرحاً وغاب عنها أن تعد الأشجار أو بلاط الرصيف ككل يوم، ودخل إلياس إلى مكتب مديرة المدرسة فأسرعت سعاد تتشبث به وتتعلق بكفه طلباً لحمايته، وانهمرت الدموع على وجهها، وهي تشعر باللوعة لخضوعها إليه وطلب حمايته وهي التي لا تعترف سوى بحماية والدها الغائب. واشتد بكاؤها ونحيبها لوعة لضعفها أما عمها إلياس والمديرة تنظر إليها برحمة ملأ قلبها. فانحنى إلياس مذهولاً وامسك سعاد ليهدئ من روعها واحتضنها طالبا من المديرة أن تصفح عنها رحمة بدموعها التي تنم عن التوبة والغفران. ضمتها المديرة لفترة تاثراً بالمشهد أمامها ثم قالت:
المديرة – سوف أسامح سعاد من أجلك، ويشفع لها ايضا أنها تلميذة مجدَّة ومجتهدة… وليس من العدل أن أحرمها من الدراسة والامتحانات النهائية قريبة والسنة الدراسية قاربت نهايتها، وأتوقع ان توجه كل اهتمامها للدراسة كي تكون دائما في الطليعة.
وقفز قلب سعاد فاحتضنت عمها إلياس وقبلته امتناناً وكأنها تحتضن والدها في لحظة حنان خاطفة.
خرجت سعاد من محنتها بتصميم بان تترك المشاكسة كي تولي دراستها وعلاقاتها مع المدرسات والصديقات بالروية حتى لا تضطرها ظروف مشابهة للخضوع لعمها إلياس رغم ما قدمه لها من خدمة. وقد شعرت بالخجل والمرارة لما فعلته بماري حين عرضتها لنظرات الرغبة والفضول ، وتذكرت لحظات الندم والتوبة حين جمعهما غفران وتسامح. فاشتدت أواصر الصداقة بينهما لتثبتا فعلاً، قولاً مأثوراً ” لا صداقة إلا بعد عداوة ” فلا تشعر ماري بالأمان إلا وسعاد بقربها والثانية سعيدة برضوخ ماري لحمايتها تشعر بنشوة غريبة كلما أحاطت بكتفيها وهن تسيران أو تجلسان سوياً.
وانتهت الأشهر الأخيرة في المدرسة وسعاد ترجو أن لا تنتهي فتلك كانت أجمل فترة دراسة مرت بها بالتفاف الصديقات حولها ومهابة الفتيان منها وجواً من الهدوء والسعادة النسبية في البيت بعد أن تقبلت حماية عمها لها كأمر واقع ولاحظت في الوقت نفسه اهتمامه بها وبأمها، يعود من عمله باكراً على غير عادته ليساعدهما في تحضير الطعام أو العناية باسعد والقيام بكل ما يسعد امها، وكانت سنية سعيدة بالتغيير تكاد لا تصدق ما ترى فتقول له ضاحكة:
سنية – يجب أن ابقى حاملاً كي تبتعد عن السهر خارج البيت وتحيطني بكل هذا الحب والحنان.
ضحك الياس في سره ضحكة ماكرة… فكلمة حنونة أو لفتة تسعد قلب زوجته المسكينة، فتصبح كالخاتم في إصبعه، يديره كيفما شاء. لقد رفضته بنات القرية وعوانسها، أعزب إلتهب الشيب برأسه وجسده، لاو؟؟ يملك سوى دكان صغير يذهب إيراده ثمنا للخمرة والسجائر وصحبة السوء. لكنها أرملة، والأرملة ترضى وترضخ وتعطي دون حساب، معها عرف يسر العيش مما خلفه أبو أسعد من ملك ورزق، أنجبت له سليم ليخلفه فيكون أوفر منه حظاً وأيسر حالاً. فزوجته لا ترفض له طلباً باللين مرة وبالقسوة مراراً، فهو سيد البيت وحاميه. حتى سعاد التي كانت تقلق مضجعة بنظرات اللامبالاة والكراهية رضخت له وانطوت تحت جناحية. واختلس نظرة إليها وهي تقف ممشوقة القوام بجانب أمها في المطبخ وسرت في جسده قشعريرة ونشوة وهو يستعيد في مخيلته جسدها الفتي بين ذراعيه وهي تقبله وتحتضنه ودموع الشكر تغسل وجهها الدقيق. مطَّ شفتيه الغليظتين بابتسامة صفراء وهو ينادي سعاد بأن تحضر له فتجان فهوة وكوب ماء بارد، بصوت يبدو هادئا وحنوناً، وأسرعت سعاد بإحضار القهوة ووضعتها على الطاولة أمامه وفرت هاربة من نظرات باتت تلاحقها وتزعجها، لا تعرف لها سبباً سوى أنها نظرات لزجة ماجنة تقول وهو صامت كلمات ترعبها وهو هادئ على غير عادته يتقرب من امها ومنها بنكاته وضحكاته السمجة، ويصر على أن تشاركهم سعاد جلساتهم بل يتجرأ أحيانا فيدخل غرفتها غفلة بحجة أنه يريد منها خدمة أو أن أمها تطلبها لأمر أو أخر.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل الرابع –
مرض أسعد ذات ليلة، وارتفعت حرارته فجاة مع قيء شديد، وارتبك كل من في المنزل وأسرعت سعاد تحضر الخل والماء المثلج والأبوين فوق رأس الطفل المتهالك على السرير يرتجفان بالخوف واللهفة، تضع الأم كمادات الخل على جبين الطفل ويغسل الأب كفيه بالماء البارد. وفي الصباح الباكر حمل إلياس ولده وزوجته ذهبا إلى الطبيب، وبعد ساعة او أكثر عاد إلياس إلى البيت ليطمئن سعاد بأن الطبيب أعطى اسعد إبرة بنسلين وابقاه في الغرفة المخصصة في العيادة للإشراف عليه حتى تنخفض حرارته ويعيد بالمصل بعض السوائل التي فقدها بالقيء، وأنه سيذهب لإحضارهما في المساء وطلب أن تجهز لأخيها ثيابا نظيفة في صرة كي ياخذها معه. انتاب سعاد شعور غريب، مزيج من الخوف والفرح، الخوف من الفراغ والهدوء حولها والفرح لكونها اليوم سيدة البيت ولو ليوم واحد، فاعدت الطعام ونظفت حجر المنزل بهمة ونشاط، واغتسلت ثم تكومت في كرسي والدها في الصالة ولحن جميل ينساب من الراديو فاغمضت عينيها في استرخاء لذيذ وعقلها يقفز فرحا مع اللحظات السعيدة في حياتها مع والدها وأخيها اسعد، ورفاق المدرسة. فتحت عينيها فجأة لتجد عمها إلياس يقف صامتا بباب الصالة يرقبها، فارتبكت ونهضت وهي تساله عن أمها وأخيها.
إلياس – سأذهب لإحضارهما بعد ان تعدي لي شيئا من الطعام، فلم اذق الزاد منذ الصباح.
وهرعت سعاد تسكب له ما أعدت من الطعام بينما كان هو يعد لنفسه كاسا من الخمر. ودخلت سعاد إلى المطبخ متجاهلة طلبه على أن تجلس لتأكل معه. وكاس آخر وطلب آخر حتى تركته وحده ودخلت حجرتها ريثما ينهي عشاؤه، الدقائق تزحق متباطئة وإلياس بين أكل وشرب. وسعاد قابعة في غرفتها والهواجس تقذف بها – هل أصاب أسعد مكروه، هل ارتفعت حرارته… لماذا لا يذهب عمها إلياس لإحضار أمها وأخيها…لماذا…لماذا؟ وفجأة نظرت إلى الصالة من شق الباب المفتوح، فوجدتها شبه مظلمة والهدوء والسكون يسود الصالة والبيت. فايقنت أن عمها إلياس قد ذهب لإحضار أمها وأخيها قبل انسدال الليل، فخرجت من غرفتها لتزيل أطباق الطعام فتغسلها وتنظف الطاولة قبل عودتهم وما أن اقتربت من الكرسي حيث حان يجلس حتى فوجئت به يمسك بطرف ثوبها ويجذبها نحوه بقسوة وقوة، صدمتها هول المفاجأة فصرخت بأعلى صوتها وخلعت نفسها من يده التي تشبثت بطرف ثوبها الممزق… كمريول ماري الممزق… ونظرات الشبق والجوع تلاحقها – كإخطبوط لزج، كوحش كاسر أوقع فريسته بين انيابه يحتضنها ويطبق شفتيه الغليظتين ليرشف من رحيق وردة برية ورائحة إكليل الجبل ينبعث من عودها الصلب ليثير شهوته وشبقه وهي تصرخ وتسترحم وتركله بيديها ورجليها بقوة تقمصت عودها الطري، كغريق على شفى هوة عميقة يتنجد شعرة واهية ودوائر الهول من المجهول تملأ رأسها وصدره يعلو وينخفض بأنفاس متلاحقة محمومة، وبلحظة إعياء من مقازمتها الشرسة افلتت من بين يديه وجرت إلى غرفتها شبه عارية لكنه كان ورائها قبل أن توصد الباب لتحمي نفسها منه، هجم عليها كنمر أمسك بظبية شاردة وانهال عليها صفعا على وجهها وكتفيها وجسدها وهو يكيل لها الشتائم وهي تسترحمه باكية، ضعيفة والدموع أنهار على وجهها الشاحب الهزيل… ثم قذفها على أرض الغرفة وهو يركلها بقدميه، وهوى بجسده القذر عليها لينال منها ويطفئ نار الشبق التي تغلي وتحرق جسدهن وسعاد كالنعجة الذبيحة تحور وتدور، تقاوم جسده الضخم المخضب برائحة الخمر تقاوم لتؤخر لحظة الذبح.
صرخ إلياس فجاة صرخة ألم مدوية، نظر خلفه ليرى زوجته تصرخ وتولول وتنهال عليه بالعصا ضرباً وركلاً، ثم جثمت فوقه وغرزت أظافرها في وجهه وهي تكيل له الشتائم والسباب. ونهض الزوج هارباً وهو يلملم نفسه، وهوى جسد الزوجة على الأرض بقوى، فزحفت نحو ابنتها لتحضنها وتستر ما عري من جسدها حماية من العيون والشفاه التي انتشرت حولهما وامتزجت دموع الأم وابنتها في نحيب وبكاء وهما ترتجفان بقوة ثم هوى الجسدان على الارض في غيبوبة طويلة.
أفاقت سعاد في صباح اليوم التالي ، وكأنها غابت عن الكون دهراً من الزمن لتجد أم عبده زوجة شيخ قرية كفر حنا تجلس قربها، فربتت المرأة على كتفها مطئنة.
أم عبده – استريحي يا ابنتي ، لا داعي للخوف الآن ، سأبقى بقربك حتى تأتي عمتك مريم.
سعاد – وأمي – ما حصل لها؟
أم عبده – في المستوصف لقد طرحت جنينها ليلة أمس وستعود إلى البيت اليوم أو غدا.
سعاد – وأسعد – و..و.
أم عبده – أسعد ذهب مع الشيخ لإحضار عمتك من تربل لا أحد سواي معك في البيت فاهدئي ونامي.
سحبت سعاد جسدها المنهك وحاولت النهوض، فهوت قدماها بوهن لا تقويان على حمل الجسد الضئيل ، وكل عضلة تنثني هلعاً وتئن ألماً وكأنها قطعت لبنان بسهوله وجباله سيراً أو كأنها خاضت حربا سلاحه قلبها وعقلها وأعصابها. قبعت في سريرها لتسترجع ما حصل لها بالأمس، كابوس مفزع وعت أوَّله لا آخره… هل نالها الوحش… هل دنسها بعد أن دنَّس مسام جسدها بشفاهه الغليظة القذرة… وماذ حصل لأمها حتى فقدت جنينها. أفكار وهواجس تتسابق إلى عقلها قبل لسانها ولم تستطع صبرا فتحاملت على الوهن حتى جلست والبقع الزرقاء والحمراء تغطي وجنتيها ورقبتها وما تستر من جسمها ، فآثار جريمة الأمس بادية عليها، ذلٌّ وضعفٌّ في عينيها ، وانكسار في قلبها، أنثى ضعيفة كأمها تخضع لسيادته وسطوته قبل أن يسوقها نعجة ذليلة إلى السرير. وامتدت يدها إلى مقص صغير في الدرج أمامها وأخذت تقلبه بين أناملها، تود لو تغمده قلبها لتغسل بدمائها ما أصابها وأصاب أمها من عار، وتراءت لها نظراته الماكرة الماجنة في المرآة تلاحقها، تحثها وشفاهه الغليظة تقترب منها وتبتعد وقهقهته الصفراء المجلجلة تملأ أذنيها. فجمعت قبضتيها والمقص في يدها وانهالت الى المرآة ضربا لتشوه صورته وتقضي على ابتسامته الصفراء وقهقهته الماجنة. فتهشمت المرآة الصغيرة وتناثرت قطع الزجاج حولها والدماء تسيل من يدها ووجهها ثم انهارت على الأرض بوهن وهي تتلوى وترتجف من الخوف والألم.
كانت مريم الأخت الكبرى لأبو أسعد وأقربهن إلى قلبه، وأكثر أخواته تردداً على بيته في حياته وبعد مماته. فبعد أن تزوجت سنية من إلياس قاطعنها الكثير من أقارب أبو أسعد فلم تأبه سوى لمقاطعة شقيقتيه سلمى وجورجيت وللقيل والقال الذي كانتا تبثانه بالقرية بانها هي السبب في موته، وبقيت مريم وحدها من بينهن التي تزور زوجة اخيها المتوفي وابنته سعاد كلما حضرت الى القرية لزيارة الأهل والأقارب وأخذ مالها من محصول أملاكها. فتشعر بالألم والحزن كلما رأت ذلك الرجل المقيت يصول ويجول في بيت أخيها. وكم تمنت أن تأخذ سعاد لتعيش معها ومع زوجها في المدينة بعد أن توفي الأب الذي كان يرعاها ويغمض عليها جفناة؟؟ حناناً، وكم حاولت مريم إقناع زوجة أخيها ولكن دون جدوى، بالترهيب تارة ، والاستعطاف أخرى بأن وجود سعاد بعيدة سيترك لسنية الفرصة بالبدء بحياة جديدة مع زوجها. وفي الوقت ذاته ستملأ سعاد البيت فرحاً عليها وعلى زوجها الذي تزوجته وهي في سن متقدمة، فلا يرجو منها خلفة إذ له من زوجته المتوفاة شباباً في عمر سنية نفسها. بل يأمل منها الرفقة والرحمة والعناية وهي سعيدة به وبحنانه وحبه فهو لا يرفض لها طلباً وسوف يرحب بوجود سعاد معهم، شباب أخضر يزرع الورد والريحان في أرجاء البيت الهادئ كهدوء كهولة أصحابه. وسنية على رفضها الدائم قائلة:
سنية – البنت بحاجة لأمها ، وسأرعاها دائما ولن يأخذها أحدّ طالما أنا على قيد الحياة.
وتباعدت زيارات مريم للقرية بعد موت زوجها الذي لحق أخيها بعد سنتين فانطوت على نفسها تعيش وحدة قاتلة دون زوج أو ولد وانها زهدت بالدنيا ومن عليها.
أفاقت سعاد لتجد عمتها مريم تجلس قربها على السرير، وما أن أدارت سعاد وجهها حتى أخذتها العمة بين ذراعيها والدموع تغطي وجهها وقال لها مطمئنة.
مريم – لا تخافي يا ابنتي فانا بقربك ولن يمسكِ أحد بسوء.
وضَمَّت سعاد الوسادة والهواجس تجول بعقلها المتعب…يبدو أن عمتي مريم لا تعلم بما جرى…تظن أنه أوسعني ضرباً وركلاً كما يفعل بأمي كل ليلة – لو تعلم ما حدث… يا لهول ما حدث… وأخذت تتلوى في السرير ألماً وكأن مسَّا أصاب الجسد الواهي حوَّله كتلة لم تتقاذفه الهواجس والهموم. والتقطت العمة بسرعة زجاجة ماء عطر عن طاولة سعاد وفركت لها وجهها ويديها ورقبتها ثم أحضرت لها كوباً من الليموناضة شربته سعاد بلهفة لتطفئ النار المشتعلة في أعماقها. وبعد أن اطمأنت العمة عليها ذهبت إلى المطبخ لتجهز لها بعض الحساء.
جرت سعاد بعد هدوئها جسدها جراً وذهبت إلى الحمام، فخلعت ثيابها ووقفت تحت الماء تغتسل، وأخذت تلطم وجهها بكفيها – والمياة تنهمر وتبول وهي واقفة والمياه تنهمر… والدموع تغطي وجهها وتختلط بالماء لتغسل آثار الجريمة. بصمات يده، رائحته المقززة. شفاهه الغليظة البشعة، وامسكت بليفة وأخذت تدعك جسدها بقسوة وقوة حتى احمرَّ ، وسالت الدماء الخفيفة من الدعك والقسوة وكأنها تطهر بالدم جسدها الملطخ بالعار.
وجلست سعاد على الأرض في زاوية الحمام وقد استعادت بعض نشاطها، والأفكار والأسئلة الكثيرة تتسابق في عقلها وهي في خلوتها… ماذا حصل لأمها وكيف ستواجهها وآثار الجريمة بادية عليها، هل ستزيد من كرهها وإيلامها لها بعد الحدث المشؤوم، ماذا سيقول أهل القرية وشيخها وزوجته التي كانت قربها حين أفاقت من إغمائتها الأولى، سيشيرون إليها بالبنان ويلحقها العار فهي غير بقية فتيات القرية ومهزأة ووصمة في جبين شباب القرية ورجالها. وسمعت سعاد قرعاً خفيفاً على الباب فنهضت لترى عمتها مريم تحمل صينية عليها وعائين من الحساء.
مريم – نعيماً، اشربي صحن الحساء هذا وهو ساخن، سيفيدك ويرم عظمكِ بينما أوصل الآخر لأمك ثم أعود لأجلس معك.
وخطت سعاد خطوة نحو غرفة أمها رغبة لرؤيتها ثم تسمرت في مكانها قائلة:
سعاد – كيف هي الآن…؟
مريم – بخير. سأوقظها لتشرب الحساء… فلا تجزعي عليها فهي بخير.
ودخلت سعاد إلى غرفتها بانتظار عمتها، وطال انتظارها حتى ايقنت أن في الأمر شيئاً وأن بين المرأتين سرداً لوقائع تلك الواقعة المشؤومة. وامتدت يدها بهدوء إلى الثوب الممزق أطرافه الذي كانت ترتديه في ذلك اليوم التعس واخذت تفحصه وتديره بين يديها ثم انتابتها ثورة عارمة فجأة وأخذت تمزقه بأظافرها إرباً إرباً وكانها تنشب أظافرها وأسنانها في قلب ذلك الوحش الذي دنس طهارتها… وامتلأت أذنيها بصراخة وسبابه القذر وغطت الدموع وجهها حتى غشي بصرها ولم تشعر إلا بيدي أمها وهي تهزها بعنف فنهضت سعاد كنمرة شرسة ونظرت إلى عيني امها الغارقتين بالدموع والألم فرمت بنفسها على صدر أمها وهي تشهق ببكاء ونحيب ولم تترك الأم ابنتها تلك الليلة، بل نامت معها في سريرها وشعرت سعاد ربما للمرة الأولى بالحب والسعادة الحقَّة لقرب امها منها. وحينما تملك الأم ملاك النوم بقيت سعاد تصيخ السمع متيقظة لأنات الألم الصادرة من الأم، وأدركت بحس خفي الألم والضياع الذي تشعره أمها لفقدانها الجنين والثقة بالزوج ومحبة ابنتها الوحيدة.
ومرَّ يوم آخر والأم تحاول التقرب من ابنتها لإعادة الاطمئنان إلى قلبها المجروح، تحاول أن تخفف عنها هول ما حدث. وقد أيقنت سعاد من أحاديث أمها وعمتها لها بأن الوحش لم ينل منها، إذ جاءت أمها في اللحظات الحرجة فأفزعته المفاجأة وفرَّ هارباً، ولم يعد حتى تلك اللحظة، وتناولت العمة الحديث بقولها أن معظم أهل القرية في شك مما حدث، فالبعض يظن أنه انهال عليك ضرباً ولاكلاً؟؟ لشدة سكره والبعض الآخر يشك بانه ربما حاول التحرش بك مجرد شكِ حتى شيخ القرية وزوجته اللذين كانا أول من دخل البيت وجدا أمكِ معك في البيت وهي تصرخ وتولول.
وصرخت سعاد وقد استمدت من ضعفها بعض الاطمئنان والقوة:
سعاد – لكنه دنسني ومرغ وجهي بالوحل، فكيف اعيش بين أهل القرية وأترابي بعد الذي جرى.
الأم – صه… إياك أن تعيدي تفاصيل ما جرى، فانا وعمتك نصونك بسكوتنا أمام أهل القرية كي لا يلطخ سمعتك أحد، فما زلت في مقتبل العمر والمستقبل أمامكِ وتذوي؟؟ من ذاكرتك تجربتك المرة مع الأيام.
سعاد صارخة – ويعود هو، وكأن شيئاً لم يكن يطلب منكِ الغفران في النهار ويوسعكِ ضرباً وإهانة في الليل.
فنكست الأم راسها بمذلة والدموع تعطي وجهها. وتدخلت مريم قائلة بحزم:
مريم – كفاكِ يا سعادن لا تزيدي الهم على قلب أمك، فهي تعي تماما الحالة العصبية التي تمرين بها، وإلا لما قبلت منكِ كل هذا التقريع.
سعاد – لكنه سيعود يا عمتي، وأن سلمت منه بالأمس فلن اسلم منه غداً، عندها سأقتله أو أقتل نفسي.
كفكفت الم دمعها وقالت بصوت متهدج وقلبها بنفطر ألماً.
الأم – اطمئني لن يعود…
سعاد – ( بفرح ) ابداً… لن يعود الى البيت ابداً.
الأم – حتى تذهبين مع عمتك إلى تربل.
سعاد – ماذا سافعل في تربل…؟
الأم – ستعيشين هناك مع عمتك الوحيدة فهي بحاجة إليك، الجميع هنا يدرك بأن عمتك الوحيدة أولى بوجودك معها، وستلتحقين بالمدرسة لتكملين دراستكِ.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل الخامس –
كانت تربل البلدة التي تتوسط القرى في تلك المنطقة الشمالية من لبنان تعتبر المدينة الرئيسية، حيث الدوائر الرسمية الحكومية ودور السينما والمدارس والأسواق والكنائس القديمة، يقصدها سكان المنطقة وأهلها لقضاء أعمالهم وترويج بضائعهم كما يؤمها السواح والزوار للزيارة أو التعبد في كنائسها وأديرتها التي تحتضنها الجبال. وكان بيت مريم بناء حجري قديم تحيط به حديقة صغيرة تظللها بعض أشجار الفاكهة والورد ويقسمها إلى قسمين ممر حجري يؤدي الى سلالم منخفضة ثم ساحة فسيحة تغطيها صيفاً عرائش خضراء وتتدلى منها قطوف العنب وكأنها قناديل مضيئة تعكس أشعة الشمس وظلال الأشجار عليها بألوان كألوان قوس قزح، وفي الغسق يتجمع الندى كنثرات من الماس على أوراق الأشجار وتمائم البنفسج البري المنتشر في الظلال يتمايل بحمله الثمين نسيمات جذلة قبل أن تختفي تمائمها خجلاً من شروق الشمس وانتشار نورها.
مرَّت الأيام وسعاد ترشف بعينيها وتعشق بقلبها لحظات السعادة والانعتاق من قيود القرية وآلامها التي ملكت قلبها منذ الطفولة. وتحن في الوقت ذاته إلى بيتها وغرفتها وأغراضها الصغيرة التي لازمت لحظات عمرها سعادة وألم. وكان محور الحنين إلى البيت الشوق لأمها وشعور بالذنب لما سببت لها أمها من آلام منذ صرختها الأولى… بنتاً عجلت في موت ابيها، وهوة ازدادت عمقاً بزواجها من إلياس وتعاقب المآسي والآلام رغم وجود أسعد الذي كان سلوتها وعذابها في آن واحد.
وقد وجدت سعاد في عمتها مريم رغم صرامة أخاديد وجهها، قلب يفيض بالحب والحنان افتقدت دفئه وفرحه منذ موت أبيها. وأصبح بيت مريم يضج بالحيوية والحياة وصاحبته تحاول اللحاق بوقع الحياة الجديدة، تلازم ابنة أخيها حيثما ذهبت لتريها المدينة ومعالمها، خشية أن تترك سعاد تكتشف العالم الجديد وحدها. فهي فتاة بسيطة من القرية تجهل أخلاق المدينة وألاعيب أهلها. ويتعب الخريف من جري الشباب فتجلس العمة لاهثة على شرفة المنزل تلاحق سعاد بنظراتها، كالحارس الأمين المتعب الكاهل من تعاقب الزمن ترصد كل حركة لسعاد أو خطوة كي تجنبها الهفوات والمخاطر. وأدركت سعاد مع الأيام سبب خوف عمتها ولهفتها، فهي لا تترك لها متسعا من الهواء تستنشقه وحدها بعد أن اينعت وأصبحت شابة نضرة بعودها القروي الصلب وعيناها الواسعتان وكأنهما في بحث دائم عن المجهول. فكل رجل يرفع بعينيه إلى الشرفة او يقصد بيت العمة قد يكون إلياس آخر يبحث عن غنيمة يسرقها، فمسؤولية فتاة في عمر سعاد مسؤولية ضخمة والعمة بنظراتها وقوانينها الصارمة تحرسها وتذود عنها جميع الغرباء. لم يكن للعمة أصدقاء أو زوار دائمين سوى رجل عرَّفته العمة لسعاد بالعم كريم، شقيق زوجها المتوفي، رجل وقور ياتي من وقت لآخر ليطمئن على أرملة أخيه في ذهابه أو طريق عودته من عمله.
في بادئ الأمر توافد الكثير من الجيران على بيت العمة لمعرفة سر تلك الصبية التي اصطحبتها بعد ذهابها إلى القرية على عجل. وقد اختلقت العمة لهم قصة عن وعدها لأخيها المتوفي بان تكمل سعاد دراستها في مدرسة المدينة. بالإضافة الى تدهور حالة العمة الصحية وضرورة وجود أحد من أهلها معها في هذه السن المتقدمة.
وتباعدت زيارات الجيران للعمة سوى جلسات الصبح مع الجارات على شرفة المنزل تحت العيشة مع فنجان قهوة وبعض الحلوى أو الفاكهة. تلك الجلسات الهادئة الودودة التي كانت تذكر سعاد بجلسات رجال القرية أمام دكان أحدهم أو في مجلس شيخ القرية وكذلك تجمع النساء في جلسة مودة ليتناقلن الأخبار والأحداث. وبقيت زيارات العم كريم هي الوحيدة التي تسير على وتيرة واحدة. يجلس مع أرملة أخيه حيث تجلس لفترة وجيزة فيشرب فنجان القهوة على عجل ليطمئن عليها، أو كي يعطيها بعض النقود او ليصرف اموراً تستدعي وجوده.
وشعرت سعاد أن عمتها مريم رغم ثقتها واحترامها لشقيق زوجها المتوفي الذي يصغره باعوام قليلة تتعامل معه برسمية ووقار تتجاوزها عادة القرابة وكثرة التردد. وعلمت سعاد من العمة أن لكريم سلطة ونفوذ لما يملك من مال ورزق كسبه بجده وتعبه منذ شبابه، لا يعرف من الحياة سوى العمل لذلك فهو لم يتزوج، ويعيش وحدة في بيت كبير على سفح الجبل المطل على المدينة.
والتحقت سعاد بوساطة العم كريم بمدرسة قريبة إلى بيت عمتها. كانت ” مدرسة تربل الرسمية للبنات ” أحدث مدرسة حكومية في المدينة بُحجَرها وملاعبها الواسعة ومعداتها الحديثة وبمستوى النخبة من المدرسات والطالبات فيها. وقد وجدت سعاد صعوبة بالتكيف بالجو الدراسي الجديد وبالنمط المدرسي الجاد، فالوجوه كلها غريبة والكتب المدرسية أنيقة وجديدة، ومواد الدراسة صعبة ، والواجبات المدرسية كثيرة وطويلة… والواجبات المنزلية أكثر تطلباً يوماً بعد يوم آخر مع اشتداد المرض على عمتها مريم مع قدوم أشهر البرد والشتاء.
رغم ذلك ازداد تصميم سعاد على أن تجتاز الصعوبات كما اجتازت الكثير منها، فهي لن تعود إلى القرية فاشلة منكسرة الراس، ولن تصبح الأنثى الخاسرة في لعبة الأيام كأمها وعمتها… تنتظر الرجل كي يعيلها ويهينها، أو يتكرم عليها بقروش قليلة. وبتصميم متعمد ابتعدت سعاد عن الاختلاط بالطالبات حتى أنها كانت تجهل معظم أسماء زميلاتها في الفصل، فمعظمهن يذكرنها بماري الجميلة، لا هم يقلقهن سوى أناقة مظهرهن وتصفيف شعورهن، أما هي فتنهض في الصباح الباكر لتنظف غرفة نومها وترتب ثيابها وتعد طعام الفطور لعمتها وتساعد في ترتيب المنزل أو تحضير طعام النهار ما استطاعت من الوقت ثم تتوجه مسرعة إلى المدرسة، وفي المساء بعد أن ينهكها تعب الدراسة والعمل تستلقي على السرير في غرفتها وعيونها معلقة على جدار الغرفة أمامها، وفي الحجرة المجاورة عمتها والجدار بينهما يعلو ويرتفع. مسكينة العمة مريم يبدو ان سعادتها بها قد خفت مع تدرج الأيام او أنها لم تعتد التغير والتجديد، فالعنوسة ما زالت تسكن قلبها بنظرات عينيها المتعبتين ووجهها الصارم الذي يابى السعادة والفرح وكانها لم تعرف طفولة وشباب ، براءة وشقاوة بل سارت مع الأيام سيراً بوجه متواضع الجمال وعنوسة قلب وروح. وسعاد تحتار كيف تدخل الفرح إلى قلب عقيم، فهي وحدها التي احبتها كما أحبها والدها الحبيب، وهي وحدها التي احتضنتها في محنتها… ويطير بها الشوق إلى القرية إلى ذكريات الطفولة رغم المآسي إلى حيث أمها وأخيها الحبيب أسعد. وشعور بفراغ هائل يحتويها وكأن قلبها هوة عميقة لا قرار لها يجعلها تسمع ضرباته كقرع الطبول ضجيجه وصداه فتصم أذنيها بكفيها وتشعر بانامل إلياس تزحف على جسدها تعريه، تعتال مسام جلده وشفتيه الغليظتين تتمرغ على وجهها فتغطي وجهها بكفيها فينهال عليها ضرباً وركلاً والتقزز يملأ منها فمها فتهرع إلى الحمام فتفرغ ما في جوفها وتقف تحت الماء الساخن لتدعك جسدها حتى يكاد الدم يتفصد منه ودموعها تنسكب على وجهها لتختلط بالماء المتدفق عليها.
وتوالت فصول السنة الدراسية وسعاد تطحن الأيام حيث لم تزر القرية وبالتالي امها سوى في مناسبتين. في اعياد الميلاد، وفي إجازة أعياد الفصح، حين الحَّت على عمتها حتى أقنعتها بالذهاب معها مرغمة وهي تشكو من البرد القارس تارة ومن طول الطريق والتعب أخرى، وفي كلا الزيارتين لاحظت سعاد نحول أمها وانكسارها، ونمو اسعد السريع بحيث اصبح يشبه أباه كثيراً وكانت الأم تلح على ابنتها بان تحضر في الصيف كي تمضي معهم بعض الوقت، ونظراتها الغامضة الصامتة تأمل بأن لا تقتنع ابنتها وتخضع لرجائها خوفا عليها من تكرار مأساة الماضي. ولهفة على نفسها من أن تقع في هوة الاختيار بين الابنة والزوج. وهي لا تستطيع العيش بدونه رغم نزواته وبطشه. وكانت العمة مريم تهدد وتتوعد سعاد بانها لن تعاود زيارة القرية مرة ثانية فصحتها لم تعد تسمح بذلك وأن على سعاد أن تذهب وحدها بعد أن كبرت واشتد عودها.
وكانت سعاد قد اعتادت على الحياة الجديدة في المدينة واكتسبت كثيراً من التجارب حيث تلاشت قيود العمة ومحاصرتها لها لعجزها وتقاعسها أو لوثوقها بسعاد واعتمادها عليها في شؤون كثيرة. وقد انعكس ذلك على سعاد بإحساس بالثقة والراحة النفسية، جعلها تبدو أكبر سناً وأكثر تجارباً من زميلات الدراسة اللواتي أخذن بالتقرب منها لتفوقها في الدراسة ولبروزها في الألعاب الرياضية بعودها الصلب الطويل ونظراتها المتحفزة حتى أصبحت فتاة القرية المتعجرفة كما أسموها ملاذهم ومقصدهم، تنصت الى مشاكلهم وقصصهم عن ابن الجيران ورسائله أو عن ملاحقة أحد التلامذة الذين يتجمهرون حول مدخل المدرسة وعبارات الغزل التي يصطاد بها وهن واثقات بان سعاد هي التي تكتم اسرارهن لبعدها عن مشاكلهن وأحساسيس المراهقة الجميلة، ربما لانشغالها بأحد في القرية أو لاقتناعها بدمامتها وعدم اهتمام الفتيان بها لنحول جسدها وبساطة ملامحها، وعينيها الواسعتين بنظراتهما المتحفزة المتمردة. ويتملك سعاد شعور بالزهو والقوة وهي تنصت بهدوء والابتسامة الودودة تكسو شفتيها دون أن تسمع أو تعي توافه كلامهن، طفلة أخرى تروي لها تجاربها ونظراتها الطفولية اللعوبة تفضح قلبها البريء، يتقاذفها الشاب بكلمات غزل ونظرة وهي الخاسرة الذليلة في النهاية.
فهي غير زميلاتها وبقية الفتيات المراهقات، فلا يستهويها أو يغريها ما يستهويهن ويغريهن، حتى معلمات المدرسة ومديرتها يعاملنها على أنها أكبرهن سناً وأكثرهن اتزاناً وتحملاً للمسئولية.
ولكن ما هو ذاك الشعور الذي تتكلم عنه زميلاتها بكثير من الغموض واللاوقعية، بعيون تسبح الى أفق مجهول، إلى حلم جميل رائع، يزرع الخجل على الخدود وينبت الرعشة المجنونة على الشفاة، وعند ذكر الحبيب تغيب العاشقة في احلام اليقظة هائمة النظرات، متوترة الأعصاب وكأنها في حالة سحر تملك قلبها. وسعاد قد عرفت من الحب حب ابيها وأخيها وأمها وعمتها لكنه غير الذي تتكلم عنه الفتيات سراً وخفراً فتتيه حروفه على الشفاه خجلاً، وغير حب الأنا الذي ملأ عقلها وكيانها، فالحب للقلب وليس في قلبها سوى هوة عميقة وفراغ قاتل… رغم بعض الأحاسيس التي تتملكها، وتهزها كدبيب نمل خفي يزحف إلى قلبها ومسام جلدها حين تلاحق عينيها بكثير من الاهتمام والشغف بعض زميلاتها وهن في جلسة غير محتشمة أو حين تهتز أجسادهن ونودهةن بي؟؟ جري ولعب خلف الكرة وسيقانهن البيضاء كالعاج تتراكض كومضات نور من السماء تتعب ناظريها وتدير رأسها وتتركه في حيرة وصخب.
وكانت سعاد تكتم تلك الأحاسيس الغريبة وتخاف البوح بها حتى لهيلين صديقتها الوحيدة التي أطلعتها على الكثير من جوانب حياتها وهمومها مع أمها وعمتها دون أن تفضي بما جرى لها مع زوج أمها إلياس. وكانت سعاد قد اختارت هيلين من بين الزميلات لتكون أقرب صديقة، فتاة هادئة جميلة كهدوء بحيرة ساكنة ، وفي جمال بستان ربيعي ريفي، وكانت هيلين أكبر بنات الفصل سناً، قليلة الذكاء والاستيعاب بحيث تعيد السنة الدراسية لرسوبها في كثير من المواد الدراسية.
وكانت سعاد تساعدها على إنجاز فروضها المدرسية أثناء السنة الدراسية وفي فصل الصيف تتردد هيلين على بيت العمة مريم لتساعد سعاد في أعمال البيت، وبالمقابل تعطيها سعاد بعض الدروس في المواد التي رسبت فيها كي تتقدم لامتحانات الدورة الثانية في آواخر الصيف. وقد ارتاحت مريم لعلاقة هيلين بسعاد، لكونها ابنة جارها زكريا وزوجته التي لم تتركها في غربتها وحدها منذ تزوجت ونزحت إلى المدينة. ومع تردد هيلين على بيت مريم أخذ زكريا بالتردد على العمة مريم والتقرب منها، ليقضي لها بعض أمورها، فيقلم أغصان الأشجار أو يقص ما جف من ورق العريشة كي تنمو وتكبر. ومريم سعيدة بتردده عليهم بل تشجعه وهي تدرك رغبته بابنة أخيها. وقد اسرت هيلين لسعاد يوماً بان زكريا معجب بها لاتزانها ورجاحة عقلها وتحملها مسؤولية عمتها المريضة وإدارة شؤونها رغم مسؤوليات الدراسة بل بروزها وتفوقها على بقية الفتيات.
وقد صدتها سعاد بقسوة فاصلة قائلة:
سعاد – لا اشعر نحو زكريا سوى شعور الأخت لأخيها… وكأنه أسعد الكبير.
هيلين – سوف تحبينه مع الأيام، فهو لن يتزوج حتى يبني مستقبلاً يؤهله لذلك، عندئذ ستجدين أنه جدير بك حقاً.
سعاد – إن حبي لك هو الذي أجاز له الاحتكاك بنا والتردد على هذا البيت بكثرة، فرجائي أن لا تعودي إلى هذا الموضوع ما دمت صديقتي.
هيلين – سعاد… يا صديقتي الحبيبة، يؤلمني تمردك وغضبك المفاجئ، وبالرغم من كونك أكثر فهماً مني بأمور كثيرة إلا أنني أكبر منكِ سناً وأكثر وعياً بأمور الحياة، فماذا تريد الفتاة مهما حصلت من الشهادات أو الخبرات سوى زوج يسعدها ويؤمن لها حياة سعيدة مستقرة. وأنتِ رغم بساطة مظهرك وجمالك إلا أنكِ تسترعين انتباه الشباب ربما لعزوفك عنهم وعما تفعله بقية الفتيات، فالشباب يبحث عن الرزينة، لا الوردة الجميلة التي تتناقلها الأيدي والشفاه.
وابتسمت سعاد ابتسامة ساخرة وقالت بتهكم واضح:
سعاد – لا يغرنِك ركود ماء النهر وسكونه فهي نفسها تتحول إلى شلالات هوجاء وهائلة.
كانت مريم تسترق السمع إلى حديث الفتاتين وشعرت بكثير من الارتياح، لرغبة زكريا بابنة أخيها سعاد. فصحتها في تردٍ يوماً بعد آخر وسعاد بحاجة لمن يرعاها وقد أصبحت شابة يافعة، لكنها في بساطة أهل القرية رغم صلابة عودها ومظهرها الرزين المتزمت. وكانت مريم تشجع زكريا بالتردد عليهم متحججة بطلبات أو خدمات يؤديها لها رغم ثورة شقيق زوجها كريم كلما تصادف وجود زكريا أثناء زياراته لزوجة أخيه المريضة ونصحه لها بأن تبعد النار عن الوقود كي لا يقع المحظور. ومريم تعلم أن كريم حاول ان يذكرها بما حصل لسعاد في القرية من زوج أمها. زلة لسان جعلتها تبوح له بعد عودتها بصحبة سعاد من القرية منذ سنوات مضت وما زال يذكرها بها بتهكم وشماتة.
ومضى فصل الربيع الجميل وامتلأت العريشة بعناقيد الحصرم الأخضر بانتظار الصيف وقيظه كي يتحول إلى قناديل مضيئة، كالقناديل التي تنير الحجر والشرفات حيث ينكب الطلبة والطالبات على الدراسة استعدادا لامتحانات السنة المدرسية. وسعاد بهمة فائقة تحاول أن لا تترك شاردة او واردة من دروسها كي تحصل على مجموع يؤهلها لدخول المراحل الدراسية الأخيرة، ” البكالوريا ” بعد ان تقدم للبريفيه ( الشهادة المتوسطة ). ورغم سهرها في الليل لحفظ واستيعاب الدروس كانت تنهض في الصباح الباكر لإعادة استذكار دروسها مع صفاء ذهنها في الصباح بالإضافة إلى تجهيز كل ما يلزم عمتها أثناء النهار من طعام أو شراب، فصحة عمتها قد ساءت كثيراً بعد زكام حاد تحكم بها معظم أشهر الشتاء وتركها هزيلة تنار مناعتها لأي عارض ينتابها. مما زاد من زيارات كريم لها للاطمئنان على زوجة أخيه أو لإحضار طبيب أو دواء.
ومع اقتراب الامتحانات اشتد الضغط النفسي على سعاد بين واجباتها تجاه عمتها المريضة والتحضير للشهادة التي ستؤهلها لمواصلة الدراسة أو العمل فلم تجد الراحة سوى بصحبة هيلين صديقتها وجارتها. وكانت سعاد قد ازدادت تعلقاً وارتباطاً بهيلين، تمضيان النهار سوياً في فصول المدرسة وساحاتها، تسيران معاً من المدرسة وإليها وتذاكران الدروس معاً في صالة البيت أو في غرفة سعاد حتى لا تزعجان العمة المريضة، تأكلان وتضحكان في فترات الراحة ثم تعاودان الدراسة حتى وقت متأخر من الليل وتجمعهما صداقة متينة وتتملكهما أحاسيس ومشاعر مختلفة. كانت هيلين تشعر بتقدير صادق لما تبذله سعاد كي تبسط لها المواد الدراسية وتساعدها على استيعابها كلها أو بعضها مضحية بالوقت والجهد بينما كانت سعاد لا تطيق البعد عن هيلين، فاخذتها إلى عالم جديد من الأحاسيس الغريبة والجميلة في آن واحد ، تتركها حائرة مضطربة طالما هيلين بقربها، من دبيب نمل صامت يحركها نحوها كي تحتضنها بين ذراعيها، لتحمي ضعفها وسذاجة جمالها، فتفرح لفرحها ويرقص قلبها طربا كلما هرعت هيلين إليها لتضمها عرفاناً لنجاح أو شكر لتجاوز امتحان. ليغوص قلب سعاد لهفة وخوفا من احاسيسها الغريبة اللامعقولة.
وبالرغم من انهماك وسهر سعاد في الدراسة والتفكير، كانت تنهض باكراً لتجهز لعمتها المريضة ما يلزم من طعام، وتمر عليها لتطمئن عليها قبل خروجها إلى المدرسة.
سعاد – لقد جهزت لك شوربة دجاج بالشعيرية يا عمتي ، وساحضر لك بعض الفاكهة بطريق عودتي ، هل ترغبين بشيء آخر…؟
مريم – أرجو أن تمري على الكنيسة واطلبي من الأب بطرس أن يزورنا.
سعاد – اليوم آخر امتحان لي، وأتفرغ بعده لكِ فنذهب كل يوم للكنيسة لو رغبتِ.
مريم – حضوره لا يمنع ذهابنا للكنيسة يوم الأحد، بل أريده لأمر آخر.
ولم تذهب العمة إلى الكنيسة ذاك الأحد أو بعدهن بل تردت صحتها وأصبح حضور العم بصحبة الطبيب وتردد الأب بطرس هاجس أقلق سعاد على تردي صحة عمتها يوماً بعد آخر.
جلست سعاد على حافة السرير قرب عمتها ترمقها، طريحة الفراش مسبلة العينين وصدرها الواهي يعلو وينخفض بأنفاس قصيرة متلاحقة كلهيب جمرة تخبو وتشتعل، وانحنت على جبين عمتها تقبله وترشف بشفتيها الحرارة المشتعلة بكثير من الحب والحنانن فعمتها مريم نبع من الحنان احتضنها واحتواه، فاسكنتها بيتها وقلبها حين تخلى عنها الجميع، حتى أمها… وفتحت مريم عينيها وأمسكت بيَدِ سعاد بلهفة الأمومة التي حرمت منها ولثمتها بشفاه كالجمر وقالت وصدرها يعلو وينخفض والدموع تكسو وجنتيها…
مريم – لا تتركيني يا سعاد ، فلم يعد لي في هذه الحياة سواكِ.
ورسمت سعاد ابتسامة على شفتيها عنوة وقالت:
سعاد – والعم كريم وراعي الكنيسة الأب بطرس و…….
وقاطعتها مريم قائلة – الأب بطرس رجل بار لدينه ورعيته، فصلواته وتوجيهاته تمهد لي الطريق كي ألاقي وجه الرب بقلب ونفس طاهرة. وتسمرت سعاد مكانها، لهفة على عمتها وخوفا على مصيرها من بعدها فقالت بعصبية ظاهرة.
سعاد – لن أدعك للتشاؤم يا عمتي، وغدا نجلس على الشرفة التي افتقدتك فتطالعك حديقتك الجميلة وتلفك شمس النهار بدفئها فتبرئين من كل تشاؤم ووهن.
واهتز جسد مريم بانفعال واهي؟؟ نظرات زائغة وأمسكت بيد سعاد تهزها بما بقي لها من قوة وقالت:
مريم – لنترك احلام الغد، فلكل يوم حكمه وزمانه. ودعيني افاتحك بأمر هام أرجأته حتى اليوم لجهلي بما سيخبؤه لي الزمن.
سعاد ما الأمر يا عمتي، هل أصاب أمي أو أحدهم مكروه، لقد سقط قلبي بين قدمي…
مريم – الجميع بخير في القرية ولكن كريم…
سعاد ما حصل للعم كريم…؟
مريم – لقد طلبك كريم زوجة له…
وهوت مطرقة بحجم الكون على رأس سعاد، وامتلأت اذنيها برنين أجراس الكنائس كلها وقالت في ذهول:
سعاد – أنا… زوجة العم كريم… لماذا…؟
واستجمعت مريم قوة كنشوة من قبل الموت لتدرأ عن سعاد الابنة التي لم تلدها ، خطراً جسيماً قائلة:
مريم – لا ترمي بنفسك في التهلكة يا ابنتي، فكريم لا يصلح لك زوجاً أو لأي فتاة غيرك. فلا ترمي بنفسك في بؤرة العنوسة والحرمان. تزوجي زكريا الفقير يغنيكما الرب بالحب والحياة، او عودي إلى القرية، إلى امكِ وأهلكِ فلن يصيبكِ شرّ أسوأ من زواجكِ من هذا الرجل.
خرجت سعاد من غرفة عمتها ذاهلة صامتة إلى فراغ بارد وجسدها يهتز بقشعريرة حنق وغضب، فحياتها ومستقبلها شفا هاوية عميقة لا قرار لها. وضاقت الجدران حولها فخرجت من البيت على غير هدى تجري أو تسير بسرعة لتلحق بالأفكار التي اخذت تنساب من عقلها كحبات العرق التي كست وجهها وجسدها.
كريم يريدها زوجة… وهو الذي لم يتزوج قط… يردها زوجة أو يريدها ابنة… لا بل زوجة… حليه يزين بها صدره في آخر عمره… صبية تجري في صالات بيته الكبير وحدائقه الواسعة، زهرة ربيعية في خريف عمره. لكنه رغم فارق السن بينهما ورغم تردده الدائم لم تلحظ نظراته إليها… تلك النظرات التي تخترق الراس والجسد، كنظرات زكريا أو غيره من الشباب، من لمسة أو كلمة. وتذكرت كلمات عمتها، لا ترمي بنفسك في بؤرة العنوسة والحرمان فهو لا يصلح أن كون زوجاً لأي فتاة… ماذا يريد منها إذاً… دمية، لوحة تزين جدران بيته، زهرية جميلة في غرفة نومه. يريدها زوجة ليبرر وجودها قربه كي يرعاها كما رعتها عمتها ( زوجة أخيه ) بحب وحنان… ولكن وهو زوجها ايفجر حنانه وحبه طاقات حبيسة، انوثة لم تشعر بها قط، منذ طفولتها، منذ تحول المولود اسعد إلى سعاد رغم صلاتها ودعائها كي تسعد قلب والدها الحزين – فالأنوثة لديها ما هي سوى بوز نهدين صغيرين وعادة شهرية تحضر وتغيب وتحرش زوج أمها السكير بها لانجذابه لتدور جسدها، عود يافع صغير أراد أن يقطف ثماره قبل نضجه حصرماً أو علقماً.
ورمت سعاد بجسدها المخصب بالعق؟؟ والهلع، وتركت راسها المتعب بالتساؤل والحيرة بين ذراعي هيلين وشعور لذيذ كدبيب النمل يسري في جسدها كالخذر مستسلمة لحنان صديقتها الطاغي بالأنوثة والمحبة الصادقة.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل السادس –
تمَّ إكليل سعاد وكريم في كنيسة البلدة نظر الأب بطرس بعد إتمام الزواج إلى العريس كي ياذن له بتقبيل عروسه ونظراته تكاد تفضح مكنون قلبه حزناً على السيدة الفاضلة مريم التي لم يجف التراب على قبرها وإشفاقاً على سعاد التي تدفن نفسها وهي في ريعان الصبا والشباب.
وسارت سعاد تتابط ذراع كريم، تخطر بقوامها الممشوق وثوبها الأبيض بين نفر قليل من أقارب العروسين، والتقطت عيني سعاد نظرات الوداع الحزين في عيني امها بينما لاحقها عمها إلياس ينظراته الصفراء الشامتة… وتراءت لها صورة ابيها مجسمة تنتظرها على باب الكنيسة يباركها بنظراته الطيبة، ويحثها على التضحية والصبر فقمة التدين، التشبه بالسيد المسيح الذي قدم نفسه قرباناً على مذبح الخلاص.
نظرت سعاد إلى وجهها الشاحب في المرآة، تتلمسه والدموع تغمره تبحث فيه عن نظراتها المتحفزة، المتمردة عن أمل يعيد إليه النضارة والشباب، يعدها بالرغبة بالحياة. فالقصر سجن ضاقت بها جدرانه، وفاخر الثياب دبابيس واشواك، والمأكل والمشرب سما يزيد من حولها وضعفها. زوجه شبه عذراء، لرجل او نصف رجل رماه حظها التعس أمامها لكي يوصد أبواب المشاعر الأنثوية التي أملت أن يفجرها حبه وحنانه ويغلق دروباً وعرة كانت تحاول أن تكبتها أو تتجاهلها.
وكان كريم يبتعد عنها لأيام وأسابيع ثم يصبح عصبياً وعدوانياً يفرض نفسه عليها محاولاً إثبات رجولته، يرغمها فتطيعه مكرهة فهو سيدها ومالك جسدها ولا مفر من طاعته والانصياع لرغباته الهوجاء، لجسده الضخم الأجوف ولمساته كدبيب نمل يسرح على جسدها البارد وأنفاسه كالسم تسري في حلقها ورائحة الثوم مع الخمر تخنقها، تتهرب منه لكن دون جدوى، فاداة الإرادة عليلة لديه، وعضو الذل والخنوع لديها. ويعلو صفيره المتقطع فوق مسام الزمن وتتسارع الضربات قبل الوصول إلى صحراء يباب مقفرة، ثم يتدحرج بظهره مبتعداً كجبل من سواد مظلم… فتهرع سعاد إلى الحمام لتخرج ما في جوفها اشمئزازاً وقرفاً وتغتسل لتزيل رائحته عن مسام وجهها وجسدها، ويتملكها في كل مرة شعور غامض، بذنب تقترفه حين تترك جسدها للطاعة والذل.
وتمضي الأيام سعاد وهي سجينة بيتها ونفسها، فابتعدت عن معظم صديقاتها متعللة بانشغالها بامور زوجها وبيتها وهي في الواقع طريحة الفراش هروباً او غرهاقاً؟؟ بعد تناولها في الليلة السابقة حبوباً منومة للهروب من الإحساس به بوعي كامل أو لصداع وآلام تنتابها كل مساء. وكم حاولت هيلين وهي الوحيدة التي استمرت على زيارة سعاد من وقت آخر أن تثنيها عن هذا الهروب المدمر وتحثها على الخروج من قوقعتها وتعود إلى طبيعتها المرحة فتنسى مع الآخرين همومها وآلامها. وكان كريم يعمل بحنكة وصبر بخبرة سنين عمره على إبعاد زوجته عن كل معارفها بالإقناع أو الترهيب، فغيرته العمياء وحب السيطرة خلق سياجاً من الخوف حولها كي تعيش في اضطهاد وشك دائم خوفاً من كل جارة أو صديقة او زائر غريب. فسعاد جوهرة ثمينة تزين بيته قطته الاليفة التي تلعق اللبن من وعاء مذهب كما تلعق المذلة والهوان في صراع بين عقلها الرافض وجسدها الراضخ.
وكان كريم يصحب زوجته إلى القرية في المناسبات والأعياد لزيارة أمها وأخوتها وهي ترفل باجمل الثياب محملة بلذائذ المدينة من طعام وهدايا فيمضيان بعض الوقت بين أسرتها وسعا تتعرب؟؟ من عيني أمها المنكسرة ونظرات عمها إلياس الوقحة الشامتة، وترثو بنظراتها بين الجدران والأثاث إلى كرسي والدها فتتسحب خلسة كي تجلس فيه لتشعر بالحرارة والدفئ وحنان والدها يغمرها بالحب والنوم فتخنقها العبرات فتهرع إلى غرفتها التي تحولت إلى غرفة شقيقتها حنة لتجلس على حافة السير والأنين الخافت ينبعث من أعماقها ليعيد إليها صور الماضي محفورة الحيطان والجدران احلاماً وعذاباً ويتوقف قلبها عن الخفقان وكفي زوج أمها تتلمسان جسدها الصغير بوجهه المتجهم وأنفاسه المتلاحقة فتهرع إلى خارج البيت تداري دموعها وانقباضها لتنفرج اساريرها وهي ترى المربعات على الأرض لتذكرها بلعبة الإكس التي كن ينقافزن عليها في مرح وحبور. فصيدقاتها سلوى وسعدى قد تزوجن من القرية ورزقن بأطفال حتى ماري الجميلة تزوجت من رؤوف غريمها في فريق كرة السلة الذي أصبح مدرساً في مدرسة القرية بينما سعيد ما زال عازباً يعمل في متجر ابيه. ويرن صوت امها في أذنيها فجأة وهي تناديها بغلظة:
– ادخلي أيتها الطائشة قبل أن ياتي عمك إلياس، ويكسر رجليكِ الم ينبهكِ بعدم البقاء مع الصبية تلعبين وتتنططين كأنكِ واحد منهم.
جاءت هيلين وخطيبها لزيارة سعاد وكريم لدعوتهما لحفل الزفاف وللتأكيد على سعاد أن تكون أشبينتها ورضخ كريم مرغماً بعد إلحاح هيلين وتوسل سعاد بخطوة اراد بها إرضاء سعاد بعد أن لاحظ، رضوخها وسكونها الدائم المصاحب للصمت والاكتئاب.
مع اقتراب موعد إكليل هيلين وقفت سعاد بجانب صديقتها تحركها بعض مشاعر قديمة ولحظات سعادة وحنان تحولت مع الايام لصداقة حقيقية بحتة فهي التي وقفت معها في لحظات بؤسها وشقائها ولم تبعدها مكائد كريم أو غيره بل التصقت بها وكانها الشقيقة التي لم تلدها أمها. وفي غمرة الأيام تغاضت سعاد عن متاعب قلبها لتلتصق بصديقتها، من الخياطة إلى السوق، إلى الكنيسة حيث استقبلها الأب بطرس بنظرات عاتبة حانية لبعدها عن الكنيسة كما عهدها حين كانت تذهب أسبوعياً في الآحاد مع عمتها، فهو لم يرها بعد زواجها إلا في المناسبات والأعياد فابدت له الأعذار والأسباب، كلمات جوفاء من شفاه كاذبة ، وعيناها تفضح مكنون قلبها، قلب يعيش القيد وجسد يحيا على المذلة وهو الذي يفضح ببصيرته المستور، يقرا ما يدور بخلدها ما يعتمل في ظلام قلبها كنور الشمس الساطعة، فربت على كتفها برفق وجسدها يهتز كريشة مذعورة قائلاً:
الأب بطرس – يا ابنتي لا يستطيع المرء ان يخفي نور الشمس بخيال إصبعن فالجنة والنار، الخير والشر حقائق هذه الحياة الدنيا تسكن قلب الإنسان والروح، والبحث عن الخير هو طريق الوصول للخلاص، للنور الإلهي اما الخوف والتخبط فهو طريق خطر يؤدي بصاحبه إلى الضياع والانحدار، فالهروب من مواجهة الواقع خطأ لا يمحوه خطأ أكبر بل بمواجهته بالإيمان والحكمة والإرادة.
سارت سعاد عائدة إلى البيت وعقلها الشاد عما حولها يكرر قول الأب بطرس كلمة كلمة والمعنى خلف كلماته وإيحاءاته… ” الخوف خطر يؤدي إلى الضياع ” ” والخطأ يمحوه خطأ أكبر ” وتبتسم سعاد في مرارة قائلة في سرها ” القول سهل والتطبيق عسير…” كيف الخروج أو الهروب من ظلمة اختارتها بنفسها، بإرادتها رغم تحذير عمتها مريم، رغم نظرات أمها الرافضة اختارت كريم كنوع من ( الماسوشية ) وتعذيب الذات، اختارته ربما لفارق السن بينهما كي يعوضها حب وحنان أبيها الذي افتقدته طفلة – أو كي لا تقبل بزوجٍ شابٍ يفرض عليها حقوقه عنوة وهي التي لم تشعر بمشاعر تجذبها نحو أي رجل – أو ربما اختارته لكي تبرهن لصديقاتها واهل القرية بانه رغم جمالها المحدود الذي كن يعايرنها به، فزوجها أكثرهم ثراء وبيتها قصراً لا يحلمن له وثيابها وحليها تخطف أبصار الجميع. لكنها فشلت في توقعاتها وأصبحت فتاة شبه عذراء فلا هي أبحرت ولا بقيت على شاطئ الامان بل خسرت وبثمن بخس ، إنسانيتها وكرامتها.
وقف الجميع والعيون مشدودة إلى مدخل الكنيسة، ودخلت هيلين تخطر بثوبها الأبيض وهي في أبهى حلة وجمال، متعلقة بذراع والدها الذي سار بها حيث وقف العريس وبجانبه الاشبينين زكريا وسعاد وبعد مراسم الزواج طبع العيس قبلة على خد عروسه الحسناء وعمت قلوب الحاضرين لحظات سعادة عارمة للحب الصادق، فعلى السحر تنتقل فراشاته لتوزع الحب والصفاء على العاشق والمحروم.
وسار الجمع إلى باحة الكنيسة لتهيئة العروسين والأهل وتقدم زكريا نحو سعاد وأحاط كتفيها بذراعه وهو يهمس بأذنها كلمات حميمة صادقة. وقبلت سعاد وجنتي هيلين بحب صادق والفرح يغمر قلبها بسعادة صديقتها وتقدم كريم فهنأ العروسين وسعاد تتابط ذراعه في لحظة حب قصيرة. وعادت سعاد بصحبة كريم إلى البيت وهو متجهم، ساكت لم ينبس ببنت شفة – وما ان دخلت حجرتها حتى أمسكها بقسوة وأغلق الباب خلفه واخذ يصفعها على وجهها بوحشية لم تعهدها من قبل وهو يكيل لها السباب:
كريم – ايتها الفاجرة تتمنعين معي، أما مع زكريا فله نظرات الغرام وهمسات العشق، قبلتِ بي كما قبلتُ بك مع دنس الخطيئة في جسدك العاهر – فقد سبقني إليك زوج أمكِ – وربما غيره وغيره وتتظاهرين بالطهارة والبراءة.
وأخذ يضربها ويركلها حتى هدهُ التعب وخرج طارقاً الباب خلفه وهي مكومة على الأرض ككيس نفاية قذر لصراخه الهادر صدى تردده حوائط البيت وجدرانه.
وتحاملت سعاد على نفسها وأقفلت باب غرفتها بالمفتاح وتمددت بجسدها المحطم على السرير ، تحاول أن تحصر موضع الألم فيه، وكانه جسد إنسان آخر جسد بلا روح يملأه الفراغ واللاشعور وعلى الجدران وجوه لا معالم لها سوى حفرتين للعينين وفم يخرج لسان أحمر كلهيب النار وقهقهات عالية اختلطت بصوت أجراس الكنيسة كمطرقة تطحن راسها تصم أذنيها – ومضت الساعات وهي ممدة شاردة غائبة عن الوجود دون أن يغمَض لها جفن. وسمعت قرعاً على باب حجرتها، تجاهلته ونهضت إلى الحمام لتغتسل ووقفت وفي وسط البانيو تبول ومياه الاغتسال تنساب مع بولها وهي تقهقه في هستيرية ماجنة، ثم لبست ثيابها وخرجت من البيت تسير هائمة على وجهها حتى تعبت فعادت إلى البيت وأقفلت باب غرفتها وجلست على مقعد في حالة غيبوبة غريبة.
وكأن شيئاً لم يكن، عادت الحياة ظاهريا إلى بيت كريم وسعاد تتحرك في أرجاء البيت في بلادة وخدر وتفرح سعاد بخروج كريم للسهر مع أصدقائه كل مساء أو تفرح بهدية أو ثوب جديد يتركه لها على المنضدة فرحة لحظة قصيرة كبسمة تمس الشفاه بنسمة كفرحة أمها بمنديل يحضره العم إلياس لها بعد أن يكون قد أوسعها ضرباً ومذلة.
وبعد هدنة لم تطل عاد كريم مترنحاً ذات ليلة ضارباً باب غرفتها بقدمه ثم هم على سعاد يقبلها وهو يقول:
كريم – هذه القبلة من زكريا توسل أن أطبعها على فمك النجس، وقد منحني من شباب جسده قوة كي اسعدكِ هذه الليلة أيتها الفاجرة.
وهمَّ بجسده الضخم عليها ورائحة الخمر تمتزج برائحة فمه الكريهة تحرق شفاهها المغلقة وعينيها المتفتحتين ومسام جسدها الرافض، يكيل لها السباب والشتائم ليثير بها نفسه ليتسارع لهاثه ويخفي عجزه ثم ينقلب جانباً كجبل من جليد وما هي إلا دقائق حتى تثقل انفاسه ثم شخيره، فتزحف هي من السرير إلى الحمام والقيء يملأ جوفها والذل يكسو فتغتسل مراراً والدموع تنهمر على وجهه.
جلست سعاد منهكة على حافة السرير تنظر للكدمات تملأ وجهها وجسدها ورائحة كريم وثيابه المبعثرة تدير مرجل الغثيان في أمعائها، وتناثرت أفكارها كالسحب السوداء حتى أظلمت الدنيا حولها وصوته الهادر يصم أذنيها ومطرقة مشرعة فوق راسها… كيف الخلاص…؟ تساؤل عاودها في لحظات الألم والبوؤس وما أكثرها. كيف تنهي عذابها…؟ اتعود للقرية والصبر على الموت البطيء كفر وجريمة… الهروب ولكن إلى أين، ليس محال ولكنه يحمل مع المشقة بصيص من نور بعيد يمني النفس المتعبة بالهلاك أو الخلاص.
واستطاب كريم جبروته في إذلالهان وانكسارها ورضوخها لرغباته المبتورة بالحيلة تارة أو بالإكراه والضرب، يتركها أياماً بل شهوراً ثم يعيد الكرة ليرضي رجولة ناقصة. يتراءى لها وجهها في كل مرى كوجه أمها الكئيب والكدمات تملأ وجهها وذراعيها ونظرات زوجها وزوج أمها الوقحة الشامتة.
ذهبت سعاد لزيارة هيلين في بيتها، أن تفرج عما يثقل عقلها وقلبها فوجدت لديها اثنتين من جاراتها، يتحدثن عن أزواجهن وأطفالهن ويجزلن بنصائحهن لهيلين التي كانت في أشهر حملها الأخيرة. وتجولت سعاد بنظراتها في أرجاء المنزل المتواضع وكل ركن فيه يغرد بالحب والدفئ الحنون… فترقرقت الدموع في عينيها والكل لاه وسرحت بفكرها مع صورة للعروسين في ركن هادئ… تتساءل في سرها أهذا ما كانت ترجوه لنفسها زوج أطفالها وعش صغير، لكنها رفضته برفضها لزكريا وغيره واختارت كريم رغم تلميح عمتها بنقص رجولته ورغم تنبيه أمها بفارق العمر بينهما… رغم ذلك اختارته لأنها لم ترد رجلاً زوجاً كبقية الرجال ولا هي فتاة كبقية الفتيات، ربما لشيء بتكوينها الجسدي والنفسي. فالتناقض في داخلها، هي تريد وترفض، تتمنى وتمتنع… والفرق شاسع بين ما يتمنى المرء وما يريده أو يحصل عليه فعلاً. وتذكرت الأب بطرس ونظراته الحانية، وتكرار طلبه بأن تمر لرؤيته فهو حافظ أسرار القرية ومنقذ نفسها من العذاب.
ونظرت هيلين وهي تتحدث بحماس وتتلمس بطنها المنتفخ… فبادرتها هيلين قائلة:
هيلين – لن أدعكِ تذهبين الآن وأود أن أريكِ ما أشتريته للمولود…
سعاد – في مرة قادمة – لدى موعد هام، لا أريد أن أضيعه.
وغمزت لها هيلين وهي تبتسم في خبث بريء…
هيلين – موعد… مع من… ايتها الشقية…؟
ونظرت سعاد إلى الخلف عند عتبة البيت قائلة:
سعاد – موعد مع المجهول يا عزيزتي… موعد مع الخلاص.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل السابع –
رفع بطرس نظارته ليجفف العرق عن وجهه وبيده الأخرى صليب خشبي صغير يتدلى من مسباح طويل تعبث فيه أنامله وسعاد تجلس قبالته في خشوع الاعتراف تروي له أحداث عمرها منذ الطفولة وتمسح دموعا تغمر وجهها لتغسل عذاب نفسها ولو للحظة والراهب هادئ يستمع بصمت الرهبنة الذي لا يؤنب أو يعيب. وسكتت سعاد ولهاثها يتسارع كجري في الخيال.وساد الصمت الطويل وهي بانتظار كلمة تتفوه بها شفتاه ترسم لها طريقاً للخلاص… وكان الراهب ينظر إلى عيني سعاد مباشرة والفكرة تراوده بأن يطلب منها أن تنذر حياتها للرب وتنهي مأساتها في خدمة يسوع، لكنه وأد أمنيته بصمته الرهيب فجند الرب يأتون إليه طواعية آملين بالخلاص، بالطهارة والإيمان والفداء في خدمة يسوع المسيح لا الهروب إليه بالإكراه والترغيب.
وتطلعت نحوه بنظرات ترجوه أن يكسر صمته، فربت على كتفها قائلا:
الأب بطرس – لقد عانيت يا ابنتي سنوات عجاف. والصبر والإيمان هما طريقكِ للخلاص، فالصبر على البلاء مفتاح الفرج.
سعاد – لا حيلة لي بالصبر يا أبونا وليس أمامي سوى الموت أو السجن ويكون عذري أنني اعترفت لك بين يدي الرب ولم تمد لي يد العون.
الأب بطرس – لكنكِ اخترتِ بنفسكِ مصيراً غامضاً ورضيتِ بالخطأ سنين طويلة.
سعاد – الإنسان مذنب وخاطئ والرب غفور رحيم وقد صبرت حتى عرفت باليقين طريقي أن كتب لي الحياة.
الأب بطرس – أهُناك على طريقكِ رجلاً آخر منعتكِ الخطيئة الأعتراف بوجوده…؟
سعاد – حاشا أن أكذب على الرب وعليك يا أبونا، بل ساعيش بعذرية ناقصة وعنوسة مبكرة ولن أعرف رجلاً ما حييت.
الأب بطرس – هدم الببوت منافٍ للدين وشرع الكنيسة فلا تطلبين مني…
وقاطعته قائلة:
سعاد – أطلب الخلاص… الخلاص يا أبونا… وإلا تكون قد دفعتني إلى الجريمة أو الرذيلة.
وانحنت على يده تقبلها والدموعع تسبقها وهي تردد بصوت متقطع:
سعاد – الخلاص يا أبتي، فارشدني إلى الخلاص يمنحك الرب طريقاً للسماء.
الأب بطرس – وكريم وأهلكِ وتساؤل أهل القرية عن اختفائكِ وعن دور الكنيسة في كل هذا.
سعاد – تساعدني وتسعد عمتي مريم في قبرها وهي التي أحبتني ورعتني كما أحبتها الكنيسة ورعتها، ما تربل إلا بقعة صغيرة في أرض الله الواسعة. فإن دخلت الدير هنا أو في أي قرية سانقطع عن العالم ومشاكله… سأترك سري ومصيري بين يدي الرب أو يديك.
هز الأب بطرس رأسه وأنامله تعبث بالمسباح بيده والصليب الخشبي الصغير يتأرجح مع أفكاره ثم نظر إليها وقال باقتضاب:
الأب – عودي إلى بيتكِ واتركي أمركِ للرب فهو المخلص الهادي.
جلست سعاد في المقعد الخلفي مع راكبين آخرين في سيارة أجرة توصل تربل بعاصمة طرابلس وجلس قرب السائق راهب شاب تغاضى عن بقية الركاب بقراءة كتاب بين يديه وعند وصولهم إلى المدينة تفرق الركاب ومشى الراهب وتبعته سعاد في صخت حتى وصلا إلى موقف للباصات يربط طرابلس بالعاصمة بيروت وأخرى تربط الشمال بمدن وقرى الجنوب، تقدم الراهب الشاب من السائق متحدثاُ معه بصوت منخفض والسائق يرد باحترام،
السائق – بامرك سيدي، بأمرك أبونا.
ثم اقترب الراهب من سعاد وأعطاها مظروفاُ مقفلاُ قائلاً:
الراهب – هذه رسالة لكِ من الأب بطرس والأخرى تسلمينها إلى الأب سمعان، ولقد أوصيت السائق أن يوصلكِ إلى مقصدكِ بسلام.
ثم دعى لها بسلامة الوصول وانصرف.
جلست سعاد في مقعد خلفي في الباص تحمل بين يديها حقيقة جلدية سوداء وضعت بها القليل من الثياب وما تحتاجه كي لا تثير الشبهات وهي تترك مدينة تربل، المدينة التي عرفت فيها الحب والحنان الحقيقي من عمتها مريم – هناك تفتحت عيناها على الحياة بما فيها من جمال وقبح من سعادة وشقاء، بين شوارعها وأشجارها عرفت زخم المحبة والصداقة كما خبرت الخوف والكراهية والبغض، متناقضات الحياة بكل ما فيها وما عليها.
واغمضت سعاد جفنيها في شبه إغفاءة تتزاحم الأفكار في مخيلتها وقلبها يسابق الريح بضرباته كعجلات الحافلة التي تتخطى الأشجار والجبال تنهب الأرض رغبة بالوصول – وعقلها الخائف الوجل مما ينتظره في آخر الطريق. تحن بالعودة إلى تربل وترجو الله أن لا يفرض عليها العودة بمذلة وجروح مثخنة من ذلك المجهول الغامض. فما الذي ينتظرها هناك، مكان غريب وأناس غرباء وعالم آخر لا تمت إليه بصلة سوى صلة الأرض الواحدة والوطن الواحد. فالخوف من المجهول شك يشكل تفكير المرء ويصبغه بالسواد، وتحثها نظرات كريم الماكرة الواعدة بالعودة إلى الاستقرار المادي والاجتماعي، إلى المان؟؟ إلى ربوع بيئة عرفتها وكبرت بين شوارعها ودواعيسها تعود لأهل تربل الذين رعوا طفولتها وشبابها وعرفت قوتهم، يجعلهم ضعفهم يداً واحدة رغم الخلافات والحزازات الشخصية. وهمت أكثر من مرة بالنزول من الحافلة مع الآخرين عند وقوفها في إحدى المدن أو القرى… ونظرات عمها إلياس تلاحقها بشماتة وبضحكات كريم الإبليسية تطاردها بصفعاته وركلاته… فتتشبث بالمقعد حتى لا يجرفها تيار الخوف من المجهول فتضعف وتنكفئ عائدة إلى البؤس والشقاء.
وفتحت عينيها بإصرار كي تفرض على نفسها مواجهة الواقع والنظر إلى المستقبل بقدم ثابتة رغم وجل قلبها وشكوك عقلها. وامتدت يدها لتنزل زجاج النافذة فيها وتدفقت نسيمات باردة لتصفع وجهها وتلطف من جو الحافلة الحار واخذت من الأعماق أنفاساً كأنها تطهر رئتيها من هواء تربل وذكرياتها الحلوة والمرة بهواء جديد نقي يتسرب إلى رئتيها وقلبها لتتسابق دقاته مع تسابق الأشجار أمام ناظريها وثمارها تتدلى كفوانيس مضيئة والكروم سهولاً على مد النظر تتدلى منها لآلئ بيضاء وسوداء تتراقص مع الهواء لتخفف عن حباتها لفح الشمس وقيظ الظهيرة. وتسرب اخضرار السهول إلى نفس سعاد ليمنحها الأمل والصبر، فالأرض قوية صابرة رغم العطش وقيظ الصيف رغم تقلب الرياح وعبثها فهي لا تكف عن العطاء مع سلسبيل ماء أو نهر متدفق بالحب.
وتوقفت الحافلة بعيد العصر في آخر مطافها ونزل ما بقي من الركاب، وتذكرت سعاد الرسالة التي دسها في يدها الراهب الشاب ففتحت المظروف لتجد بعض النقود في المظروف الأول ومظروف آخر كتب عليه ” الأب سمعان عين أبل ” وتقدم سائق الحافلة وطلب منها البقاء فهو سيوصلها إلى الدير كما أوصاه الراهب في تربل.
سارت سعاد خلف شماس الكنيسة عبر حديقة وساحة فسيحة ودخلت باباً خشبياً صغيراً إلى ممر طويل تسمع صدى خطواتها وصمت خفه حتى وصلا إلى غرفة متواضعة يتصدرها مكتب خشبي على جانبيه كرسيين من القش. وقفت في خشوع قرب المكتب حيث يجلس الأب سمعان وقد تقدم منه الراهب يحدثه بصوت منخفض وكان الأب سمعان شيخ ناسك وقور تحيط محياه هالة من نور رفع ببصره وقال لها بصوت واضح:
الأب سمعان – تقدمي يا ابنتي اجلسي:
وتسارعت دقات قلب سعاد وتسمرت في مكانها وبينما كان الأب سمعان يقرا رسالة الأب بطرس ولحظات تزحف خالتها دهراً نظر إليها بنظرة فاحصة وآمرها بالجلوس… وتسربت إلى قلب سعاد نظرته الحانية وطيبة قسمات وجهه فشعرت بالطمأنينة والراحة. جلس على الكرسي أمامه تحتضن حقيبتها بين يديها لتخفي خوفها واضطرابها، قال لها بصوته الهادئ الوقور:
الأب سمعان – لا تخافي يا ابنتي، فأرض الله الواسعة تحمل هموم أبناء تحضنهم وتواسيهم فلا طيبة ارحم من طيبة الأرض ولا رحمة أكرم من رحمة السماء. أنت الآن بين أهلكٍ وناسكٍ لا فرق بين قرية ومدينة أو كنيسة أخرى، وقد أوصاني الأب بطرس بكٍ خيراً لصلته الوثيقة بعائلتكِ والأب بطرس رجل خير في دينه ودنياه كان له الفضل بعد الرب في بقاء هذه الكنيسة والدير في هذه القرية النائية رغم قلة عدد الرعية.
وتطلعت إليه بنظرة امتنان وتساؤل.. فأردف قائلا:
الأب سمعان – لا يخدم الرب سوى من نذر نفسه طواعية إليه… ولكن ستمكثين في بيت الراهبات حتى يهيء لك الرب العمل والسكن الملائم.
وانحنت سعاد تقبل كفه ولسانها يلهج بالشكر والامتنان.
وكانت العين قرية سفيرة في أقصى الجنوب عرفت بهذا الاسم لورود الإبل والماشية للرعي والشرب من نبع الماء المتدفق الواقع على أطراف القرية التي جعلها الله جنة خضراء لنقاء جوها وجمال سهولها رغم شظف العيش فيها لبعدها عن المدينة بقرون إذ لم تعرف بيوتها الماء والكهرباء إلا من سنوات بالإضافة لموقعها على حدود دولة معتدية تشن عليها بين الحين والآخر غارات انتقامية من قتل واعتقال ولذلك هجر السكان بيوتهم إلى مدينة ” بنت جبيل ” أو ” تبنين ” الأكثر مدنية وأمناً ولم يبقى في العين إلا نفرٌ قليل ممن يديرون شؤونها كدار البلدية ومركزاً للشرطة بالإضافة إلى مركز صحي ومدرسة ابتدائية يعمل بها موظفون حكوميون أرسلوا إليها نفياً أو عقاباً.
عاشت سعاد في عزلة تامة في غرفة ملحقة بالدير بطمأنينة وراحة لم تعرف مثلها طيلة حياتها. تساعد الراهبات بعملهن بصمت دون أن يسألنها عن ماضيها أو حياتها السابقة، بالرغم من الحب والحنان الذي شملنها به خدمة خالصة بترفع عن أمور الدنيا طلباً لمرضاة الرب بالعبادة والصمت، وكأن الصمت والهدوء سمة للرهبنة فقط. وقد تسرب الإيمان إلى قلبها ليطرد الخوف والتوجس من المستقبل وليحرر قلبها من زيف وكذب ماضيها الذي لوَّن حياتها بألوان المدنية البراقة بالزيف والرذيلة. ومع الهدوء والصمت شربت من جمال الطبيعة حولها وكأنها ترى جمال إطلالة الشمس خلف الجبال لأول مرة في حياتها وطلوع القمر إلى كبد السماء ليبدد حلكة الليل بنوره الذي أضاء لها طريق الاطمئنان والأمان.
وفي عصر يوم طلبت منها إحدى الراهبات أن تذهب إلى الأب سمعان في مكتبه وبطريقها إليه خالجها شعور مزدوج بالخوف والسعادة، الخوف من ان تفقد الطمأنينة التي عرفتها بين الراهبات في الدير والسعادة بالخروج إلى العالم حيث تريد. وقفت بخشوع ورهبة أما مكتب الأب سمعان فرفع بصره عن أوراق أمامه ونظر إليها طويلا قائلاً:
الأب سمعان – أرى يا ابنتي أن جو القرية قد ناسبكِ…
سعاد – صدقت يا أبتِ… الفضل يعود إلى الحب والحنان الذي شملتموني به وبالطمأنينة والأمان الذي أعاد إلىَّ الثقة بنفسي وبالعالم حولي.
الأب سمعان – لكنكِ اخترتِ. والرب هو ملهم الإنسان فيما يختار لنفسه.
وسكت قليلاً ثم أردف قائلاً:
– بامر من الرب وجدت لكِ عملاً في مدرسة القرية فاحضري صباحا لتبدئي حياتكِ الجديدة وأرجو لك الإيمان والهداية.
ودَّعت سعاد الراهبات والدموع في عينيها ومشت بحقيبتها إلى مكتب الأب سمعان الذي كان بصحبته رجل آخر.
وقفت سعاد في وسط الغرفة بانتظار كلمات ينطق بها الأب سمعان تقرر مصيرها ومستقبلها وتسربت نظراته الأبوية الحانية لتطمئن نفسها القلقة ثم توجه بحديثه إلى الرجل الجالس أمامه قائلاً:
الأب سمعان – هذه يا بني سعاد بطرس السيدة التي كلمتك عنها، أوصيك بها خيراً فهي قريبة لأعز صديق لي.
ونزلت كلمات الأب سمعان بدراً وسلاماً وهو يعلي من شأنها للرجل بل يمنحها شرف القرابة لأعز صديق له، وراقبت سعاد وقع حديث الراهب على الرجل الجالس في خشوع من يتبقى النصح والمشورة من شيخ علام. رجل في أواخر العقد الرابع من عمره قليل الكلام لا تكاد شفتيه تنفرجان عن ابتسامة قصيرة حتى يعيدهما إلى الجد والوقار. وأردف الأب سمعان موجهاً حديثة لسعاد.
الأب سمعان – وهذا يا ابنتي السيد رفيق زيدان مراقب التعليم في قرية العين والقرى المجاورة وبالرغم من أنه من أعرق عائلات بنت جبيل إلا أنه ترك المدينة ونذر نفسه وعلمه لرفع مستوى التعليم في هذه المنطقة النائية.
وقد وصل إلى مركزه بالكد والتعب والتقلب في وظائف شتى. وقد وجد لك السيد رفيق عملاً في مدرسة البنات في العين – أرجو منك التعاون والجد فيما يطلب منكِ من عمل وان تكوني أهلاً للمسؤولية الملقاة على عاتقكِ كمدرسة لبنات هذه القرية تبذلين جهدكِ في خدمة المجتمع بفتح آفاق المعرفة لأبنائه وبناته الذين هم عماد المستقبل. أما عن السكن فسيساعدكِ السيد رفيق بإيجاد مسكن في المركز الصحي أو عند أحد الأهالي.
وقدمت سعاد لتقبل يده، فوضع يده الأخرى على رأسها كأنه يباركها وقال لها بحنان – ” اريد أن اراكِ في الكنيسة في الآحاد وكلما شعرت بالحاجة لصدر حنون فأخواتكِ الراهبات سيفتحن لكِ صدورهن ترحاباً”
جلس رفيق في مقعد جانبي يسترق النظر إلى سعاد الواقفة باحترام وتحفز أمام مكتب الناظرة التي كانت تصدر لها الأوامر وتشرح لها طبيعة وقوانين العمل في المدرسة، سيدة في أوائل العقد الرابع تبدو في نحولتها طول قامتها كقوس مشدود لفتاة أصغر سناً، يشع من عينيها حزن عميق وما يضيف إلى قسوة ملامحها شعر ملتصف بالراس اسبغ عليها خشونة بعيدة عن كل جمال وأنوثة. وقد اثلج قلبه ما رأى وما سمع ، فلن ترفض المساعدة باي عمل يطلب منها، ولن تكون مصدرا لمشاكل تواجه بعض المدرسات في القرية. وهي الغريبة عن القرية إلا من الأب سمعان الذي أوضى بها خيراً.
وسارت الأيام بسعاد وهي سعيدة في حياتها الجديدة، لا ترفض للناظرة مطلباً تعمل مدرسة رياضة بدنية وكمشرفة على الطالبات في ساحة المدرسة ولا تتوانى عن مساعدة الناظرة في بعض الأعمال الكتابية. حريصة على أن تملأ بالعمل كل لحظة من لحظات يومها، تغرق في هموم الغير حتى لا تعاودها هموم قلبها وحين تأوي مساءً إلى مسكنها الذي تشاركها السكن فيه سيدة تدعي لماء الجرد تعمل في المركز الصحي وتمضي معظم ليالي الأسبوع في قرية رميش المجاورة حيث زوجها وأولادها، تقوم سعاد استهلاك ما بقي من وقتها بتنظيف الشقة الصغيرة أو غسل ما اتسخ من ثياب ثم ترمي بجسدها المنهك على السير طلباً للنوم، تعاودها تلك الرؤى والكوابيس تعتم وحدتها، فترى كريم يتهجم عليها بالشتم والسباب أو بالركل والضرب وهو يدفعها أمامه مكبلة اليدين إلى بيته وفراشه فتقوم مذعورة تضرب الهواء براسها فتفك قيد يديها الوهمي وتضيء أنوارلا المسكن كله لتقنع قلبها المعذب بأنها بمامن من كريم أو ترى زوج أمها إلياس يعبث بجسدها الصغير وهي تسترحمه بالبكاء الصامت المقهور فتصحو وقد بللت الدموع وسادتها.
حرصت سعاد على أن تبقي علاقتها بزميلاتها علاقات سطحية كي لا يخضن كعادة أهل القرى بخصائص حياتها ولانشغالهن بأمور لا تهمها في شيء يهرعن إلى بيوتهن في القرية أو ضواحيها فور انتهاء الدوام الرسمي وتبقى لتلازم ناظرة المدرسة تساعدها أو تنوب عنها رأفة بعجزها عند قيام السيد رفيق بزيارات تفقدية للمدرسة أو لمراجعة جداول الدراسة في أوقات الدوام المدرسي أو بعده، ورفيق سعيد بتفانيها وانصرافها الكلي للعمل وابتعادها عما يتسحوذ على اهتمام النساء من عمرها من ملبس وبهجة وغير ذلك.
وفي الآحاد تحرص سعاد على حضور الصلاة كل أسبوع بالإضافة إلى زيارة الأب سمعان أو راهبات الدير من وقت لآخر. وفي إحدى زياراتها أخبرها بأن أمها تلح على الأب بطرس لمعرفة مكانها ومصيرها وهو الذي يتابع اخبارها منه بقي حافظاً لسرها لكنه يوصي بان تعيد الحوار مع أمها ولو برسالة كي تطفئ نار اللوعة في قلب الأم. وعاد الحوار بين الأم وابنتها عبر رسائل ترسلها او تصلها من الأب بطرس، طمأنت بها سعاد أمها وأخبرتها دون ذكر القرية عن عملها في المدرسة وعن زميلاتها وتلامذتها وناظرتها المسنة التي لم تعد تقوى على المسؤولية الملقاة على عاتقها لولا مساندتها هي ومتابعة المراقب لك كبيرة وصغيرة – وعلمت سعاد من رسائل أمها بان أهل كفر حنا لا حديث لهم عند العين أو في ساحات القرية سوى هروبها من تربل مع رجل من غير دينها وكيف أنها رفست بقدمها الجاه والعز الذي أسبغه كريم عليها، حتى إلياس زوجها أصبح أكثر طغياناً يعيرها بهروب ابنتها ويوسعها ضرباً وشتماً كلما سمع عن سعاد قصة أو أفراط في شراب.
وبانتهاء السنة الدراسية اجتاحت المشاعر المتناقضة الطالبات والمدرسات فرحات للقاء أو شقاء لوداع – فبعضهن يود لو تدوم المدرسة كل يوم من أيام السنة هروباً من المشاكل اليومية في بيته وأخريات يمنين النفس بالحرية والكسل والاستمتاع بليالي الصيف الحالمة. وذهب الجميع طالبات وعاملات للتعايش مع أشهر الصيف وما تحمله من أفراح وأتراح. وبقيت سعاد في حيرة تبحث بين جدران المدرسة وساحاتها عن صوت غير صوتها وأنفاس غير أنفاسها تزيل عن قلبها الشعور بالفراغ والصمت.
واستغلت ناظرة المدرسة رغبة سعاد بملء الفراغ في حياتها فأوكلت إليها إعادة توضيب مكتبة المدرسة وترقيم كتبها بتوجيهاتها أو إشراف السيد رفيق وحثتها على استعارة أي كتاب ترغب في قراءته من مكتبة المدرسة.
وتطورت علاقة سعاد برفيق من الزمالة إلى التواصل الروحي والرغبة بالمشاركة في العمل. وقد اذهله سرعة استيعاب ما يوكل إليها من مهام والرغبة الصادقة لتطوير نفسها بالعمل والقراءة بعقل واعٍ متفهم لا يجد غضاضة في التساؤل والمناقشة. تسأله بجرأة ويسهب بالشرح بصدر رحب وبأناة المعلم والمرشد. وتبحر سعاد بنشوة في بحور جديدة وأيام الصيف الطويلة مرتعاً وملاذاً، لتقع في شباك جرجي زيدان وأحابيل الحرب والحب في قصصه أو تحلق مع جبران خليل جبران وغيبياته أو تعود إلى الواقع ومآسيه مع طه حسين وفكتور هوجو لتلمس ما تتحمله المرأة من نير الفقر والمجتمع.
ودخل رفيق عصر يوم صيفي حار إلى المدرسة يحمل بين يديه القوائم والأوراق الخاصة بالسنة الدراسية القادمة وتوجه إلى مكتب الناظرة حيث اعتاد أن يعمل في غيابها. وصعقه للحظة ذلك الهدوء والسكينة المخيفة المهيمنة على قاعات المدرسة وساحاتها وابتسم وهو يقول لنفسه كلها ايام ” وتعود حليمة لعادتها القدمية” وتعود الضوضاء والحركة التي هي سمة الحياة وتبعها إلى المدرسة وقاعاتها وفجاة تذكر سعاد ونهض ليتأكد من عدم وجودها في المكتبة. وفوجئ بوجودها مستغرقة عما حولها بكتاب أمامها، وفاجأها بالسلام فهبت واقفة وقال بصوت مشدود:
سعاد – متى جئت؟ لم أشعر بدخولك إلى المدرسة…
رفيق – منذ ساعة تقريباً ، لم يذكر البواب حين ادخلني بأنكِ هنا.
سعاد – جئت مبكرة لأنهي ما تبقى من عمل المكتبة قبل أن يفاجئنا الوقت بعدة الطالبات وتراكم المهام، ثم استغرقت بقراءة ولم اشعر بما يدور حولي.
رفيق – عظيم، وماذا تقرأين اليوم؟
سعاد – مغامرات روبنسون كروزو لدانيال ديغو وترجمة بطرس البستاني.
فأمسك بالكتاب بين يديه يقلبه وينظر إليها بإكبار قائلاً:
رفيق – قصة رائعة، تظهر قصة الإنسان على التأقلم وتطوير سبل حياته، كأنه يصف قسماً من حياته على لسان شخص آخر.
وابتسمت سعاد بنشوة لمديحه المبطن وقالت بتواضع حقيقي:
سعاد – بل أستنير بفلسفة ونهج حياة البطل وتصميمه على النجاح رغم قفر الجزيرة والوحدة والصعاب.
رفيق – لكنه في نهاية القصة يعود إلى أهله ووطنه، إلى المجتمع الذي عاش بمعزل عنه ليتزوج ويعيش بينهم.
ونظر إلى وجه سعاد ليقرأ رداً والصمت يخيم باجنحته الثقيلة فوق راسيهما ثم اردف قائلاً:
رفيق – لو تعلمين يا سعاد مدى سعادتي بما صولت إليه بجهدك وتعبكِ ولكني أشعر كأخ وصديق بأنك تفرضين على نفسكِ وحدة قاسية وكأنكِ تعاقبين الذات والأهل بالفراق والعزلة، دون الخوض في خصوصيات أجهلها ولا أطلب منكِ الخوض فيها أشعر أنكِ تعيشين حياة الرهبنة دون الانخراط في سلكها، حتى النساك والرهبان يحملون عباداتهم في قلوبهم يحثهم الشوق إلى الجذور إلى دفء الرض وحنان الأهل.
وردت سعاد بعفوية صادقة:
سعاد – لقد مات الحب والحنان بموت أبي وعمتي وليس لي في القرية سوى أخوتي وأمي التي التقي بها من حين آخر فتطمئن علي كما أطمئن عليها وعلى أخوتي واعرف منها أخبار الأهل في القرية.
رفيق – وتكتفين من الحياة بلقاءات عابرة مع أمكِ وصداقات عابرة مع زميلاتكِ، في الحياة مباهج وجمال تغضين نظرك عنها، قانعة بالوحدة والنفي. فقد يمرُ المرءُ بتجارب قاسية تكبل خطاه لفترة لينطلق بعدها إلى الآفاق الرحبة بحثاً عن السعادة من جديد.
سعاد – وقد وجدتها فعلاً هنا – فسعادتي بكتاب أقراه أو ابتسامة شكر على شفاه طالبة تعوضني ما أفتقده من حب الأهل وحنانهم.
رفيق – جميل، ولكن خارج الكتب والأوراق الصفراء تجدين آفاق الحياة الواسعة التي تزخر بما هو أجمل وأعمق لأنها قصص حية تنبض بالجمال والصدق وأنتِ ما زلتِ في مقتبل العمر وفرص السعادة ما زالت متوفرة أمامكِ.
وهبت سعاد والشرر يتطاير من عينيها وضمَّت آذانها عما يكمل من حديث وتراءى لها كريم يحاول أن يمسك بها أو يجرها من شعرها كي تركع عند قدميه. ونظرت إليه نظرة طويلة صامتة هزت رفيق من أعماقه، وقال كمن يبعد تهمة عنه:
رفيق – عذرا يا سعاد لقد وضعت نفسي في المصيدة وأحرجتكِ دون أن أقصد، هدفي كان فقط التبسط معكِ في الحديث بعيداً عن اللوائح والقوائم، لكن يبدو أنكِ تمرِّين بمزاج غريب.
وشعرت سعاد بالفراغ يملأ رأسها، وهي تُشَرِّع سيف الكراهية والحقد لمن عرفتهم من الرجال بوجه رفيق الإنسان الذي اطمأنت إليه وبذلك هو بدوره الكثير لرعايتها وتوجهها لما فيه خير لها دون غرض سوى الزمالة والصداقة. فقالت بتودد لتغير قتامة الجو بينهما:
سعاد – أجلس يا رفيق، قاتل الله حر الصيف وكآبة الوحدة.
رفيق – لقد أرعبتني نظراتكِ حتى طار كل الكلام من عقلي.
ابتسمت سعاد وقال لتبرر تصرفها:
سعاد – ظننت لوهلة بأن حديثك المنمق مقدمة عرضٍ للزواج وأنت خير لي من أي زوج…
فقاطعها رفيق بضحة صدحت في أرجاء المكتبة وقال ساخراً:
رفيق – تبّاً لعقول البنات عفواً النساء، لا يسمعن كلمة حلوة حتى يحورونها إلى عشق أو طلب للزواج.
ونظرت سعاد إليه بذهول قائلة:
سعاد – أتسخر مني أم من الزواج…؟
رفيق – من الزواج طبعاً، الذي لم يكبلني قيده حتى الآن.
سعاد – لماذا…؟ وأنت ابن عائلة عريقة تحرض حسب التقاليد أن تزوج أبنهائها بنات نفس العائلة وخاصة من كان في علمك ومكانتك.
وصمت رفيق لبرهة كمن يبحث عن مخرج وقال بتحدٍ ساخر:
رفيق – أهذا عرضاً منكِ للزواج – آسف لم أجد بعد الفتاة التي تملأ عقلي وقلبي
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
- محمد منسىVIP™
- المشاركات : 3296
– الفصل الثامن –
بدأ العامل الدراسي الجديد وتوافدت الطالبات القدامى منهن والجدد لتغص بهن قاعات المدرسة وحجراتها. وانضم إلى هيئة التدريس مدرستين كانت إحداهما من قرية العين نفسها والأخرى من العاصمة الكبرى بيروت، انتقلت بعد أن عينت كمدرسة لغات في مدرسة العين. وانهمكت سعاد التي اصبحت رسمياً مساعدة الناظرة بمشاركتها في توزيع العمل على المدرسات وتحضير جداول الدراسة وتوزيع الكتب وغير ذلك وفق تعليمات المشرف رفيق وبالإشراف النظري للناظرة التي أكلت سنوات العمل الطويلة كل همة عندها أو نشاط وباءت عبئاً على الوظيفة لم يستطع رفيق الخلاص منها لصلة قربى تربطها بمختار القرية حتى تصل إلى سن التقاعد الرسمي.
قالت الناظرة لسعاد أثناء انهماكهما بالعمل:
الناظرة – نسيت أن أذكر لكِ يا سعاد بان المُدرسة الجديدة هالة ستشارككِ السكن.
وشعرت سعاد بانقباض موجع، كيف تتنازل عن حرية عشقتها ووحدة أصبحت قريناً لها في مسكن ملكها وحدها ولا تريد أن ينغص حياتها أحد وبالأخص هذه الفتاة التي حضرت من العاصمة. وتذكرت سعاد أول لقاء لها بهالة، حين علقت عيناها بوجه هالة الطفولي رغم الأصباغ القليلة وبنظرات عينيها الخضراوين السابحتين في بحر عميق بعيد كعمق بحر العاصمة بأسرار أمواجه وشموخ صخور شواطئه.
واخترقت الناظرة صمت سعاد بقولها:
الناظرة – لا خيار أمامكِ، فالممرضة الجديدة التي حلت مكان لمياء الجرد لا تحتاج سكن إذ أنها من أهل قرية العين وسكانها.
سعاد – فلتسكن هالة عند إحدى الأهالي باجر زهيد وأتكفل بدفع إيجار الشقة وحدي.
الناظرة – لا يجوز أن تسكن أي موظفة وحدها، لا القانون يجيز ذلك ولا العرف في مجتمع القرية يقل به… والحقيقة إنني لا أرى سبباً لرفضك هالة فهي بالرغم مما يبدو عليها من عنجهية سكان المدن إلا أنها بسيطة متواضعة وإلا لما تمَّ نفيها لقرية العين، لولا حاجتها للعمل ورغبتها بالهرب من المدينة.
وكانت هالة في العقد الثالث من عمرها، معتدلة القامة تميل إلى النحول يحيط بوجهها الطفولي الحنطي اللون شعر كستنائي طويل وتبرز عينيها علامة فاقة، كانوار كاشفة بلونها الأخضر المائل للزرقة، وقد تأهلت للعمل كمدرسة لغات بعد أشهر من التدريب في معهد المعلمات عقب إتمام الدراسة الثانوية.
انتقلت هالة للسكن مع سعاد التي حرصت على أن تبقى العلاقة بينهما علاقة عمل بحتة، علاقة رئيس بمرؤوس فرضت عليها الظروف للعمل والعيش تحت سقف واحد تجمعهما المدرسة أو صالة البيت. ومرت شهور وكل منهما منهمكة بعملها وسعيدة بمشاركة الأخرى السكن بوجهات نظر مختلفة. إذ وجدت هالة بخلو الشقة لها وحدها في معظم الوقت رغبة تمنتها منذ الصغر، تمرح وتسرح ، وتطبخ ما ترغب وتوضب الشقة كيفما تريد، تنام أو تسهر تقرأ أو تمضي الوقت في تحضير دروسها وتصحيح الكراسات دون مضايقة من أحد أو تقريع من أخ أو أب. أما سعاد فلم تغير عادة العودة متأخرة منهكة متعبة لتجد البيت يرفل؟؟ في أبهى صورة من نظافة وترتيب بل تجد أن الطعام قد أعد لها أو أن هالة قد تركت لها بعض ما أعدته لنفسها من طعام. واستمرت سعاد لعبة اليد العليا والسطوة التي كانت هي ضحيته، وأثلج صدرها رضوخ هالة وخضوعها تعمل دو شكوى وتقدم لها الخدمة برضى وعن طيب خاطر. ومع توالي الأيام والشهور تحسنت العلاقة بين الفتاتين – تجلسان من حين لآخر في الصالة تتجاذبان أطراف الحديث وهالة تحدثها عن أمور المدرسة والطالبات ثم عن أهلها واسرار حياتها وسعاد تستمع.
ومضى العام الدراسي في غفلة من الزمن وذهب جميع من بالمدرسة إلى أهله وبيته إلا سعاد التي بقيت في العين تجتر أيام الصيف الطويلة بين عمل أو مطالعة والوحدة تعصر فيها القلق فيشتت أفكارها. فإن أمسكت بكتاب تطايرت أحرف الكلمات هباء في الهواء وإن جلست إلى مجلة لتسلي بها نفسها قتلاً للوقت علقت عيناها بصور الجميلات على أغلفة المجلات أو داخلها وتشبههن بهالة، فتلك بنحول جسد هالة والأخرى بعينيها الخضراوين وشعرها الطويل.
وتلاحقها تلك الابتسامة مع كل صفحة تقرأها في كتاب أو ركن في الشقة الخالية تتمنى لو تعود هالة لتملأ البيت وحوائطه لتراقبها وهي مكومة على المقعد باسترخاء ودلال تروى لها من أمور يومها وأسرار حياتها. وارتبكت سعاد وجلة من تلك الأحاسيس التي استيقظت بداخلها فجأة تعيد لجسدها رغبات تناستها أو أرغمت نفسها على نسيانها حتى تلك اللذة المشوبة بالإشمئزاز التي فجرها كريم بعجزه ولياليه الباردة العاصفة عادت لتؤرق ليلها، وتمضيه في قلق وحيرة مع تلك الرغبة التي برزت للسطح فجأة قوية عارمة. فتتمنى من أعماق قلبها أن تختفي كما برزت تلك المشاعر وتعود إلى هناء وراحة بال افتقدته منذ دخلت هالة إلى حايتها عنوة فقلبت الموازين فيه راساً على عقب. ترى طيفها بمنامها وفي صحوها كمراهق عاشق وهي التي لم تعرف زخم تلك الأحاسيس في أوج مراهقتها وشبابها. غرقة في حيرة بين شد وجذب بين ما يستشري كالسرطان الآن بقلبها وبين تلك المشاعر التي كانت تدغدغ قلبها بغموض وهي بصحبة ماري الجميلة أو هيلين وغيرهن من الطفولة حين تغير اسمها من أسعد إلى سعاد وكبرت بمشاعر غريبة على الأنوثة بجسد يحمل بعض معالمها ويرفضها ويتبع هوى وأدته بداخلها لجهلها نوازعه وأسبابه أو لخطورة الاعتراف بوجوده أصلا. تعترف الآن بسنوات عمرها وتجاربها وبنضوج امرأة خبرت الحياة بحلوها ومرها بأنها دفنت الجمر تحت الرماد حتى ظهرت في حياتها ( هالة رديف روحها ) من كانت تنتظر طوال عمرها لتكشف المستور ولتبرز الحقيقة إلى السطح واضحة كوضوح الشمس في وسط النهار كي تعرف السر في تكوينها واحتياجات مشاعرها وجسدها الذي بدا عليه وهن التعب ووجهها الذي تغضنت قسماته من القلق والإرهاق. وتراءى لها رفيق ونظراته العاتبة تسبق لسانه مستغرباً عزلتها وانطوائها ومتسائلاً عن أساب التقاعس عن القيام بما يلزم والسنة الدراسة على الأبواب عكس ما عهده بها من همة ونشاط في العمل.
عادت هالة إلى العين في الموعد المحدد لعودة المدرسات، واستقبلتها سعاد بفرحة عارمة وضمتها إلى صدرها بشوق ولهفة وذرفت الصديقتان دموع الفرح باللقاء وقد ذهلت هالة لحرارة اللقاء وقال بدلال:
هالة – ساسافر كل شهر إن كان بعدي عنكِ سيوقظ كل هذا الحنان في قلبكِ
سعاد – اللعنة على أشهر الصيف وطول لياليها.
هالة – الم تقابلي أمكِ في المدينة أو زارك أحد من أهلكِ
سعاد – زوجها مريض ولم تستطع تركه بمفرده.
وتغير الحال في المسكن الصغير وتبدل وصارت سعاد هي التي تسبق إلى الشقة لتنظفها أو لتشتري ما يلزم لتجهيز الطعام. تهرع وكأن سوط الرغبة يدفعها لتكون هناك قبل حضور هالة كي تستقبلها بلهفة أو عناق أو كي تفاجئها بهدية اختارتها لها أثناء التسوق فمن زجاجة عطر أو طوق شعر او حلية تلبسها لها بنفسها حول عنقها أو في أذنيها وترجوها أن تجلس قربها لتتحدثا في أي أمر من أمور المدرسة أو الطالبات لتبقى بالقرب منها كي تشعر بدفئ جسدها وطيب أنفاسها. وتوجست هالة خيفة من التغيير الذي حسبته في بادئ الأمر تودداً وحناناً، يتفجر ناقوس الخطر في قلبها وفي جسدها ونظرات الرغبة المستعرة في عيني سعاد ترعبها حين تفاجئها جالسة بقربها وهي نائمة أو مستلقية باسترخاء في سريرها تداعب شعرها برفق، تنحني لتقبل خدها أو تتحسس جسدها برغبة وشبق.
وفي مساء يوم عطلة عادت سعاد بعد أن أمضت اليوم في المدينة تحمل أكياساً كثيرة وأقبلت على هالة ونظرات الترقب تضيء عينيها:
سعاد – كان يوماً طويلاً ومتعباً لكنني وجدت ما كنت أبحث عنه ، تعال انظري.
وفتحت إحدى الأكياس وأخرجت زجاجة عطر غالية الثمن ثم فتحت الكيس الاخر وأخرجت منه قميص نوم زهري شفاف وقالت فرحة:
سعاد – ما رأيكِ بذوقي، إنه أجمل ما رأيت.
هالة – مبروك إنه حقاً جميل ، يبدو أنه غالي الثمن أيضاً
سعاد – لا يغلي عليك شيء ، إنكِ تستحقين كنوز العالم أجمع.
قالت هالة مندهشة – أهو لي ، لكن لماذا؟
سعاد – رايت أنه يناسبكِ ويناسب هذا العطر الذي أحضرته لكِ.
قال هالة بتهكم – هذا قميص نوم تلبسه فتاة في ليلة عرسها.
سعاد – تلبسه الفتاة من أجل رجل فقط ، إلا تلبس المرأة أو تتعطر إلا لرجل؟
وشعرت هالة بالمطرقة تهوي على رأسها ونظرات سعاد تلاحقها، تعريها من ثيابها تدعوها لطريق تجهله فابتعدت خطوات وانطلقت من جوفها كلمات قاحلة كجفاف رمال الصحراء:
هالة – احفظي نقودكِ وهداياكِ لك فأنا أعمل وأكسب مثلكِ وأستطيع أن أشتري ما أحتاجه نفسي.
سعاد – لكني اشتريته لكِ حبيبتي لكِ وحدكِ.
وتلعثمت هالة وهي تقول لها باستهزاء واضح:
هالة – أعيديه إذاً أو احفظيه لليلة زفافِك للمرة القادمة.
وصرخت سعاد – لن أعيد ما جربته مرة، لن أترك أمري بيد رجل يتحكم بمصيري ويحركني أو يذلني وقتما يشاء ، لن افقد عقلي كما فقدته سابقاً.
وبدرت من هالة ضحكة ساخرة وقد امتقع وجهها الحنطي بلون شمس المغيب وقالت – بل تفقد عقلها من تشذ عن المألوف، فحياة الفتاة السوية ببيت وزوج وأولاد كبقية خلق الله وهذا ما ساحققه قريباً حين يتقدم رفيق لطلب يد…
لم تتركها سعاد لتكمل بل صرخت من الاعماق بصوت مجلجل مخيف:
سعاد – رفيق، أيتها الملعونة. كيف أخفيت عني وخدعتني كما خدعني وسقطت على أقرب مقعد وأجهشت ببكاء ونحيب.
(( إن لم يكن شعري كعهدي به
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
فحسنك الشعر الذي أهوي ))
م . منسي
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 1
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى