تعالى اشطفها
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

تاريخ ابن خلدون

صفحة 6 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 5, 6, 7 ... 13 ... 20  الصفحة التالية

اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الأحد 4 مايو 2008 - 0:04

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

بسم الله الرحمن الرحيم



تمهيـــد
يقول العبد الفقير إلى رحمة ربه الغني بلطفه عبد الرحمن بن محمد بن خلدون الحضرمي وفقه الله تعالى‏:‏ الحمد لله الذي له العزة والجبروت وبيده الملك والملكوت وله الأسماء الحسنى والنعوت العالم فلا يعزب عنه ما تظهره النجوى أو يخفيه السكوت القادر فلا يعجزه شي في السماوات والأرض ولا يفوت‏.‏ أنشأنا من الأرض نسماً واستعمرنا فيها أجيالاً وأمماً ويسر لنا منها أرزاقاً وقسماً‏.‏ تكنفنا الأرحام والبيوت ويكفلنا الرزق والقوت وتبلينا الأيام والوقوت وتعتورنا الآجال التي خط علينا كتابها الموقوت وله البقاء والثبوت وهو الحي الذي لا يموت والصلاة والسلام على سيدنا ومولانا محمد النبي الأمي العربي المكتوب في التوراة والإنجيل المنعوت الذي تمخض لفصاله الكون قبل ان تتعاقب الآحاد والسبوت ويتباين زحل واليهموت وشهد بصدقه الحمائم والعنكبوت وعلى آله وأصحابه الذين لهم في محبته واتباعه الأثر البعيد والصيت والشمل الجميع في مظاهرته ولعدوهم الشمل الشتيت صلى الله عليه وعليهم ما اتصل بالإسلام جده المبخوت وانقطع بالكفر حبله المبتوت وسلم كثيراً‏.‏ أما بعد فإن فن التاريخ من الفنون التي تتداولها الأمم والأجيال وتشد إليه الركائب والرحال وتسمو إلى معرفته السوقة والأغفال وتتنافس فيه الملوك والأقيال ويتساوى في فهمه العلماء والجهال إذ هو في ظاهره لا يزيد على إخبار عن الأيام والدول والسوابق من القرون الأول تنمو فيها الأقوال وتضرب فيها الأمثال وتطرف بها الأندية إذا غصها الاختفال وتؤدي إلينا شأن الخليقة كيف تقلبت بها ألاحوال واتسع للدول فيها النطاق والمجال وعمروا الأرض حتى نادى بهم الارتحال وحان منهم الزوال وفي باطنه نظر وتحقيق وتعليل للكائنات ومباديها دقيق وعلم بكيفيات الوقائع وأسبابها عميق فهو لذلك أصيل في الحكمة عريق وجدير بأن يعد في علومها وخليق‏.‏ وإن فحول المؤرخين في الإسلام قد استوعبوا أخبار الأيام وجمعوها وسطروها في صفحات الدفاتر وأودعوها وخلطها المتطفلون بدسائس من الباطل وهموا فيها أو ابتدعوها وزخارف من الروايات المضعفة لفقوها ووضعوها واقتفى تلك الآثار الكثير ممن بعدهم واتبعوها‏.‏ وأدوها إلينا كما سمعوها ولم يلاحظوا أسباب الوقائع والأحوال ولم يراعوها ولا رفضوا ترهات الأحاديث ولا دفعوها فالتحقيق قليل وطرف التنقيح في الغالب كليل والغلط والوهم نسيب للأخبار وخليل والتقليد عريق في الآدميين وسليل والتطفل على الفنون عريض وطويل ومرعى الجهل بين الأنام وخيم وبيل‏.‏ والحق لا يقاوم سلطانه والباطل يقذف بشهاب النظر شيطانه والناقل إنما هو يملي وينقل والبصيرة تنقد الصحيح إذا تمقل والعلم يجلو لها صفحات الصواب ويصقل‏.‏ هذا وقد دون الناس في الأخبار وأكثروا وجمعوا تواريخ الأمم والدول في العالم وسطروا‏.‏ والذين ذهبوا بفضل الشهرة والأمانة المعتبرة واستفرغوا دواوين من قبلهم في صحفهم المتأخرة هم قليلون لا يكادون يجاوزون عدد الأنامل ولا حركات العوامل مثل ابن إسحاق والطبري وابن الكلبي ومحمد بن عمر الواقدي وسيف بن عمر الأسدي والمسعودي وغيرهم من المشاهير المتميزين عن الجماهير وإن كان فى كتب المسعودي والواقدي من المطعن والمغمز ما هو معروف عند الأثبات ومشهور بين الحفظة الثقات إلا أن الكافة اختصتهم بقبول أخبارهم واقتفاء سننهم في التصنيف واتباع آثارهم والناقد البصير قسطاس نفسه في تزييفهم فيما ينقلون‏.‏ أو اعتبارهم فللعمران طبائع في أحواله ترجع إليها الأخبار وتحمل عليها الروايات والآثار‏.‏ ثم إن أكثر التواريخ لهؤلاء عامة المناهج والمسالك لعموم الدولتين صدر الإسلام في الآفاق والممالك وتناولها البعيد من الغايات في المآخذ والمتارك‏.‏ ومن هؤلاء من استوعب ما قبل الملة هن الدول والأمم والأمر العمم كالمسعودي ومن نحا منحاه‏.‏ وجاء من بعدهم من عدل عن الإطلاق إلي التقييد ووقف في العموم والإحاطة عن الشأو البعيد فقيد شوارد عصره واستوعب أخبار أفقه وقطره واقتصر على أحاديث دولته ومصره‏.‏ كما فعل أبوحيان مؤرخ الأندلس والدولة الأموية بها وابن الرفيق مؤرخ إفريقية والدول التي كانت بالقيروان‏.‏ شم لم يأت من بعد هؤلاء إلا مقلد وبليد الطبع والعقل أو متبلد ينسج على ذلك المنوال ويحتذي منه بالمثال ويذهل عما أحالته الأيام من الأحوال واستبدلت به من عوائد الأمم والأجيال‏.‏ فيجلبون الأخبار عن الدول وحكايات الوقائع في العصور الأول صوراً قد تجردت عن موادها وصفاحاً انتضيت من أغمادها ومعارف تستنكر للجهل بطارفها وتلادها إنما هي حوادث لم تعلم أصولها وأنواع لم تعتبر أجناسها ولا تحققت فصولها يكررون في موضوعاتهم الأخبار المتداولة بأعيانها اتباعاً لمن عني من المتقدمين بشأنها ويغفلون أمر الأجيال الناشئة في ديوانها بما أعوز عليهم من ترجمانها فتستعجم صحفهم عن بيانها‏.‏ ثم إذا تعرضوا لذكر الدولة نسقوا أخبارها نسقاً محافظين على نقلها وهماً أو صدقاً لا يتعرضون لبدايتها ولا يذكرون السبب الذي رفع من رايتها وأظهر من آيتها ولا علة الوقوف عند غايتها فيبقى الناظر متطلعاً بعد إلى افتقاد أحوال مبادىء الدول ومراتبها مفتشاً عن أسباب تزاحمها أو تعاقبها باحثاً عن المقنع في تباينها أوتناسبها حسبما نذكر ذلك كله في مقدمة الكتاب‏.‏ ثم جاء آخرون بإفراط الاختصار وذهبوا إلى الاكتفاء بأسماء الملوك والاقتصار مقطوعة عن الأنساب والأخبار موضوعة عليها أعداد أيامهم بحروف الغبار كما فعله ابن رشيق في ميزان العمل ومن اقتفى هذا الأثر من الهمل‏.‏ وليس يعتبر لهؤلاء مقال ولا يعد لهم ثبوت ولا انتقال لما أذهبوا من الفوائد وأخلوا بالمذاهب المعروفة للمؤرخين والعوائد‏.‏ ولما طالعت كتب القوم وسبرت غور الأمس واليوم نبهت عين القريحة من سنة الغفلة والنوم وسمت التصنيف من نفسي وأنا المفلس أحسن السوم‏.‏ فأنشأت في التاريخ كتاباً رفعت به عن أحوال الناشئة من الأجيال حجاباً وفصلته في الأخبار والاعتبار باباً باباً وأبديت فيه لأولية الدول والعمران عللاً وأسباباً وبنيته على أخبار الأمم الذين عمروا المغرب في هذه الأعصار وملؤوا أكناف النواحي منه والأمصار وما كان لهم من الدول الطوال أو القصار ومن سلف من الملوك والأنصار وهم العرب البربر إذ هما الجيلان اللذان عرف بالمغرب مأواهما وطال فيه على الأحقاب مثواهما حتى لا يكاد يتصور فيه ما عداهما ولا يعرف أهله من أجيال الآدميين سواهما‏.‏ فهذبت مناحيه تهذيباً وقربته لأفهام العلماء والخاصة تقريباً وسلكت في ترتيبه وتبويبه مسلكاً غريباً واخترعته من بين المناحي مذهباً عجيباً وطريقة مبتدعة وأسلوباً‏.‏ وشرحت فيه من أحوال العمران والتمدن وما يعرض في الاجتماع الإنساني من العوارض الذاتية ما يمتعك بعلل الكوائن وأسبابها ويعرفك كيف دخل اهل الدول من أبوابها حتى تنزع من التقليد يدك وتقف على أحوال ما قبلك من الأيام والأجيال ما بعدك‏.‏ ورتبتة على مقدمة وثلاثة كتب‏:‏ المقدمة‏:‏ في فضل علم التاريخ وتحقيق مذاهبه والإلماع بمغالط المؤرخين‏.‏ الكتاب الأول‏:‏ في العمران وذكر ما يعرض فيه من العوارض الذاتية من الفلك والسلطان والكسب والمعاش والصنائع والعلوم وما لذلك من العلل والأسباب‏.‏ الكتاب الثاني‏:‏ في أخبار العرب وأجيالهم ودولهم منذ مبدإ الخليقة إلى هذا العهد وفيه الإلماع ببعض من عاصرهم من الأمم المشاهير ودولهم مثل النبط والسريانيين والفرس وبني إسرائيل والقبط واليونان والروم والترك والإفرنجة‏.‏ الكتاب الثالث‏:‏ في أخبار البربر ومن إليهم من زناتة وذكر أوليتهم وأجيالهم وما كان لهم بديار المغرب خاصة من الملك والدول‏.‏ ثم كانت الرحلة إلى المشرق لاجتلاء أنواره وقضاء الفرض والسنة في مطافه ومزاره والوقوف على آثاره في دواوينه وأسفاره فأفدت ما نقص من أخبار ملوك العجم بتلك الديار ودول الترك فيما ملكوه من الأقطار وأتبعت بها ما كتبته فى تلك
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل


تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:13

الفصل الخامس عشر في أن الإنسان جاهل بالذات عالم بالكسب
قد بينا أول هذه الفصول أن الإنسان من جنس الحيوانات وأن الله تعالى ميزه عنها بالفكر الذي جعل له يوقع به أفعاله على انتظام وهو العقل التمييزي أو يقتنص به العلم بالآراء والمصالح والمفاسد من أبناء جنسه وهو العقل التجريبي أو يحصل به في تصور الموجودات غائباً وشاهداً على ما هي عليه وهو العقل النظري‏.‏ وهذا الفكر إنما يحصل له بعد كمال الحيوانية فيه ويبدأ من التمييز فهو قبل التمييز خلو من العلم بالجملة معدود من الحيوانات لاحق بمبدئه في التكوين من النطفة والعلقة والمضغة‏.‏ وما حصل له بعد ذلك فهو بما جعل الله له من مدارك الحس والأفئدة التي هي الفكر‏.‏ قال تعالى في الامتنان علينا‏:‏ ‏"‏ وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ‏"‏ فهو في الحالة الأولى قبل التمييز هيولا فقط لجهله بجميع المعارف‏.‏ ثم تستكمل صورته بالعلم الذي يكتسبه بآلاته فكمل ذاته الإنسانية في وجودها‏.‏ وانظر إلى قولى تعالى مبدأ الوحي على نبيه‏:‏ اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق اقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم‏"‏ أي أكسبه من العلم ما لم يكن حاصلاً له بعد أن كان علقة ومضغة فقد كشفت لنا طبيعته وذاته ما هوعليه من الجهل الذاتي والعلم الكسبي وأشارت إليه الآية الكريمة تقرر فيه الامتنان عليه بأول مراتب وجوده وهي الإنسانية‏.‏ وحالتاه الفطرية والكسبية في أول التنزيل ومبدأ الوحي‏.‏ وكان الله عليماً حكيماً‏.‏


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:25 عدل 1 مرات

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:15

الفصل السادس عشر في كشف الغطاء عن المتشابه من الكتاب والسنة
وما حدث لأجل ذلك من طوائف السنية والمبتدعة في الاعتقادات إعلم أن الله سبحانه بعث إلينا نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم يدعونا إلى النجاة والفوز بالنعيم وأنزل عليه الكتاب الكريم باللسان العربي المبين يخاطبنا فيه بالتكاليف المفضية بنا إلى ذلك‏.‏ وكان في خلال هذا الخطاب ومن ضروراته ذكر صفاته سبحانه وأسمائه ليعرفنا بذاته وذكر الروح المتعلقة بنا وذكر الوحي والملائكة الوسائط بينه وبين رسله إلينا‏.‏ وذكر لنا يوم البعث وإنذاراته ولم يعين لنا الوقت في شيء منه‏.‏ وثبت في هذا القرآن الكريم حروفاً من الهجاء مقطعة في أوائل بعض سوره لا سبيل لنا إلى فهم المراد بها‏.‏ وسمى هذه الأنواع كلها من الكتاب متشابهاً‏.‏ وذم على اتباعها فقال تعالى‏:‏ ‏"‏ [الذي أنزل عليك الكتاب منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأخر متشابهات فأما الذين في قلوبهم زيغ فيتبعون ما تشابه منه ابتغاء الفتنة وابتغاء تأويله وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا وما يذكر إلا أولو الالباب[/url] ‏"‏ وحمل العلماء من سلف الصحابة والتابعين هذه الآية على أن المحكمات هي المبينات الثابتة الأحكام‏.‏ ولذا قال الفقهاء في اصطلاحهم‏:‏ المحكم المتضح المعنى‏.‏ وأما المتشابهات فلهم فيها عبارات‏.‏ فقيل هي التي تفتقر إلى نظم وتفسير يصحح معناها لتعارضها مع آية أخرى أو مع العقل فتخفى دلالتها وتشتبه‏.‏ وعلى هذا قال ابن عباس‏:‏ ‏"‏ المتشابه يؤمن به ولا يعمل به ‏"‏ وقال مجاهد وعكرمة‏:‏ ‏"‏ كلما سوى آيات الأحكام والقصص متشابه ‏"‏ وعليه القاضي أبو بكر وإمام الحرمين‏.‏ وقال الثوري والشعبي وجماعة من علماء السلف‏:‏ ‏"‏ المتشابه ما لم يكن سبيل إلى علمه كشروط الساعة وأوقات الإنذارات وحروف الهجاء في أوائل السور وقوله في الآية‏:‏ ‏"‏ هذه أم الكتاب ‏"‏ أي معظمه وغالبه والمتشابه أقله وقد يرد إلى المحكم‏.‏ ثم ذم المتبعين للمتشابه بالتأويل أو بحملها على معان لا تفهم منها في لسان العرب الذي خوطبنا به‏.‏ وسماهم أهل زيغ أي ميل عن الحق من الكفار والزنادقة وجهلة أهل البدع‏.‏ وأن فعلهم ذلك قصد الفتنة التي هي الشرك أو اللبس على المؤمنين أو قصداً لتأويلها بما يشتهونه فيقتدون به في بدعتهم‏.‏ ثم أخبر سبحانه بأنه استأثر بتأويلها ولا يعلمه إلا هو فقال‏:‏ وما يعلم تأويله إلا الله‏.‏ ثم أثنى على العلماء بالإيمان بها فقط فقال‏:‏ والراسخون في العلم يقولون آمنا به‏.‏ ولهذا جعل السلف والراسخون مستأنفاً ورجحوه على العطف لأن الإيمان بالغيب أبلغ في الثناء ومع عطفه إنما يكون إيماناً بالشاهد لأنهم يعلمون التأوبل حينئذ فلا يكون غيباً‏.‏ ويعضد ذلك قوله‏:‏ ‏"‏ كل من عند ربنا[/url] ‏"‏ ويدل على أن التأويل فيها غير معلوم للبشر‏.‏ إن الألفاظ اللغوية إنما يفهم منها المعاني التي وضعها العرب لها فإذا استحال إسناد الخبر إلى مخبر عنه جهلنا مدلول الكلام حينئذ وإن جاءنا من عند الله فوضنا علمه إليه ولا نشغل أنفسنا بمدلول نلتمسه فلا سبيل لنا إلى ذلك‏.‏ وقد قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ ‏"‏ إذا رأيتم الذين يجادلون في القرآن فهم الذين عنى الله ‏"‏ فاحذروهم‏.‏ هذا مذهب السلف في الآيات المتشابهة‏.‏ وجاء في السنة ألفاط مثل ذلك حملها عندهم محمل الآيات لأن المنبع واحد‏.‏ وإذا تقررت أصناف المتشابهات على ما قلناه فلنرجع إلى اختلاف الناس فيها‏.‏ فأما ما يرجع منها على ما ذكروه إلى الساعة وأشراطها وأوقات الإنذارات وعدد الزبانية وامثال ذلك فليس هذا والله أعلم من المتشابه لأنه لم يرد فيه لفظ مجمل ولا غيره وإنما هي أزمنة لحادثات استأثر الله بعلمها بنصه في كتابه وعلى لسان نبيه‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ علمها عند الله[/url] ‏"‏ والعجب ممن عدها من المتشابه وأما الحروف المقطعة في أوائل السور فحقيقتها حروف الهجاء وليس ببعيد أن تكون مرادة‏.‏ وقد قال الزمخشري‏:‏ فيها إشارة إلى بعد الغاية في الإعجاز لأن القرآن المنزل مؤلف منها والبشر فيها سواء والتفاوت موجود في دلالتها بعد التأليف‏.‏ وإن عدل عن هذا الوجه الذي يتضمن الدلالة على الحقيقة فإنما يكون بنقل صحيح كقولهم في طه إنه نداء من طاهر وهادي وأمثال ذلك‏.‏ والنقل الصحيح متعذر فيجيء المتشابه فيها من هذا الوجه‏.‏ وأما الوحي والملائكة والروح والجن فاشتباهها من خفاء دلالتها الحقيقية لأنها غير متعارفة فجاء التشابه فيها من أجل ذلك‏.‏ وقد ألحق بعض الناس بها كل ما في معناها من أحوال القيامة والجنة والدخال والفتن والشروط وما هو بخلاف العوائد المألوفة وهو غير بعيد إلا أن الجمهور لا يوافقونهم عليه‏.‏ وسيما المتكلمون فقد عينوا محاملها على ما تراه في كتبهبم ولم يبق من المتشابه إلا الصفات التي وصف الله بها نفسه في كتابه وعلى لسان نبيه مما يوهم ظاهره نقصاً اوتعجيزاً‏.‏ وقد اختلف الناس في هذه الظواهر من بعد السلف الذين قررنا مذهبهم‏.‏ وتنازعوا وتطرقت البدع إلى العقائد‏.‏ فلنشر إلى بيان مذاهبهم وإيثار الصحيح منه على الفاسد فنقول ‏"‏ وما توفيقي إلا بالله‏"‏‏:‏ إعلم أن الله سبحانه وصف نفسه في كتابه بأنه عالم قادر مريد حي سميع بصير متكلم جليل كريم جواد منعم عزيز عظيم‏.‏ وكذا أثبت لنفسه اليدين والعينين والوجه والقم واللسان إلى غيرذلك من الصفات‏:‏ فمنها ما يقتضي صحة ألوهية مثل العلم والقدرة والإرادة ثم الحياة التي هي شرط جميعها ومنها ما هي صفة كمال كالسمع والبصر والكلام ومنها ما يوهم النقص كالاستواء والنزول والمجيء وكالوجه واليدين والعينين التي هي صفات المحدثات‏.‏ ثم أخبر الشارع أنا نرى ربنا يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا نضام في رؤيته كما ثبت في الصحيح‏.‏ فأما السلف من الصحابة والتابعين فأثبثوا له صفات الألوهية والكمال وفوضوا إليه ما يوهم النقص ساكتين عن مدلوله‏.‏ ثم اختلف الناس من بعدهم وجاء المعتزلة فأثبتوا هذه الصفات أحكاماً ذهنية مجردة ولم يثبتوا صفة تقوم بذاته وسموا ذلك توحيداً وجعلوا الإنسان خالقاً لأفعاله


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:24 عدل 1 مرات

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:16

ولا تتعلق بها قدرة الله تعالى سيما الشرور والمعاصي منها إذ يمتنع على الحكيم فعلها‏.‏ وجعلوا مراعاة الأصلح للعباد واجبة عليه‏.‏ وسموا ذلك عدلاً بعد أن كانوا أولاً يقولون بنفي القدر وأن الأمر كله مستأنف بعلم حادث وقدرة وإرادة كذلك كما ورد في الصحيح‏.‏ وإن عبد الله بن عمر تبرأ من معبد الجهني وأصحابه القائلين بذلك‏.‏ وانتهى نفي القدر إلى واصل بن عطاء الغزالي منهم تلميذ الحسن البصري لعهد عبد الملك بن مروان‏.‏ ثم آخراً إلى معمر السلمي ورجعوا عن القول به‏.‏ وكان منهم أبو الهذيل العلاف وهو شيخ المعتزلة‏.‏ أخذ الطريقة عن عثمان بن خالد الطويل عن واصل‏.‏ وكان من نفاة القدر واتبع رأي الفلاسفة في نفي الصفات الوجوددة لظهور مذاهبهم يومئذ‏.‏ ثم جاء إبراهيم النظام وقال بالقدر واتبعوه‏.‏ وطالع كتب الفلاسفة وشدد في نفي الصفات وقرر قواعد الاعتزال‏.‏ ثم جاء الجاحظ والكعبي والجبائي وكانت طريقتهم تسمى علم الكلام‏:‏ إما لما فيها من الحجاج والجدال وهو الذي يسمى كلاماً وإما أن أصل طريقتهم نفي صلة الكلام‏.‏ فلهذا كان الشافعي يقول‏:‏ حقهم أن يضربوا بالجريد ويطاف بهم‏.‏ وقرر هؤلاء طريقتهم وأثبتوا منها وردوا إلى أن ظهر الشيخ أبو الحسن الأشعري وناظر بعض مشيختهم في مسائل الصلاح والأصلح فرفض طريقتهم وكان على رأي عبد الله بن سعيد بن كلاب وأبي العباس القلانسي والحرث بن أسد المحاسبي من أتباع السلف وعلى طريقة السنة‏.‏ فأيد مقالاتهم بالحجج الكلامية وأثبت الصفات القائمة بذات الله تعالى من العلم والقدرة والإرادة التي يتم بها دليل التمانع وتصح المعجزات للأنبياء‏.‏ وكان من مذهبهم إثبات الكلام والسمع والبصر لأنها وإن أوهم ظاهراً النقص بالصوت والحرف الجسمانيين فقد وجد للكلام عند العرب مدلول آخر غير الحروف والصوت وهو ما يدور في الخلد‏.‏ والكلام حقيقة فيه دون الأول فأثبتوها لله تعالى وانتفى إيهام النقص‏.‏ وأثبتوا هذه الصفة قديمة عامة التعلق بشأن الصفات الأخرى‏.‏ وصار القرآن اسماً مشتركاً بين القديم بذات الله تعالى وهو الكلام النفسي والمحدث الذي هو الحروف المؤلفة المقروءة بالأصوات‏.‏ فإذا قيل قديم فالمراد الأول وإذا قيل مقروء مسموع فلدلالة القراءة والكتابة عليه‏.‏ وتوزع الإمام أحمد بن حنبل من إطلاق لفظ الحدوث عليه لأنه لم يسمع من السلف قبله‏:‏ لا إنه يقول إن المصاحف المكتوبة قديمة ولا أن القراءة الجارية على السنة قديمة وهو شاهدها محدثة‏.‏ وإنما منعه من ذلك الورع الذي كان عليه‏.‏ وأما غير ذلك فإنكار للضروريات وحاشاه منه‏.‏ وأما السمع والبصر وإن كان يوهم إدراك الجارحة فهو يدل أيضاً لغة على إدراك المسموع والمبصر وينتفي إيهام النقص حينئذ لأنه حقيقة لغوية فيهما‏.‏ وأما لفظ الاستواء والمجيء والنزول والوجه واليدين والعينين وأمثال ذلك فعدلوا عن حقائقها اللغوية فما فيها من إيهام النقص بالتشبيه إلى مجازاتها على طريقة العرب حيث تتعذر حقائق الألفاظ فيرجعون إلى المجاز‏.‏ كما في قوله تعالى‏:‏ ‏"‏ يريد أن ينقض ‏"‏ وأمثاله طريقة معروفة لهم غير منكرة ولا مبتدعة‏.‏ وحملهم على هذا التأويل وإن كان مخالفاً لمذهب السلف في التفويض أن جماعة من أتباع السلف وهم المحدثون والمتأخرون من الحنابلة ارتكبوا في محمل هذه الصفات فحملوها على صفات ثابتة لله تعالى مجهولة الكيفية‏.‏ فيقولون في‏:‏ ‏"‏ استوى على العرش[/url] ‏"‏ تثبت له استواء بحيث مدلول اللفظة فراراً من تعطيله‏.‏ ولا نقول بكيفيته فراراً من القول بالتشبيه الذي تنفيه آيات السلوب من قوله‏:‏ ‏"‏ .ليس كمثله شيء\‏"‏ ‏"‏ سبحان الله عما يصفون ‏"‏ ‏"‏ تعالى الله عما يقول الظالمون ‏"‏ ‏"‏ لم يلد ولم يولد[/url] ‏"‏ ولا يعلمون مع ذلك أنهم ولجوا من باب التشبيه في قولهم بإثبات استواء والاستواء عند أهل اللغة إنما موضوعه الاستقرار والتمكن وهو جسماني‏.‏ وأما التعديل الذي يشنعون بإلزامه وهو تعطيل اللفظ فلا محذور فيه‏.‏ وإنما المحذور في تعطيل الآلة‏.‏ وكذلك يشنعون بإلزام التكليف بما لا يطاق وهو تمويه‏.‏ لأن التشابه لم يقع في التكاليف‏.‏ ثم يدعون أن هذا مذهب السلف وحاشا لله من ذلك‏.‏ وإنما مذهب السلف ما قررناه أولاً من تفويض المراد بها إلى الله والسكوت عن فهمها‏.‏ وقد يحتجون لإثبات الاستواء لله بقول مالك‏:‏ ‏"‏ إن الاستواء معلوم الثبوت لله ‏"‏ وحاشاه من ذلك لأنه يعلم مدلول الاستواء‏.‏ وإنما أراد أن الاستواء معلوم من اللغة وهو الجسماني وكيفيته أي حقيقته‏.‏ لأن حقائق الصفات كلها كيفيات وهي مجهولة الثبوت لله‏.‏ وكذلك يحتجون على إثبات المكان بحديث السوداء وأنها لما قال لها النبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أين الله وقالت‏:‏ في السماء فقال‏:‏ أعتقها فإنها مؤمنة‏.‏ والنبي صلى الله عليه وسلم لم يثبت لها الإيمان بإثباتها المكان لله بل لأنها آمنت بما جاء به من ظواهر أن الله في السماء فدخلت في جملة الراسخين الذين يؤمنون بالمتشابه من غير كشف عن معناه‏.‏ والقطع بنفي المكان


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:23 عدل 1 مرات

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:16

حاصل من دليل العقل النافي للافتقار‏.‏ ومن أدلة السلوب المؤذنة بالتنزيه مثل ‏"‏ .ليس كمثله شيء ‏"‏ وأشباهه‏.‏ ومن قوله‏:‏ ‏"‏ .وهو الله في السماوات وفي الأرض ‏"‏ إذ الموجود لا يكون في مكانين فليست في هذا للمكان قطعاً والمراد غيره‏.‏ ثم طردوا ذلك المحمل الذي ابتدعوه في ظواهر الوجه والعينين واليدين والنزول والكلام بالحرف والصوت يجعلون لها مدلولات أعم من الجسمانية وينزهونه عن مدلول الجسماني منها‏.‏ وهذا شيء لا يعرف في اللغة‏.‏ وقد درج على ذلك الأول والآخر منهم‏.‏ ونافرهم أهل السنة من المتكلمين الأشعرية والحنفية‏.‏ ورفضوا عقائدهم في ذلك ووقع بين متكلمي الحنفية ببخارى وبين الإمام محمد بن إسماعيل البخاري ما هو معروف‏.‏ وأما المجسمة ففعلوا مثل ذلك في إثبات الجسمية وأنها لا كالأجسام‏.‏ ولفظ الجسم له يثبت في منقول الشرعيات‏.‏ وإنما جرأهم عليه إثبات هذه الظواهر فلم يقتصروا عليه بل توغلوا وأثبتوا الجسمية يزعمون فيها مثل ذلك وينزهونه بقول متناقض سفساف وهو قولهم‏:‏ جسم لا كالأجسام‏.‏ والجسم في لغة العرب هو العميق المحدود وغير هذا التفسير من أنه القائم بالذات أو المركب من الجواهر وغير ذلك فاصطلاحات للمتكلمين يريدون بها غير المدلول اللغوي‏.‏ فلهذا كان المجسمة أوغل في البدعة بل والكفر‏.‏ حيث أثبتوا لله وصفاً موهماً يوهم النقص لم يرد في كلامه ولا كلام نبيه‏.‏ فقد تبيين لك الفرق بين مذاهب السلف والمتكلمين السنية والمحدثين والمبتدعة من المعتزلة والمجسمة بما أطلعناك عليه‏.‏ وفي المحدثين غلاة يسمون المشبه لتصريحهم بالتشبيه حتى إنه يحكى عن بعضهم أنه قال‏:‏ اعفوني من اللحية والفرج وسلوا عما بدا لكم من سواهما‏.‏ وإن لم يتأول ذلك لهم بأنهم يريدون حصر ما ورد من هذه الظواهر الموهمة وحملها على ذلك المحمل الذي لأئمتهم وإلا فهو كفر صريح والعياذ بالله‏.‏ وكتب أهل السنة مشحونة بالحجاج على هذه البدع وبسط الرد عليهم بالأدلة الصحيحة‏.‏ وإنما أومأنا إلى ذلك إيماء يتميز به فصول المقالات وجملها‏.‏ والحمد لله الذي هدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏ وأما الظواهر الخفية الأدلة والدلالة كالوحي والملائكة والروح والجن والبرزخ وأحوال القيامة والدجال والفتن والشروط وسائر ما هو متعذر على الفهم أو مخالف للعادات فإن حملناه على ما يذهب إليه الأشعرية في تفاصيله وهم أهل السنة فلا تشابه وإن قلنا فيه بالتشابه فلنوضح القول فيه بكشف الحجاب عنه فنقول‏:‏ اعلم أن العالم البشري أشرف العوالم من الموجودات وأرفعها‏.‏ وهو وإن اتحدت حقيقة الإنسانية فيه فله أطوار يخالف كل واحد منها الآخر بأحوال تختص به حتى كأن الحقائق فيها مختلفة‏.‏ فالطور الأول‏:‏ عالمه الجسماني بحسه الظاهر وفكره المعاشي وسائر تصرفاته التي أعطاه إياها وجوده الحاضر‏.‏ الطور الثاني‏:‏ عالم النوم وهو تصور الخيال بإنفاذ تصوراته جائلة في باطنه فيدرك منها بحواسه الظاهرة مجردة عن الأزمنة والأمكنة وسائر الأحوال الجسمانية ويشاهدها في إمكان ليس هو فيه‏.‏ ويحدث للصالح منها البشرى بما يترقب من مسراته الدنيوية والأخروية كما وعد به الصادق صلوات الله عليه‏.‏ وهذان الطوران عامان في جميع أشخاص البشر وهما مختلفان في المدارك كما تراه‏.‏ الطور الثالث‏:‏ طور النبوة وهو خاص بإشراف صنف البشر بما خصهم الله به من معرفته وتوحيده وتنزل ملائكته عليهم بوحيه وتكليفهم بإصلاح البشر في أحوال كلها مغايرة للأحوال البشرية الظاهرة‏.‏ الطور الرابع‏:‏ طور الموت الذي تفارق أشخاص البشر فيه حياتهم الظاهرة إلى وجود قبل القيامة يسمى البرزخ يتنعمون فيه ويعذبون على حسب أعمالهم ثم يفضون إلى يوم القيامة الكبرى وهي دار الجزاء الأكبر نعيماً وعذاباً في الجنة أو في النار‏.‏ والطوران الأولان شاهدهما وجداني والطور الثالث النبوي شاهده المعجزة والأحوال المختصة بالأنبياء والطور الرابع شاهده ما تنزل على الانبياء من وحي الله تعالى في المعاد وأحوال البرزخ والقيامة مع أن العقل يقتضي به كما نبهنا الله عليه في كثير


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:21 عدل 1 مرات

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:17

من آيات البعثة‏.‏ ومن أوضح الدلالة على صحتها أن أشخاص الإنسان لو لم يكن لهم وجود آخر بعد الموت غير هذه المشاهد يتلقى فيه أحوالاً تليق به‏.‏ لكان إيجاده الأول عبثاً‏.‏ إذ الموت إذا كان عدماً كان مآل الشخص إلى العدم فلا يكون لوجوط الأول حكمة‏.‏ والعبث على الحكيم محال‏.‏ وإذا تقررت هذه الأحوال الأربعة فلنأخذ في بيان مدارك الإنسان فيها كيف تختلف اختلافاً بيناً يكشف لك غور المتشابه‏.‏ فأما مداركه في الطور الأول فواضحة جلية‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ والله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئاً وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ‏"‏ فبهذه المدارك يستولي على ملكات المعارف ويستكمل حقيقة إنسانية ويوفي حق العبادة المفضية به إلى النجاة‏.‏ وأما مداركه في الطور الثاني وهو طور النوم فهي المدارك التي في الحس الظاهر بعينها‏.‏ لكن ليست في الجوارح كما هي في اليقظة‏.‏ لكن الرأي يتيقن كل شيء أدركه في نومه لا يشك فيه ولا يرتاب مع خلو الجوارح عن الاستعمال العادي لها‏.‏ والناس في حقيقة هذه الحال فريقان‏:‏ الحكماء ويزعمون أن الصور الخيالية يدفعها الخيال بحركة الفكر إلى الحس المشترك الذي هو الفصل المشترك بين الحس الظاهر والحس الباطن فتصور محسوسه بالظاهر في الحواس كلها‏.‏ ويشكل عليهم هذا بأن المرائي الصادقة التي هي من الله تعالى أو من الملك أثبت وأرسخ في الإدراك من المرائي الخيالية الشيطانية مع أن الخيال فيها على ما قرروه واحد‏.‏ الفريق الثاني‏:‏ المتكلمون أجملوا فيها القول وقالوا‏:‏ هو إدراك يخلقه الله في الحاسة فيقع كما يقع في اليقظة وهذا أليق وإن كنا لا نتصور كيفيته‏.‏ وهذا الإدراك النومي أوضح شاهد على ما يقع بعده من المدارك الحسية في الأطوار‏.‏ وأما الطور الثالث وهو طور الأنبياء فالمدارك الحسية فيها مجهولة الكيفية عند وجدانيته عندهم بأوضح من اليقين‏.‏ فيرى النبي الله والملائكة ويسمع كلام الله منه أو من الملائكة ويرى الجنة والنار والعرش والكرسي ويخترق السماوات السبع في إسرائه ويركب البراق فيها ويلقى النبيين هنالك ويصلي بهم ويدرك أنواع المدارك الحسية كما يدرك في طوره الجسماني والنومي بعلم ضروري يخلقه الله له لا بالإدراك العادي للبشر في الجوارح ولا يلتفت في ذلك إلى ما يقوله ابن سينا من تنزيله أمر النبوة على أمر النوم في دفع الخيال صوره إلى الحس المشترك‏.‏ فإن الكلام عليهم هنا أشد من الكلام في النوم لأن هذا التنزيل طبيعة واحدة كما قررناه فيكون على هذا حقيقة الوحي والرؤيا من النبي واحدة في يقينها وحقيقتها وليست كذلك على ما علمت من رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ستة أشهر وأنها كانت بمئة الوحي ومقدمته ويشعر ذلك بأنه رؤية في الحقيقة‏.‏ وكذلك حال الوحي في نفسه فقد كان يصعب عليه ويقاسي منه شدة كما هي في الصحيح حتى كان القرآن يتنزل عليه آيات مقطعات‏.‏ وبعد ذلك نزل عليه ‏"‏ براءة ‏"‏ في غزوة تبوك جملة واحدة وهو يسير على ناقته‏.‏ فلو كان ذلك من تنزل الفكر إلى الخيال فقط ومن الخيال إلى الحس المشترك لم يكن بين هذه الحالات فرق‏.‏ وأما الطور الرابع وهو طور الأموات في برزخهم الذي أوله القبر وهم مجردون عن البدن أو في بعثتهم عندما يرجعون إلى الأجسام فمداركهم الحسية موجودة فيرى الميت في قبره الملكان يسائلانه ويرى مقعده من الجنة أو النار بعيني رأسه ويرى شهود الجنازة ويسمع كلامهم وخفق نعالهم في الانصراف عنه ويسمع ما يذكرونه به من التوحيد أو من تقرير الشهادتين وغير ذلك‏.‏ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على قليب بدر وفيه قتلى المشركين من قريش وناداهم بأسمائهم فقال عمر‏:‏ يا رسول الله صلى الله عليه وسلم الله أتكلم هؤلاء الجيف فقال‏:‏ ‏"‏ والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع منهم لما أقول ‏"‏‏.‏ ثم في البعثة يوم القيامة يعاينون بأسمائهم وأبصارهم - كما كانوا يعاينون في الحياة من نعيم الجنة على مراتبه وعذاب النار على مراتبه ويرون الملائكة ويرون ربهم كما ورد في الصحيح‏:‏ إنكم ترون ربكم يوم القيامة كالقمر ليلة البدر لا تضامون في رؤيته‏.‏ وهذه المدارك لم تكن لهم في الحياة الدنيا وهي حسية مثلها وتقع في الجوارح بالعلم الضروري الذي يخلقه الله كما قلنا وسر هذا أن تعلم أن النفس الإنسانية هي تنشأ بالبدن وبمداركه فإذا فارقت البدن بنوم أو بموت أو صار النبي حالة الوحي من المدارك البشرية إلى المدارك الملكية فقد استصحبت ما كان معها من المدارك البشرية مجردة عن الجوارح فيدرك بها في ذلك الطور أي إدراك شاءت منها أرفع من إدراكها وهي في الجسد‏.‏ قاله الغزالي رحمه الله وزاد على ذلك أن النفس الإنسانية صورة تبقى لها بعد المفارقة فيها العينان والأذنان وسائر الجوارح المدركة أمثالاً لها كان في البدن وصوراً‏.‏ وأنا أقول‏:‏ إنما يشير بذلك إلى الملكات الحاصلة من تصريف هذه الجوارح في بدنها زيادة على الإدراك‏.‏ فإذا تفطنت لها كله علمت أن هذه المدارك موجودة في الأطوار الأربعة لكن ليس على ما كانت في الحياة الدنيا وإنما هي تختلف بالقوة والضعف بحسب ما يعرض لها من الأحوال‏.‏ ويشير المتكلمون إلى ذلك إشارة مجملة بأن الله يخلق فيها علماً ضرورياً بتلك المدارك أي مدرك كان ويعنون به هذا القدر الذي أوضحناه‏.‏ وهذه نبذة أومأنا بها إلى ما يوضح القول في المتشابه‏.‏ ولو أوسعنا الكلام فيه لقصرت المدارك عنه‏.‏ فلنفزع إلى الله سبحانه في الهداية والفهم عن أنبيائه وكتابه بما يحصل به الحق في توحيدنا والظفر بنجاتنا والله يهدي من يشاء‏.‏ في علم التصوف هذا العلم من العلوم الشرعية الحادثة في الملة‏.‏ وأصله أن طريقة هؤلاء القوم لم تزل عند سلف الأمة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريقة الحق والهداية و أصلها العكوف على العبادة والانقطاع إلى الله تعالى والإعراض عن زخرف الدنيا وزينتها والزهد فيما يقبل عليه الجمهور من لذة ومال وجاه والانفراد عن الخلق في الخلوة للعبادة وكان ذلك عاماً في الصحابة والسلف‏.‏ فلما فشا الإقبال على الدنيا في القرن الثاني وما بعده وجنح الناس إلى مخالطة الدنيا اختص المقبلون على العبادة باسم الصوفية والمتصوفة‏.‏ وقال القشيري رحمه الله‏:‏ ولا يشهد لهذا الاسم اشتقاق من جهة العربية ولا قياس‏.‏ والظاهر أنه لقب‏.‏ ومن قال‏:‏ اشتقاقه من الصفاء أو من الصفة فبعيد من جهة القياس اللغوي قال‏:‏ وكذلك من الصوف لأنهم لم يختصوا بلبسه‏.‏ قلت‏:‏ والأظهر أن قيل بالاشتقاق أنه من الصوف وهم في الغالب مختصون بلبسه لما كانوا عليه من مخالفة الناس في لبس فاخر الثياب إلى لبس الصوف‏.‏ فلما اختص هؤلاء بمذهب الزهد والانفراد عن الخلق والإقبال على العبادة اختصوا بمآخذ مدركة لهم وذلك أن الإنسان بما هو إنسان إنما يتميز عن سائر الحيوان بالإدراك وإدراكه نوعان‏:‏ إدراك للعلوم والمعارف من اليقين والرضا والغضب والصبر والشكر وأمثال ذلك‏.‏ فالروح العاقل والمتصرف في البدن تنشأ من إدراكات وإرادات وأحوال وهي التي يتميز بها الإنسان‏.‏ وبعضها ينشأ من بعض كما ينشأ العلم عن الأدلة والفرح والحزن عن إدراك المؤلم أو المتلذذ به والنشاط عن الحمام والكسل عن الإعياء‏.‏ وكذلك المريد في مجاهدته وعبادته لا بد وأن ينشأ له عن كل مجاهدة حال نتيجة تلك المجاهدة‏.‏ وتلك الحالة إما أن تكون نوع عبادة فترسخ وتصير مقاماً للمريد وإما أن لا تكون عبادة وإنما تكون صفة حاصلة للنفس‏.‏ من حزن أو سرور أو نشاط أو كسل أو غير ذلك من المقامات‏.‏ ولا يزال المريد يترقى من مقام إلى مقام إلى أن ينتهي إلى التوحيد والمعرفة التي هي الغاية المطلوبة للسعادة‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ من مات يشهد أن لا إله إلا الله دخل الجنة ‏"‏‏.‏ فالمريد لا بد له من الترقي في هذه الأطوار وأصلها كلها الطاعة والإخلاص ويتقدمها الإيمان ويصاحبها وتنشأ عنها الأحوال والصفات نتائج وثمرات‏.‏ ثم تنشأ عنها أخرى وأخرى إلى مقام التوحيد والعرفان‏.‏ وإذا وقع تقصير في النتيجة أو خلل فنعلم أنه إنما أتى من قبل التقصير في الذي قبله‏.‏ وكذلك في الخواطر النفسانية والواردات القلبية‏.‏ فلذا يحتاج المريد إلى محاسبة نفسه في سائر أعماله وينظر في حقائقها لأن حصول النتائج عن الأعمال ضروري وقصورها من الخلل فيها كذلك‏.‏ والمريد يجد ذلك بذوقه ويحاسب


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:20 عدل 1 مرات

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:17

نفسه على أسبابه‏.‏ ولا يشاركهم في ذلك إلا القليل من الناس لأن الغفلة عن هذا كأنها شاملة‏.‏ وغاية أهل العبادات إذا لم ينتهوا إلى هذا النوع أنهم يأتون بالطاعات مخلصة من نظر الفقه في الأجزاء والامتثال‏.‏ وهؤلاء يبحثون عن نتائجها بالأذواق والمواجد ليطلعوا على أنها خالصة من التقصير أولاً فظهر أن أصل طريقتهم كلها محاسبة النفس على الأفعال والتروك والكلام في هذه الأذواق والمواجد التي تحصل عن المجاهدات ثم تستقر للمريد مقاماً ويترقى منها إلى غيرها‏.‏ ثم لهم مع ذلك آداب مخصوصة بهم واصطلاحات في ألفاظ تدور بينهم إذ الأوضاع اللغوية إنما هي للمعاني المتعارفة‏.‏ فإذا عرض من المعاني ما هو غير متعارف اصطلحنا عن التعبير عنه بلفظ يتيسر فهمه منه‏.‏ فلهذا اختص هؤلاء بهذا النوع من العلم الذي ليس لواحد غيرهم من أهل الشريعة الكلام فيه‏.‏ وصار علم الشريعة على صنفين‏:‏ صنف مخصوص بالفقهاء وأهل الفتيا وهي الأحكام العامة في العبادات والعادات والمعاملات وصنف مخصوص بالقوم في القيام بهذه المجاهدة ومحاسبة النفس عليها والكلام في الأذواق والمواجد العارضة في طريقها وكيفية الترقي منها من فوق إلى فوق وشرح الاصطلاحات التي تدور بينهم في ذلك‏.‏ فلما كتبت العلوم ودونت وألف الفقهاء في الفقه وأصوله والكلام والتفسير وغير ذلك كتب رجال من أهل هذه الطريقة في طريقتهم‏.‏ فمنهم من كتب في الورع ومحاسبة النفس على الاقتداء في الأخذ والترك كما فعله المحاسبي في كتاب الرعاية له ومنهم من كتب في آداب الطريقة وأذواق أهلها ومواجدهم في الأحوال كما فعله القشيري في كتاب الرسالة والسهروردي في كتاب عوارف المعارف وأمثالهم‏.‏ وجمع الغزالي رحمه الله بين الأمرين في كتاب الإحياء فدون فيه أحكام الورع والاقتداء ثم بين آداب القوم وسننهم وشرح اصطلاحاتهم في عباراتهم‏.‏ وصار علم التصوف في الملة علما مدوناً بعد أن كانت الطريقة عبادة فقط وكانت أحكامها إنما تتلقى من صدور الرجال كما وقع في سائر العلوم التي دونت بالكتاب من التفسير والحديث والفقه والأصول وغير ذلك‏.‏ ثم إن هذه المجاهدة والخلوة والذكر يتبعها غالباً كشف حجاب الحس والاطلاع على عوالم من أمر الله ليس لصاحب الحس إدراك شيء منها والروح من تلك العوالم‏.‏ وسبب هذا الكشف أن الروح إذا رجع عن الحس الظاهر إلى الباطن ضعفت أحوال الحس وقويت أحوال الروح وغلب سلطانه وتجدد نشؤه وأعان على ذلك الذكر فإنه كالغذاء لتنمية الروح ولا يزال في نمو وتزيد إلى أن يصير شهوداً بعد أن كان علماً‏.‏ ويكشف حجاب الحس ويتم وجود النفس الذي لها من ذاتها وهو عين الإدراك‏.‏ فيتعرض حينئذ للمواهب الربانية والعلوم المدنية والفتح الإلهي وتقرب ذاته في تحقيق حقيقتها من الأفق الأعلى أفق الملائكة‏.‏ وهذا الكشف كثيراً ما يعرض لأهل المجاهدة فيدركون من حقائق الوجود ما لا يدرك سواهم‏.‏ وكذلك يدركون كثيراً من الواقعات قبل وقوعها ويتصرفون بهممهم وقوى نفوسهم في الموجودات السفلية وتصير طوع إرادتهم‏.‏ فالعظماء منهم لا يعتبرون هذا الكشف ولا يتصرفون ولا يخبرون عن حقيقة شيء لم يؤمروا بالتكلم فيه بل يعدون ما يقع لهم من ذلك محنة ويتعوذون منه إذا هاجمهم‏.‏ وقد كان الصحابة رضي الله عنهم على مثل هذه المجاهدة وكان حظهم من هذه الكرامات أوفر الحظوظ لكنهم لم يقع لهم بها عناية‏.‏ وفي فضائل أبي بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم كثير منها‏.‏ وتبعهم في ذلك أهل الطريقة ممن اشتملت رسالة القشيري على ذكرهم ومن تبع طريقتهم من بعدهم‏.‏ ثم إن قوماً من المتأخرين انصرفت عنايتهم إلى كشف الحجاب والكلام في المدارك التي وراءه واختلفت طرق الرياضة عنهم في ذلك باختلاف تعليمهم في إماتة القوى الحسية وتغذية الروح العاقل بالذكر حتى يحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها بتمام نشوتها وتغذيتها‏.‏ فإذا حصل ذلك زعموا أن الوجود قد انحصر في مداركها حينئذ وأنهم كشفوا ذوات الوجود وتصوروا حقائقها كلها من العرش إلى الطش‏.‏ هكذا قال الغزالي رحمه الله في كتاب الإحياء ثم إن هذا الكشف لا يكون صحيحاً كاملاً عندهم إلا إذا كان ناشئاً عن الاستقامة لأن الكشف قد يحصل لصاحب الجوع والخلوة وإن لم يكن هناك استقامة كالسحرة وغيرهم من المرتاضين‏.‏ وليس مرادنا إلا الكشف الناشىء عن الاستقامة‏.‏ ومثاله أن المرآة الصقيلة إذا كانت محدبة أو مقعرة وحوذي بها جهة المرئي فإنه يتشكل فيه معوجاً على غير صورته‏.‏ وإن كانت مسطحة تشكل فيها المرئي صحيحاً‏.‏ فالاستقامة للنفس كالانبساط للمرآة فيما ينطبع فيها من الأحوال‏.‏ ولما عني المتأخرون بهذا النوع من الكشف تكلموا في حقائق الموجودات العلوية والسفلية وحقائق الملك والروح والعرش والكرسي وأمثال ذلك وقصرت مدارك من لم يشاركهم في طريقهم عن فهم أذواقهم ومواجدهم في ذلك‏.‏ وأهل الفتيا بين منكرعليهم ومسلم لهم‏.‏ وليس البرهان والدليل بنافع في هذه الطريق رداً وقبولاً إذ هي من قبيل الوجدانيات‏.‏ تفصيل وتحقيق‏:‏ يقع كثيراً في كلام أهل العقائد من علماء الحديث والفقه أن الله تعالى مباين لمخلوقاته‏.‏ ويقع للمتكلمين أنه لا مباين ولا متصل‏.‏ ويقع للفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه‏.‏ ويقع للمتأخرين من المتصوفة أنه متحد بالمخلوقات‏:‏ إما بمعنى الحلول فيها أو بمعنى انه هو عينها وليس هناك غيره جملة ولا تفصيلاً‏.‏ فلنبين تفصيل هذه المذاهب ونشرح حقيقة كل واحد منها حتى تتضح معانيها فنقول إن المباينة تقال لمعنيين‏:‏ أحدهما المباينة في الحيز والجهة ويقابله الاتصال‏.‏ وتشعر هذه المقابلة على هذه التقيد بالمكان‏:‏ إما صريحاً وهو تجسيم أو لزوماً وهو تشبيه من قبيل القول بالجهة‏.‏ وقد نقل مثله عن بعض علماء السلف من التصريح بهذه المباينة فيحتمل غير هذا المعنى‏.‏ من أجل ذلك أنكر المتكلمون هذه المباينة وقالوا‏:‏ لا يقال في البارىء أنه مباين مخلوقاته ولا متصل بها لأن ذلك إنما يكون للمتحيزات‏.‏ وما يقال من أن المحل لا يخلو عن الاتصاف بالمعنى وضده فهو مشروط بصحة الاتصاف أولاً وأما مع امتناعه فلا بل يجوز الخلو عن المعنى وضده كما يقال في الجماد لا عالم ولا جاهل ولا قادر ولا عاجز ولا كاتب ولا أمي‏.‏ وصحة الاتصاف بهذه المباينة مشروط بالحصول في الجهة على ما تقرر من مدلولها‏.‏ والبارىء سبحانه منزة عن ذلك‏.‏ ذكره ابن التلمساني في شرح اللمع لإمام الحرمين وقال‏:‏ ‏"‏ ولا يقال في البارىء مباين للعالم ولا متصل به ولا داخل فيه ولا خارج عنه‏.‏ وهو معنى ما يقوله الفلاسفة أنه لا داخل العالم ولا خارجه بناء على وجود الجواهر غير المتحيزة‏.‏ وأنكرها المتكلمون لما يلزم من مساواتها للبارىء في أخص الصفات وهو مبسوط في علم الكلام‏.‏ وأما المعنى الآخر للمباينة فهو المغايرة والمخالفة فيقال‏:‏ البارىء مباين لمخلوقاته في ذاته وهويته ووجوده وصفاته‏.‏ ويقابله الاتحاد والامتزاج والاختلاط‏.‏ وهذه المباينة هي مذهب أهل الحق كلهم من جمهور السلف وعلماء الشرائع والمتكلمين والمتصوفة الأقدمين

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:19

كأهل الرسالة ومن نحا منحاهم‏.‏ وذهب جماعة من المتصوفة المتأخرين الذين صيروا المدارك الوجدانية علمية نظرية إلى أن البارىء تعالى متحد بمخلوقاته في هويته ووجوده وصفاته‏.‏ وربما زعموا أنه مذهب الفلاسفة قبل أرسطو مثل أفلاطون وسقراط وهو الذي يعينه المتكلمون حيث ينقلونه في علم الكلام عن المتصرفة ويحاولون الرد عليه لأنه ذاتان تنتفي إحداهما أو تندرج اندراج الجزء فإن تلك مغايرة صريحة ولا يقولون بذلك‏.‏ وهذا الاتحاد هو الحلول الذي تدعيه النصارى في المسيح عليه السلام وهو أغرب لأنه حلول قديم في محدث أو اتحاده به‏.‏ وهو أيضاً عين ما تقوله الإمامية من الشيعة في الأمامية‏.‏ وتقرير هذا الاتحاد في كلامهم على طريقين‏:‏ الأولى‏:‏ أن ذات القديم كائنة في المحدثات محسوسها ومعقولها متحدة بها في المتصورين وهي كلها مظاهر له وهو القائم عليها أي المقوم لوجودها بمعنى لولاه كانت عدماً وهو رأي أهل الحلول‏.‏ الثانية‏:‏ طريق أهل الوحدة المطلقة وكأنهم استشعروا من تقرير أهل الحلول الغيرية المنافية لمعقول الاتحاد فنفوها بين القديم وبين المخلوقات في الذات والوجود والصفات‏.‏ وغالطوا في غيرية المظاهر المدركة بالحس والعقل بأن ذلك من المدارك البشرية وهي أوهام‏.‏ ولا يريدون الوهم الذي هو قسيم العلم والظن والشك وإنما يريدون أنها كلها عدم في الحقيقة وجود في المدرك البشري فقط‏.‏ ولا وجود بالحقيقة إلا للقديم لا في الظاهر ولا في الباطن كما نقرره بعد بحسب الإمكان‏.‏ والتعويل في تعقل ذلك على النظر والاستدلال كما في المدارك البشرية غير مفيد لأن ذلك إنما ينقل من المدارك الملكية وإنما هي حاصلة للأنبياء بالفطرة ومن بعدهم للأولياء بهدايتهم‏.‏ وقصد من يصد الحصول عليها بالطريقة العلمية ضلال‏.‏ وربما قصد بعض المصنفين ذلك في كشف الموجودات وترتيب حقائقه على طريق أهل المظاهر فأتى بالأغمض فالأغمض‏.‏ وربما قصد بعض المصنفين بيان مذهبهم في كشف الوجود وترتيب حقائقه فأتى بالأغمض فالأغمض بالنسبة إلى أهل النظر والاصطلاحات والعلوم‏.‏ كما فعل الفرغاني شارح قصيدة ابن الفارض في الديباجة التي كتبها في صدر ذلك الشرح فإنه ذكر في صدور الوجود عن الفاعل وترتيبه أن الوجود كله صادر عن صفة الوحدانية التي هي مظهر الأحدية وهما معاً صادران عن الذات الكريمة التي هي عين الوحدة لا غير‏.‏ ويسمون هذا الصدور بالتجلي‏.‏ وأول مراتب التجليات عندهم تجلي الذات على نفسه وهو يتضمن الكمال بإفاضة الإيجاد والظهور لقوله في الحديث الذي يتناقلونه‏:‏ ‏"‏ كنت كنزاً مخفياً فأحببت أن أعرف فخلقت الخلق ليعرفوني ‏"‏‏.‏ وهذا الكمال في الإيجاد المتنزل في الوجود وتفصيل الحقائق وهو عندهم عالم المعاني والحضرة الكمالية والحقيقة المحمدية وفيها حقائق الصفات واللوح والقلم وحقائق الأنبياء والرسل أجمعين والكمل من أهل الملة المحمدية‏.‏ وهذا كله تفصيل الحقيقة المحمدية‏.‏ ويصدر عن هذه الحقائق حقائق أخرى في الحضرة الهبائية وهي مرتبة المثال ثم عنها العرش ثم الكرسي ثم الأفلاك ثم عالم العناصر ثم عالم التركيب‏.‏ هذا في عالم الرتق فإذا تجلت فهي في عالم الفتق‏.‏ انتهى‏.‏ ويسمى هذا المذهب مذهب أهل التجلي والمظاهر والحضرات وهوكلام لا يقدر أهل النظر على تحصيل مقتضاه لغموضه وانغلاقه وبعد ما بين كلام صاحب المشاهدة والوجدان وصاحب الدليل‏.‏ وربما أنكر بظاهر الشرع هذا الترتيب فإنه لا يعرف في شيء من مناحيه‏.‏ وكذلك ذهب آخرون منهم إلى القول بالوحدة المطلقة وهو رأي أغرب من الأول في تعقله وتفاريعه يزعمون فيه أن الوجود له قوى في تفاصيله بها كانت حقائق الموجودات وصورها وموادها‏.‏ والعناصر إنما كانت بما فيها من القوى وكذلك مادتها لها في نفسها قوة بها كان وجودها‏.‏ ثم إن المركبات فيها تلك القوى متضمنة في القوة التي كان بها التركيب‏.‏ كالقوة المعدنية فيها قوى العناصر بهيولاها وزيادة القوة المعدنية ثم القوة الحيوانية تتضمن القوة المعدنية وزيادة قوتها في نفسها وكذا القوة الإنسانية مع الحيوانية ثم الفلك يتضمن القوة الإنسانية وزيادة‏.‏ وكذا الذوات الروحانية والقوة الجامعة للكل من غير تفصيل هي القوة الإلهية التي انبثت في جميع الموجودات كلية وجزئية وجمعتها وأحاطت بها من كل وجه لا من جهة الظهور ولا من جهة الخفاء ولا من جهة الصورة ولا من جهة المادة فالكل واحد وهو نفس الذات الإلهية وهي في الحقيقة واحدة بسيطة والاعتبار هو المفضل لها كالإنسانية مع الحيوانية‏.‏ ألا ترى أنها مندرجة فيها وكائنة بكونها‏.‏ فتارة يمثلونها بالجنس مع النوع في كل موجود كما ذكرناه وتارة بالكل مع الجزء على طريقة المثال‏.‏ وهم في هذا كله يفرون من التركيب والكثرة بوجه من الوجوه وإنما أوجبها عندهم الوهم والخيال‏.‏ والذي يظهر من كلام ابن دهقان في تقرير هذا المذهب أن

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:19

حقيقة ما يقولونه في الوحدة شبيه بما يقوله الحكماء في الألوان من أن وجودها مشروط بالضوء فإذا عدم الضوء لم تكن الألوان موجودة بوجه‏.‏ وكذا عندهم الموجودات المحسوسة كلها مشروطة بوجود المدرك الحسي بل والموجودات المعقولة والمتوهمة أيضاً مشروطة بوجود المدرك العقلي فإذا الوجود المفصل كله مشروط بوجود المدرك البشري‏.‏ فلو فرضنا عدم المدرك البشري جملة لم يكن هناك تفصيل في الوجود بل هو بسيط واحد‏.‏ فالحر والبرد والصلابة واللين بل والأرض والماء والنار والسماء والكواكب إنما وجدت لوجود الحواس المدركة لها لما جعل في المدرك من التفصيل الذي ليس في الموجود وإنما هو في المدارك فقط‏.‏ فإذا فقدت المدارك المفصلة فلا تفصيل إنما هو إدراك واحد وهو أنا لا غيره‏.‏ ويعتبرون ذلك بحال النائم فإنه إذا نام وفقد الحس الظاهر فقد كل محسوس وهو في تلك الحالة إلا ما يفصله له الخيال‏.‏ قالوا‏:‏ فكذلك اليقظان إنما يعتبر تلك المدركات كلها على التفصيل بنوع مدركه البشري ولو قدر فقد مدركه فقد التفصيل وهذا هو معنى قولهم‏:‏ الوهم لا الوهم الذي هو من جملة المدارك البشرية‏.‏ هذا ملخص رأيهم على ما يفهم من كلام ابن دهقان وهو في غاية السقوط لأنا نقطع بوجود البلد الذي نحن مسافرون إليه يقيناً مع غيبته عن أعيينا وبوجود السماء المظلة والكواكب وسائر الأشياء الغائبة عنا‏.‏ والإنسان قاطع بذلك ولا يكابر أحد نفسه في اليقين مع أن المحققين من المتصوفة المتأخرين يقولون‏:‏ إن المريد عند الكشف ربما يعرض له توهم هذه الوحدة ويسمى ذلك عندهم مقام الجمع ثم يترقى عنه إلى التمييز بين الموجودات ويعبرون عن ذلك بمقام الفرق وهو مقام العارف المحقق‏.‏ ولا بد للمريد عندهم من عقبة الجمع وهي عقبة صعبة لأنه يخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقته‏.‏ فقد تبينت مراتب أهل هذه الطريقة‏.‏ ثم إن هؤلاء المتأخرين من المتصوفة المتكلمين في الكشف وفيما وراء الحس توغلوا في ذلك فذهب الكثير منهم إلى الحلول والوحدة كما أشرنا إليه وملأوا الصحف منه مثل الهروي في كتاب المقامات له وغيره‏.‏ وتبعهم ابن العربي وابن سبعين وتلميذهما ثم ابن العفيف وابن الفارض والنجم الإسرائيلي في قصائدهم‏.‏ وكان سلفهم مخالطين للإسماعيلية المتأخرين من الرافضة الدائنين أيضاً بالحلول وإلهية الأئمة مذهباً لم يعرف لأولهم فأشرب كل واحد من الفريقين مذهب الآخر‏.‏ واختلط كلامهم وتشابهت عقائدهم‏.‏ وظهر في كلام المتصوفة القول بالقطب ومعناه رأس العارفين‏.‏ يزعمون أنه لا يمكن أن يساويه أحد في مقامه في المعرفة حتى يقبضه الله‏.‏ ثم يورث مقامه الآخر من أهل العرفان‏.‏ وقد أشار إلى ذلك ابن سينا في كتاب الإشارات في فصول التصوف منها فقال‏:‏ ‏"‏ جل جناب الحق أن يكون شرعة لكل وارد أو يطلع عليه إلا الواحد بعد الواحد ‏"‏‏.‏ وهذا كلام لا تقوم عليه حجة عقلية ولا دليل شرعي وإنما هو من أنواع الخطابة وهو بعينه ما تقوله الرافضة في توارث الأئمة عندهم‏.‏ فانظر كيف سرقت طباع هؤلاء القوم هذا الرأي من الرافضة ودانوا به‏.‏ ثم قالوا بترتيب وجود الأبدال بعد هذا القطب كما قاله الشيعة في النقباء‏.‏ حتى إنهم لما أسندوا لباس خرقة التصوف ليجعلوه أصلاً لطريقتهم ونحلتهم رفعوه إلى علي رضي الله عنه وهو من هذا المعنى أيضاً‏.‏ وإلا فعلي رضي الله عنه لم يختص من بين الصحابة بنحلة ولا طريقة في لباس ولا حال‏.‏ بل كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما أزهد الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأكثرهم عبادة‏.‏ ولم يختص أحد منهم في الدين بشيء يؤثر عنه على الخصوص بل كان الصحابة كلهم أسوة في الدين والزهد والمجاهدة‏.‏ تشهد بذلك سيرهم وأخبارهم‏.‏ نعم إن الشيعة يخيلون بما ينقلون من ذلك اختصاص علي بالفضائل دون من سواه من الصحابة ذهاباً مع عقائد التشيع المعروفة لهم‏.‏ والذي يظهر أن المتصوفة بالعراق لما ظهرت الإسماعيلية من الشيعة وظهر كلامهم في الإمامة وما يرجع إليها ما هو معروف فاقتبسوا من ذلك الموازنة بين الظاهر والباطن وجعلوا الإمامة لسياسة الخلق في الانقياد إلى الشرع وأفردوه بذلك أن لا يقع اختلاف كما تقرر في الشرع‏.‏ ثم جعلوا القطب لتعليم المعرفة بالله لأنه رأس العارفين وأفردوه بذلك تشبيهاً بالإمام في الظاهر وأن يكون على وزانه في الباطن وسموه قطباً لمدار المعرفة عليه وجعلوا الأبدال كالنقباء مبالغة في التشبيه‏.‏ فتأمل ذلك‏.‏ يشهد بذلك كلام هؤلاء المتصوفة في أمر الفاطمي وما شحنوا به كتبهم في ذلك مما ليس لسلف المتصوفة فيه كلام بنفي أو إثبات وإنما هو مأخوذ من كلام الشيعة والرافضة ومذاهبهم في كتبهم‏.‏ والله يهدي إلى الحق‏.‏ تذييل‏:‏ وقد رأيت أن أجلب هنا فصلاً من كلام شيخنا العارف كبير الأولياء بالأندلس أبي مهدي عيسى بن الزيات كان يقع له أكثر الأوقات على أبيات الهروي التي وقعت له في كتاب المقامات توهم القول بالوحدة المطلقة أو يكاد يصرح بها وهي قوله‏:‏ ما وحد الواحد من واحد إذ كل من وحده جاحد توحيد من ينطق عن نعته تثنية أبطلها الواحد توحيدة إياه توحيده ونعت من ينعته لاحد فيقول رحمه الله على سبيل العذر عنه‏:‏ استشكل الناس إطلاق لفظ الجحود على كل من وحد الواحد ولفظ الإلحاد على من نعته ووصفه‏.‏ واستبشعوا هذه الأبيات وحملوا قائلها على الكفر واستخفوه‏.‏ ونحن نقول على رأي هذه الطائفة أن معنى التوحيد عندهم انتفاء عين الحدوث بثبوت عين القدم وأن الوجود كله حقيقة واحدة وآنية واحدة‏.‏ وقد قال أبو سعيد الجزار من كبار القوم‏:‏ الحق عين ما ظهر وعين ما بطن‏.‏ ويرون أن وقوع التعدد في تلك الحقيقة وجود الاثنينية‏.‏ وهم باعتبار حضرات الحس بمنزلة صور الضلال والصدا والمرأى‏.‏ وأن كل ما سوى عين القدم إذا استتبع فهو عدم‏.‏ وهذا معنى‏:‏ كان الله ولا شيء معه وهو الآن على ما هو عليه كان عندهم‏.‏ ومعنى قول لبيد الذي صدقه رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله‏:‏ ‏"‏ ألا كل شيء ما خلا الله باطل ‏"‏‏.‏ قالوا فمن وحد ونعت فقد قال بموجد محدث هو نفسه وتوحيد محدث هو فعله موجد قديم هو معبود‏.‏ وقد تقدم معنى التوحيد انتفاء عين الحدوث وعين الحدوث الآن ثابتة بل متعددة والتوحيد مجحود والدعوى كاذبة‏.‏ كمن يقول لغيره وهما معاً في بيت واحد‏:‏ ليس في البيت غيرك‏!‏ فيقول الآخر بلسان حاله‏:‏ ‏"‏ لا يصح هذا إلا لوعدمت أنت ‏"‏‏!‏‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ وقد قال بعض المحققين في قولهم‏:‏ خلق الله الزمان هذه ألفاظ تناقض أصولها لأن خلق الزمان متقدم على الزمان وهو فعل لا بد من وقوعه في الزمان وإنما حمل ذلك ضيق العبارة عن الحقائق وعجز اللغات عن تأدية الحق فيها وبها‏.‏ فإذ تحقق أن الموحد هو الموحد وعدم ما سواه جملة صح التوحيد حقيقة‏.‏ وهذا معنى قولهم‏:‏ ‏"‏ لا يعرف الله إلا الله ‏"‏‏.‏ ولا حرج على من وحد الحق مع بقاء الرسوم والآثار وإنما هو من باب‏:‏ ‏"‏ حسنات الأبرار سيئات المقربين ‏"‏‏.‏ لأن ذلك لازم التقييد والعبودية والشفعية‏.‏ ومن ترقى إلى مقام الجمع كان في حقه نقصاً مع علمه بمرتبته وأنه تلبيس تستلزمه العبودية ويرفعه الشهود ويطهر من دنس حدوثه عين الجمع‏.‏ وأعرق الأصناف في هذا الزعم القائلون بالوحدة المطلقة‏.‏ ومدار المعرفة بكل اعتبار على الانتهاء إلى الواحدة وإنما صدر هذا القول من الناظم على سبيل التحريض والتنبيه والتفطين لمقام أعلى ترتفع فيه الشفعية ويحصل التوحيد المطلق عيناً لا خطاباً‏.‏ وعبارة فمن سلم استراح ومن نازعته حقيقة أنس بقوله‏:‏ كنت سمعه وبصره‏.‏ وإذا عرفت المعاني لا مشاحة في الألفاظ‏.‏ والذي يفيده هذا كله تحقق أمر فوق هذا الطور لا نطق فيه ولا خبر عنه‏.‏ وهذا المقدار من الإشارة كاف‏.‏ والتعلق في مثل هذا حجاب وهو الذي أوقع في المقالات المعروفة ‏"‏‏.‏ انتهى كلام الشيخ أبي مهدي الزيات ونقلته من كتاب الوزير ابن الخطيب الذي ألفه في المحبة وسماه التعريف بالحب الشريف‏.‏ وقد سمعته من شيخنا أبي مهدي مراراً إلا أني رأيت رسوم الكتاب‏.‏ أوعى له لطول عهدي به‏.‏ والله الموفق‏.‏ ثم إن كثيراً من الفقهاء وأهل الفتيا انتدبوا للرد على هؤلاء المتأخرين في هذه المقالات وأمثالها وشملوا بالنكير سائر ما وقع لهم في الطريقة‏.‏ والحق أن كلامهم معهم فيه تفصيل فإن كلامهم في أربعة مواضع‏:‏ أحدها الكلام على المجاهدات وما يحصل من الأذواق والمواجد ومحاسبة النفس على الأعمال لتحصل تلك الأذواق التي تصير مقاماً ويترقى منه إلى غيره كما قلناه وثانيها الكلام في الكشف والحقيقة المدركة من عالم الغيب مثل الصفات الربانية والعرش والكرسي والملائكة والوحي والنبوة والروح وحقائق كل موجود غائب أو شاهد وتركيب الأكوان في صدورها عن موجدها ومكونها كمامر وثالثها التصرفات في العوالم والأكوان بأنواع الكرامات ورابعها ألفاظ موهمة الظاهر صدرت من الكثير من أئمة القوم يعبرون عنها في اصطلاحهم بالشطحات تستشكل ظواهرها فمنكر ومحسن ومتأول‏.‏ فأما الكلام في المجاهدات والمقامات وما يحصل من الأذواق والمواجد في نتائجها ومحاسبة النفس على التقصير في أسبابها فأمر لا مدفع فيه لأحد وأذواقهم فيه صحيحة والتحقق بها هو عين السعادة وأما الكلام في كرامات القوم وإخبارهم بالمغيبات وتصرفهم في الكائنات فأمر صحيح غير منكر‏.‏ وإن مال بعض العلماء إلى إنكارها فليس ذلك من الحق‏.‏ وما احتج به الأستاذ أبو إسحاق الأسفرايني من أئمة الأشعرية على إنكارها لالتباسها بالمعجزة فقد فرق المحققون من أهل السنة بينهما بالتحدي وهو دعوى وقوع المعجزة على وفق ما جاء به‏.‏ قالوا‏:‏ ثم إن وقوعها على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية فإن صفة نفسها التصديق‏.‏ فلو وقعت مع الكاذب لتبدلت صفة نفسها وهو محال‏.‏ هذا مع أن الوجود شاهد بوقوع الكثير من هذه الكرامات وإنكارها نوع مكابر‏.‏ وقد وقع للصحابة وأكابر السلف كثير من ذلك وهو معلوم مشهور‏.‏ وأما الكلام في الكشف وإعطاء حقائق العلويات وترتيب صدور الكائنات فأكثر كلامهم فيه نوع من المتشابه لما أنه وجداني عندهم وفاقد الوجدان عندهم بمعزل عن أذواقهم فيه‏.‏ واللغات لا تعطي دلالة على مرادهم منه لأنها لم توضع إلا للمتعارف وأكثره من المحسوسات‏.‏ فينبغي أن لا نتعرض لكلامهم في ذلك ونتركه فيما تركناه من المتشابه‏.‏ ومن رزقه الله فهم شيء من هذه الكلمات على الوجه الموافق لظاهر الشريعة فأكرم بها سعادة‏.‏ وأما الألفاظ الموهمة التي يعبرون عنها بالشطحات ويؤاخذهم بها أهل الشرع فاعلم أن الإنصاف‏.‏ في شأن القوم أنهم أهل غيبة عن الحس والواردات تملكهم حتى ينطقوا عنها بما لا يقصدونه وصاحب الغيبة غير مخاطب والمجبور معذور‏.‏ فمن علم منهم فضله واقتداؤه حمل على القصد الجميل من هذا وأمثاله‏.‏ وإن العبارة عن المواجد صعبة لفقدان الوضع لها كما وقع لأبي يزيد البسطامي وأمثاله‏.‏ ومن لم يعلم فضله ولا اشتهر فمؤاخذ بما صدر عنه من ذلك إذا لم يتبين لنا ما يحملنا على تأويل كلامه‏.‏ وأما من تكلم بمثلها وهو حاضر في حسه ولم يملكه الحال فمؤاخذ أيضاً‏.‏ ولهذا أفتى الفقهاء وأكابر المتصوفة بقتل الحلاج لأنه تكلم في حضور وهو مالك لحاله‏.‏ والله أعلم‏.‏ وسلف المتصوفة من أهل الرسالة أعلام الملة الذين أشرنا إليهم من قبل لم يكن لهم حرص على كشف الحجاب ولا هذا النوع من الإدراك إنما همهم الاتباع والاقتداء ما استطاعوا‏.‏ ومن عرض له شيء من ذلك أعرض عنه ولم يحفل به بل يفرون منه ويرون أنه من العوائق والمحن وأنه إدراك من إدراكات النفس مخلوق حادث وأن الموجودات لا تنحصر في مدارك الإنسان‏.‏ وعلم الله أوسع وخلقه أكبر وشريعته بالهداية أملك فلم ينطقوا بشيء مما يدركون‏.‏ بل حظروا الخوض في ذلك ومنعوا من يكشف له الحجاب من أصحابهم من الخوض فيه والوقوف عنده بل ويلتزمون طريقتهم كما كانوا في عالم الحس قبل الكشف من الاتباع والاقتداء ويأمرون أصحابهم بالتزامها‏.‏ وهكذا ينبغي أن يكون حال المريد‏.‏ والله الموفق للصواب‏.‏

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:28

الفصل الثامن عشر علم تعبير الرؤيا
هذا العلم من العلوم الشرعية وهو حادث في الملة عندما صارت العلوم صنائع وكتب الناس فيها‏.‏ وأما الرؤيا والتعبير لها فقد كان موجوداً في السلف كما هو في الخلف‏.‏ وربما كان في الملوك والأمم من قبل إلا أنه لم يصل إلينا للاكتفاء فيه بكلام المعبرين من أهل الإسلام‏.‏ وإلا فالرؤيا موجودة في صنف البشر على الإطلاق ولا بد من تعبيرها‏.‏ فلقد كان يوسف الصديق صلوات الله عليه يعبر الرؤيا كما وقع في القرآن‏.‏ وكذلك ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أبي بكر رضي الله عنه‏.‏ والرؤيا مدرك من مدارك الغيب‏.‏ وقال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة‏.‏ وقال‏:‏ ‏"‏ لم يبق من المبشرات إلا الرؤيا الصالحة يراها الرجل الصالح أو ترى له ‏"‏‏.‏ وأول ما بدىء به النبي صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا انفتل من صلاة الغداة يقول لأصحابه‏:‏ ‏"‏ هل رأى أحد منكم الليلة رؤيا ‏"‏ يسألهم عن ذلك ليستبشر بما وقع من ذلك مما فيه ظهور الدين وإعزازه‏.‏ وأما السبب في كون الرؤيا مدركاً للغيب فهو أن الروح القلبي وهو البخار اللطيف المنبعث من تجويف القلب اللحمي ينتشر في الشريانات ومع الدم في سائر البدن وبه تكمل أفعال القوى الحيوانية وإحساسها‏.‏ فإذا أدركه الملال بكثرة التصرف في الإحساس بالحواس الخمس وتصريف القوى الظاهرة وغشي سطح البدن ما يغشاه من برد الليل انخنس الروح من سائر أقطار البدن إلى مركزه القلبي فيستجم بذلك لمعاودة فعله فتعطلت الحواس الظاهرة كلها وذلك هو معنى النوم كما تقدم في أول الكتاب‏.‏ ثم إن هذا الروح القلبي هو مطية للروح العاقل من الإنسان والروح العاقل مدرك لجميع ما في عالم الأمر بذاته إذ حقيقته وذاته عين الإدراك‏.‏ وإنما يمنع من تعقله للمدارك الغيبية ما هو فيه من حجاب الاشتغال بالبدن وقواه وحواسه‏.‏ فلو قد خلا من هذا الحجاب وتجرد عنه لرجع إلى حقيقته وهو عين الإدراك فيعقل كل مدرك‏.‏ فإذا تجرد عن بعضها خفت شواغله فلا بد له من إدراك لمحة من عالمه بقدر ما تجرد له وهو في هذه الحالة قد خفت شواغل الحس الظاهر كلها وهي الشاغل الأعظم فاستعد لقبول ما هنالك من المدارك اللائقة به من عالمه‏.‏ وإذا أدرك ما يدرك من عوالمه رجع به إلى بدنه‏.‏ إذ هو ما دام في بدنه جسماني لا يمكنه التصرف إلا بالمدارك الجسمانية‏.‏ والمدارك الجسمانية للعلم إنما هي الدماغية والمتصرف منها هو الخيال‏.‏ فإنه ينترع من الصور المحسوسة صوراً خيالية ثم يدفعها إلى الحافظة تحفظها له إلى وقت للحاجة إليها عند النظر والاستدلال‏.‏ وكذلك تجرد النفس منها صوراً أخرى نفسانية عقلية فيترقى التجريد من المحسوس إلى المعقول والخيال واسطة بينهما‏.‏ وكذلك إذا أدركت النفس من عالمها ما تدركه ألقته إلى الخيال فيصوره بالصورة المناسبة له ويدفعه إلى الحس المشترك فيراه النائم كأنه محسوس فيتنزل المدرك من الروح العقلي إلى الحسي‏.‏ والخيال أيضاً واسطة‏.‏ هذه حقيقة الرؤيا‏.‏ ومن هذا التقرير يظهر لك الفرق بين الرؤيا الصادقة وأضغاث الأحلام الكاذبة فإنها كلها صور في الخيال حالة النوم‏.‏ لكن إن كانت تلك الصور متنرلة من الروح العقلي المدرك فهي رؤيا وإن كانت مأخوذة من الصور التي في الحافظة التي كان الخيال أودعها إياها منذ اليقظة فهي واعلم أن للرؤيا الصادقة علامات تؤذن بصدقها وتشهد بصحتها فيستشعر الرائي البشارة من الله بما ألقى إليه في نومه‏:‏ فمنها سرعة انتباه الرائي عندما يدرك الرؤيا كأنه يعاجل الرجوع إلى الحس باليقظة ولو كان مستغرقاً في نومه لثقل ما ألقي عليه من ذلك الإدراك فيفر من تلك الحالة إلى حالة الحس التي تبقى النفس فيها منغمسة بالبدن وعوارضه ومنها ثبوت ذلك الإدراك ودوامه بانطباع تلك الرؤيا بتفاصيلها في حفظه فلا يتخللها سهو ولا نسيان‏.‏ ولا يحتاج إلى إحضارها بالفكر والتذكر بل تبقى متصورة في ذهنه إذا انتبه‏.‏ ولا يغرب عنه شيء منها لأن الإدراك النفساني ليس بزماني ولا يلحقه ترتيب بل يدركه دفعة في زمن فرد‏.‏ وأضغاث الأحلام زمانية لأنها في القوى الدماغية يستخرجها الخيال من الحافظة إلى الحس المشترك كما قلناه‏.‏ وأفعال البدن كلها زمانية فيلحقها الترتيب في الإدراك والمتقدم والمتأخر‏.‏ ويعرض النسيان العارض للقوى الدماغية‏.‏ وليس كذلك مدارك النفس الناطقة إذ ليست بزمانية ولا ترتيب فيها‏.‏ وما ينطبع فيها من الإدراكات فينطبع دفعة واحدة في أقرب من

محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:28

لمح البصر‏.‏ وقد تبقى الرؤيا بعد الانتباه حاضرة في الحفظ أياماً من العمر لا تشذ بالغفلة عن الفكر بوجه إذا كان الإدراك الأول قوياً وإذا كان إنما يتذكر الرؤيا بعد الانتباه من النوم بإعمال الفكر والوجهة إليها وينسى الكثير من تفاصيلها حتى يتذكرها فليست الرؤيا بصادقة وإنما هي من أضغاث الأحلام‏.‏ وهذه العلامات من خواص الوحي‏.‏ قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم ‏"‏ لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ‏"‏ والرؤيا لها نسبة من النبوة والوحي كما في الصحيح‏.‏ قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ الرؤيا جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة فلخواصها أيضاً نسبة إلى خواص النبوة وبذلك القدر فلا تستبعد ذلك فهذا وجه الحق‏.‏ والله الخالق لما يشاء‏.‏ وأما معنى التعبير فاعلم أن الروح العقلي إذا أدرك مدركه وألقاه إلى الخيال فصوره فإنما يصوره في الصور المناسبة لذلك المعنى بعض الشيء كما يدرك معنى السلطان الأعظم فيصوره الخيال بصورة البحر أو يدرك العداوة فيصورها الخيال في صورة الحية‏.‏ فإذا استيقظ وهو لم يعلم من أمره إلا أنه رأى البحر أو الحية فينظر المعبر بقوة التشبيه بعد أن يتيقن أن البحر صورة محسوسة وأن المدرك وراءها وهو يهتدي بقرائن أخرى تعين له المدرك فيقول مثلاً هو السلطان‏:‏ لأن البحر خلق عظيم يناسب أن تشبه به السلطان وكذلك الحية يناسب أن تشبه بالعدو لعظم ضررها وكذا الأواني تشبه بالنساء لأنهن أوعية وأمثال ذلك‏.‏ ومن المرئي ما يكون صريحاً لا يفتقر إلى تعبير لجلائها ووضوحها أو لقرب النسبة فيها بين المدرك وشبهه‏.‏ ولهذا وقع في الصحيح الرؤيا ثلاث‏:‏ رؤيا من الله ورؤيا من الملك ورؤيا من الشيطان‏.‏ فالرؤيا التي من الله هي الصريحة التي لا تفتقر إلى تأويل والتي من الملك هي الرؤيا الصادقة تفتقر إلى التعبير والرؤيا التي من الشيطان هي الأضغاث‏.‏ واعلم أيضاً أن الخيال إذا ألقى إليه الروح مدركه فإنما يصوره في القوالب المعتادة للحس وما لم يكن الحس أدركه قط من القوالب فلا يصور فيه شيئأً‏.‏ فلا يمكن من ولد أعمى اكمه أن يصور له السلطان بالبحر ولا العدو بالحية ولا النساء بالآواني لآنه لم يدرك شيئاً من هذه‏.‏ وإنما يصور له الخيال أمثال هذه في شبهها ومناسبها من جنس مداركه التي هي المسموعات والمشمومات‏.‏ وليتحفظ المعبرمن مثل هذا فربما اختلط به التعبيروفسد قانونه‏.‏ ثم إن علم التعبير علم بقوانين كلية يبني عليها المعبرعبارة ما يقص عليه‏.‏ وتأويله كما يقولون‏:‏ البحر يدل على السلطان وفي موضع آخريقولون‏:‏ البحريدل على الغيظ وفي موضع آخر على الهم والأمر الفادح‏.‏ ومثل ما يقولون‏:‏ الحية تدل على العدو وفي موضع آخريقولون تدل على الحياة وفي موضع آخر هي كاتم سر وأمثال ذلك‏.‏ فيحفظ المعبر هذه القوانين الكلية‏.‏ ويعبر في كل موضع بما تقتضيه القرائن التي تعين من هذه القوانين ما هوأليق بالرؤيا‏.‏ وتلك القرائن منها في اليقظة ومنها في النوم ومنها ما ينقدح في نفس المعبربالخاصية التي خلقت فيه وكل ميسرلما خلق له‏.‏ ولم يزل هذا العلم متناقلا بين السلف‏.‏ وكان محمد بن سيرين فيه من أشهر العلماء وكتبت عنه في ذلك قوانين وتناقلها الناس لهذا العهد‏.‏ وألف الكرماني فيه من بعده‏.‏ ثم ألف المتكلمون المتأخرون وأكثروا‏.‏ والمتداول بين أهل المغرب لهذا العهد كتب ابن أبي طالب القيرواني من علماء القيروان مثل الممتع وغيره وكتاب الإشارة للسالمي من أنفع الكتب فيه وأحضرها‏.‏ وكذلك كتاب المرقبة العليا لابن راشد من مشيختنا بتونس‏.‏ وهوعلم مضيء بنور النبوة للمناسبة التي بينهما ولكونها كانت من مدارك الوحي كما وقع في الصحيح‏.‏ والله علام الغيوب‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:29

الفصل التاسع عشر العلوم العقلية وأصنافها
وأما العلوم العقلية التي هي طبيعية للإنسان من حيث إنه ذوفكرفهي غيرمختصة بملة بل يوجد النظر فيها لأهل الملل كلهم ويستوون في مداركها ومباحثها‏.‏ وهي موجودة في النوع الإنساني منذكان عمران الخليقة‏.‏ وتسمى هذه العلوم علوم الفلسفة والحكمة وهي مشتملة على أربعة علوم‏:‏ الأول علم المنطق وهو علم يعصم الذهن عن الخطأ في اقتناص المطالب المجهولة من الآمور الحاصلة المعلومة وفائدته تمييز الخطأ من الصواب فيما يلتمسه الناظر في الموجودات وعوارضها ليقف على تحقيق الحق في الكائنات نفياً وثبوتاً بمنتهى فكره‏.‏ ثم النظر بعد ذلك عندهم إما في المحسوسات من الأجسام العنصرية والمكونة عنها من المعدن والنبات والحيوان والأجسام الفلكية والحركات الطبيعية‏.‏ أو النفس التي تنبعث عنها الحركات وغيرذلك ويسمى هذا الفن بالعلم الطبيعي وهو العلم الثاني منها‏.‏ وإما أن يكون النظر في الأمور التي وراء الطبيعة من الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وهو العلم الثالث منها‏.‏ والعلم الرابع وهو الناظر في المقادير ويشتمل على اربعة علوم وهي تسمى التعاليم‏.‏ أولها‏:‏ علم الهندسة وهو النظر في المقادير على الإطلاق‏.‏ إما المنفصلة من حيث كونها معدودة أو المتصلة وهي إما ذو بعد واحد وهو الخط أو ذو بعدين وهو السطح أو ذو أبعاد ثلاثة وهو الجسم التعليمي‏.‏ ينظر في هذين المقادير وما يعرض لها أما من حيث ذاتها أومن حيث نسبة بعضها إلى بعض‏.‏ وثانيها‏:‏ علم الأرتماطيقي وهو معرفة ما يعرض للكم المنفصل الذي هو العدد ويؤخذ له من الخواص والعوارض اللاحقة‏.‏ وثالثها‏:‏ علم الموسيقى وهو معرفة نسب الأصوات والنغم بعضها من بعض وتقديرها بالعدد ورابعها‏:‏ علم الهيئة وهو تعيين الأشكال للأفلاك وحصر أوضاعها وتعددها لكل كوكب من السيارة والثابتة والقيام على معرفة ذلك من قبل الحركات السماوية‏!‏ المشاهدة الموجودة لكل واحد منها ومن رجوعها واستقامتها وإقبالها وإدبارها‏.‏ فهذه اصول العلوم الفلسفية وهي سبعة‏:‏ المنطق وهو المقدم منها وبعده التعاليم فالآرتماطيقي أولا ثم الهندسة ثم الهيئة ثم الموسيقى ثم الطبيعيات ثم الإلهيات ولكل واحد منها فروع تتفرع عنه‏.‏ فمن فروع الطبيعيات الطب ومن فروع علم العدد علم الحساب والفرائض والمعاملات ومن فروع الهيئة الأزياج وهي قوانين لحسبانات حركات الكواكب وتعديلها للوقوف على مواضعها متى قصد ذلك‏:‏ ومن فروع النظر في النجوم علم الأحكام النجومية‏.‏ ونحن نتكلم عليها واحدا بعد واحد إلى آخرها‏.‏ واعلم أن أكثر من عني بها في الأجيال الذين عرفنا أخبارهم الأمتان العظيمتان في الدولة قبل الإسلام وهما فارس والروم فكانت أسواق العلوم نافقة لديهم على ما بلغنا لما كان العمران موفوراً فيهم والدولة والسلطان قبل الإسلام وعصره لهم فكان لهذه العلوم بحور زاخرة في آفاقهم وأمصارهم‏.‏ وكان للكلدانيين ومن قبلهم من السريانيين ومن عاصرهم من القبط عناية بالسحر والنجامة وما يتبعها من الطلاسم‏.‏ واخذ ذلك عنهم الامم من فارس ويونان فاختص بها القبط وطمى بحرها فيهم كما وقع في المتلومن خبر هاروت وماروت وشأن السحرة وما نقله أهل العلم من شأن البرابي بصعيد مصر‏.‏ ثم تتابعت الملل بحظر ذلك وتحريمه فدرست علومه وبطلت كأن لم تكن إلا بقايا يتناقلها منتحلو هذه الصنائع‏.‏ الله أعلم بصحتها‏.‏ مع ان سيوف الشرع قائمة على ظهورها مانعة من اختبارها‏.‏ وأما الفرس فكان شأن هذه العلوم العقلية عندهم عظيماً ونطاقها متسعاً لما كانت عليه دولتهم من الضخامة واتصال الملك‏.‏ ولقد يقال‏:‏ إن هذه العلوم إنما وصلت إلى يونان منهم حين قتل الإسكندر دارا وغلب على مملكة الكينية فاستولى على كتبهم وعلومهم‏.‏ إلأ أن المسلمين لما افتتحوا بلاد فارس وأصابوا من كتبهم وصحائف علومهم ما لا يأخذه الحصر كتب سعد بن أبي وقاص إلى عمر بن الخطاب يستأذنه في شأنها وتنقيلها للمسلمين‏.‏ فكتب إليه عمرأن اطرحوها في الماء‏.‏ فإن يكن ما فيها هدًى فقد هدانا الله بأهدى منه وإن يكن ضلالاً فقد كفاناه الله‏.‏ فطرحوها في الماء أو في النار وذهبت علوم الفرس فيها عن أن تصل إلينا‏.‏ وأما الروم فكانت الدولة منهم ليونان أولاً وكان لهذه العلوم بينهم مجال رحب وحملها مشاهير من رجالهم مثل أساطين الحكمة وغيرهم‏.‏ واختص فيها المشاؤون منهم أصحاب الرواق بطريقة حسنة في التعليم‏.‏ كانوا يقرأون في رواق يظلهم من الشمس والبرد على ما زعموا‏.‏ واتصل فيها سند تعليمهم على ما يزعمون من لدن لقمان الحكيم في تلميذه إلى سقراط الدن ثم إلى تلميذه أفلاطون ثم إلى تلميذه أرسطو ثم إلى تلميذه الإسكندر الأفروسي وتامسطيوس وغيرهم‏.‏ وكان أرسطو معلما للإسكندر ملكهم الني غلب الفرس علي ملكهم وانتزع الملك من أيديهم‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:29

وكان أرسخهم في هذه العلوم قدما وأبعدهم فيها صيتاً وشهرةً‏.‏ وكان يسمى المعلم الأول فطار له في العالم ذكر‏.‏ ولما انقرض أمر اليونان وصار الأمر للقياصرة وأخذوا بدين النصرانية هجروا تلك العلوم كما تقتضيه الملل والشرائع فيها‏.‏ وبقيت في صحفها ودواوينها مخلدةً باقيةً في خزائنهم‏.‏ ثم ملكوا الشام وكتب هذه العلوم باقيةٌ فيهم‏.‏ ثم جاء الله بالإسلام وكان لأهله الظهور الذي لا كفاء له وابتزوا الروم ملكهم فيما ابتزوه للأمم‏.‏ وابتدأ أمرهم بالسذاجة والغفلة عن الصنائع حتى إذا تبحبح السلطان والدولة وأخذوا من الحضارة بالحظ الذي لم يكن لغيرهم من الأمم وتفننوا في الصنائع والعلوم‏.‏ تشوفوا إلى الاطلاع على هذه العلوم الحكمية بما سمعوا من الأساقفة والأقسة المعاهدين بعض ذكر منها وبما تسموا إليه أفكار الإنسان فيها‏.‏ فبعث أبو جعفر المنصور إلى ملك الروم أن يبعث إليه بكتب التعاليم مترجمة فبعث إليه بكتاب أوقليدوس وبعض كتب الطبيعيات‏.‏ فقرأها المسلمون واطلعوا على ما فيها وازدادوا حريصاً على الظفر بما بقي منها‏.‏ وجاء المأمون بعد ذلك وكانت له في العلم رغبة بما كان ينتحله فانبعث لهذه العلوم حرصاً وأوفد الرسل على ملوك الروم في استخراج علوم اليونانيين وانتساخها بالخط العربي‏.‏ وبعث المترجمين لذلك فأوعى منه واستوعب‏.‏ وعكف عليها النظار من أهل الإسلام وحذقوا في فنونها وانتهت إلى الغاية أنظارهم فيها‏.‏ وخالفوا كثيراً من آراء المعلم الأول واختصوه بالرد والقبول لوقوف الشهرة عنه‏.‏ ودونوا في ذلك الدواوين واربوا على من تقدمهم في هذه العلوم‏.‏ وكان من أكابرهم في الملة أبو نصر الفارابي وأبو علي بن سينا بالمشرق والقاضي أبو الوليد ابن رشد والوزير أبو بكر بن الصائني بالأندلس إلى آخرين بلغوا الغاية في هذه العلوم‏.‏ واختص هؤلاء بالشهرة والذكر واقتصر كثيرون على انتحال التعاليم وما ينضاف إليها من علوم النجامة والسحر والطلسمات‏.‏ ووقفت الشهرة في هذا المنتحل على جابر بن حيان من أهل المشرق وعلى مسلمة بن أحمد المجريطي من أهل الأندلس وتلميذه‏.‏ ودخل على الملة من هذه العلوم وأهلها داخلة واستهوت الكثير من الناس بما جنحوا إليها وقلدوا آراءها والذنب في ذلك لمن ارتكبه‏.‏ ولو شاء ربك ما فعلوه‏.‏ ثم إن المغرب والأندلس لما ركدت ريح العمران بهما وتناقصت العلوم بتناقصه اضمحل ذلك منهما إلا قليلاً من رسومه تجدها في تفاريق من الناس وتحت رقبة من علماء السنة‏.‏ ويبلغنا عن أهل المشرق أن بضائع هذه العلوم لم تزل عندهم موفورة وخصوصاً في عراق العجم وما بعده فيما وراء النهر وأنهم على ثبج من العلوم العقلية والنقلية لتوفر عمرانهم واستحكام الحضارة فيهم‏.‏ ولقد وقفت بمصر على تآليف في المعقول متعددة لرجل من عظماء هراة من بلاد خراسان يشتهر بسعد الدين التفتازاني منها في علم الكلام وأصول الفقه والبيان تشهد بأن له ملكة راسخة في هذه العلوم‏.‏ وفي أثنائها ما يدل له على أن له اطلاعاً على العلوم الحكمية وتضلعاً بها وقدماً عالية في سائر الفنون العقلية‏.‏ والله يؤيد بنصره من يشاء‏.‏ وكذلك بلغنا لهذا العهد أن هذه العلوم الفلسفية ببلاد الإفرنجة من أرض رومة وما إليها من العدوة الشمالية نافقة الأسواق وأن رسومها هناك متجددة ومجالس تعليمها متعددة وداوينها جامعة وحملتها متوفرون وطلبتها متكثرون‏.‏ والله أعلم بما هنالك وهو يخلق مايشاء ويختار‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:30

الفصل العشرون العلوم العددية
وأولها الأرتماطيقي وهو معرفة خواص الأعداد من حيث التأليف إما على التوالي أو بالتضعيف‏.‏ مثل أن الأعداد إذا توالت متفاضلة بعدد واحد‏:‏ فإن جمع الطرفين منها مساو لجمع كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد ومثل ضعف الواسطة إن كانت عدة تلك الأعداد فرداً مثل الأعداد على تواليها والأزواج على تواليها والأفراد على تواليها‏.‏ ومثل أن الأعداد إذا توالت على نسبة واحدة بأن يكون أولها نصف ثانيها وثانيها نصف ثالثها إلخ أو يكون أولها ثلث ثانيها وثانيها ثلث ثالثها إلخ‏.‏ فإن ضرب الطرفين أحدهما في الأخر كضرب كل عددين بعدهما من الطرفين بعد واحد أحدهما في الآخر‏.‏ ومثل مربع الواسطة إن كانت العدة فرداً وذلك مثل أعداد زوج الزوج المتوالية من اثنين فأربعة فثمانية فستة عشر‏.‏ ومثل ما يحدث من الخواص العددية في وضع المثلثات العددية والمربعات والمخمسات والمسدسات إذا وضعت متتالية في سطورها بأن تجمع من الواحد إلى العدد الأخير فتكون مثلثة‏.‏ وتتوالى المثلثات هكذا في سطر تحت الأضلاع ثم تزيد على كل مثلث ثلث الضلع الذي قبله فتكون مربعة‏.‏ وتزيد على كل مربع مثلث الضلع الذي قبله فتكون مخمسة وهلم جرا‏.‏ وتتوالى الأشكال على توالي الأضلاع ويحدث جدول ذو طول وعرض‏.‏ ففي عرضه الأعداد على تواليها ثم المثلثات على تواليها ثم المربعات ثم المخمسات إلخ وفي طوله كل عدد وأشكاله بالغاً ما بلغ‏.‏ ويحدث في جمعها وقسمة بعضها على بعض طولاً وعرضاً خواص غريبة استقريت منها وتقررت في دواوينهم مسائلها‏.‏ وكذلك ما يحدث للزوج والفرد وزوج الزوج وزوج الفرد وزوج الزوج والفرد فإن لكل منها خواص مختصة به تضمنها هذا الفن وليست في غيره‏.‏ وهذا الفن أول أجزاء التعاليم وأثبتها ويدخل في براهين الحساب‏.‏ وللحكماء المتقدمين والمتأخرين فيه تآليف وأكثرهم يدرجونه في التعاليم ولا يفرعونه بالتأليف‏.‏ فعل ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وغيره من المتقدمين‏.‏ وأما المتأخرون فهم عندهم مهجوز إذ هو غير متداول ومنفعته في البراهين لا في الحساب فهجروه لذلك بعد أن استخلصوا زبدته في البراهين الحسابية كما فعله ابن البناء في كتاب رفع الحجاب وغيره والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏ علم الحساب ومن فروع علم العدد صناعة الحساب وهي صناعة عملية في حسبان الأعداد بالضم والتفريق‏.‏ فالضم يكون في الأعداد بالأفراد وهو الجمع‏.‏ وبالتضعيف أي يضاعف عدد بآحاد عدد آخر وهذا هو الضرب والتفريق أيضاً يكون في الأعداد إما بالإفراد مثل إزالة عدد من عدد ومعرفة الباقي وهو الطرح أو تفصيل عدد بأجزاء متساوية تكون عدتها محصلة وهو القسمة‏.‏ وسواء كان هذا الضم والتفريق في الصحيح من العدد أو الكسر‏.‏ ومعنى الكسر نسبة عدد إلى عدد وتلك النسبة تسمى كسراً‏.‏ وكذلك يكون الضم والتفريق في الجذور ومعناها العدد الذي يضرب في مثله فيكون منه العدد المربع‏.‏ والعدد الذي يكون مصرحاً به يسمى المنطق ومربعه كذلك ولا يحتاج فيه إلى تكلف عمل بالحسبان‏.‏ والذي لا يكون مصرحاً به يسمى الأصم ومربعه‏:‏ إما منطق مثل جذور ثلاثة الذي مربعه ثلاثة وإما أصم مثل جذر ثلاثة الذي مربعه جذر ثلاثة وهو أصم ويحتاج إلى عمل من الحسبان‏.‏ فإن تلك الجذور أيضاً يدخلها الضم والتفريق‏.‏ وهذه الصناعة الحسابية حادثة احتيج إليها للحسبان في المعاملات وألف الناس فيها كثيراً وتداولوها في الأمصار بالتعليم للولدان‏.‏ ومن أحسن التعليم عندهم الابتداء بها لأنها معارف متضحة وبراهينها منتظمة فينشأ عنها في الغالب عقل مضيء درب على الصواب‏.‏ وقد يقال من أخذ نفسه بتعليم الحساب أول أمره إنه يغلب عليه الصدق لما في الحساب من صحة المباني ومناقشة النفس فيصير ذلك له خلقاً ويتعود الصدق ويلازمه مذهباً‏.‏ ومن أحسن التآليف المبسوطة فيها لهذا العهد بالمغرب كتاب الحصار الصغير‏.‏ ولابن البناء المراكشي فيه تلخيص ضابط لقوانين أعماله مفيد ثم شرحه بكتاب سماه رفع الحجاب وهو مستغلق على المبتدىء بما فيه من البراهين الوثيقة المباني وهو كتاب جليل القدر أدركنا المشيخة تعظمه وهو كتاب جدير بذلك‏.‏ وساوق فيه المؤلف رحمه الله كتاب فقه الحساب لابن منعم والكامل للأحدب ولخص براهينها وغيرها عن اصطلاح الحروف فيها إلى علل معنوية ظاهرة هي سر الإشارة بالحروف وزبدتها‏.‏ وهي كلها مستغلقة وإنما جاءها الاستغلاق من طريق البرهان شأن علوم التعاليم لأن مسائلها وأعمالها واضحة كلها‏.‏ وإذا قصد شرحها فإنما هو إعطاء العلل في تلك الأعمال‏.‏ وفي ذلك من العسرعلى الفهم مما لا يوجد في أعمال المسائل فتأمله‏.‏ والله يهدي بنوره من يشاء وهو القوي المتين‏.‏ علم الجبر ومن فروعه الجبر والمقابلة وهي صناعة يستخرج بها العدد المجهول من قبل المعلوم المفروض إذا كان بينهما نسبة تقتضي ذلك‏.‏ فاصطلحوا فيها على أن جعلوا للمجهولات مراتب من طريق التضعيف بالضرب‏:‏ أولها العدد لأن به يتعين المطلوب المجهول باستخراجه من نسبة المجهول إليه وثانيها الشيء لأن كل مجهول فهو من جهة إبهامه شيء وهو أيضاً جذر لما يلزم من تضعيفه في المرتبة الثانية وثالثها المال وهو أمر مبهم وما بعد ذلك فعلى نسبة الأس من المضروبين‏.‏ ثم يقع العمل المفروض في المسألة فيخرج إلى معادلة بين مختلفين أو أكثرمن هذه الأجناس فيقابلون بعضها ببعض‏.‏ ويجبرون ما فيها من الكسر‏.‏ حتى يصير صحيحاً‏.‏ ويحطون المراتب إلى أقل الأسوس إن أمكن حتى يصير إلى الثلاثة التي عليها مدار الجبر عندهم وهي العدد والشيء والمال‏.‏ فإن كانت المعادلة بين واحد وواحد تعين فالمال والجذر يزول إبهامه بمعادلة العدد ويتعين‏.‏ والمال إن عادل الجذور فيتعين بعدتها‏.‏ وإن كانت المعادلة بين واحد واثنين أخرجه العمل الهندسي من طريق تفصيل الضرب في الاثنين وهي مبهمة فيعينها ذلك الضرب المفصل‏.‏ ولا يمكن المعادلة بين اثنين واثنين‏.‏ وأكثرما انتهت المعادلة عندهم إلى ست مسائل لأن المعادلة بين عدد وجذر ومال مفردة أو مركبة تجيء ستة‏.‏ وأول من كتب في هذا الفن أبو عبد الله الخوارزمي وبعده أبو كامل شجاع بن أسلم وجاء الناس على أثره فيه‏.‏ وكتابه في مسائله الست من أحسن الكتب الموضوعة فيه‏.‏ وشرحه كثير من أهل الأندلس فأجادوا‏.‏ ومن أحسن شروحاته كتاب القرشي‏.‏ وقد بلغنا أن بعض أئمة التعاليم من أهل المشرق أنهى المعادلات إلى أكثر من هذه الستة الأجناس وبلغها إلى فوق العشرين واستخرج لها كلها أعمالاً وثيقة وأتبعها ببراهين هندسية‏.‏ والله يزيد في الخلق ما يشاء سبحانه وتعالى‏.‏ ومن فروعه أيضاً المعاملات وهو تصريف الحساب في معاملات المدن في البياعات والمساحات والزكوات وسائر ما يعرض فيه العدد من المعاملات تصرف في ذلك صناعتا الحساب في المجهول والمعلوم والكسر والصحيح والجذور وغيرها‏.‏ والغرض من تكثير المسائل المفروضة فيها حصول المران والدربة بتكرار العمل حتى ترسخ الملكة في صناعة الحساب‏.‏ ولأهل الصناعة الحسابية من أهل الأندلس تآليف فيها متعددة من أشهرها معاملات الزهراوي وابن السمح وأبي مسلم بن خلدون من تلميذ مسلمة المجريطي وأمثالهم‏.‏ ومن فروعه أيضاً الفرائض‏:‏ وهي صناعة حسابية في تصحيح السهام لذوي الفروض في الوراثات إذا تعددت وهلك بعض الوارثين وانكسرت سهامه على ورثته أو زادت الفروض عند اجتماعها وتزاحمها على المال كله أو كان في الفريضة إقراراً أو انكار من بعض الورثة دون بعض فيحتاج في ذلك كله إلى عمل يعين به سهام الفريضة إلى كم تصح وسهام الورثة من كل بطن مصححاً حتى تكون حظوظ الوارثين من المال على نسبة سهامهم من جملة سهام الفريضة‏.‏ فيدخلها من صناعة الحساب جزء كبير من صحيحه وكسوره وجذوره ومعلومه ومجهوله ويترتب على ترتيب أبواب الفرائض الفقهية ومسائلها‏.‏ فتشتمل حينئذ هذه الصناعة على جزء من الفقه وهو أحكام الوراثات في الفروض والعول والإقرار والإنكار والوصايا والتدبير وغير ذلك من مسائلها وعلى جزء من الحساب في تصحيح السهمان باعتبار الحكم الفقهي وهي من أجل العلوم‏.‏ وقد يورد أهلها أحاديث نبوية تشهد بفضلها مثل‏:‏ الفرائض ثلث العلم وإنها أول ما يرفع من العلوم وغير ذلك‏.‏ وعندي أن ظواهر تلك الأحاديث كلها إنما هي في الفرائض العينية كما تقدم لا فرائض الوراثات فإنها أقل من أن تكون في كميتها ثلث العلم‏.‏ وأما الفرائض العينية فكثيرة وقد ألف الناس في هذا الفن قديماً وحديثاً وأوعبوا‏.‏ ومن أحسن التآليف فيه على مذهب مالك رحمه الله تعالى كتاب ابن ثابت ومختصر القاضي أبي القاسم الحوفي وكتاب ابن المنمر والجعدي والصردي وغيرهم‏.‏ لكن الفضل للحوفي فكتابه مقدم على جميعها‏.‏ وقد شرحه من شيوخنا أبو عبد الله محمد بن سليمان الشطي كبير مشيخة فاس فأوضح وأوعب‏.‏ ولإمام الحرمين فيها تآليف على مذهب الشافعي تشهد باتساع باعه في العلوم ورسوخ قدمه وكذا للحنفية والحنابلة‏.‏ ومقامات الناس في العلوم مختلفة‏.‏ والله يهدي من يشاء بمنه وكرمه لا رب سواه‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:31

الفصل الحادي والعشرون العلوم الهندسية
هذا العلم هو النظر في المقادير‏:‏ إما المتصلة كالخط والسطح والجسم وإما المنفصلة كالأعداد فيما يعرض لها من العوارض الذاتية‏.‏ مثل أن كل مثلث فزواياه مثل قائمتين‏.‏ ومثل أن كل خطين متوازيين لا يلتقيان في جهة ولو خرجا إلى غير نهاية‏.‏ ومثل أن كل خطين متقاطعين فالزاويتان المتقابلتان منهما متساويتان ومثل أن الأربعة مقادير المتناسبة ضرب الأول منها في الثالث كضرب الثاني في الرابع وأمثال ذلك‏.‏ والكتاب المترجم لليونانيين في هذه الضناعة كتاب أوقليدس ويسمى كتاب الأصول الأركان وهو أبسط ما وضع فيها للمتعلمين وأول ما ترجم من كتب اليونانيين في الملة أيام أبي جعفر المنصور ونسخه مختلفة باختلاف المترجمين‏.‏ فمنها لحنين بن إسحاق ولثابت بن قرة وليوسف بن الحجاج ويشتمل على خمس عشرة مقالة‏.‏ أربعة في السطوح وواحدة في الأقدار المتناسبة وواحدة في نسبة السطوح بعضها إلى بعض وثلاثة في العدد والعاشرة في المنطقات والقوى على المنطقات ومعناه الجذور وخمس في المجسمات‏.‏ وقد اختصره الناس مختصرات كثيرة كما فعله ابن سينا في تعاليم الشفاء‏.‏ أفرد له جزءاً منها اختصة به‏.‏ وكذلك ابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار وغيرهم‏.‏ وشرحه آخرون شروحاً كثيرة وهو مبدأ العلوم الهندسية بإطلاق‏.‏ واعلم أن الهندسة تفيد صاحبها إضاءة في عقله واستقامة في فكره لأن براهينها كلها بينة الانتظام جلية الترتيب لا يكاد الغلط يدخل أقيستها لترتيبها وانتظامها فيبعد الفكر بممارستها عن الخطأ وينشأ لصاحبها عقل على ذلك المهيع‏.‏ وقد زعموا أنه كان مكتوباً على باب أفلاطون‏:‏ ‏"‏ من لم يكن مهندساً فلا يدخلن منزلنا ‏"‏‏.‏ وكان شيوخنا رحمهم الله يقولون‏:‏ ‏"‏ ممارسة علم الهندسة للفكر بمثابة الصابون للثوب الذي يغسل منه الأقذار وينقيه من الأوضار والأدران ‏"‏‏.‏ وإنما ذلك لما أشرنا إليه من ترتيبه وانتظامه‏.‏ ومن فروع هذا الفن الهندسة المخصوصة بالأشكال الكرية والمخروطات‏.‏ أما الأشكال الكرية ففيها كتابان من كتب اليونانيين لثاوذوسيوس وميلاوش فى سطوحها وقطوعها‏.‏ وكتاب ثاوذوسيوس مقدم في التعليم على كتاب ميلاوش لتوقف كثير من براهينه عليه‏.‏ ولا بد منهما لمن يريد الخوض في علم الهيئة لأن براهينها متوقفة عليهما‏.‏ فالكلام في الهيئة كله كلام في الكرات السماوية وما يعرض فيها من القطوع والدوائر بأسباب الحركات كما نذكر فقد يتوقف على معرفة أحكام الأشكال الكرية سطوحها وقطوعها‏.‏ وأما المخروطات فهو من فروع الهندسة أيضاً‏.‏ وهو علم ينظر فيما يقع في الأجسام المخروطة من الأشكال والقطوع ويبرهن على ما يعرض لذلك من العوارض ببراهين هندسية متوقفة على التعليم الأول‏.‏ وفائدتها تظهر في الصنائع العلمية التي موادها الأجسام مثل النجارة والبناء وكيف تصنع التماثيل الغريبة والهياكل النادرة وكيف يتحيل على جر الأثقال ونقل الهياكل بالهندام والمخال وأمثال ذلك‏.‏ وقد أفرد بعض المؤلفين في هذا الفن كتاباً في الحيل العملية يتضمن من الصناعات الغريبة والجيل المستظرفة كل عجيبة‏.‏ وربما استغلق على الفهوم لصعوبة براهينه الهندسية وهو موجود بأيدي الناس ينسبونه إلى بني شاكر‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏ المساحة ومن فروع الهندسة المساحة وهو فن يحتاج إليه في مسح الأرض ومعناه استخراج مقدار الأرض المعلومة بنسبة شبر أو ذراع أو غيرهما أو نسبة أرض من أرض إذا قويست بمثل ذلك‏.‏ ويحتاج إلى ذلك في توظيف الخراج على المزارع والفدن وبساتين الغراسة وفي قسمة الحوائط والأراضي بين الشركاء أو الورثة وأمثال ذلك‏.‏ وللناس فيها موضوعات حسنة وكثيرة‏.‏ والله الموفق للصواب بمنه وكرمه‏.‏ المناظرة من فروع الهندسة‏:‏ وهوعلم يتبين به أسباب الغلط في الإدراك البصري بمعرفة كيفية وقوعها بناء على أن إدراك البصر يكون بمخروط شعاعي رأسه نقطة الباصر وقاعدته المرثي‏.‏ ثم يقع الغلط كثيراً في رؤية القريب كبيراً والبعيد صغيراً‏.‏ وكذا رؤية الأشباح الصغيرة تحت الماء وراء الأجسام الشفافة كبيرة ورؤية النقط النازلة من المطر خطاً مستقيماً والسلقة دائرة وأمثال ذلك‏.‏ فيبتين في هذا العلم أسباب ذلك وكيفياته بالبراهين الهندسية ويتبين به أيضاً اختلاف المنظر في القمر باختلاف العروض الذي ينبني عليه معرفة رؤية الأهلة وحصول الكسوفات وكثير من أمثال هذا‏.‏ وقد ألف في هذا الفن كثير من اليونانيين‏.‏ وأشهر من ألف فيه من الإسلاميين ابن الهيثم‏.‏ ولغيره فيه الإسلاميين تآليف وهو من هذه العلوم الرياضية وتفاريعها‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:31

الفصل الثاني والعشرون علم الهيئة
وهو علم ينظر في حركات الكواكب الثابتة والمتحركة والمتحيرة‏.‏ ويستدل بكيفيات تلك الحركات على أشكال وأوضاع للأفلاك لزمت عنها هذه الحركات المحسوسة بطرق هندسية‏.‏ كما يبرهن على أن مركز الأرض مباين لمركز فلك الشمس بوجود حركة الإقبال والإدبار وكما يستدل بالرجوع والاستقامة للكواكب على وجود أفلاك صغيرة حاملة لها متحركة داخل فلكها الأعظم وكما يبرهن على وجود الفلك الثامن بحركة الكواكب الثابتة وكما يبرهن على تعدد الأفلاك للكوكب الواحد بتعداد الميول له وأمثال ذلك‏.‏ وإدراك الموجود من الحركات وكيفياتها وأجناسها إنما هو بالرصد فإنا إنما علمنا حركات الإقبال والإدبار به‏.‏ وكذا تركيب الأفلاك في طبقاتها وكذا الرجوع والاستقامة وأمثال ذلك‏.‏ وكان اليونانيون يعتنون بالرصد كثيراً ويتخذون له الآلات التي توضع ليرصد بها حركة الكوكب المعين‏.‏ وكانت تسمى عندهم ذات الحلق‏.‏ وصناعة عملها والبراهين عليه في مطابقة حركتها بحركة الفلك منقول بأيدي الناس‏.‏ وأما في الإسلام فلم تقع به عناية إلا في القليل‏.‏ وكان في أيام المأمون شيء منه وصنع لهذه الآلة المعروفة للرصد المسماة ذات الحلق‏.‏ وشرع في ذلك فلم يتم‏.‏ ولما مات ذهب رسمه وأغفل واعتمد من بعده على الأرصاد القديمة وليست بمغنية لاختلاف الحركات باتصال الأحقاب‏.‏ وإن مطابقة حركة الآلة في الرصد لحركة الأفلاك والكواكب إنما هو بالتقريب ولا يعطي التحقيق فإذا طال الزمان ظهر تفاوت ذلك التقريب‏.‏ وهذه الهيئة صناعة شريفة وليست على ما يفهم في المشهور أنها تعطي صورة السماوات وترتيب الأفلاك والكواكب بالحقيقة بل إنما تعطي أن هذه الصور والهيآت للأفلاك لزمت عن هذه الحركات‏.‏ وأنت تعلم أنه لا يبعد أن يكون الشيء الواحد لازماً لمختلفين وإن قلنا إن إن الحركات لازمة فهو استدلال باللازم على وجود الملزوم ولا يعطي الحقيقة بوجه على أنه علم جليل وهو أحد أركان التعاليم‏.‏ ومن أحسن التآليف فيه كتاب المجسطي منسوباً لبطليموس‏.‏ وليس من ملوك اليونان الذين أسماوهم بطليموس على ما حققه شراح الكتاب وقد اختصره الأئمة من حكماء الإسلام كما فعله ابن سينا وأدرجه في تعاليم الشفاء‏.‏ ولخصه ابن رشد أيضاً من حكماء الأندلس وابن السمح‏.‏ وابن أبي الصلت في كتاب الاقتصار‏.‏ ولابن الفرغاني هيئة ملخصة قربها وحذف براهينها هندسية‏.‏ والله علم الإنسان ما لم يعلم‏.‏ سبحانه لا إله إلا هو رب العالمين‏.‏ علم الأزياج ومن فروعه علم الأزياج وهو صناعة حسابية على قوانين عددية فيما يخص كل كوكب من طريق حركته وما أدى إليه برهان الهيئة في وضعه من سرعة وبطء واستقامة ورجوع وغير ذلك يعرف به مواضع الكواكب في أفلاكها لأي وقت فرض من قبل حسبان حركاتها على تلك القوانين المستخرجة من كتب الهيئة‏.‏ ولهذه الصناعة قوانين كالمقدمات والأصول لها في معرفة الشهور والأيام والتواريخ الماضية وأصول متقررة من معرفة الأوج والحضيض والميول وأصناف الحركات واستخراج بعضها من بعض يضعونها في جداول مرتبة تسهيلاً على المتعلمين وتسمى الأزياج‏.‏ ويسمى استخراج مواضع الكواكب للوقت المفروض لهذه الضناعة تعليلاً وتقويماً‏.‏ وللناس فيه تآليف كثيرة للمتقدممن والمتأخرين مثل البتاني وابن الكماد‏.‏ وقد عول المتأخرون لهذا العهد بالمغرب على زيج منسوب لابن إسحاق من منجمي تونس في أول المائة السابعة‏.‏ ويزعمون أن ابن إسحاق عول فيه على الرصد‏.‏ وأن يهودياً كان بصقلية ماهراً في الهيئة والتعاليم وكان قد عني بالرصد وكان يبعث إليه بما يقع في ذلك من أحوال الكواكب وحركاتها فكأن أهل المغرب لذلك عنوا به لوثاقة مبناه على ما يزعمون‏.‏ ولخصه ابن البناء في آخر سماه المنهاج فولع الناس لما سهل من الأعمال فيه وإنما يحتاج إلى مواضع الكواكب من الفلك لتبنى عليها الأحكام النجومية وهو معرفة الآثار التي تحدث عنها بأوضاعها في عالم الإنسان من الملك والدول والمواليد البشرية والكوائن الحادثة كما نبينه بعد ونوضح فيه أدلتهم إن شاء الله تعالى‏.‏ والله الموفق لما يحبه ويرضاه لا معبود سواه‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:32

الفصل الثالث العشرون علم المنطق
وهو قوانين يعرف بها الصحيح من الفاسد في الحدود المعروفة للماهيات والحجج المفيدة للتصديقات وذلك لأن الأصل في الإدراك إنما هو المحسوسات بالحواس الخمس‏.‏ وجميع الحيوانات مشتركة في هذا الإدراك من الناطق وغيره وإنما يتميز الإنسان عنها بإدراك الكليات وهي مجردة من المحسوسات‏.‏ وذلك بأن يحصل في الخيال من الأشخاص المتفقة صورة منطبقة على جميع تلك الأشخاص المحسوسة وهي الكلي‏.‏ ثم ينظر الذهن بين تلك الأشخاص المتفقة وأشخاص أخرى توافقها في بعض فيحصل له صورة تنطبق أيضاً عليهما باعتبار ما اتفقا فيه‏.‏ ولا يزال يرتقي في التجريد إلى الكلي الذي لا يجد كلياً آخر معه يوافقه فيكون لأجل ذلك بسيطاً‏.‏ وهذا مثل ما يجرد من أشخاص الإنسان صورة النوع المنطبقة عليها‏.‏ ثم ينظر بينه وبين الحيوان ويجرد صورة الجنس المنطبقة عليهما ثم ينظر بينهما وبين النبات إلى أن ينتهي إلى الجنس العالي وهو الجوهر فلا يجد كلياً يوافقه في شيء فيقف العقل هنالك عن التجريد‏.‏ ثم إن الإنسان لما خلق الله له الفكر الذي به يدرك العلوم والصنائع وكان العلم‏:‏ إما تصوراً للماهيات ويعني به إدراك ساذج من غير حكم معه وإما تصديقاً أي حكماً بثبوت أمر لأمر فصار سعي الفكر في تحصيل المطلوبات إما بأن تجمع تلك الكليات بعضها إلى بعض على جهة التآليف فتحصل صورة في الذهن كلية منطبقة على أفراد في الخارج فتكون تلك الصورة الذهنية مفيدة لمعرفة ماهية تلك الأشخاص وإما بأن يحكم بأمر على أمر فيثبت له ويكون ذلك تصديقاً‏.‏ وغايته في الحقيقة راجعة إلى التصور لأن فائدة ذلك إذا حصل فإنما هي معرفة حقائق الأشياء التي هي مقتضى العلم الحكمي‏.‏ وهذا السعي من الفكر قد يكون بطريق صحيح وقد يكون بطريق فاسد فاقتضى ذلك تمييز الطريق الذي يسعى به الفكر في تحصيل المطالب العلمية ليتميز فيها الصحيح من الفاسد فكان ذلك قانون المنطق‏.‏ وتكلم فيه المتقدمون أول ما تكلموا به جملاً جملاً ومتفرقاً متفرقاً‏.‏ ولم تهذب طرقه ولم تجمع مسائله حتى ظهر في يونان أرسطو فهذب مباحثه ورتب مسائله وفصوله وجعله أول العلوم الحكمية وفاتحتها‏.‏ ولذلك يسمى بالمعلم الأول وكتابه المخصوص بالمنطق يسمى النص وهو يشتمل على ثمانية كتب‏:‏ أربعة منها في صورة القياس وأربعة في مادته‏.‏ وذلك أن المطالب التصديقية على أنحاء‏:‏ فمنها ما يكون المطلوب فيه اليقين بطبعه ومنها ما يكون المطلوب فيه الظن وهو على مراتب‏.‏ فينظر في القياس من حيث المطلوب الذي يفيده وما ينبغي أن تكون مقدماتة بذلك الاعتبار ومن أي جنس يكون من العلم أو من الظن‏.‏ وقد ينظر في القياس لا باعتبار مطلوب مخصوص بل من جهة إنتاجه خاصة‏.‏ ويقال للنظر الأول إنه من حيث المادة ونعني به المادة المنتجة للمطلوب المخصوص من يقين أو ظن ويقال للنظر الثاني إنه من حيث الصورة وإنتاج القياس على الأول‏:‏ في الأجناس العالية التي ينتهي إليها تجريد المحسوسات في الذهن وهي التي ليس فوقها جنس ويسمى كتاب المقولات‏.‏ والثاني‏:‏ في القضايا التصديقية وأصنافها ويسمى كتاب العبارة‏.‏ والثالث‏:‏ في القياس وصورة إنتاجه على الإطلاق ويسمى كتاب القياس وهذا آخر النظر من حيث الصورة‏.‏ ثم الرابع‏:‏ كتاب البرهان وهو النظر في القياس المنتج لليقين وكيف يجب أن تكون مقدماته يقينية‏.‏ ويختص بشروط أخرى لإفادة اليقين مذكورة فيه مثل كونها ذاتية وأولية وغير ذلك‏.‏ وفي هذا الكتاب الكلام في المعرنات والحدود إذ المطلوب فيها إنما هو اليقين لوجوب المطابقة بين الحد والمحدود لا يحتمل غيرها فلذلك اختصت عند المتقدمين بهذا الكتاب‏.‏ والخامس‏:‏ كتاب الجدل وهو القياس المفيد قطع المشاغب وإفحام الخصم وما يجب أن يستعمل فيه من المشهورات ويختص أيضاً من جهة إفادته لهذا الغرض بشروط أخرى وهي مذكورة هنالك‏.‏ وفي هذا الكتاب يذكر المواضع التي يستنبط منها صاحب القياس قياسه بتمييز الجامع بين طرفي المطلوب المسمى بالوسط وفيه عكوس القضايا‏.‏ والسادس‏:‏ كتاب السفسطة وهو القياس الذي يفيد خلاف الحق ويغالط به المناظر صاحبه والسابع‏:‏ كتاب الخطابة وهو القياس المفيد ترغيب الجمهور وحملهم على المراد منهم وما يجب أن يستعمل في ذلك من المقالات‏.‏ والثامن‏:‏ كتاب الشعر وهو القياس الذي يفيد التمثيل والتشببه خاصة للإقبال على الشيء أو النفرة عنه وما يجب أن يستعمل فيه من القضايا التخيلية‏.‏ هذه هي كتب المنطق الثمانية عند المتقدمين‏.‏ ثم إن حكماء اليونانيين بعد أن تهذبت الصناعة ورتبت رأوا أنه لا بد من الكلام في الكليات الخمس المفيدة للتصور المطابق للماهيات في الخارج أو لأجزائها أو عوارضها وهي الجنس والفصل والنوع والخاص والعرض العام فاستدركوا فيها مقالة تختص بها مقدمة بين يدي الفن فصارت مقالاته تسعاً وترجمت كلها في الملة الإسلامية‏.‏ وكتبها وتناولها فلاسفة الإسلام بالشرح والتلخيص كما فعله الفارابي وابن سينا ثم ابن رشد من فلاسفة الأندلس‏.‏ ولابن سينا كتاب الشفاء استوعب فيه علوم الفلسفة السبعة كلها‏.‏ ثم جاء المتأخرون فغيروا اصطلاح المنطق وألحقوا بالنظر في الكليات الخمس ثمرته وهي الكلام في الحدود والرسوم نقلوها من كتاب البرهان وحذفوا المقولات لأن نظر المنطقي فيه بالعرض لا بالذات‏.‏ وألحقوا في كتاب العبارة الكلام في العكس وإن كان من كتاب الجدل في كتب المتقدمين لكنه من توابع الكلام في القضايا ببعض الوجوه‏.‏ ثم تكلموا في القياس من حيث إنتاجه للمطالب على العموم لا بحسب مادة‏.‏ وحدقوا النظر فيه بحسب المادة وهي الكتب الخمسة‏:‏ البرهان والجدل والخطابة والشعر والسفسطة‏.‏ وربما يلم بعضهم باليسير منها إلماماً وأغفلوها كأن لم تكن وهي المهم المعتمد في الفن‏.‏ ثم تكلموا فيما وضعوه من ذلك كلاماً مستبجراً ونظروا فيه من حيث إنه فن برأسه لا من حيث إنه آلة للعلوم فطال الكلام فيه واتسع‏.‏ وأول من فعل الإمام فخر الدين ابن الخطيب ومن بعده أفضل الدين الخونجي وعلى كتبه معتمد المشارقة لهذا العهد‏.‏ وله في هذه الصناعة كتاب كشف الأسرار وهو طويل ومختصر الموجز وهو حسن في التعليم ثم مختصر الجمل في قدر أربعة أوراق أخذ بمجامع الفن وأصوله يتداوله المتعلمون لهذا العهد فينتفعون به‏.‏ وهجرت كتب المتقدمين وطرقهم كأن لم تكن وهي ممتلئة من ثمرة المنطق وفائدته كما قلناه‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏ اعلم أن هذا الفن قد اشتد النكير على انتحاله من متقدمي السلف والمتكلمين‏.‏ وبالغوا في الطعن عليه والتحذير منه وحظروا تعلمه وتعليمه‏.‏ وجاء المتأخرون من بعدهم من لدن الغزالي والإمام ابن الخطيب فسامحوا في ذلك بعض الشيء‏.‏ وأكب الناس على انتحاله من يومئذ إلا قليلاً يجنحون فيه إلى رأي المتقدمين فينفرون عنه ويبالغون في إنكاره‏.‏ فلنبين لك نكتة القبول والرد في ذلك لتعلم مقاصد العلماء في مذاهبهم وذلك أن المتكلمين لما وضعوا علم الكلام لنصر العقائد الإيمانية بالحجج العقلية كانت طريقتهم في ذلك بأدلة خاصة وذكروها في كتبهم كالدليل علىحدث العالم بأثبات الآعراض وحدوثها وامتناع خلو الآجسام عنها وما لا يخلو عن الحوادث حادث وكأثبات التوحيد بدليل التمانع وأثبات الصفات القديمة بالجوامع الآربعة إلحاقاً للغائب بالشاهد وغير ذلك ‏"‏ من أدلتهم المذكورة في كتبهم ثم قرروا تلك الآدلة بتمهيد قواعد وأصول هي كالمقدمات لها مثل إثبات الجوهر الفرد والزمن الفرد والخلاء بين الآجسام ونفي الطبيعة والتركيب العقلي للماهيات وأن العرض لا يبقى زمنين وإثبات الحال وهي صفة لموجود لاموجودة ولامعدومة وغير ذلك من قواعدهم التي بنوا عليها أدلتهم الخاصة ثم ذهب الشيخ أبوالحسن والقاضي أبو بكر والآستاذ أبو إسحق إلى أن أدلة العقائد منعكسة بمعنى أنها إذا بطلت بطل مدلولها ولهذا رأى القاضي أبو بكر أنها بمثابة العقائد والقدح فيها قدح في العقائد لابتنائها عليها‏.‏ وإذا تأملت المنطق وجدته كله يدور على التركيب العقلي وإثبات الكلي الطبيعي في الخارج لينطبق عليه الكلي الذهني المنقسم إلى الكليات الخمس التي هي الجنس والنوع والفصل والخاصة والعرض والعام وهذا باطل عند المتكلمين‏.‏ والكلي والذاتي عندهم إنما هو اعتبار ذهني ليس في الخارج ما يطابقه أو حال عند من يقول بها فتبطل الكليات الخمس والتعريف المبني عليها والمقولات العشر ويبطل العرض الذاتي فتبطل ببطلانه القضايا الضرورية الذاتية المشروطة في البرهان وتبطل المواضع التي هي لباب كتاب الجدل‏.‏ وهي التي يؤخذ منها الوسط الجامع بين الطرفين في القياس ولا يبقى إلا القياس الصوري‏.‏ ومن التعريفات المساوىء في الصادقية على إفراد المحمود لا يكون أعم منها فيدخل غيرها ولا أخص فيخرج بعضها وهو الذي يعبر عنه النحاة بالجمع والمنع والمتكلمون بالطرد والعكس وتنهدم أركان المنطق جملة‏.‏ وإن أثبتنا هذه كما في علم المنطق ابطلنا كثيرا من مقدمات المتكلمين فيؤدي إلى إبطال أد لتهم على العقائد كما مر فلهذا بالغ المتقدمون من المتكلمين في النكير على انتحال المنطق وعدوه بدعة أو كفرا على نسبة الدليل الذي يبطل‏.‏ والمتأخرون من لدن الغزالي لما أنكروا انعكاس الأدلة ولم يلزم عندهم من بطلان الدليل بطلان مدلوله وصح عندهم رأي أهل المنطق في التركيب العقلي ووجود الماهيات الطبيعية وكلياتها في الخارج قضوا بأن المنطق غير مناف للعقائد الإيمانية وإن كان منافيا لبعض أدلتها بل قد يستدلون على إبطال كثير من تلك المقدمات الكلامية كنفي الجوهر الفرد والخلاء وبقاء الأعراض وغيرها ويستبدلون من أدلة المتكلمين على العقائد بأدلة أخرى يصححونها بالنظر والقياس العقلي‏.‏ ولم يقدح ذلك عندهم في العقائد السنية بوجه وهذا راي الإمام والغزالي وتابعهما لهذا العهد فتأمل ذلك واعرف مدارك العلماء ومآخذهم فيما يذهبون إليه‏.‏ والله الهادي والموفق للصواب‏.‏ الطبيعيات وهوعلم يبحث عن الجسم من جهة ما يلحقه من الحركة والسكون فينظرفي الأجسام السماوية والعنصرية وما يتولد عنها من إنسان وحيوان ونبات ومعدن وما يتكون في الأرض من العيون والزلازل وفي الجو من السحاب والبخار والرعد والبرق والصواعق وغير ذلك‏.‏ وفي مبدإ الحركة للأجسام وهو النفس على تنوعها في الإنسان والحيوان والنبات‏.‏ وكتب ارسطوفيه موجودة بين ايدي الناس ترجمت مع ما ترجم من علوم الفلسفة أيام المأمون وألف الناس على حذوها مستتبعين لها بالبيان والشرح‏.‏ وأوعب من ألف في ذلك ابن سينا في كتاب الشفاء جمع فيه العلوم السبعة للفلاسفة كما قدمنا ثم لخصه في كتاب النجاة وفي كتاب الإشارات وكأنه يخالف ارسطو في الكثيرمن مسائلها ويقول برأيه فيها‏.‏ وأما ابن رشد فلخص كتب أرسطو وشرحها متبعا له غيرمخالف‏.‏ وألف الناس بعده‏!‏ في ذلك كثيراً لكن هذه هي المشهورة لهذا العهدوالمعتبرة فى الصناعة‏.‏ ولأهل المشرق عناية بكتاب الإشارات لابن سينا وللإمام ابن الخطيب عليه شرح حسن وكذا الآمدي‏.‏ وشرحه أيضاً نصير الدين الطوسي المعروف بخواجة من أهل المشرق وبحث مع الإمام في كثير من مسائله فأوفى على أنظارهوبحوثه‏.‏ وفوق كل ذي علم عليم والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:32

الفصل الخامس والعشرون علم الطب
ومن فروع الطبيعيات صناعة الطب وهي صناعة تنظر في بدن الإنسان من حيث يمرض ويصح فيحاول صاحبها حفظ الصحة وبرء المرض بالآدوية والآغذية بعد أن يبين المرض الذي يخص كل عضومن أعضاء البدن وأسباب تلك الامراض التي تنشأ عنها وما لكل مرض من الآدوية مستدلين على ذلك بأمزجة الأدوية وقواها وعلى المرض بالعلامات المؤذية بنضجه وقبوله للدواء أولاً‏:‏ في السجية والفضلات والنبض محاذين لذلك قوة الطبيعة فإنها المدبرة في حالتي الصحة والمرض‏.‏ وإنما الطيبب يحاذيها ويعينها بعض الشيء بحسب ما تقتضيه طبيعة المادة والفصل والسن ويسمى العلم الجامع لهذا كله علم الطب‏.‏ وربما أفردوا بعض الأعضاء بالكلام وجعلوه علماًخاصاً كالعين وعالمها وأكحالها‏.‏ وكذلك ألحقوا بالفن منافع الأعضاء ومعناه التي خلق لأجلها كل عضو من أعضاء البدن الحيواني‏.‏ وإن لم يكن ذلك من موضوع علم الطب إلا إنهم جعلوه من لواحقه وتوابعه‏.‏ ولجالينوس في هذا الفن كتاب جليل عظيم المنفعة وهو إمام هذه الصناعة التي ترجمت كتبه فيها من الأقدمين يقال إنه كان معاصرا لعيسى عليه السلام ويقال إنه مات بصقلية في سبيل تغلب ومطاوعة اغتراب‏.‏ وتآليفه فيها هي الآمهات التي اقتدى بها جميع الآطباء من بعده‏.‏ وكان في الإسلام في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية مثل الرازي والمجوسي وابن سينا ومن أهل الأندلس أيضاً كثيرٌ‏.‏ وأشهرهم ابن زهر‏.‏ وهي لهذا العهد في المدن الإسلامية كأنها نقصت لوقوف العمران وتناقصه وهي من الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والترف كما نبينه بعد‏.‏ وللبادية من أهل العمران طب يبنونه في غالب الأمر على تجربة قاصره علىبعض الأشخاص ويتداولونه متوارثاً عن مشايخ الحي وعجائزه وربما يصح منه البعض إلا أنه ليس على قانون طبيعي ولا عن موافقة المزاج‏.‏ وكان عند العرب من هذا الطب كثير وكان فيهم أطباء معروفون‏:‏ كالحرث بن كلدة وغيره‏.‏ والطب المنقول في الشرعيات من هذا القبيل وليس من الوحي في شىءوإنما هوأمر كان عادياً للعرب‏.‏ ووقع في ذكر أحوال النبي صلىالله عليهوسلم من نوع ذكرأحواله التي هي عادة وجبلة لا من جهة أن ذلك مشروع على ذلك النحو من العمل‏.‏ فإنه صلى الله عليه وسلم إنما بعث ليعلمنا الشرائع ولم يبعث لتعريف الطب ولا غيره من العاديات‏.‏ وقد وقع له في شأن تلقيح النخل ما وقع فقال‏:‏ ‏"‏ أنتم أعلم بأموردنياكم‏.‏ فلا ينبغي أن يحمل شيء من الذي وقع من الطب الذي وقع في الأحاديث الصحيحة المنقولة على أنه مشروع فليس هناك ما يدل عليه اللهم إلا إن استعمل على جهة التبرك وصدق العقد الإيماني فيكون له اثر عظيم في النفع‏.‏ وليس ذلك من الطب المزاجي وإنما هو من آثار الكلمة الإيمانية كما وقع في مداواة المبطون بالعسل ونحوه‏.‏ والله الهادي إلى الصواب لا رب سواه‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:32

الفصل السادس والعشرون الفلاحة
هذه الصناعة من فروع الطبيعيات وهي النظرفي النبات من حيث تنميته ونشؤه بالسقي والعلاج واستجادة المنبت وصلاحية الفصل وتعاهده بما يصلحه ويتمه من ذلك كله‏.‏ وكان للمتقدمين بها عناية كثيرة وكان النظر فيها عندهم عاماً في النبات من جهة غرسه وتنميته ومن جهة خواصه وروحانيته ومشاكلتها لروحانيات الكواكب والهياكل المستعمل ذلك كله في باب السحر فعظمت عنايتهم به لأجل ذلك‏.‏ وترجم من كتب اليونانيين كتاب الفلاحة النبطية منسوبة لعلماء النبط مشتملة من ذلك على علم كبير‏.‏ ولما نظر أهل الملة فيما اشتمل عليه هذا الكتاب وكان باب السحر مسدوداً والنظر فيه محظوراً فاقتصروا منه على الكلام في النبات من جهة غرسه وعلاجه وما يعرض له في ذلك وحذفوا الكلام في الفن الآخرمنه جملةً‏.‏ واختصر ابن العوام كتاب الفلاحة النبطية على هذا المنهاج وبقي الفن الآخرمنه مغفلأ‏.‏ نقل منه مسلمة في كتبه السحرية أمهات من مسائله كما نذكره عند الكلام على السحر إن شإء الله تعالى‏.‏ وكتب المتأخرين في الفلاحة كثيرة ولا يعدون فيها الكلام في الغراس والعلاج وحفظ النبات من حوائجه وعوائقه وما يعرض في ذلك كله وهي موجودة‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:33

الفصل السابع والعشرون علم الإلهيات
وهي علم ينظر في الوجود المطلق‏.‏ فأولاً في الأمور العامة للجسمانيات والروحانيات من الماهيات والوحدة والكثرة والوجوب والإمكان وغير ذلك ثم ينظر في مبادىء الموجودات وأنها روحانيات ثم في كيفية صدور الموجودات عنها ومراتبها ثم في أحوال النفس بعد مفارقة الأجسام وعودها إلى المبدإ‏.‏ وهو عندهم علم شريف يزعمون أنه يوقفهم على معرفة الوجود على ما هو عليه وأن ذلك عين السعادة في زعمهم وسيأتي الردعليهم بعد‏.‏ وهوتال للطبيعيات في ترتيبهم ولذلك يسمونه علم ماوراء الطبيعة وكتب المعلم الأول فيه موجودة بين أيدي الناس ولخصه ابن سينا في كتاب الشفاء والنجاة وكذلك لخصها ابن رشد من حكماء الأندلس ولما وضع المتأخرون في علوم القوم ودونوا فيها ورد عليهم الغزالي مارده منها ثم خلط المتأخرون من المتكلمين مسائل علم الكلام بمسائل الفلسفة لاشتراكهما في المباحث وتشابه موضوع علم الكلام بموضوع الإلهيات ومسائله بمسائلها فصارت فن واحد‏.‏ ثم غيروا ترتيب الحكماء فى مسائل الطبيعيات والإلهيات وخلطوهما فناً واحداً قدموا فيه الكلام في الأمور العامة ثم أتبعوه بالجسمانيات وتوابعها ثم بالروحانيات وتوابعها إلى آخر العلم كما فعله الإمام ابن الخطيب في المباحث المشرقية وجميع من بعده من علماء الكلام‏.‏ وصار علم الكلام مختلطاً بمسائل الحكمة وكتبه محشوة بها كأن الغرض من موضوعهما ومسائلهما واحد‏.‏ والتبس ذلك على الناس وهو صواب لأن مسائل علم الكلام إنما هي عقائد متلقاة من الشريعة كما نقلها السلف من غير رجوع فيها إلى العقل ولا تعويل عليه بمعنى أنها لا تثبت إلا به‏.‏ فإن العقل معزول عن الشرع وأنظاره‏.‏ وما تحدث فيه المتكلمون من إقامة الحجج فليس بحثاً عن الحق فيها ليعلم بالدليل بعد أن لم يكن معلوماً هو شأن الفلسفة بل إنما هو التماس حجة عقلية تعضد عقائد الإيمان ومذاهب السلف فيها وتدفع شبه أهل البدع عنها الذين زعموا أن مداركهم فيها عقلية‏.‏ وذلك بعد أن تفرض صحيحة بالأدلة النقلية كما تلقاها السلف واعتقدوها وكثير ما بين المقامين‏.‏ وذلك أن مدارك صاحب الشريعة أوسع لاتساع نطاقها عن مدارك الأنظار العقلية فهي فوقها ومحيطة بها لاستمدادها من الأنوار الإلهية فلا تدخل تحت قانون النظر الضعيف والمدارك المحاط بها‏.‏ فإذا هدانا الشارع إلى مدرك فينبغي أن نقدمة على مداركنا ونثق به دونها ولا ننظر في تصحيحه بمدارك العقل ولوعارضه بل نعتقد ما أمرنا به اعتقاداً وعلماً ونسكت عما لم نفهم من ذلك ونفوضه إلى الشارع ونعزل العقل عنه‏.‏ والمتكلمون إنما دعاهم إلى ذلك كلام أهل الإلحاد في معارضات العقائد السلفية بالبدع النظرية فاحتاجوا إلى الرد عليهم من جنس معارضتهم واستدعى ذلك الحجج النظرية ومحاذاة العقائد السلفية بها‏.‏ وأما النظر في مسائل الطبيعيات والإلهيات بالتصحيح والبطلان فليس من موضوع علم الكلام ولا من جنس أنظار المتكلمين‏.‏ فاعلم ذلك لتميز به بين الفنين فإنهما مختلطان عند المتأخرين في الوضع والتآليف‏.‏ والحق مغايرة كل منهما لصاحبه بالموضوع والمسائل‏.‏ وإنما جاء الالتباس من اتحاد المطالب عند الاستدلال وصار احتجاج أهل الكلام كأنه إنشاء لطلب الاعتقاد بالدليل وليس كذلك‏.‏ بل إنما هو رد على الملحدين والمطلوب مفروض الصدق معلومة‏.‏ وبهذا جاء المتأخرون من غلاة المتصوفة المتكلمين بالمواجد أيضاً فخلطوا مسائل الفنين بفنهم وجعلوا الكلام واحداً فيها كلها‏.‏ مثل كلامهم في النبوات والاتحاد والحلول والوحدة وغير ذلك‏.‏ والمدارك في هذه الفنون الثلاثة متغايرة مختلفة وأبعدها من جنس الفنون والعلوم مدارك المتصوفة لأنهم يدعون فيها الوجدان ويفرون عن الدليل‏.‏ والوجدان بعيد عن المدارك العلمية وأبحاثها وتوابعها كما بيناه ونبينه‏.‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏ والله أعلم بالصواب‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:36

الفصل الثامن والعشرون علوم السحر والطلسمات
هي علوم بكيفية استعدادات تقتدر النفوس البشرية بها على التأثيرات في عالم العناصر‏:‏ إما بغير معين أو بمعين من الأمور السماوية والأول هو ال‏!‏ سر والثاني هو الطلسمات‏.‏ ولما كانت هذه العلوم مهجورة عند الشرائع لما فيها من الضرر ولما يشترط فيها من الوجهة إلى غير الله من كوكب أو غيره كانت كتبها كالمفقودة بين الناس‏.‏ إلا ما وجد فى كتب الأمم الأقدمين فيما قبل نبوة موسى عليه السلام مثل النبط والكلدانيين فإن جميع من تقدمه من الأنبياء لم يشرعوا الشرائع ولا جاؤوا بالأحكام إنما كانت كتبهم مواعظ وتوحيداً لله وتذكيراً بالجنة والنار‏.‏ وكانت هذه العلوم في أهل بابل من السريانيين والكلدانيين وفي أهل مصر من القبط وغيرهم‏.‏ وكان لهم فيها التآليف والآثار‏.‏ ولم يترجم لنا من كتبهم فيها إلا القليل مثل الفلاحة النبطية لابن وحشية من أوضاع أهل بابل فأخذ الناس منها هذا العلم وتفننوا فيه‏.‏ ووضعت بعد ذلك الأوضاع مثل مصاحف الكواكب السبعة وكتاب طمطم الهندي في صور الدرج والكواكب وغيرها‏.‏ ثم ظهر بالمشرق جابر بن حيان كبير السحرة في هذه الملة فتصفح كتب القوم واستخرج الصناعة وغاص في زبدتها واستخرجها ووضع فيها عدة من التآليف‏.‏ وأكثر الكلام فيها وفي صناعة السيمياء لأنها من توابعها ولأن إحالة الأجسام النوعية من صورة إلى أخرى إنما تكون بالقوة النفسية لا بالصناعة العملية فهو من قبيل السحر كما نذكره في موضعه‏.‏ ثم جاء مسلمة بن أحمد المجريطي إمام أهل الأندلس في التعاليم والسحريات فلخص جميع تلك الكتب وهذبها وجمع طرقها في كتابه الذي سماه غاية الحكيم ولم يكتب أحد في هذا العلم بعده‏.‏ ولنقدم هنا مقدمة يتبثين لك منها حقيقة السحر وذلك أن النفوس البشرية وإن كانت واحدة بالنوع فهي مختلفة بالخواص‏.‏ وهي أصناف كل صنف مختص بخاصية واحده بالنوع لا توجد في الصنف الآخر‏.‏ وصارت تلك الخواص فطرة وجبلة لصنفها‏.‏ فنفوس الأنبياء عليهم الصلاة والسلام لها خاصية تستعد بها للانسلاخ من الروحانية البشرية إلى الروحانية الملكية حتى يصير ملكاً في تلك اللمحة التي انسلخت فيها‏.‏ وهذا هو معنى الوحي كما مر في موضعه وهي في تلك الحالة محلة للمعرفة الربانية ومخاطبة الملائكة عليهم السلام عن الله سبحانه وتعالى كما مر‏.‏ وما يتبع ذلك من التأثير في الأكوان‏.‏ ونفوس السحرة لها خاصية التأثير في الأكوان واستجلاب روحانية الكواكب للتصرف فيها والتأثير بقوة نفسانية أو شيطانية‏.‏ فأما تأثير الأنبياء فمدد إلهي وخاصية ربانية‏.‏ ونفوس الكهنة لها خاصية الاطلاع على المغيبات بقوى شيطانية‏.‏ وهكذا كل صنف مختص بخاصية لا توجد في الآخر‏.‏ والنفوس الساحرة على مراتب ثلاثة يأتي شرحها‏:‏ فأوله المؤثرة بالهمة فقط من غير آلة ولا معين وهذا هو الذي تسميه الفلاسفة السحر والثاني بمعين من مزاج الأفلاك أو العناصر أو خواص الأعداد ويسمونه الطلسمات وهو أضعف رتبة من الأولى والثالث تأثير في القوى المتخيلة‏.‏ يعمد صاحب هذا التأثير إلى القوى المتخيلة فيتصرف فيها بنوع من التصرف ويلقي فيها أنواعاً من الخيالات والمحاكاة وصوراً مما يقصده من ذلك ثم ينزلها إلى الحس من الراؤون بقوة نفسه المؤثرة فيه فينظرها الراؤون كأنها في الخارج وليس هناك شيء من ذلك كما يحكى عن بعضهم أنه يري البساتين والأنهار والقصور وليس هناك شيء من ذلك‏.‏ ويسمى هذا عند الفلاسفة الشعوذة أو الشعبذة‏.‏ هذا تفصيل مراتبه‏.‏ ثم هذه الخاصية تكون في الساحر بالقوة شأن القوى البشرية كلها‏.‏ وإنما تخرج إلى الفعل بالرياضة‏.‏ ورياضة السحر كلها إنما تكون بالتوجه إلى الافلاك والكواكب والعوالم العلوية والشياطين بأنواع التعظيم والعبادة والخضوع والتذلل فهي لذلك وجهة إلى غير الله وسجود له‏.‏ والوجهة إلى غير الله كفر‏.‏ فلهذا كان السحر كفراً والكفر من مواده وأسبابه كما رأيت‏.‏ ولهذا اختلف الفقهاء في قتل الساحر هل هو لكفره السابق على فعله أو لتصرفه بالإفساد وما ينشأ عنه من الفساد في الأكوان والكل حاصل منه‏.‏ ولما كانت المرتبتان الأوليان من السحر لها حقيقة في الخارج والمرتبة الأخيرة الثالثة لا حقيقة لها اختلف العلماء في السحر‏:‏ هل هو حقيقة أو إنما هو تخييل فالقائلون بأن له حقيقة نظروا إلى المرتبتين الأوليين والقائلون بأن لا حقيقة له نظروا إلى المرتبة الثالثة الأخيرة‏.‏ فليس بينهم اختلاف في نفس الأمر بل إنما جاء من قبل اشتباه هذه المراتب‏.‏ والله أعلم‏.‏ واعلم أن وجود السحر لا مرية فيه بين العقلاء من أجل التأثير الذي ذكرناه وقد نطق به القرآن‏.‏ قال الله تعالى‏:‏ ‏"‏ ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر وما أنزل على الملكين ببابل هاروت وماروت وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر فيتعلمون منهما ما يفرقون به بين المرء وزوجه وما هم بضارين به من أحد إلا بإذن الله[/url] ‏"‏‏.‏ وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله وجعل سحره في مشط ومشاقة وجف طلعة ودفن في بئر ذروان فأنزل الله عز وجل عليه في المعوذتين‏:‏ ‏"‏ شر النفاثات في العقد[/url] ‏"‏‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فكان لا يقرا على عقدة من تلك العقد التي سحر فيها إلا انحلت‏.‏ وأما وجود السحر في أهل بابل وهم الكلدانيون من النبط والسريانين فكثير ونطق به القرآن وجاءت به الأخبار‏.‏ وكان للسحر في بابل ومصر أزمان بعثة موسى عليه السلام أسواق نافقة‏.‏ ولهذا كانت معجزة موسى من جنس ما يدعون ويتناغون فيه وبقي من آثار ذلك في البرابي بصعيد مصر شواهد دالة على ذلك‏.‏ ورأينا بالعيان من يصور صورة الشخص المسحور بخواص أشياء مقابلة لما نواه وحاوله موجودة بالمسحور وأمثال تلك المعاني من أسماء وصفات في التآليف والتفريق‏.‏ ثم يتكلم على تلك الصورة التي أقامها مقام الشخص المسحور عيناً أو معنى‏.‏ ثم ينفث من ريقه بعد اجتماعه في فيه بتكرير مخارج تلك الحروف من الكلام السوء ويعقد على ذلك المعنى في سبب أعده لذلك تفاؤلاً بالعقد واللزام وأخذ العهد على من أشرك به من الجن في نفثه في فعله ذلك استشعاراً للعزيمة بالعزم‏.‏ ولتلك البنية والأسماء السيئة خبيثة تخرج منه مع النفخ متعلقة بريقه الخارج من فيه بالنفث فتنزل عنها أرواح خبيثة ويقع عن ذلك بالمسحور ما يحاوله الساحر‏.‏ وشاهدنا أيضاً من المنتحلين للسحر وعمله من يشير إلى كساء أو جلد ويتكلم عليه في سره فإذا هو مقطوع متخرق‏.‏ ويشير إلى بطون الغنم كذلك في مراعيها بالبعج فإذا أمعاؤها ساقطة من بطونها إلى الارض‏.‏ وسمعنا أن بأرض الهند لهذا العهد من يشير إلى إنسان فيتحتت قلبه ويقع ميتاً وينقب عن قلبه فلا يوجد في حشاه ويشير إلى الرمانة وتفتح فلا يوجد من حبوبها شيء‏.‏ وكذلك سمعنا أن بأرض السودان وأرض الترك من يسحر السحاب فتمطر الأرض المخصوصة‏.‏ وكذلك رأينا من عمل الطلسمات عجائب في الأعداد المتحابة وهي‏:‏ رك رف د أحد العددين مائتان وعشرون والآخر مائتان وأربعة وثمانون ومعنى المتحابة أن أجزاء كل واحد التي فيه من نصف وثلث وربع وسدس وخمس وأمثالها إذا جمع كان مساوياً للعدد الآخر صاحبه فتسمى لأجل ذلك المتحابة‏.‏ ونقل أصحاب الطلسمات أن لتلك الأعداد أثراً في الألفة بين المتحابين واجتماعهما إذا وضع لهما تمثالان‏.‏ أحدهما بطالع الزهرة وهي في بيتها أو شرفها ناظرة إلى القمر نظر مودة وقبول ويجعل طالع الثاني سابع الأول ويوضع على أحد التمثالين أحد العددين والآخر على الآخر‏.‏ ويقصد بالأكثر الذي يراد ائتلافه أعني المحبوب ما أدري الأكثر كمية أو الأكثر أجزاء فيكون لذلك من التآليف العظيم بين المتحابين ما لا يكاد ينفك أحدهما عن الآخر‏.‏ قاله صاحب الغاية وغيره من أئمة هذا الشأن وشهدت له التجربة‏.‏ وكذا طابع الأسد ويسمى أيضاً طابع الحصى وهو أن يرسم في قالب هند إصبع صورة أسد شائلاً ذنبه عاضاً على حصاة قد قسمها بنصفين وبين يديه صورة حية منسابة من رجليه إلى قبالة وجهه فاغرة فاها إلى فيه وعلى ظهره صورة عقرب تدب‏.‏ ويتحين برسمه حول الشمس بالوجه الأول أو الثالث من الأسد بشرط صلاح النيرين وسلامتهما من النحوس‏.‏ فإذا وجد ذلك وعثر عليه طبع في ذلك الوقت في مقدار المثقال فما دونه من الذهب وغمس بعد في الزعفران محلولاً بماء الورد ورفع في خرقة حرير صفراء فإنهم يزعمون أن لممسكه من العز على السلاطين في مباشرتهم وخدمتهم وتسخيرهم له ما لا يعبر عنه‏.‏ وكذلك للسلاطين فيه من القوة والعزعلى من تحت أيديهم ذكر ذلك أيضاً أهل هذا الشأن في الغاية وغيرها وشهدت له التجربة‏.‏ وكذلك وفق المسدس المختص بالشمس ذكروا أنه يوضع عند حلول الشمس في شرفها وسلامتها من النحوس وسلامة القمر بطالع ملوكي يعتبر فيه نظر صاحب العاشر لصاحب الطالع نظر مودة وقبول ويصلح فيه ما يكون في مواليد الملوك من الأدلة الشريفة ويرفع في خرقة حرير صفراء بعد أن يغمس في الطيب‏.‏ فزعموا أن له أثراً في صحابة الملوك وخدمتهم ومعاشرتهم‏.‏ وأمثال ذلك كثير‏.


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:44 عدل 1 مرات
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:36

وكتاب الغاية لمسلمة بن أحمد المجريطي هو مدونة هذه الصناعة وفيه استيفاؤها وكمال مسائلها‏.‏ وذكر لنا‏:‏ أن الإمام الفخر بن الخطيب وضع كتاباً في ذلك وسماه بالسر المكتوم وأنه بالمشرق يتداوله أهله ونحن لم نقف عليه والإمام لم يكن من أئمة الشأن فيما نظن ولعل الأمر بخلاف ذلك‏.‏ وبالمغرب صنف من هؤلاء المنتحلين لهذه الأعمال السحرية يعرفون بالبعاجين وهم الذين ذكرت أولاً أنهم يشيرون إلى الكساء أو الجلد فيتخرق ويشيرون إلى بطون الغنم بالبعج فينبعج‏.‏ ويسمى أحدهم لهذا العهد باسم البعاج لأن أكثر ما ينتحل من السحر بعج الأنعام يرهب بذلك أهلها ليعطوه من فضلها وهم متسترون بذلك في الغاية خوفاً على أنفسهم من الحكام‏.‏ لقيت منهم جماعة وشاهدت من أفعالهم هذه بذلك وأخبروني أن لهم وجهة ورياضة خاصة بدعوات كفرية وإشراك لروحانية الجن والكواكب سطرت فيها صحيفة عندهم تسمى الخزيرية يتدارسونها وأن بهذه الرياضة والوجهة يصلون إلى حصول هذه الأفعال لهم وأن التأثير الذي لهم إنما هو فيما سوى الإنسان الحر من المتاع والحيوان والرقيق ويعبرون عن ذلك بقولهم إنما نفعل فيما يمشي فيه الدرهم أي ما يملك ويباع ويشترى من سائر المتملكات هذا ما زعموه‏.‏ وسألت بعضهم فأخبرني به‏.‏ وأما أفعالهم فظاهرة موجودة وقفنا على الكثير منها وعاينتها من غير ريبة في ذلك‏.‏ هذا شأن السحر والطلسمات وآثارهما في العالم فأما الفلاسفة ففرقوا بين السحر والطلمسات بعد أن أثبتوا أنهما جميعا أثر للنفس الإنسانية واستدلوا على وجود الأثر للنفس الإنسانية بأن لها آثاراً في بدنها على غير المجرى الطبيعي وأسبابه الجسمانية بل آثار عارضة من كيفيات الأرواح تارة كالسخونة الحادثة عن الفرح والسرور ومن جهة التصورات النفسانية أخرى كالذي يقع من قبل التوهم‏.‏ فإن الماشي على حرف حائط أو على جبل منتصب إذا قوي عنده توهم السقوط سقط بلا شك‏.‏ ولهذا تجد كثيراً من الناس يعودون أنفسهم ذلك بالدربة عليه حتى يذهب عنهم هذا الوهم فتجدهم يمشون على حرف الحائط والحبل المنتصب ولا فثبت أن ذلك من آثار النفس الإنسانية وتصورها للسقوط من أجل الوهم‏.‏ وإذا كان ذلك أثراً للنفس في بدنها من غير الأسباب الجسمانية الطبيعية فجائز أن يكون لها مثل هذا الأثر في غير بدنها إذ نسبتها إلى الأبدان في ذلك النوع من التأثير واحدة لأنها غيرحالة في البدن ولا منطبعة فيه فثبت أنها مؤثرة في سائر الأجسام‏.‏ وأما التفرقة عندهم بين السحر والطلمسات فهو أن السحر لا يحتاج الساحر فيه إلى معين وصاحب الطلسمات يستعين بروحانيات الكواكب وأسرار الأعداد وخواص الموجودات وأوضاع الفلك المؤثرة في عالم العناصر كما يقوله المنجمون ويقولون‏:‏ السحر اتحاد روح بروح والطلسم اتحاد روح بجسم ومعناه عندهم ربط الطبائع العلوية السماوية بالطبائع السفلية‏.‏ والطبائع العلوية هي روحانيات الكواكب ولذلك يستعين صاحبه في غالب الأمر بالنجامة‏.‏ والساحر عندهم غير مكتسب لسحره بل هو مفطور عندهم على تلك الجبلة المختصة بذلك النوع من التأثير‏.‏ والفرق عندهم بين المعجزة والسحر أن المعجزة قوة إلهية تبعث في النفس ذلك التأثير فهو مؤيد بروح الله على فعله ذلك‏.‏ والساحر إنما يفعل ذلك من عند نفسه وبقوته النفسانية وبإمداد الشياطين في بعض الأحوال فبينهما الفرق في المعقولية والحقيقة والذات في نفس الأمر وإنما نستدل نحن على التفرقة بالعلامات الظاهرة وهي وجود المعجزة لصاحب الخير وفي مقاصد الخير وللنفوس المتمحصة للخير والتحدي بها على دعوى النبوة‏.‏ والسحر إنما يوجد لصاحب الشر وفي أفعال الشر في الغالب من التفريق بين الزوجين وضرر الأعداء وأمثال ذلك وللنفوس المتمحصة للشر‏.‏ هذا هو الفرق بينهما عند الحكماء الإلهيين‏.‏ وقد يوجد لبعض المتصوفة وأصحاب الكرامات تأئير أيضاً في أحوال العالم وليس معدوداً من جنس السحر وإنما هو بالإمداد الإلهي لأن طريقتهم ونحلتهم من آثار النبوة وتوابعها‏.‏ ولهم في المدد الإلهي حظ عظيم على قدر حالهم وإيمانهم وتمسكهم بكلمة الله‏.‏ وإذا اقتدر أحد منهم على أفعال الشر فلا يأتيها لأنه متقيد فيما يأتيه ويذره للأمر الإلهي‏.‏ فما لا يقع لهم فيه الإذن لا يأتونه بوجه ومن أتاه منهم فقد عدل عن طريق الحق وربما سلب حاله‏.‏ ولما كانت المعجزة بإمداد روح الله والقوى الإلهية فلذلك لا يعارضها شيء من السحر‏.‏ وانظر شأن سحرة فرعون مع موسى في معجزة العصا كيف تلقفت ما كانوا يأفكون وذهب سحرهم واضمحل كأن لم يكن‏.‏ وكذلك لما أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم في المعوذتين ومن شر النفاثات في العقد‏.‏ قالت عائشة رضي الله عنها‏:‏ فكان لا يقرؤها على عقدة من العقد التي سحر فيها إلا انحلت‏.‏ فالسحر لا يثبت مع اسم الله وذكره بالهمة الإيمانية‏.‏ وقد نقل المؤزخون أن زركش كاويان وهي راية كسرى كان فيها الوفق المئيني العددي منسوجاً بالذهب في أوضاع فلكية رصدت لذلك الوفق‏.‏ ووجدت الراية يوم قتل رستم بالقادسية واقعة على الأرض بعد انهزام أهل فارس وشتاتهم‏.‏ وهو فيما يزعم أهل الطلسمات والأوفاق مخصوص بالغلب في الحروب وأن الراية التي يكون فيها أو معها لا تنهزم اصلاً‏.‏ إلا أن هذه عارضها المدد الإلهي من إيمان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وتمسكهم بكلمة الله فانحل معها


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:37

كل عقد سحري ولم يثبت وبطل ما كانوا يعملون‏.‏ وأما الشريعة فلم تفرق بين السحر والطلسمات والشعبذة وجعلته كله باباً واحداً محظوراً‏.‏ لأن الأفعال إنما أباح لنا الشارع منها ما يهمنا في ديننا الذي فيه صلاح آخرتنا أو في معاشنا الذي فيه صلاح دنيانا وما لاديهمنا في شيء منهما‏.‏ فإن كان فيه ضرر أو نوع ضرر كالسحر الحاصل ضرره بالوقوع ويلحق به الطلسمات لأن آثرهما واحد كالنجامة التي فيها نوع ضرر باعتقاد التأثير فتفسد العقيدة الإيمانية برد الأمور إلى غير الله فيكون حينئذ ذلك الفعل محظوراً على نسبته في الضرر‏.‏ وإن لم يكن مهماً علينا ولا فيه ضرر فلا أقل من تركه قربة إلى الله فإن من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه‏.‏ فجعلت الشريعة باب السحر والطلسمات والشعوذة باباً واحداً لما فيها من الضرر وخصته بالحظر والتحريم‏.‏ واما الفرق عندهم بين المعجزة والسحر فالذي ذكره المتكلمون أنه راجع إلى التحدي وهو دعوى وقوعها على وفق ما ادعاه‏.‏ قالوا‏:‏ والساحر مصروف عن مثل هذا التحدي فلا يقع منه‏.‏ ووقوع المعجزة على وفق دعوى الكاذب غير مقدور لأن دلالة المعجزة على الصدق عقلية لأن صفة نفسها التصديق فلو وقعت مع الكذب لاستحال الصادق كاذباً وهو محال فإذاً لا تقع المعجزة مع الكاذب بإطلاق‏.‏ وأما الحكماء فالفرق بينهما عندهم كما ذكرناه فرق ما بين الخير والشر في نهاية الطرفين‏.‏ فالساحر لا يصدر منه الخير ولا يستعمل في أسباب الخير وصاحب المعجزة لا يصدر منه الشر ولا يستعمل في أسباب الشر وكأنهما على طرفي النقيض في أصل فطرتهما‏.‏ والله يهدي من يشاء وهو القوي العزيز لارب سواه‏.‏ ومن قبيل هذه التأثيرات النفسانية الإصابة بالعين وهو تأثير من نفس المعيان عندما يستحسن بعينه مدركاً من الذوات أو الأحوال ويفرط في استحسانه وينشأ عن ذلك الاستحسان حسد يروم معه سلب ذلك الشيء عمن اتصف به فيؤثر فساده‏.‏ وهو جبلة فطرية أعني هذه الإصابة بالعين‏.‏ والفرق بينها وبين التأثيرات النفسانية أن صدوره فطري جبلي لا يتخلف ولا يرجع اختياز صاحبه ولا يكتسبه وسائر التأثيرات وإن كان منها ما لا يكتسب فصدورها راجع إلى اختيار فاعلها والفطري منها قوة صدورها لا نفس صدورها ولهذا قالوا‏:‏ القاتل بالسحر أو بالكرامة يقتل والقاتل بالعين لا يقتل‏.‏ وما ذلك إلا لأنه ليس مما يريده ويقصده


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:38

الفصل التاسع والعشرون علم أسرار الحروف
وهو المسمى لهذا العهد بالسيميا‏.‏ نقل وضعه من الطلسمات إليه في اصطلاح أهل التصرف من المتصوفة فاستعمل استعمال العام في الخاص‏.‏ وحدث هذا العلم في الملة بعد صدرمنها وعند ظهور الغلاة من التصوفة وجنوحهم إلى كشف حجاب الحس وظهور الخوارق على أيديهم والتصرفات في عالم العناصر وتدوين الكتب والاصطلاحات ومزاعمهم في تنزل الوجود عن الواحد وترتيبه‏.‏ وزعموا أن الكمال الأسمائي مظاهره أرواح الأفلاك والكواكب وأن طبائع الحروف وأسرارها سارية في الأسماء فهي سارية في الأكوان على هذا النظام‏.‏ والأكوان من لدن الإبداع الأول تتنقل في أطواره وتعرب عن أسراره فحدث لذلك علم أسرار الحروف وهو من تفاريع علم السيمياء لا يوقف على موضوعه ولا تحاط بالعدد مسائله‏.‏ تعددت فيه تآليف البوني وابن العربي وغيرهما ممن اتبع آثارهما‏.‏ وحاصله عندهم وثمرته تصرف النفوس الربانية في عالم الطبيعة بالأسماء الحسنى والكلمات الإلهية الناشئة عن الحروف المحيطة بالأسرار السارية في الأكوان‏.‏ ثم اختلفوا في سر التصرف الذي في الحروف بما هو‏:‏ فمنهم من جعله للمزاج الذي فيه وقسم الحروف بقسمة الطبائع إلى أربعة أصناف كما للعناصر‏.‏ واختصت كل طبيعة بصنف من الحروف يقع التصرف في طبيعتها فعلاً وانفعالاً بذلك الصنف فتنوعت الحروف بقانون صناعي يسمونه التكسير إلى نارية وهوائية ومائية وترابية على حسب تنوع العناصر فالألف للنار والباء للهواء والجيم للماء والدال للتراب‏.‏ ثم ترجع كذلك على التوالي من الحروف والعناصر إلى أن تنفد‏.‏ فتعين لعنصر النار حروف سبعة‏:‏ الألف والهاء والطاء والميم والفاء والسين والذال وتعين لعنصر الهواء سبعة أيضا‏:‏ الباء والواو والياء والنون والضاد والتاء والظاء وتعين لعنصر الماء أيضاً سبعة‏:‏ الجيم والزاي والكاف والصاد والقاف والثاء والغين وتعين لعنصر التراب أيضاً سبعة‏:‏ الدال والحاء واللام والعين والراء والخاء والشين‏.‏ والحروف النارية لدفع الأمراض الباردة ولمضاعفة قوة الحرارة حيث تطلب مضاعفتها إما حساً أو حكماً كما في تضعيف قوى المريخ في الحروب والقتل والفتك‏.‏ والمائية أيضاً لدفع الأمراض الحارة من حميات وغيرها ولتضعيف القوى الباردة حيث تطلب مضاعفتها حساً أوحكماً كتضعيف قوى القمر وأمثال ذلك‏.‏ ومنهم من جعل سر التصرف الذي في الحروف للنسبة العددية‏:‏ فإن حروف أبجد دالة على أعدادها المتعارفة وضعاً وطبعاً فبينها من أجل تناسب الأعداد تناسب في نفسها أيضاً كما بين الباء والكاف والراء لدلالتها كلها على الاثنين كل في مرتبته فالباء على اثنين في مرتبة الآحاد والكاف على اثنين في مرتبة العشرات والراء على اثنين في مرتبة المئين‏.‏ وكالذي بينها وبين الدال والميم والتاء لدلالتها على الأربعة وبين الأربعة والاثنين نسبة الضعف‏.‏ وخرج للأسماء أوفاق كما للأعداد يختص كل صنف من الحروف بصنف من الأوفاق الذي يناسبه من حيث عدد الشكل أو عدد الحروف وامتزج التصرف من السر الحرفي والسر العددي لأجل التناسب الذي بينهما‏.‏ فأفا سر التناسب الذي بين هذه الحروف وأمزجة الطبائع أو بين الحروف والأعداد فأمر عسير على الفهم إذ ليس من قبيل العلوم والقياسات وإنما مستندهم فيه الذوق والكشف‏.‏ قال البوني‏:‏ ولا تظن أن سر الحروف مما يتوصل إليه بالقياس العقلي وإنما هو بطريق المشاهدة والتوفيق الإلهي‏.‏ وأما التصرف في عالم الطبيعة بهذه الحروف والأسماء المركبة فيها وتأثر الأكوان عن ذلك فأمر لا ينكر لثبوته عن كثير منهم تواتراً‏.‏ وقد يظن أن تصرف هؤلاء وتصرف أصحاب الطلسمات واحد وليس كذلك فإن حقيقة الطلسم وتأثيره على ما حققه أهله أنه قوى روحانية من جوهر القهر تفعل فيما له ركب فعل غلبة وقهر بأسرار فلكية ونسب عددية وبخورات جالبات لروحانية ذلك الطلسم مشدودة فيه بالهمة فائدتها ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية وهو عندهم كالخميرة المركبة من هواثية وأرضية ومائية ونارية حاصلة في جملتها تخيل وتصرف ما حصلت فيه إلى ذاتها وتقلبه إلى صورتها‏.‏ وكذلك الإكسير للأجسام المعدنية كالخميرة تقلب المعدن الذي تسري فيه إلى نفسها بالإحالة‏.‏ ولذلك يقولون موضوع الكيمياء جسد في جسد لأن الإكسير أجزاؤه كلها جسدانية‏.‏ ويقولون‏:‏ موضوع الطلسم روح في جسد لأنه ربط الطبائع العلوية بالطبائع السفلية‏.‏ والطبائع السفلية جسد والطبائع العلوية روحانية‏.‏ وتحقيق الفرق بين تصرف أهل الطلسمات وأهل الأسماء بعد أن تعلم أن التصرف في عالم الطبيعة كله إنما هو للنفس الإنسانية والهمم البشرية أن النفس الإنسانية محيطة بالطبيعة وحاكمة عليها بالذات إلا أن تصرف أهل الطلسمات إنما هو في استنزال روحانية الأفلاك وربطها بالصور أو بالنسب العددية حتى يحصل من ذلك نوع مزاج يفعل الإحالة والقلب بطبيعته فعل الخميرة فيما حصلت فيه‏.‏ وتصرف أصحاب الأسماء إنما هو بما حصل بهم بالمجاهدة والكشف من النور الإلهي والإمداد الرباني فيسخر الطبيعة لذلك طائعة غير مستعصية ولا يحتاج إلى مدد من القوى الفلكية ولا غيرها لأن مدده أعلى منها‏.‏ ويحتاج أهل الطلسمات إلى قليل من


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:39

الرياضة تفيد النفس قوة على استنزال روحانية الأفلاك‏.‏ وأهون بها وجهة ورياضة‏.‏ بخلاف أهل الأسماء فإن رياضتهم هي الرياضة الكبرى وليست لقصد التصرف في الأكوان إذ هو حجاب‏.‏ وإنما التصرف حاصل لهم بالعرض كرامة من كرامات الله لهم‏.‏ فإن خلا صاحب الأسماء عن معرفة أسرار الله وحقائق الملكوت الذي هو نتيجة المشاهدة والكشف واقتصر على مناسبات الأسماء وطبائع الحروف والكلمات وتصرف بها من هذه الحيثية وهؤلاء هم أهل السيمياء في المشهور - كان إذاً لا فرق بينه وبين صاحب الطلسمات بل صاحب الطلسمات أوثق منه لأنه يرجع إلى أصول طبيعية علمية وقوانين مرتبة‏.‏ وأما صاحب أسرار الأسماء إذا فاته الكشف الذي يطلع به على حقائق الكلمات وآثار المناسبات بفوات الخلوص في الوجهة وليس له في العلوم الاصطلاحية قانون برهاني يعول عليه يكون حاله أضعف رتبة‏.‏ وقد يمزج صاحب الأسماء قوى الكلمات والأسماء بقوى الكواكب فيعين لذكر الأسماء الحسنى أو ما يرسم من أوفاقها بل ولسائر الأسماء أوقاتاً تكون من حظوظ الكوكب الذي يناسب ذلك الاسم كما فعله البوني في كتابه الذي سماه الأنماط‏.‏ وهذه المناسبة عندهم هي من لدن الحضرة العمائية وهي برزخية الكمال الأسمائي وإنما تنزل تفصيلها في الحقائق على ما هي عليه من المناسبة‏.‏ وإثبات هذه المناسبة عندهم إنما هو بحكم المشاهدة‏.‏ فإذا خلا صاحب الأسماء عن تلك المشاهدة وتلقى تلك المناسبة تقليداً كان عمله بمثابة عمل صاحب الطلسم بل هو أوثق منه كما قلناه‏.‏ وكذلك قد يمزج أيضاً صاحب الطلسمات عمله وقوى كواكبه بقوى الدعوات المؤلفة من الكلمات المخصوصة لمناسبة بين الكلمات والكواكب إلأ أن مناسبة الكلمات عندهم ليست كما هي عند أصحاب الأسماء من الاطلاع في حال المشاهدة وإنما يرجع إلى ما اقتضته أصول طريقتهم السحرية من اقتسام الكواكب لجميع ما في عالم المكونات من جواهر وأعراض وذوات ومعان والحروف والأسماء من جملة ما فيه‏.‏ فلكل واحد من الكواكب قسم منها يخصه ويبنون عى ذلك مباني غريبة منكرة من تقسيم سور القرآن وآيه على هذا النحو كما فعله مسلمة المجريطي في الغاية‏.‏ والظاهر من حال البوني في أنماطه أنه اعتبر طريقتهم‏.‏ فإن تلك الأنماط إذا تصفحتها وتصفحت الدعوات التي تصفنتها وتقسيمها على ساعات الكواكب السبعة ثم وقفت على الغاية وتصفحت قيامات الكواكب التي فيها وهي الدعوات التي تختص بكل كوكب ويسمونها قيامات الكواكب أي الدعوة التي يقام له بها شهد له ذلك‏:‏ إما بأنه من مادتها أو بأن التناسب الذي كان في أصل الإبداع وبرزخ‏.‏ العلم قضى بذلك كله‏.‏ ‏"‏ .وما أوتيتم من العلم إلا قليلا[/url] ‏"‏‏.‏ وليس كل ما حرمه الشارع من العلوم بمنكر الثبوت فقد ثبت ان السحرحق مع حظره‏.‏ لكن حسبنا من العلم ما علمنا‏.‏ ومن الكلمات حرفية يوهمون أنها أصل في معرفة ما يحاولون علمه من الكائنات الاستقبالية وإنما هي شبه المعاياة والمسائل السيالة‏.‏ ولهم في ذلك كلام كثير من أدعية وأوراد‏.‏ وأعجبه زايرجه العالم للسبتي وقد تقدم ذكرها‏.‏ ونبين هنا ما ذكروه في كيفية العمل بتلك الزايرجة بدائرتها وجدولها المكتوب حولها ثم نكشف عن الحق فيها وأنها ليست من الغيب وإنما هي مطابقة بين مسألة وجوابها في الإفادة فقط وقد أشرنا إلى ذلك من قبل‏.‏ وليس عندنا رواية يعول عليها في صحة هذه القصيدة إلا أننا تحرينا أصح النسخ منها في ظاهر الامر‏.‏ والله الموفق بمنه‏.‏ وهي هذه‏:‏ يقول سبيتي ويحمد ربه مصل على هاد إلى الناس أرسلا محمد المبعوث خاتم الأنبيا ويرضى عن الصحب ومن لهم تلا ألا هذه زايرجة العالم الذي تراه بحيكم وبالعقل قد حلا فمن أحكم الوضع فيحكم جسمه ويدرك أحكاماً تدبرها العلا ومن أحكم الربط فيدرك قوة ويدرك للتقوى وللكل حصلا ومن أحكم التصريف يحكم سره ويعقل نفسه وصح له الولا وفي عالم الأمر تراه محققاً وهذا مقام من بالآذكار كملا فطاء ٌلها عرش وفيه نقوشنا بنظم ونثر قد تراه مجدولا ونسب دوائر كنسبة فلكها وارسم كواكباً لآدراجها العلا وأخرج لأوتار وارسم حروفها وكوربمثله على حد من خلا أقم شكل زيرهم وسو بيوته وحقق بهامهم ونورهم جلا وحصل علوماٌ للطباع مهندساً وعلماً لموسيقى والأرباع مثلا وسو لموسيقى وعلم حروفهم وعلم بآلات فحقق وحصلا وسو دوائرها ونسب حروفها وعالمها أطلق والإقليم جدولا أميرٌ لنا فهو نهاية دولة زناتية آبت وحكمٌ لها خلا وقطر لأندلس فابن لهودهم وجاء بنو نصر وظفرهم تلا ملوكٌ وفرسانٌ وأهلٌ لحكمة فإن شئت نصبهم وقطرهم حلا ومهدي توحيد بتونس حكمهم ملوكٌ وبالشرق بالأوفاق نزلا واقسم على القطر وكن متفقداً فإن شئت للروم فبالحر شكلا فقيصرهم جاء ويزدجردهم لكاف وقبطيهم بلامه طولا وعباس كلهم شريفٌ معظمٌ ولكن تركي بذا الفعل عطلا فإن شئت تدقيق الملوك وكلهم فختم بيوتاً ثم نسب وجدولا على حكم قانون الحروب وعلمها وعلم طبائعها وكله مثلا فمن علم العلوم تعلم علمنا ويعلم أسرار الوجود وأكملا فيرسخ علمه ويعرف ربه وعلم ملاحيم بحاميم فصلا وحيث أتى اسمٌ والعروض يشقه فحكم الحكيم فيه قطعا ليقتلا وتأتيك أحرف فسو لضربها وأحرف سبيويه تأتيك فيصلا فمكن بتنكير وقابل وعوضن بترنيمك الغالي للأجزاء خلخلا وفي العقد والمجزور يعرف غالباً وزد لمح وصفيه في العقل فعلا واختر لمطلع وسويه رتبةً واعكس بجذريه وبالدور عدلا ويدركها المرء فيبلغ قصده وتعطي حروفها وفي نظمها انجلا وأدخل بأفلاك وعدل بجدول وأرسم أباجاد وباقيه جملا وجوز شذوذ النوتجري ومثله أتى في عروض الشعرعن جملة ملا فأصلٌ لديننا وأصل لفقهنا وعلمٌ لنحونا فاحفظ وحصلا فادخل لفسطاط على الوفق جذره وسبح باسمه وكبرو هللا فتخرج أبياتاً وفي كل مطلب بنظم طبيعي وسرمن العلا وتفنى بحصرها كذا حكم عدهم فعلم الفواتيح ترى فيه منهلا فتخرج أبياتاً وعشرون ضعفت من الألف طبعياً فيا صاح جدولا تريك صنائعاً من الضرب أكملت فصح لك المنى وصح لك العلا وسجع بزيرهم وأثني بنقرة أقمها دوائر الزير وحصلا أقمها بأوفاق وأصل لعدها من أسرار أحرفهم فعذبه سلسلا 3 ك ا ك و ك ح و ا 5 عم له ر لا سع كط ا ل م ن ح ع ف و ل منافرة‏.‏ الكلام على استخراج نسبة الأوزان وكيفياتها ومقادير المقابل منها وقوة الدرجة المتميزة بالنسبة إلي موضع المعلق من امتزاج طبائع وعلم طب أيا طالباً للطب مع علم جابر وعالم مقدار المقادير بالولا إذا شئت علم الطب لا بد نسبة لأحكام ميزان تصادف منهلا فيشفى عليلكم والإكسير محكم وأمزاج وضعكم بتصحيح انجلا الطب الروحاني وشئت إيلاوش 565 ودهنه بحلا لبهرام برجيس وسبعة أكملا لتحليل أوجاع البوارد صححوا كذلك والتركيب حيث تنقلا كد منع مهم 355 وهح 6 صح لهاي ود ا آ ا وهح وى سكره لا ل ح مههت مههه ع ع مى مرح ح 2242 ل ك عا عر‏.‏ مطاريح الشعاعات في مواليد الملوك وبنيهم وعلم مطاريح الشعاعات مشكل وضلع قسيها بمنطقة جلا ولكن في حج مقام إمامنا ويبدو إذا عرض الكواكب عدلا بدال مراكز بين طول وعرضها فمن أدرك المعنى علا ثم فوضلا مواقع تربيع وسه مسقط لتسديسهم تثليث بيت التي تلا ومن نسبة الربعين ركب شعاعك بصاد وضعفة وتربيعه انجلا اختص صح ص ع 8 سع وى هذا العمل هنا للملوك والقانون مطرد عمله ولم ير أعجب منه‏.‏ مقامات الملوك المقام الأول 5 المقام الثاني مح مههم صع عر المقام الثالث ع ع والمقام الرابع للح المقام الخامس لاى المقام السادس ع بير المقام السابع عره خط الاتصال والانفصال ع 1 5 مح ط ق مح محح خط الانفصال الوتر للجميع وتابع الجر والتام الاتصال والانفصال الواجب التام في الاتصالات إقامة الأنوار الجزر المجيب في العمل إقامة السؤال عن الملوك مقام الا ولا أيا طالب السر لتهليل ربه لدى أسمائه الحسنى تصادف منهلا تطيعك أخيار الأنام بقلبهم كذلك ريسهم وفي الشمس أعملا ترى عامة الناس إليك تقيدوا وما قلته حقا وفي الغيرأهملا طريقك هذا السيل والسبل الذي أقوله غيركم ونصركموا اجتلى إذا شئت تحيا في الوجود مع التقى وديناً متيناً أوتكن متوصلا كذي النون والجنيد مع سر صنعة وفي سر بسطام أراك مسربلا وفي العالم العلوي تكون محدثا كذا قالت الهند وصوفية الملا طريق رسول الله بالحق ساطع وما حكم صنع مثل جبريل أنزلا فبطشك تهليل وقوسك مطلع ويوم الخميس البدء والأحد انجلى وفي جمعة أيضاً بالأسماء مثله وفي اثنين للحسنى تكون مكملا وفي طائه سر في هائه إذا أراك بها مع نسبة الكل أعطلا وساعة سعد شرطهم في نقوشها وعود ومصطكى بخور تحصلا وتتلو عليها آخر الحشر دعوة والإخلاص والسبع المثاني مرتلا اتصال أنوار الكواكب بلعاني لا هي ى لا ظ غ لد سع ق صح م ف وى وآية حشر فاجعل القلب وجهها واتلو إذا نام إلا نام ورتلا وآية حشر فاجعل القلب وجهها واتلو إذا نام إلا نام ورتلا هي السر في الأكوان لا شيء غيرها هي الآية العظمى فحقق وحصلا تكون بها قطباً إذ جدت خدمة وتدرك أسراراً من العالم العلا سري بها ناجى ومعروف قبله وباح بها الحلاج جهراً فأعقلا وكان بها الشبلي يدأب دائماً إلى أن رقى فوق المريدين واعتلى فصف من الأدناس قلبك جاهداً ولازم لأذكار وصم وتنقلا فما نال سر القوم إلامحقق عليم بأسرار العلوم محصلا مقامات المحبة وميل النفوس والمجاهدة والطاعة والعبادة وحب وتعشق وفناء الفناء وتوجه ومراقبة وخلة وأئمة الانفعال الطبيعي‏:‏ لبرجيس في المحبة الوفق صرفوا بقزدير أو نحاس الخلط أكملا وقيل بفضة صحيحاً رأيته فجعلك طالعاً خطوطه ماعلا توخ به زيادة النور للقمر وجعلك للقبول شمسه أصلا ودعوته بغاية فهي أعملت وعن طسيمان دعوة ولها جلا وقيل بدعوة حروف لوضعها بحر هواء أومطالب أهلا فتنقش أحرفاً بدال ولامها وذلك وفق للمربع حصلا إذا لم يكن يهوى هواك دلالها فدال ليبدو واو زينب معطلا فحسن لبائه وبائهم إذا هواك وباقيهم قليلة جملا ونقش مشاكل بشرط لوضعهم وما زدت أنسبه لفعلك عدلا ومفتاح مريم ففعلهما سوا فبوري وبسطامي بسورتها تلا وجعلك بالقصد وكن متفقداً أدلة وحشي لقبضة ميلا فاعكس بيوتها بألف ونيف فباطنها سر وفي سرها انجلا


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 8:43 عدل 1 مرات
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:39

فصل في المقامات للنهاية
لك الغيب صورة من العالم العلا وتوجدها دار أو ملبسها الحلا ويوسف في الحسن وهذا شبيهه بنثر وترتيل حقيقة أنزلا ومات أجليه وأشرب حبها جنيد وبصرى والجسم أهملا فتطلب في التهليل غايته ومن بأسمائه الحسنى بلا نسبة خلا ومن صاحب الحسنى له الفوز بالمنى ويسهم بالزلفى لدى جيرة العلا وتخبر بالغيب إذا جدت خدمة تريك عجائباً بمن كان موئلا فهذا هو الفوز وحسن تناله ومنها زيادات لتفسيرها تلا الوصية والتختم والإيمان والإسلام والتحريم والإلهية فهذا قصيدنا وتسعون عده ومازاد خطبة وختماً وجدولا عجبت لأبيات وتسعون عدها تولد أبياتاً وماحصرها انجلا فمن فهم السر فيفهم نفسه ويفهم تفسيراً تشابه أشكلا حرام وشرعي لإظهار سرنا لناس وإن خصوا وكان التأهلا فإن شئت أهليه فغلظ يمينهم وتفهم برحلة ودين تطولا لعلك أن تنجو وسامع سرهم من القطع والافشا فترأس بالعلا وقام رسول الله في الناس خاطبا فمن يرأس عرشاً فذلك أكملا وقد ركب الأرواح أجساد مظهر فآلت لقتلهم بدق تطولا إلى العالم العلوي يفنى فناؤنا ويلبس أثواب الوجود على الولا فقد تم نظماً وصلى إلهنا على خاتم الرسل صلاة بها العلا وصلى إله العرش ذو المجد والعلا على سيد ساد الأنام وكملا محمد الهادي الشفيع إمامنا وأصحابه أهل المكارم والعلا كيفية العمل في استخراج أجوبة المسائل من زايرجة العالم بحول الله منقولاً عمن لقيناه من القائمين عليها‏:‏ السؤال له ثلاثمائة وستون جواباً عدة الدرج وتختلف الأجوبة عن سؤال واحد في طالع مخصوص باختلاف الأسئلة المضافة إلى حروف الأوتار وتناسب العمل من استخراج الأحرف من بيت القصيد‏.‏ تنبيه تركيب حروف الاوتار والجدول على ثلاثة أصول‏:‏ حروف عربية تنقل على هيآتها وحروف برسم الغبار‏.‏ وهذه تتبدل‏:‏ فمنها ما ينقل على هيئته متى لم تزد الأدوار عن أربعة فإن زادت عن أربعة نقلت إلى المرتبة الثانية من مرتبة العشرات وكلك لمرتبة المئين على حسب العمل كما سنبينه ومنها حروف برسم الزمام كذلك غير أن رسم الزمام يعطي نسبة ثانية فهي بمنزلة واحد ألف وبمنزلة عشرة ولها نسبة من خمسة بالعربي فاستحق البيت من الجدول أن توضع فيه ثلاثة حروف في هذا الرسم وحرفان في الرسم فاختصروا من الجدول بيوتاً خالية‏.‏ فمتى كانت أصول الأدوار زائدة على أربعة حسبت في العدد في طول الجدول وإن لم تزد على أربعة لم يحسب إلا العامر منها‏.‏ والعمل في السؤال يفتقر إلى سبعة أصول‏:‏ عدة حروف الأوتار وحفظ أدوارها بعد طرحها اثني عشر اثني عشر وهي ثمانية أدوار في الكامل وستة في الناقص أبداً‏.‏ ومعرفة درج الطالع وسلطان البرج والدور الأكبر الأصلي وهو واحد أبداً‏.‏ وما يخرج من إضافة الطالع للدور الأصلي وما يخرج من ضرب الطالع والدور في سلطان البرج‏.‏ وإضافة سلطان البرج للطالع والعمل جميعه ينتج عن ثلائة أدوار مضروبة في أربعة تكون اثني عشر دوراً‏.‏ ونسبة هذه الثلاثة الأدوار التي هي كل دور من أربعة نشأة وثلاثية كل نشأة لها ابتداء‏.‏ ثم إنها تضرب أدواراً رباعية أيضاً ثلاثية‏.‏ ثم إنها من ضرب ستة في اثنين فكان لها نشأة يظهر ذلك في العمل‏.‏ ويتبع هذه الأدوار الاثني عشر نتائج وهي في الأدوار إما أن تكون نتيجة أو فأول ذلك نفرض سؤالاً عن الزايرجة هل هي علم قديم أو محدث بطالع أول درجة من القوس أثناء حروف الأوتار ثم حروف السؤال‏.‏ فوضعنا حروف وتر رأس القوس ونظيره من رأس الجوزاء‏.‏ وثالثه وتر رأس الدلو إلى حد المركز وأضفنا إليه حروف السؤال ونظرنا عدتها وأقل ما تكون ثمانية وثمانين وأكثر ما تكون ستة وتسعين وهي جملة الدور الصحيح فكانت في سؤالنا ثلاثة وتسعين‏.‏ ويختصر السؤال إن زاد عن ستة وتسعين بأن يسقط جميع أدواره الإثني عشرية ويحفظ ما خرج منها وما بقي فكانت في سؤالنا سبعة أدوار الباقي تسعة أثبتها في الحروف ما لم يبلغ الطالع اثنتي عشرة درجة فإن بلغها لم تثبت لها عدة ولا دور‏.‏ ثم تثبت أعدادها أيضاً إن زاد الطالع عن أربعة وعشرين في الوجه الثالث ثم تثبت الطالع وهو واحد وسلطان الطالع وهو أربعة والدور الأكبر وهو واحدة واجمع ما بين الطالع والدور وهو اثنان في هذا السؤال واضرب ما خرج منهما في سلطان البرج يبلغ ثمانية وأضف السلطان للطالع فيكون خمسة فهذه سبعة أصول‏.‏ فما خرج من ضرب الطالع والدور الأكبر في سلطان القوس مما لم يبلغ اثني عشر فيه تدخل في ضلع ثمانية من أسفل الجدول صاعداً وإن زاد على اثني عشر طرح أدواراً وتدخل بالباقي في ضلع ثمانية وتعلم على منتهى العدد والخمسة المستخرجة من السلطان والطالع يكون الطالع في ضلع السطح المبسوط الأعلى من الجدول وتعد متوالياً خمسات أدواراً وتحفظها إلى أن يقف العدد على حرف من أربعة وهي ألف أو باء أو جيم أو زاي‏.‏ فوقع العدد في عملنا على حرف الألف وخلف ثلاثة أدوار فضربنا ثلاثة في ثلاثة كانت تسعة وهو عدد الدور الأول‏.‏ فأثبته واجمع ما بين الضلعين‏:‏ القائم والمبسوط يسكن في بيت ثمانية في مقابلة البيوت العامرة بالعدد من الجدول وإن وقف في مقابلة الخالي من بيوت الجدول على أحدها فلا يعتبر وتستمر على أدوارك‏.‏ وادخل بعدد ما في الدور الأول وذلك تسعة في صدر الجدول مما يلي البيت الذي اجتمعا فيه وهي ثمانية ماراً إلى جهة اليسار فوقع على حرف لام ألف ولا يخرج منها أبداً حرف مركب‏.‏ وإنما هو إذن حرف تاء أربعمائة برسم الزمام فعلم عليها بعد نقلها من بيت القصيد واجمع عدد الدور للسلطان يبلغ ثلاثة عشر


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:40

ادخل بها في حروف الأوتار وأثبت ما وقع عليه العدد وعلم عليه من بيت القصيد‏.‏ ومن هذا القانون تدري كم تدور الحروف في النظم الطبيعي وذلك أن تجمع حروف الدور الأول وهو تسعة لسلطان البرج وهو أربعة تبلغ ثلاثة عشر أضعفها بمثلها تكون ستة وعشرين أسقط منها درج الطالع وهو واحد في هذا السؤال الباقي خمسة وعشرون‏.‏ فعلى ذلك يكون نظم الحروف الأول ثم ثلاثة وعشرون مرتين ثم اثنان وعشرون مرتين على حسب هذا الطرح إلى أن ينتهي للواحد من آخر البيت المنظوم‏.‏ ولا تقف على أربعة وعشرين لطرح ذلك الواحد أولاً‏.‏ ثم ضع الدور الثاني وأضف حروف الدور الأول إلى ثمانية الخارجة من ضرب الطالع والدور في السلطان تكن سبعة عشر الباقي خمسة‏.‏ فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة من حيث انتهيت في الدور الأول وعلم عليه وادخل في صدر الجدول بسبعة عشر ثم بخمسة‏.‏ ولا تعد الخالي والدور عشرون فوجدنا حرف ثاء خمسمائة وإنما هو نون لأن دورنا في مرتبة العشرات لكانت الخمسمائة بخمسين لأن دورها سبعة عشر فلو لم تكن سبعة عشر لكانت مئين‏.‏ فأثبت نوناً ثم أدخل بخمسة أيضاً من أوله‏.‏ وانظر ما حاذى ذلك من السطح تجد واحداً فقهقر العدد واحداً يقع على خمسة أضف لها واحداً لسطح تكن ستة‏.‏ أثبت واواً وعلم عليها من بيت القصيد أربعة وأضفها للثمانية الخارجة من ضرب الطالع مع الدور في السلطان تبلغ اثني عشر أضف لها الباقي من الدور الثاني وهو خمسة تبلغ سبعة عشر وهو ما للدور الثاني‏.‏ فدخلنا بسبعة عشر في حروف الأوتار فوقع العدد على واحد‏.‏ أثبت الألف وعلم عليها من بيت القصيد وأسقط من حروف الأوتار ثلاثة حروف عدة الخارج من الدور الثاني وضع الدور الثالث وأضف خمسة إلى ثمانية تكن ثلاثة عشر الباقي واحد‏.‏ انقل الدور في ضلع ثمانية بواحد وادخل في بيت القصيد بثلاثة عشر وخذ ما وقع عليه العدد وهو ‏"‏ ق ‏"‏ وعلم عليه‏.‏ وأدخل بثلاثة عشر في حروف الأوتار وأثبت ما خرج وهو سين وعلم عليه من بيت القصيد ثم أدخل مما يلي السين الخارجة بالباقي من دور ثلاثة عشر وهو واحد فخذ مما يلي حرف سين من الأوتار فكان ‏"‏ ب‏(‏ ‏"‏ أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد‏.‏ وهذا يقال له‏:‏ الدور المعطوف وميزانه صحيح وهو أن تضعف ثلاثة عشر بمثلها وتضيف إليها الواحد الباقي من الدور تبلغ سبعة وعشرين وهو حرف باء المستخرج من الأوتار من بيت القصيد‏.‏ وأدخل في صدر الجدول بثلاثة عشر وانظر ما قابله من السطح وأضعفه بمثله وزد عليه الواحد الباقي من ثلاثة عشر فكان حرف جيم وكانت للجملة سبعة فذلك حرف زاي فأثبتناه وعلمنا عليه من بيت القصيد‏.‏ وميزانه أن تضعف السبعة بمثلها وزد عليها الواحد الباقي من ثلاثة عشر يكن خمسة عشر وهو الخامس عشر من بيت القصيد وهذا آخر أدوار الثلاثيات وضع الدور الرابع وله من العدد تسعة بإضافة الباقي من الدور السابق فاضرب الطالع مع الدور في السلطان وهذا الدور آخر العمل في البيت الأول من الرباعيات‏.‏ فاضرب على حرفين من الأوتار واصعد بتسعة في ضلع ثمانية وادخل بتسعة من دور الحرف الذي أخذته آخراً من بيت القصيد فالتاسع حرف راء فأثبته وعلم عليه‏.‏ وادخل في صدر الجدول بتسعة وانظر ما قابلها من السطح يكون ‏"‏ ج ‏"‏ قهقر العدد واحداً يكون ألف وهو الثاني من حرف الراء من بيت القصيد فأثبته وعلم عليه‏.‏ وعد مما يلي الثاني تسعة يكون ألف أيضاً أثبته وعلم عليه واضرب على حرف من الأوتار وأضعف تسعة بمثلها تبلغ ثمانية عشر ادخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين‏.‏ وادخل بثمانية عشر في حروف الأوتار تقف على ‏"‏ س ‏"‏ أثبتها وعلم عليها اثنين وأضف اثنين إلى تسعة تكون أحد عشر‏.‏ أدخل في صدر الجدول بأحد عشر تقابلها من السطح ألف أثبتها وعلم عليها ستة وضع الدور الخامس وعدته سبعة عشر الباقي خمسة‏.‏ اصعد بخمسة في ضلع ثمانية واضرب على حرفين من الأوتار وأضعف خمسة بمثلها وأضفها إلى سبعة عشر عدد دورها الجملة سبعة وعشرون ادخل بها في حروف الأوتار تقع على ‏"‏ ب ‏"‏ أثبتها وعلم عليها اثنين وثلاثين واطرح من سبعة عشر اثنين التي هي في أس اثنين وثلاثين الباقي خمسة عشر‏.‏ ادخل في حروف الأوتار تقف على ‏"‏ ق ‏"‏ أثبتها وعلم عليها ستة وعشرين وأدخل في صدر الجدول بست وعشرين تقف على اثنين بالغبار وذلك حرف ‏"‏ ب ‏"‏ أثبته وعلم عليه أربعة وخمسين وأضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السادس وعدته ثلاثة عشر الباقي منه واحد فتبين إذ ذاك أن دور النظم من خمسة وعشرين فإن الأدوار خمسة وعشرون وسبعة عشر وخمسة وثلاثة عشر وواحد فاضرب خمسة في خمسة تكن خمسة وعشرين وهو الدور في نظم البيت فانقل الدور في ضلع ثمانية بواحد‏.‏ ولكن لم يدخل في بيت القصيد بثلاثة عشر كما قدمناه لأنه دور ثان من نشأة تركيبية ثانية بل أضفنا الأربعة التي من أربعة وخمسين الخارجة على حروف ‏"‏ ب ‏"‏ من بيت القصيد إلى الواحد تكون خمسة تضيف خمسة إلى ثلاثة عشر التي للدور تبلغ ثمانية عشر أدخل بها في صدر الجدول وخذ ما قابلها من السطح وهو ألف أثبته وعلم عليه من بيت القصيد اثني عشر واضرب على حرفين من الأوتار‏.‏ ومن هذا الجدول تنظر أحرف السؤال فما خرج منها زده مع بيت القصيد من آخره وعلم عليه من حروف السؤال ليكون داخلاً في العدد في بيت القصيد وكذلك تفعل بكل حرف حرف بعد ذلك مناسباً لحروف السؤال فما خرج منها زده على بيت القصيد من آخره وعلم عليه ثم أضف إلى ثمانية عشر ما علمته على حرف الألف من الآحاد فكان اثنين تبلغ الجملة عشرين‏.‏ أدخل بها في حروف الأوتار تقف على حرف راء أثبته وعلم عليه من بيت القصيد ستة وتسعين وهو نهاية الدور في الحرف الوتري‏.‏ فاضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور السابع وهو ابتداء لمخترع ثان ينشأ من الاختراعين‏.‏ ولهذا الدور من العدد تسعة تضيف لها واحداً تكون عشرة للنشأة الثانية وهذا الواحد تزيده بعد إلى اثني عشر دوراً إذا كان من هذه النسبة أو تنقصه من الأصل تبلغ الجملة خمسة عشر‏.‏ فاصعد في ضلع ثمانية وتسعين وادخل في صدر الجدول بعشرة تقف على خمسمائة وإنما هي خمسون نون مضاعفة بمثلها وتلك ‏"‏ ق ‏"‏ أثبتها وعلم عليها من بيت القصيد اثنين وخمسين وأسقط من اثنين وخمسين اثنين وأسقط تسعة التي للدور الباقي واحد وأربعون فأدخل بها في حروف الأوتار تقف على واحد أثبته‏.‏ وكذلك أدخل بها في بيت القصيد تجد واحداً فهذا ميزان هذه النشأة الثانية فعلم عليه من بيت القصيد علامتين‏.‏ علامة على الأف الأخير الميزاني وأخرى على الألف الأولى فقط والثانية أربعة وعشرون واضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور الثامن وعدته سبعة عشر الباقي خمسة أدخل في ضلع ثمانية وخمسين وأدخل في بيت القصيد بخمسة تقع على عين بسبعين أثبتها وعلم عليها‏.‏ وأدخل في الجدول بخمسة وخذ ما قابلها من السطح وذلك واحد أثبته وعلم عليه‏.‏ من البيت ثمانية وأربعين وأسقط واحداً من ثمانية وأربعين للأس الثاني وأضف إليها خمسة الدور‏.‏ الجملة اثنان وخمسون‏.‏ أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف ‏"‏ ب ‏"‏ غبارية وهي مرتبة مئينية لتزايد العدد فتكون مائتين وهي حرف راء أثبتها وعلم عليها من القصيد أربعة وعشرين فانتقل الأمر إلى ستة وتسعين إلى الابتداء وهو أربعة وعشرون فأضف إلى أربعة وعشرين خمسة الدور وأسقط واحداً تكون الجملة ثمانية وعشرين‏.‏ أدخل بالنصف منها في بيت القصيد تقف على ثمانية أثبت ‏"‏ 2 ‏"‏ وعلم عليها وضع الدور التاسع وعدده ثلاثة عشر الباقي واحد اصعد في ضلع ثمانية بواحد‏.‏ وليست نسبة العمل هنا كنسبتها في الدور السادس لتضاعف العدد ولأنه من النشأة الثانية ولأنه أول الثلث الثالث من مربعات البروج وآخر الستة الرابعة من المثلثات‏.‏ فاضرب ثلاثة عشر التي للدور في أربعة التي هي مثلثات البروج السابقة الجملة اثنان وخمسون أدخل بها في صدر الجدول تقف على حرف اثنين غبارية وإنما هي مئينية لتجاوزها في العدد عن مرتبتي الآحاد والعشرات فأثبته مائتين راء وعلم عليها من بيت القصيد ثمانية وأربعين وأضف إلى ثلاثة عشر الدور واحد الأس وأدخل بأربعة عشر في بيت القصيد تبلغ ثمانية فعلم عليها ثمانية وعشرين واطرح من أربعة عشر سبعة يبقى سبعة اضرب على حرفين من الأوتار وادخل بسبعة تقف على حرف لام أثبته وعلم عليه من البيت‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:41

وضع الدور العاشر وعدده تسعة وهذا ابتداء المثلثة الرابعة واصعد في ضلع ثمانية بتسعة تكون خلاء فاصعد بتسعة ثانية تصير في السابع من الابتداء‏.‏ اضرب تسعة في أربعة لصعودنا بتسعتين وإنما كانت تضرب في اثنين وأدخل في الجدول بستة وثلاثين تقف على أربعة زمامية وهي عشرية فأخذناها أحادية لقلة الأدوار فأثبت حرف دال وإن أضفت إلى ستة وثلاثين واحد الأس كان حدها من بيت القصيد فعلم عليها ولو دخلت بالتسعة لا غير من ضرب في صدر الجدول لوقف على ثمانية فاطرح من ثمانية أربعة الباقي أربعة وهو المقصود‏.‏ ولو دخلت في صدر الجدول بثمانية عشر التي هي تسعة في اثنين لوقف على واحد زمامي وهو عشري فاطرح منه اثنين تكرار التسعة الباقي ثمانية نصفها المطلوب‏.‏ ولو دخلت في صدر الجدول بسبعة وعشرين بضربها في ثلاثة لوقعت على عشرة زمامية والعمل واحد‏.‏ ثم أدخل بتسعة في بيت القصيد وأثبت ما خرج وهو ألف ثم اضرب تسعة في ثلاثة التي هي مركب تسعة الماضية وأسقط واحدا وأدخل في صدر الجدول بستة وعشرين وأثبت ما خرج وهو مائتان بحرف راء وعلم عليه من بيت القصيد ستة وتسعين‏.‏ واضرب على حرفين من الأوتار وضع الدور الحادي عشر وله سبعة عشر الباقي خمسة اصعد في ضلع ثمانية بخمسة وتحسب ما تكرر عليه المشي في الدور الأول وأدخل في صدر الجدول بخمسة تقف على خال فخذ ما قابله من السطح وهو واحد فأدخل بواحد في بيت القصيد تكن سين أثبتة وعلم عليه أربعة‏.‏ ولو يكون الوقف في الجدول على بيت عامر لأثبتنا الواحد ثلاثة‏.‏ وأضعف سبعة عشر بمثلها وأسقط واحداً وأضعفها بمثلها وزدها أربعة تبلغ سبعة وثلاثين أدخل بها في الأوتار تقف على ستة أثبتها وعلم عليها وأضعف خمسة بمثلها‏.‏ وأدخل في البيت تقف على لام أثبتها وعلم عليها عشرين واضرب على حرفين من الأوتار‏.‏ وضع الدور الثاني عشر وله ثلاثة عشر الباقي واحد اصعد في ضلع ثمانية بواحد وهذا الدور آخر الأدوار وآخر الاختراعين وآخر المربعات الثلاثية وآخر المثلثات الرباعية‏.‏ والواحد في صدر الجدول يقع على ثمانين زمامية وإنما هي آحاد ثمانية وليس معنا من الأدوار إلا واحد فلو زاد عن أربعة من مربعات اثني عشر أو ثلاثة من مثلثات اثني عشر لكانت ‏"‏ ح ‏"‏ وإنما هي ‏"‏ د ‏"‏ فأثبتها وعلم عليها من بيت القصيد أربعة وسبعين ثم انظر ما ناسبها من السطح تكن خمسة أضعفها بمثلها للأس تبلغ عشرة أثبت ‏"‏ ى ‏"‏ وعلم عليها وانظر في أي المراتب وقعت‏:‏ وجدناها في الرابعة دخلنا بسبعة في حروف الأوتار وهذا المدخل يسمى التوليد الحرفي فكانت ‏"‏ ف ‏"‏ أثبتها وأضف إلى سبعة واحد الدور الجملة ثمانية‏.‏ أدخل بها في الاوتار تبلغ ‏"‏ س ‏"‏ أثبتها وعلم عليها ثمانية واضرب ثمانية في ثلاثة الزائدة على عشرة الدور فإنها آخر مربعات الأدوار بالمثلثات تبلغ أربعة وعشرين أدخل بها في بيت القصيد وعلم على ما يخرج منها وهو مائتان وعلامتها ستة وتسعون وهو نهاية الدور الثاني في الأدوار الحرفية واضرب على حرفين من الأوتار وضع النتيجة الأولى ولها تسعة‏.‏ وهذا العدد يناسب أبداً الباقي من حروف الأوتار بعد طرحها أدواراً وذلك تسعة فاضرب تسعة في ثلاثة التي هي زائدة على تسعين من حروف الأوتار وأضف لها واحداً الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ ثمانية وعشرين فادخل بها في حروف الأوتار تبلغ ألفاً أثبته وعلم عليه ستة وتسعين‏.‏ وإن ضربت سبعة التي هي أدوار الحروف التسعينية في أربعة وهي الثلاثة الزائدة على تسعين والواحد الباقي من الدور الثاني عشر كان كذلك واصعد في ضلع ثمانية بتسعة وادخل في الجدول بتسعة تبلغ اثنين زمامية‏.‏ واضرب تسعة فيما ناسب من السطح وذلك ثلاثة وأضف لذلك سبعة عدد الأوتار الحرفية واطرح واحداً الباقي من دور اثني عشر تبلغ ثلاثة وثلاثين ادخل بها في البيت تبلغ خمسة فأثبتها وأضف تسعة بمثلها وادخل في صدر الجدول بثمانية عشر وخذ ما في السطح وهو واحد ادخل به في حروف الأوتار تبلغ ‏"‏ م ‏"‏ أثبته وعلم عليه واضرب على حرفين من الأوتار‏.‏ وضع النتيجة الثانية ولها سبعة عشر الباقي خمسة فاصعد في ضلع ثمانية بخمسة واضرب خمسة في ثلاثة الزائدة على تسعين تبلغ خمسة عشر أضف لها واحداً الباقي من الدور الثاني عشر تكن تسعة وادخل بستة عشر في بيت القصيد تبلغ ‏"‏ ت ‏"‏ أثبته وعلم عليه أربعة وستين وأضف إلى خمسة الثلاثة الزائدة على تسعين وزد واحداً الباقي من الدور الثاني عشر يكن تسعة ادخل بها في صدر الجدول تبلغ ثلاثين زمامية وانظر ما في السطح تجد واحداً أثبته وعلم عليه من بيت القصيد وهو التاسع أيضاً من البيت وادخل بتسعة في صدر الجدول تقف على ثلاثة وهي عشرات فأثبت لام وعلم عليه وضع النتيجة الثالثة وعددها ثلاثة عشر الباقي واحد‏.‏ فانقل في ضلع ثمانية بواحد وأضف إلى ثلاثة عشر الثلاثة الزائدة على التسعين وواحد الباقي من الدور الثاني عشر تبلغ سبعة عشر وواحد والمثال في هذا السؤال السابق‏:‏ أردنا أن نعلم أن هذه الزايرجة علم محدث أو قديم بطالع أول درجة من القوس أثبتنا حروف الأوتار ثم حروف السؤال ثم الأصول وهي عدة الحروف ثلاثة وتسعون أدوارها سبعة الباقي منها تسعة الطالع واحد سلطان القوس أربعة الدور الأكبر واحد درج الطالع مع الدور اثنان ضرب الطالع مع الدور في السلطان ثمانية إضافة السلطان للطالع خمسة بيت القصيد‏.‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلاً حروف الأوتار‏:‏ ص ط 5 رث ك ه م ص ص ون ب ه س ا ن ل م ن ص ع ف ص ورس ك ل م ن ص ع ف ض ق رس ت خ ذ ظ غ ش ط ى ع ح ص روح رو ح ل ص ك ل م ن ص اب ج ده وزح ط ى‏.‏ حروف السؤال 1 ل ز ا ى ر ج ة ع ل م م ح دث ام ق د ى م الدور الأول 9 الدور الثاني 7 الباقي 5 الدور الثالث 13 الباقي ا الدور الرابع 9 الدور الخامس 17 الباقي ه الدور السادس 13 الباقي ا الدور السابع 9 الدور الثامن 17 الباقي 5 الدور التاسع 13 الباقي ا الدور العاشر 13 الدور الحادي عشر 17 الباقي 5 الدور الثاني عشر 13 الباقي ا النتيجة الأولى 9 النتيجة الثانية 17 الباقي 5 النتيجة الثالثة 13 الباقي ا س‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 1 ن‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 22 و‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 2 غ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 23 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 3 ر‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 24 ل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 4 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 25 ع‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 5 ى‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 26 ظ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 6 ب‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 27 ى‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 7 ش‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 28 م‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 8 ك‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 29 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 9 ض‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 30 ل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 10 ب‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 31 خ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 11 ط‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 32 ل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 12 ه‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 33 ق‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 13 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 34 ح‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 14 ل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 35 ت‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 16 د‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 37 ف‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 17 م‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 38 ص‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 18 ث‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 39 ن‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 19 ل‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 40 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 20 ا‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ ‏.‏ 41 ف و ز ا و س ر ر ا ا س ا ب ا ر ق ا ع ا ر ص ح ر ح ل د ا ر س ا ل د ى و س ر ا د م ن ا ل ل‏.‏ دورها على خمسة وعشرين ثم على ثلاثة وعشرين مرتين ثم على واحد وعشرين مرتتين إلى أن تنتهي إلى الواحد من آخر البيت وتنتقل الحروف جميعاً والله أعلم ن ف ر و ح روح ا ل ودس اد ر رس ره ا ل درى س وا ن س د روا ب لا ام رب و ا ا ل ع ل ل‏.‏ هذا آخر الكلام في استخراج الأجوبة من زايرجة العالم منظومة‏.‏ وللقوم طرائق أخرى من غير الزايرجة يستخرجون بها أجوبة المسائل غير منظومة‏.‏ وعندهم أن السر في استخراج الجواب منظوماً من الزايرجة إنما هو مزجهم بيت مالك بن وهيب وهو‏:‏ سؤال عظيم الخلق البيت ولذلك يخرج الجواب على رويه‏.‏ وأما الطرق الأخرى فيخرج الجواب غير منظوم‏.‏ فمن طرائقهم


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 8:42

فصل في الاطلاع على الأسرار الخفية من جهة الارتباطات الحرفية
اعلم أرشدنا الله وإياك أن هذه الحروف أصل الأسئلة في كل قضية وإنما تستنتج الأجوبة على تجزئته بالكلية وهي ثلاثة وأربعون حرفاً كما ترى والله علام الغيوب ا و ل ا ع ظ س ا ل م خ ى د ل ز ق ت ا ر ذ ص ف ن غ ش ا ك ك ى ب م ض ب ح ط ل ج ه د ن ل ا‏.‏ وقد نظمها بعض الفضلاء في بيت جعل فيه كل حرف مشدد من حرفين وسماه القطب فقال‏:‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطة الجد مثلا فإذا اردت استنتاج المسألة فاحذف ما تكرر من حروفها وأثبت ما فضل منه‏.‏ ثم احذف من الأصل وهو القطب لكل حرف فضل من المسألة حرفاً يماثله وأثبت ما فضل منه‏.‏ ثم امزح الفضلين في سطر واحد تبدأ بالأول من فضله والثاني من فضل المسألة‏.‏ وهكذا إلى أن يتم الفضلان أو ينفد أحدهما قبل الآخر فتضع البقية على ترتيبها‏.‏ فإذا كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج موافقاً لعدد حروف الأصل قبل الحذف فالعمل صحيح فحينئذ تضيف إليها خمس نونات لتعدل بها الموازين الموسيقية وتكمل الحروف ثمانية وأربعين حرفاً فتعمر بها جدولاً مربعاً يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني وتنقل البقية على حالها وهكذا إلى أن تتم عمارة الجدول‏.‏ ويعود السطر الأول بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبة الحركة ثم تخرج وتر كل حرف بقسمة مربعة على أعظم جزء يوجد له وتضع الوتر مقابلاً لحرفه ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية وتعرف قوتها الطبيعية وموازينها الروحانية وغرائزها النفسانية وأسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك وهذه صورته‏.‏ ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة واحذر ما يلي الأوتاد وكذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة‏.‏ وهذا الخارج هو أول رتب السريان‏.‏ ثم تأخذ مجموع العناصر وتحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد وهي عناصر الإمداد يخرج أفق النفس الأوسط وتطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط‏.‏ وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة‏.‏ ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى فتحمل عليه أول رتب السريان ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان فتضرب مجموع أجزاء العناصر الأربعة أبداً في رابع مرتبة السريان يخرج أول عالم التفصيل والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل والثالث في الثالث يخرج ثالث عالم التفصيل والرابع في الرابع يخرج رابع عالم التفصيل‏.‏ فتجمع عوالم التفصيل وتحط من عالم الكل تبقى العوالم المجردة فتقسم على الأفق الأعلى يخرج الجزء الأول ويقسم المنكسر على الأفق الأوسط يخرج الجزء الثاني وما انكسر فهو الثالث ويتعين الرابع هذا في الرباعي‏.‏ وإن شئت أكثر من الرباعي فتستكثر من عوالم التفصيل ومن رتب السريان ومن الأوفاق بعد الحروف‏.‏ والله يرشدنا وإياك‏.‏ وكذلك إذا قسم عالم التجريد على أول رتب السريان خرج الجزء الأول من عالم التركيب وكذلك إلى نهاية الرتبة الأخيرة من عالم الكون‏.‏ فافهم وتدبر والله المرشد المعين‏.‏ ومن طريقهم أيضاً في استخراج الجواب قال بعض المحققين منهم‏:‏ اعلم أيدنا الله وإياك بروح منه أن علم الحروف جليل يتوصل العالم به لما لا يتوصل بغيره من العلوم المتداولة بين العالم وللعمل به شرائط تلتزم‏.‏ وقد يستخرج العالم أسرار الخليقة وسرائر الطبيعة فيطلع بذلك على نتيجتي الفلسفة أعني السيميا وأختها ويرفع له حجاب المجهولات ويطلع بذلك على مكنون خبايا القلوب‏.‏ وقد شهدت جماعة بأرض المغرب ممن اتصل بذلك فأظهر الغرائب وخرق العوائد وتصرف في الوجود بتأييد الله‏.‏ واعلم أن ملاك كل فضيلة الاجتهاد وحسن الملكة مع الصبر مفتاح كل خير كما أن الخرق والعجلة رأس الحرمان فأقول‏:‏ إذا أردت ان تعلم قوة كل حرف من حروف الفابيطوس أعني أبجد إلى آخر العدد وهذا أول مدخل من علم الحروف فانظر ما لذلك الحرف من الأعداد فتلك الدرجة التي هي مناسبة للحرف هي قوته في الجسمانيات‏.‏ ثم اضرب العدد في مثله تخرج لك قوته في الروحانيات وهي وتره‏.‏ وهذا في الحروف المنقوطة لا يتم بل يتم لغير المنقوطة لأن المنقوطة منها مراتب لمعان يأتي عليها البيان فيما بعد‏.‏ واعلم أن لكل شكل من أشكال الحروف شكلاً في العالم العلوي أعني الكرسي ومنها المتحرك والساكن والعلوي والسفلي كما هو مرقوم في أماكنه من الجداول الموضوعة في الزيارج‏.‏ واعلم أن قوى الحروف ثلاثة أقسام‏:‏ الأول وهو أقلها قوة تظهر بعد كتابتها فتكون كتابته لعالم روحاني مخصوص بذلك الحرف المرسوم فمتى خرج ذلك الحرف بقوة نفسانية وجمع همة كانت قوى الحروف مؤثرة في عالم الأجسام‏.‏ الثاني قوتها في الهيئة الفكرية وذلك ما يصدر عن تصريف الروحانيات لها فهي قوة في الروحانيات العلويات وقوة شكلية في عالم الجسمانيات‏.‏ الثالث وهو يجمع الباطن أعني القوة النفسانية على تكوينه فتكون قبل النطق به صورة في النفس بعد النطق به صورة في الحروف وقوة في النطق‏.‏ وأما طبائعها فهي الطبيعيات المنسوبة للمتولدات في الحروف وهي الحرارة واليبوسة والحرارة والرطوبة والبرودة واليبوسة والبرودة والرطوبة فهذا سر العدد اليماني والحرارة جامعة للهواء والنار وهما‏:‏ ‏"‏ 1 ه ط م ف ش ذ ج ز ك س ق ظ ‏"‏ والبرودة جامعة للهواء والماء ‏"‏ ب و ى ن ص ت ض دح ل ع رخ غ ‏"‏ واليبوسة جامعة للنار والأرض ‏"‏ 1 ه ط م ف ش ذ ب وى ن ص ت ض ‏"‏ فهذه نسبة حروف الطبائع وتداخل أجزاء بعضها في بعض‏.‏ وتداخل أجزاء العالم فيها علويات وسفليات بأسباب الأمهات الأول أعني الطبائع الأربع المنفردة فمتى أردت استخراح مجهول من مسئلة ما فحقق طالع السائل أو طالع مسئلته واستنطق حروف أوتارها الأربعة‏:‏ الأول والرابع والسابع والعاشر مستوية مرتبة واستخرج أعداد القوى والأوتار كما سنبين واحمل وانسب واستنتج الجواب يخرج لك المطلوب إما بصريح اللفظ أو بالمعنى‏.‏ وكذلك في كل مسئلة تقع لك‏.‏ بيانه‏:‏ إذا أرددت أن تستخرج قوى حروف الطالع مع اسم السائل والحاجة فاجمع أعدادها بالجمل الكبير فكان الطالع الحمل رابعه السرطان سابعه الميزان عاشره الجدي وهو أقوى هذه الأوتاد فأسقط من كل برج حرفي التعريف وانظر ما يخص كل برج من الأعداد المنطقة الموضوعة في دائرتها واحذف أجزاء الكسر في النسب الاستنطاقية كلها وأثبت تحت كل حرف ما يخصه من ذلك ثم أعداد حروف العناصر الأربعة وما يخصها كالأول‏.‏ وارسم ذلك كله أحرفاً ورتب الأوتاد والقوى والقرائن سطراً ممتزجاً‏.‏ وكسر واضرب ما يضرب لاستخراج الموازين واجمع واستنتج الجواب يخرج لك الضمير وجوابه‏.‏ مثاله افرض أن الطالع الحمل كما تقدم ترسم ‏"‏ ح م ل ‏"‏‏:‏ فللحاء من العدد ثمانية لها النصف والربع والثمن ‏"‏ دب ا ‏"‏ الميم لها من العدد أربعون لها النصف والربع والثمن والعشر ونصف العشر إذا آردت التدقيق ‏"‏ م ك ى 5 د ب ‏"‏ اللام لها من العدد ثلاثون لها النصف والثلثان والثلث والخمس والسدس والعشر ‏"‏ ك ى وه ج ‏"‏‏.‏ وهكذا تفعل بسائر حروف المسألة والاسم من كل لفظ يقع لك‏.‏ وأما استخراح الأوتار فهو أن تقسم مربع كل حرف على أعظم جزء يوجد له‏.‏ مثاله‏:‏ حرف ‏"‏ د ‏"‏ له من الأعداد أربعة مربعها ستة عشر اقسمها على أعظم جزء يوجد لها وهو اثنان يخرج وتراً لدال ثمانية‏.‏ ثم تضع كل وترمقابلاً لحرفه‏.‏ ثم تستخرج النسب العنصرية كما تقدم في شرح الاستنطاق ولها قاعدة تطرد في استخراجها من طبع الحروف وطبع البيت الذي يحل فيه من الجدول كما ذكر الشيخ لمن عرف الاصطلاح‏.‏ والله أعلم‏.


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف زائر الإثنين 5 مايو 2008 - 13:52

حلو اوى يا استاذ منسى
وننتظر المزيد والمزيد
تحياتى ليك
وتمنياتى ك بالتوفيق الدائم
Anonymous
زائر
زائر


الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:47

فصل في الاستدلال على ما في الضمائر الخفية
وذلك لو سأل سائل عن عليل لم يعرف مرضه ما علته وما الموافق لبرئه منه فمر السائل أن يسمى ما شاء من الأشياء على اسم العلة المجهولة لتجعل ذلك الاسم قاعدة لك‏.‏ ثم استنطق الاسم مع اسم الطالع والعناصر والسائل واليوم والساعة إن أردت التدقيق في المسئلة وإلا اقتصرت على الاسم الذي سماه السائل وفعلت به كما نبين‏.‏ فأقول مثلاً‏:‏ سمى السائل فرساً فأثبت الحروف الثلاثة مع أعدادها المنطقة‏.‏ بيانه‏:‏ أن للفاء من العدد ثمانين ولها ‏"‏ م ك ي ح ب ‏"‏ ثم الراء لها من العدد مائتان ‏"‏ ق ن ك ى ‏"‏ ثم السين لها من العدد ستون ولها ‏"‏ م ل ك ‏"‏ فالواو عدد تام له ‏"‏ د ج ب ‏"‏ والسين مثله ولها ‏"‏ م ل ك ‏"‏‏.‏ فإذا بسطت حروف الأسماء وجدت عنصرين متساويين فاحكم لأكثركما حروفاً بالغلبة على الآخر ثم احمل عدد حروف عناصر اسم المطلوب وحروفه دون بسط وكذلك اسم الطالب واحكم للأكثر والأقوى بالغلبة‏.‏ وصفة قوى استخراج العناصر‏.‏ فتكون الغلبة هنا للتراب وطبعه البرودة واليبوسة طبع السوداء فتحكم على المريض بالسوداء‏.‏ فإذا ألفت من حروف الاستنطاق كلاماً على نسبة تقريبية خرج موضع الوجع في الحلق ويوافقه من الأدوية حقنة ومن الأشربة شراب الليمون‏.‏ هذا ما خرج من قوى أعداد حروف اسم فرس وهو مثال تقريبي مختصر‏.‏ وأما استخراج قوى العناصر من الأسما العلمية فهو أن تسمي مثلاً محمداً فترسم أحرفه مقطعة ثم تضع أسماء العناصر الأربعة على ترتيب الفلك يخرج لك ما في كل عنصر من الحروف والعدد‏.‏ ومثاله‏.‏ فتجد أقوى هذه العناصر من هذا الاسم المذكور عنصر الماء لأن عدد حروفه عشرون حرفاً فجعلت له الغلبة على بقية عناصر الاسم المذكور وهكذا يفعل بجيم الأسماء‏.‏ حينئذ تضاف إلى أوتارها أو للوتر المنسوب للطالع في الزايرجة أو لوتر البيت المنسوب لمالك بن وهيب الذي جعله قاعدة لمزج الأسئلة وهو هذا‏:‏ سؤال عظيم الخلق حزت فصن إذن غرائب شك ضبطه الجد مثلا وهو وتر مشهور لاستخراج المجهولات وعليه كان يعتمد ابن الرقام وأصحابه‏.‏ وهو عمل تام قائم بنفسه في المثالات الوضعية‏.‏ وصفة العمل بهذا الوتر المذكور أن ترسمه مقطعاً ممتزجاً بألفاظ السؤال على قانون صنعة التكسير‏.‏ وعدة حروف هذا الوتر أعني البيت ثلاثة وأربعون حرفاً لأن كل حرف مشدد من حرفين‏.‏ ثم تحفف ما تكرر عند المزج من الحروف ومن الأصل لكل حرف فضل من المسئلة حرف يماثله وتثبت الفضلين سطراً ممتزجاً بعضه ببعض الحروف‏.‏ الأول من فضلة القطب والثاني من فضلة السؤال حتى يتم الفضلتان جميعاً فتكون ثلاثة وأربعين فتضيف إليها خمس نونات ليكون ثمانية وأربعين لتعدل بها الموازين الموسيقية ثع تضع الفضلة على ترتيبها فإن كان عدد الحروف الخارجة بعد المزج يوافق العدد الأصلي قبل الحذف فالعمل صحيح ثم عمر بما مزجت جدولاً مربعاً يكون آخر ما في السطر الأول أول ما في السطر الثاني‏.‏ وعلى هذا النسق حتى يعود السطر الأول بعينه وتتوالى الحروف في القطر على نسبه الحركة‏.‏ ثم تخرج وتر كل حرف كما تقدم تضعه مقابلاً لحرفه ثم تستخرج النسب العنصرية للحروف الجدولية لتعرف قوتها الطبيعية وموازينها الروحانية وغرائزها النفسانية وأسوسها الأصلية من الجدول الموضوع لذلك‏.‏ وصفة استخراج النسب العنصرية هو أن تنظر الحرف الأول من الجدول ما طبيعته وطبيعة البيت الذي حل فيه فإن اتفقت فحسن وإلا فاستخرج بين الحرفين نسبة‏.‏ ويتسع هذا القانون في جميع الحروف الجدولية‏.‏ وتحقيق ذلك سهل على من عرف قوانينه كما هو مقرر في دوائرها الموسيقية‏.‏ ثم تأخذ وتر كل حرف بعد ضربه في أسوس أوتاد الفلك الأربعة كما تقدم‏.‏ واحذر ما يلي الأوتاد‏.‏ وكذلك السواقط لأن نسبتها مضطربة‏.‏ وهذا الذي يخرج لك هو أول مراتب السريان‏.‏ ثم تأخذ مجموع العناصر وتحط منها أسوس المولدات يبقى أس عالم الخلق بعد عروضه للمدد الكونية فتحمل عليه بعض المجردات عن المواد وهي عناصر الإمداد يخرج أفق النفس الأوسط‏.‏ وتطرح أول رتب السريان من مجموع العناصر يبقى عالم التوسط‏.‏ وهذا مخصوص بعوالم الأكوان البسيطة لا المركبة‏.‏ ثم تضرب عالم التوسط في أفق النفس الأوسط يخرج الأفق الأعلى فتحمل عليه أول رتب السريان ثم تطرح من الرابع أول عناصر الإمداد الأصلي يبقى ثالث رتبة السريان‏.‏ ثم تضرب مجمرع أجزاء العناصر الأربعه أبداً في رابع رتب السريان يخرج أول عالم التفصيل والثاني في الثاني يخرج ثاني عالم التفصيل وكذلك الثالث والرابع فتجمع عوالم التفصيل وتحط من عالم الكل تبقى العوالم المجردة فتقسم على الأفق الأعلى يخرح الجزء الأول‏.‏ ومن هنا يطرد العمل في التامة‏.‏ وله مقامات في كتب ابن وحشية والبوني وغيرهما‏.‏ وهذا التدبير يجري على القانون الطبيعي الحكمي في هذا الفن وغيره من فنون الحكمة الإلهية وعليه مدار وجمع الزيارج الحرفيه والصنعة الإلهية والنيرجات الفلسفية‏.‏ واللة الملهم وبه المستعان وعليه التكلان وحسبنا الله ونعم الوكيل‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:49

الفصل الثلاثون علم الكيمياء
وهوعلم ينظر في المادة التي يتم بها كون الذهب والفضة بالصناعة ويشرح العمل الذي يوصل إلى ذلك فيتصفحون المكونات كلها بعد معرفة أمزجتها وقواها لعلهم يعثرون على المادة المستعدة لذلك حتى من الفضلات الحيوانية كالعظام والريش والبيض والعذرات فضلاً عن المعادن‏.‏ ثم يشرح الأعمال التي تخرج بها تلك المادة من القوة إلى الفعل مثل حل الأجسام إلى أجزائها الطبيعية بالتصعيد والتقطير وجمد الذائب منها بالتكليس وإمهاء الصلب بالقهر والصلابة وأمثال ذلك‏.‏ وفي زعمهم أنه يخرج بهذه الصناعات كلها جسم طبيعي يسمونة الإكسير وأنه يلقى منه على الجسم المعدني المستعد لقبول صورة الذهب أو الفضة بالاستعداد القريب من الفعل مثل الرصاص والقصدير والنحاس بعد أن يحمى بالنار فيعود ذهباً إبريزاً‏.‏ ويكنون عن ذلك الإكسير إذا ألغزوا اصطلاحاتهم بالروح وعن الجسم الذي يلقى عليه بالجسد‏.‏ فشرح هذه الاصطلاحات وصورة هذا العمل الصناعي الذي يقلب هذه الأجساد المستعدة إلى صورة الذهب والفضة هو علم الكيمياء‏.‏ وما زال الناس يؤلقون فيها قديماً وحديثاً‏.‏ وربما يعزى الكلام فيها إلى من ليس من أهلها‏.‏ وإمام المدونين فيها جابر بن حيان حتى إنهم يخصونها به فيسمونها‏:‏ علم جابر وله فيها سبعون رسالة كلها شبيهة بالألغاز‏.‏ وزعموا أنه لا يفتح مقفلها إلا من أحاط علماً جميع ما فيها‏.‏ والطغرائي من حكماء المشرق المتأخرين له فيها دواوين ومناظرات مع أهلها وغيرهم من الحكماء‏.‏ وكتب فيها مسلمة المجريطي من حكماء الأندلس كتابه الذي سماه رتبة الحكيم وجعله قريناً لكتابه الآخر في السحر والطلسمات الذي سماه غاية الحكيم‏.‏ وزعم أن هاتين الصناعتين هما نتيجتان للحكمة وثمرتان للعلوم ومن لم يقف عليهما فهو فاقد ثمرة العلم والحكمة أجمع‏.‏ وكلامه في ذلك الكتاب وكلامهم أجمع في تآليفهم هي ألغاز يتعذر فهمها على من لم يعان اصطلاحاتهم في ذلك‏.‏ ونحن نذكر سبب عدولهم إلى هذه الرموز والألغاز‏.‏ ولابن المغيربي من أئمة هذا الشأن كلمات شعرية على حروف المعجم من أبدع ما يجيء في الشعر ملغوزة كلها لغز الأحاجي والمعاياة فلا تكاد تفهم‏.‏ وقد ينسبون للغزالي رحمه الله بعض التآليف فيها وليس بصحيح لأن الرجل لم تكن مداركه العالية لتقف عن خطإ ما يذهبون إليه حتى ينتحله‏.‏ وربما نسبوا بعض المذاهب والأقوال فيها لخالد بن يزيد بن معاوية ربيب مروان بن الحكم‏.‏ ومن المعلوم البين أن خالداً من الجيل العربي والبداوة إليه أقرب فهو بعيد عن العلوم والصنائع بالجملة فكيف له بصناعة غريبة المنحى مبنية على معرفة طبائع المركبات وأمزجتها وكتب الناظرين في ذلك من الطبيعيات والطب لم تظهر بعد ولم تترجم اللهم إلا أن يكون خالد بن يزيد آخر من أهل المدارك الصناعية تشبه باسمه فممكن‏.‏ وأنا أنقل لك هنا رسالة أبي بكر بن بشرون لأبي السمح في هذه الصناعة وكلاهما من تلاميذ مسلمة فيستدل من كلامه فيها على ما ذهب إليه في شأنها إذا أعطيته حقة من التأمل‏.‏ قال ابن بشرون بعد صدر من الرسالة خارج عن الغرض‏:‏ والمقدمات التي لهذه الصناعة الكريمة قد ذكرها الأولون واقتص جميعها أهل الفلسفة من معرفة تكوين المعادن وتخلق الأحجار والجواهر وطباع البقاع والأماكن فمنعنا اشتهارها من ذكرها‏.‏ ولكن أبين لك من هذه الصنعة ما يحتاج إليه فنبدأ بمعرفته‏.‏ فقد قالوا‏:‏ ينبغي لطلاب هذا العلم أن يعلموا أولاً ثلاث خصال‏:‏ أولها هل تكون والثانية من أي تكون والثالثة من أي كيف تكون فإذا عرف هذه الثلاثة وأحكمها فقد ظفر بمطلوبه وبلغ نهايته من هذا العلم‏.‏ فأما البحث عن وجودها والاستدلال عن تكونها فقد كفيناكه بما بعثنا به إليك من الإكسير‏.‏ وأما من أي شيء تكون فإنما يريدون
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:49

بذلك البحث عن الحجر الذي يمكنه العمل وإن كان العمل موجوداً من كل شي بالقوة لأنها من الطبائع الأربع منها تركبت ابتداءً وإليها ترجع انتهاءً‏.‏ ولكن من الأشياء ما يكون فيه بالقوة ولا يكون بالفعل وذلك أن منها ما يمكن تفصيلها ومنها ما لا يمكن تفصيلها‏.‏ فالتي يمكن تفصيلها تعالج وتدبروهي التي تخرج من القوة إلى الفعل والتي لا يمكن تفصيلها لا تعالج ولا تدبر لأنها فيها بالقوة فقط وإنما لم يمكن تفصيلها لاستغراق بعض طبائعها في بعض وفضل قوة الكبير منها على الصغير‏.‏ فينبغي لك - وفقك الله - أن تعرف أوفق الاحجار المنفصلة التي يمكن فيها العمل وجنسه وقوته وعمله وما يدبرمن الحل والعقد والتنقية والتكليس والتنشيف والتقليب فإن من لم يعرف هذه الاصول التي هي عماد هذه الصنعة لم ينجح ولم يظفر بخيرأبداً‏.‏ وينبغي لك أن تعلم هل يمكن أن يستعان عليه بغيره أويكتفي به وحده وهل هو واحدٌ في الابتداء أو شاركه غيره فصار في التدبير واحداً فسمي حجرأ‏.‏ وينبغي لك أن تعلم كيفية عمله وكمية أوزانه وأزمانه وكيف تركيب الروح فيه وإدخال النفس عليه وهل تقدر النارعلى تفصيلها منه بعد تركيبها‏.‏ فإن لم تقدرفلآي علة وما السبب الموجب لذلك فإن هذا هو المطلوب فافهم‏.‏ واعلم أن الفلاسفة كلها مدحت النفس وزعمت انها المدبرة للجسد والحاملة له والدافعة عنه والفاعلة فيه‏.‏ وذلك أن الجسد إذا خرجت النفس منه مات وبرد فلم يقدرعلى الحركة والامتناع من غيره لأنه لا حياة فيه ولا نور‏.‏ وإنما ذكرت الجسد والنفس لأن هذه الصفات شبيهة بجسد الإنسان الذي تركيبه على الغداء والعشاء وقوامه وتمامه بالنفس الحية النورانية التي بها يفعل العظائم والأشياء المتقابلة التي لا يقدر عليها غيرها بالقوة الحية التي فيها‏.‏ وإنما انفعل الإنسان لاختلاف تركيب طبائعه ولو اتفقت طبائعه لسلمت من الأعراض والتضاد ولم تقدر النفس على الخروج من بدنه ولكان خالدا باقيا‏.‏ فسبحان مدبر الأشياء تعالى‏.‏ واعلم أن الطبائع التي يحدث عنها هذا العمل كيفية دافعة في الابتداء فيضية محتاجة إلى الانتهاء‏.‏ وليس لها إذا صارت في هذا الحد أن تستحيل إلى ما منه تركبت كما قلناه آنفا في الإنسان لأن طبائع هذا الجوهر قد لزم بعضها بعضاً وصارت شيئاً واحداً شبيها بالنفس في قوتها وفعلها وبالجسد في تركيبه ومجسته بعد أن كانت طبائع مفردة بأعيانها‏.‏ فيا عجباً من أفاعيل الطبائع أن القوة للضعيف الذي يقوى على تفصيل الأشياء وتركيبها وتمامها فلذلك قلت‏:‏ قويٌ وضعيف‏.‏ وإنما وقع التغييروالفناء في التركيب الأول للاختلاف وعدم ذلك في الثاني للاتفاق‏.‏ وقد قال بعض الأولين‏:‏ التفصيل والتقطيع في هذا العمل حياة وبقاء والتركيب موتٌ وفناءٌ‏.‏ وهذا الكلام دقيق المعنى لأن الحكيم أراد بقوله‏:‏ حياة وبقاء خروجه من العدم إلى الوجود لآنه ما دام على تركيبه الأول فهو فان لا محالة فإذا ركب التركيب الثاني عدم الفناء‏.‏ والتركيب الثاني لا يكون إلا بعد التفصيل والتقطيع‏.‏ فإذا التفصيل والتقطيع في هذ العمل خاصة‏.‏ فإذا بقي الجسد المحلول انبسط فيه لعدم الصورة لأنه قد صار في الجسد بمنزلة النفس التي لا صورة وقد ينبغي لك أن تعلم أن اختلاط اللطيف باللطيف أهون من اختلاط الغليظ بالغليظ وإنما أريد بذلك التشاكل في الأرواح والأجساد لأن الأشياء تتصل بأشكالها‏.‏ وذكرت لك ذلك لتعلم أن العمل أوفق وأيسر من الطبائع اللطائف الروحانية منها من الغليظة الجسمانية‏.‏ وقد يتصور في العقل أن الآحجار أقوى وأصبر على النار من الآرواح كما ترى أن الذهب والحديد والنحاس أصبر على النار من الكبريت والزئبق وغيرهما من الارواح‏.‏ فأقول إن الأجساد قد كانت أرواحا في بدنها فلما أصابها حر الكيان قلبها أجساداً لزجة غليظة فلم تقدر النار على أكلها لإفراط غلظها وتلزجها‏.‏ فإذا أفرطت النار عليها صيرتها أرواحأ كما كانت أول خلقها‏.‏ وإن تلك الأرواح اللطيفة إذا اصابتها النار أبقت ولم تقدر على البقاء عليها فينبغي لك


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:50

أن تعلم ما صير الأجساد في هذه الحالة وصير الآرواح في هذا الحال فهو أجل ما تعرفه‏.‏ أقول إنما أبقت تلك الأرواح لاشتعالها ولطافتها‏.‏ وإنما اشتعلت لكثرة رطوبتها ولآن النار إذا أحست بالرطوبة تعلقت بها لأنها هوائية تشاكل النار ولا تزال تغتذي بها إلى أن تفنى‏.‏ وكذلك الآجساد إذا أحست بوصول النار إليها لقلة تلزجها وغلظها‏.‏ وإنما صارت تلك الأجساد لا تشتعل لأنها مركبة من أرض وماء صابر على النار فلطيفه متحد بكثيفه لطول الطبخ اللين المازج للأشياء‏.‏ وذلك أن كل متلاش إنما يتلاشى بالنار لمفارقة لطيفه من كثيفه ودخول بعضه في بعض على غير التحليل والموافقة فصار ذلك الانضمام والتداخل مجاورةً لا ممازجةً فسهل بذلك افتراقهما كالماء والدهن وما أشبههما‏.‏ وإنما وصفت ذلك لتستدل به على تركيب الطبائع وتقابلها‏.‏ فإذا علمت ذلك علما شافيا فقد أخذت حظك منها‏.‏ وينبغي لك أن تعلم أن الأخلاط التي هي طبائع هذه الصناعة موافقة بعضها لبعض مفصلة من جوهر واحد يجمعها نظام واحد بتدبير واحد لا يدخل عليه غريب في الجزء منه ولا في الكل كما قال الفيلسوف‏:‏ إنك إذا أحكمت تدبير الطبائع وتأليفها ولم تدخل عليها غريبا فقد أحكمت ما أردت إحكامه وقوامه إذ الطبيعة واحدة لا غريب فيها فمن أدخل عليها غريبأ فقد زاغ عنها ووقع في الخطإ‏.‏ واعلم أن هذه الطبيعة إذا حل بها جسد من قرائنها على ما ينبغي في الحل حتى يشاكلها في الرقة واللطافة انبسطت فيه وجرت معه حيثما جرى لأن الأجساد ما دامت غليظة جافية لا تنبسط ولا تتزاوج وحل الأجساد لا يكون بغير الآرواح‏.‏ فافهم هداك الله هذا القول‏.‏ واعلم هداك الله ان هذا الحل في جسد الحيوان هو الحق الذي لا يضمحل ولا ينتقض وهو الذي يقلب الطبائع ويمسكها ويظهر لها ألوانأ وأزهارا عجيبة‏.‏ وليس كل جسد يحل خلاف هذا هو الحل التام لأنه مخالف للحياة وإنما حله بما يوافقه ويدفع عنه حرق النار حتى يزول عن الغلظ وتنقلب الطبائع عن حالاتها إلى ما لها أن تنقلب من اللطافة والغلظ‏.‏ فإذا بلغت الأجساد نهايتها من التحليل والتلطيف ظهرت لها هنالك قوة تمسك وتغوص وتقلب وتنفذ‏.‏ وكل عمل لا يرى له مصداق فى أوله فلا خيرفيه‏.‏ واعلم أن البارد من الطبائع هو ييبس الأشياء ويعقد رطوبتها والحار منها يظهر رطوبتها ويعقد يبسها وإنما أفردت الحر والبرد لآنهما فاعلان والرطوبة واليبس منفعلان وعلى انفعال كل واحد منهما لصاحبه تحدث الآجسام وتتكون وإن كان الحر أكثر فعلاً في ذلك من البرد لأن البرد ليس له نقل الآشياء ولا تحركها والحر هو علة الحركة‏.‏ ومتى ضعفت علة الكون وهو الحرارة لم يتم منها شيء أبداً كما أنه إذا أفرطت الحرارة على شيء ولم يكن ثم بردٌ أحرقته وأهلكته‏.‏ فمن أجل هذه العلة احتيج إلى البارد في هذه الأعمال ليقوى به كل ضد على ضده ويدفع عنه حر النار‏.‏ ولم يحذر الفلاسفة أكثر شيء إلا من النيران المحرقة‏.‏ وأمرت بتطهير الطبائع والأنفاس وإخراج دنسها ورطوبتها ونفى آفاتها وأوساخها عنها وعلى ذلك استقام رأيهم وتدبيرهم فإنما عملهم إنما هو مع النار أولاً وإليها يصير آخراً فلذلك قالوا‏:‏ إياكم‏!‏ والنيران المحرقات وإنما أرادوا بذلك نفي الآفات التي معها فتجمع على الجسد آفتين فتكون أسرع لهلاكه‏.‏ وكذلك كل شىء إنما يتلاشى ويفسد من ذاته لتضاد طبائعه واخلافه فيتوسط بين شيئين فلم يجد ما يقويه ويعينه إلا قهرته الآفة وأهلكته‏.‏ واعلم أن الحكماء كلها ذكرت ترداد الأرواح على الأجساد مرارا ليكون ألزم إليها وأقوى على قتال النار إذا هي باشرتها عند الألفة أعني بذلك النار العنصرية فاعلمه‏.‏ ولنقل الآن على الحجر الذي يمكن منه العمل على ما ذكرته الفلاسفة فقد اختلفوا فيه‏.‏ فمنهم من زعم أنه في الحيوان ومنهم من زعم أنه في النبات ومنهم من زعم أنه في المعادن ومنهم من زعم أنه في الجميع‏.‏ وهذه الدعاوى ليست بنا حاجة إلى استقصائها ومناظرة أهلها عليها لأن الكلام يطول جدا‏.‏ وقد قلت فيما تقدم‏:‏ إن العمل يكون في كل شيء بالقوة لأن الطبائع موجودة في كل شيء فهوكذلك فنريد أن تعلم من أي شي يكون العمل بالقوة والفعل فنقصد إلى ما قاله الحراني إن الصبغ كله احد صبغين‏:‏ إما صبغ جسد كالزعفران في الثوب الأبيض حتى يحول فيه وهو مضمحل منتقض التركيب والصبغ الثاني تقليب الجوهرمن جوهر نفسه إلى جوهر غيره ولونه كتقليب الشجر بل التراب إلى نفسه وقلب الحيوان والنبات إلى نفسه حتى يصير التراب نباتأ والنبات حيوانا ولا يكون إلا بالروح الحي والكيان الفاعل الذي له توليد الأجرام وقلب الأعيان‏.‏ فإذا كان هذا هكذا فنقول‏:‏ إن العمل لا بد أن يكون إما في الحيوان وإما في النبات وبرهان ذلك أنهما مطبوعان على الغذاء وبه قوامهما وتمامهما‏.‏ فأما النبات فليس فيه ما في الحيوان من اللطافة والقوة ولذلك قل خوض الحكماء فيه‏.‏ وأما الحيوان فهو آخر الاستحالات الثلاث ونهايتها وذلك أن المعدن يستحيل نباتاً والنبات يستحيل حيواناً والحيوان لا يستحيل إلى شيء هو ألطف


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:50

منه إلا أن ينعكس راجعاً إلى الغلظ وأنه أيضاً لا يوجد في العالم شيء تتعلق به الروح الحية غيره والروح ألطف ما في العالم ولم تتعلق الروح بالحيوان إلا بمشاكلته إياها‏.‏ فأما الروح التي في النبات فإنها يسيرة فيها غلظ وكثافة وهي مع ذلك مستغرقة كامنة فيه لغلظها وغلظ جسد النبات فلم يقدر على الحركة لغلظه وغلظ روحه‏.‏ والروح المتحركة ألطف من الروح الكامنة كثيراً وذلك أن المتحركة لها قبول الغذاء والتنقل والتنفس وليس للكامنة غيرقبول الغذاء وحده‏.‏ ولا تجري إذا قيست بالروح الحية إلا كالأرض عند الماء‏.‏ كذلك النبات عند الحيوان فالعمل في الحيوان أعلى وأرفع وأهون وأيسر‏.‏ فينبغي للعاقل إذا عرف ذلك أن يجرب ما كان سهلا ويترك ما يخشى فيه عسراً‏.‏ واعلم أن الحيوان عند الحكماء ينقسم أقساماً من الآمهات التي هي الطبائع والحديثة التي هي المواليد وهذا معروث متيسر الفهم‏.‏ فلذلك قسمت الحكماء العناصر والمواليد أقساماً حيةً وأقساماً ميتةً فجعلوا كل متحرك فاعلًا حياً وكل ساكن مفعولاً ميتاً‏.‏ وقسموا ذلك في جميع الأشياء وفي الأجساد الذائبة وفي العقاقير المعدنية فسموا كل شيء يذوب في النارويطير ويشتعل حياً وما كان على خلاف ذلك سموه ميتا‏.‏ فأما الحيوان والنبات فسموا كل ما انفصل منها طبائع أربعاً حياً وما لم ينفصل سموه ميتاً ثم إنهم طلبوا جميع الأقسام الحية‏.‏ فلم يجدوا لوفق هذه الصناعة مما ينفصل فصولًا أربعةً ظاهرةً للعيان ولم يجدوا غير الحجر الذي في الحيوان فبحثوا عن جنسه حتى عرفوه وأخذوه ودبروه فتكيف لهم منه الذي أرادوا‏.‏ وقد يتكيف مثل هذا في المعادن والنبات بعد جمع العقاقير وخلطها ثم تفصل بعد ذلك‏.‏ فأما النبات فمنه ما ينفصل ببعض هذه الفصول مثل الآشنان وأما المعادن ففيها أجساد وأرواح وأنفاس إذا مزجت ودبرت كان منها ما له تأثير‏.‏ وقد دبرنا كل ذلك فكان الحيوان منها أعلى وأرفع وتدبيره أسهل وأيسر‏.‏ فينبغي لك أن تعلم ما هو الحجر الموجود في الحيوان وطريق وجوده‏.‏ إنا بينا أن الحيوان أرفع المواليد وكذا ما تركب منه فهو ألطف منه كالنبات من الأرض‏.‏ وإنما كان النبات ألطف من الآرض لأنه إنما يكون من جوهره الصافي وجسمه اللطيف فوجب له بذلك اللطافة والرقة‏.‏ وكذا هذا الحجر الحيواني بمنزلة النبات في التراب‏.‏ وبالجملة فإنه ليس في الحيوان شيء ينفصل طبائع أربعاً غيره‏.‏ فافهم هذا القول فإنه لا يكاد يخفى إلا على جاهل بين الجهالة ومن لا عقل له‏.‏ فقد أخبرتك ماهية هذا الحجر وأعلمتك وأنا أبين لك وجوه تدابيره حتى يكمل الذي شرطناه على أنفسنا من الإنصاف إن شاء الله سبحانه‏.‏ التدبير على بركة الله‏:‏ خذ الحجر الكريم فأودعه القرعة والإنبيق وفصل طبائعه الأربع التي هي النار والهواء والأرض والماء وهي الجسد والروح والنفس والصبغ‏.‏ فإذا عزلت الماء عن التراب والهواء عن النار فارفع كل واحد في إنائه على حدة وخذ الهابط أسفل الإناء وهو الثفل فاغسله بالنار الحارة حتى تذهب النار عنه سواده ويزول غلظه وجفاؤه وبيضه تبييضاً محكماً وطير عنه فضول الرطوبات المستجنة فيه فإنه يصير عند ذلك ماء أبيض لا ظلمة فيه ولا وسخ ولا تضاد‏.‏ ثم اعمد إلى تلك الطبائع الاول الصاعدة منه فطهرها أيضاً من السواد والتضاد وكرر عليها الغسل والتصعيد حتى تلطف وترق وتصفو‏.‏ فإذا فعلت ذلك فقد فتح الله عليك فابدأ بالتركيب الذي عليه مدار العمل‏.‏ وذلك أن التركيب لا يكون إلا بالتزويج والتعفين‏:‏ فأما التزويج فهو اختلاط اللطيف بالغليظ وأما التعفين فهو التمشية والسحق حتى يختلط بعضه ويصير شيئاً واحداً لا اختلاف فيه ولا نقصان بمنزلة الامتزاج بالماء‏.‏ فعند ذلك يقوى الغليظ على إمساك اللطيف وتقوى الروح على مقابلة النار وتصبر عليها


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:51

وتقوى النفس على الغوص في الأجساد والدبيب فيها‏.‏ وإنما وجد ذلك بعد التركيب لأن الجسد المحلول لما ازدوج بالروح مازجه بجميع أجزائه ودخل بعضها في بعض لتشاكلها فصار شيئاً واحداً ووجب من ذلك أن يعرض للروح من الصلاح والفساد والبقاء والثبوت ما يعرض وكذلك النفس إذا امتزجت بهما ودخلت فيهما بخدمة التدبير اختلطت أجزاؤها بجميع أجزاء الآخرين أعني الروح والجسد وصارت هي وهما شيئاً واحداً لا اختلاف فيه بمنزلة الجزء الكلي الذي سلمت طبائعه واتفقت أجزاؤه‏.‏ فإذا لقي هذا المركب الجسد المحلول وألح عليه النار وأظهر ما فيه من الرطوبة على وجهه ذاب في الجسد المحلول‏.‏ ومن شأن الرطوبة الاشتعال وتعلق النار بها فإذا أرادت النار التعلق بها منعها من الأتحاد بالنفس ممازجة الماء لها‏.‏ فإن النار لا تتحد بالذهن حتى يكون خالصاً‏.‏ وكذلك الماء من شأنه النفور من النار‏.‏ فإذا ألحت عليه النار وأرادت تطييره حبسه الجسد اليابس الممازج له في جوفه فمنعه من الطيران فكان الجسد علة لإمساك الماء والماء علة لبقاء الذهن والدهن علة لثبات الصبغ والصبغ علة لظهور الدهن وإظهار الدهنية في الأشياء المظلمة التي لا نور لها ولا حياة فيها‏.‏ فهذا هو الجسد المستقيم وهكذا يكون العمل‏.‏ وهذه التصفية التي سألت عنها وهي التي سمتها الحكماء بيضة وإياها يعنون لا بيضة الدجاج‏.‏ واعلم أن الحكماء لم تسمها بهذا الاسم لغير معنى بل اشبهتها‏.‏ ولقد سألت مسلمة عن ذلك يوماً وليس عنده غيري فقلت له‏:‏ أيها الحكيم الفاضل أخبرني لأي شيء سمت الحكماء مركب الحيوان بيضة أختياراً منهم لذلك أم لمعنى دعاهم إليه فقال‏:‏ بل لمعنى غامض‏!‏ فقلت‏:‏ ايها الحكيم وما ظهر لهم من ذلك من المنفعة والاستدلال على الصناعة حتى شبهوها وسموها بيضة فقال لشبهها وقرابتها من المركب ففكر فيه فإنه سيظهر لك معناه‏.‏ فبقيت بين يديه مفكراً لا أقدر على الوصول إلى معناه‏.‏ فلما رأى ما بي من المكر وأن نفسي قد مضت فيها أخذ بعضدي وهزني هزة خفيفة وقال لي‏:‏ يا أبا بكر ذلك للنسبة التي بينهما في كمية الألوان عند امتزاج الطبائع وتأليفها‏.‏ فلما قال ذلك انجلت عني الظلمة وأضاء لي نور قلبي وقوي عقلي على فهمه‏.‏ فنهضت شاكراً لله عليه إلى منزلي وأقمت على ذلك شكلاً هندسياً يبرهن به على صحة ما قاله مسلمة‏.‏ وأنا واضعه لك في هذا الكتاب‏.‏ مثال ذلك أن المركب إذا تم وكمل كان نسبة ما فيه من طبيعة الهواء إلى ما في البيضة من طبيعة الهواء كنسبة ما في المركب من طبيعة النار إلى ما في البيضة من طبيعة النار وكذلك الطبيعتان الآخريان‏:‏ الأرض والماء فأقول‏:‏ إن كل شيئين متناسبين على هذه الصفة فهما متشابهان‏.‏ ومثال ذلك أن تجعل لسطح البيضة هزوح فإذا أردنا ذلك فإنا نأخد أقل طبائع المركب وهي طبيعة اليبوسة ونضيف إليها مثلها من طبيعة الرطوبة وندبرهما حتى تنشف طبيعة اليبوسة طبيعة الرطوبة وتقبل قوتها‏.‏ وكأن في هذا الكلام رمزاً ولكنه لا يخفى عليك‏.‏ ثم تحمل عليهما جميعاً مثليهما من الروح وهو الماء فيكون الجميع ستة أمثال ثم تحمل على الجميع بعد التدبير مثلاً من طبيعة الهواء التي هي النفس وذلك ثلاثة أجزاء فيكون الجميع تسعة أمثال اليبوسة بالقوة‏.‏ وتجعل تحت كل ضلعين من المركب الذي طبيعته محيطة بسطح المركب طبيعتين فتجعل أولاً الضلعين المحيطين بسطحه طبيعة الماء وطبعة الهواء وهما ضلعا ‏"‏ ا ح د ‏"‏ وسطح أبجد وكذلك الضلعان المحيطان بسطح البيضة اللذان هما الماء والهواء ضلعا هزوح فأقول‏:‏ إن سطح أبجد يشبه سطح هزوح طبيعة الهواء التي تسمى نفساً وكذلك ‏"‏ بج ‏"‏ من سطح المركب‏.‏ والحكماء لم تسم شيئاً باسم شيء إلا لشبهه به‏.‏ والكلمات التي سألت عن شرحها الأرض المقدسة وهي المنعقدة من الطبائع العلوية والسفلية‏.‏ والنحاس هو الذي أخرج سواده وقطع حتى صار هباء ثم حمر بالزاج حتى صار نحاسياً والمغنيسيا حجرهم الذي تجمد فيه الأرواح‏.‏ وتخرجه الطبيعة العلوية التي تستجن فيها الأرواح لتقابل عليها النار والفرفرة لون أحمر فإن يحدثه الكيان‏.‏ والرصاص حجر ثلاث قوى مختلفة الشخوض ولكنها متشاكلة ومتجانسة‏.‏ فالواحدة روحانية نيرة صافية وهي الفاعلة والثانية نفسانية وهي متحركة حساسة غير أنها أغلظ من الأولى ومركزها دون مركز الأولى والثالثة قوة أرضية حاسة قابضة منعكسة إلى مركز الأرض لثقلها وهي الماسكة الروحانية والنفسانية جميعاً والمحيطة بهما‏.‏ وأما سائر الباقية فمبتدعة ومخترعة إلباساً على الجاهل ومن عرف المقدمات استغنى عن غيرها‏.‏ فهذا جميع انتهى كلام ابن بشرون وهو من كبار تلاميذ مسلمة المجريطي شيخ الأندلس في علوم الكيميا والسيمياء والسحر في القرن الثالث وما بعده‏.‏ وانت ترى كيف صرف ألفاظهم كلها في الصناعة إلى الرمز والألغاز التي لا تكاد تبين ولا تعرف وذلك دليل على أنها ليست بصناعة طبيعية‏.‏ والذي يجب أن يعتقد في أمر الكيمياء وهو الحق الذي يعضده الواقع أنها من جنس آثار النفوس الروحانية وتصرفها في عالم الطبيعة‏:‏ إما من نوع الكرامة إن كانت النفوس خيرة أو من نوع السحر إن كانت النفوس شريرة فاجرة‏.‏ فأما الكرامة فظاهرة وأما السحر فلأن الساحر كما ثبت في مكان تحقيقه يقلب الأعيان المادية بقوته السحرية‏.‏ ولا بد له مع ذلك عندهم من مادة يقع فعله السحري فيها كتخليق بعض الحيوانات من مادة التراب أو الشجر والنبات وبالجملة من غير مادتها المخصوصة بها كما وقع لسحرة فرعون في الحبال والعصي وكما ينقل عن سحرة السودان والهنود في قاصية الجنوب والترك في قاصية الشمال أنهم يسحرون الجو للأمطار وغير ذلك‏.‏ ولما كانت هذه تخليقاً للذهب في غير مادته الخاصة به كان من قبيل السحر والمتكلمون فيه من أعلام الحكماء مثل جابر ومسلمة‏.‏ ومن كان قبلهم من حكماء الأمم إنما نحوا هذا المنحى ولهذا كان كلامهم فيه ألغازاً حذراً عليها من إنكار الشرائع على السحر وأنواعه لا أن ذلك يرجع إلى الصنانة بها كما هو رأي من لم يذهب إلى التحقيق في ذلك‏.‏ وانظر كيف سمى مسلمة كتابه فيها رتبة الحكيم وسمى كتابه في السحر والطلسمات غاية الحكيم إشارة إلى عموم موضوع الغاية وخصوص موضوع هذه لأن الغاية أعلى من الرتبة فكان مسائل الرتبة بعض من مسائل الغاية وتشاركها في الموضوعات‏.‏ ومن كلامه في الفنين يتبين ما قلناه ونحن نبين فيما بعد غلط من يزعم أن مدارك هذا الأمر بالصناعة الطبيعية‏.‏ والله العليم الخبير‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:52

الفصل الحادي والثلاثون في إبطال الفلسفة وفساد منتحلها
هذا الفصل ومابعده مهم لأن هذه العلوم عارضة في العمران كثيرة في المدن‏.‏ وضررها في الدين كثير فوجب أن يصدع بشأنها ويكشف عن المعتقد الحق فيها‏.‏ وذلك أن قوماً من عقلاء النوع الإنساني زعموا أن الوجود كله الحسي منه وماوراء الحسي تدرك ذواته وأحواله بأسبابها وعللها بالأنظار الفكرية والأقيسة العقلية وأن تصحيح العقائد الإيمانية من قبل النظر لا من جهة السمع فإنها بعض من مدارك العقل‏.‏ وهؤلاء يسمون فلاسفة جمع فيلسوف وهو باللسان اليوناني محب الحكمة‏.‏ فبحثوا عن ذلك وشمروا له وحوموا على إصابة الغرض منه ووضعوا قانوناً يهتدي به العقل في نظره إلى التمييز بين الحق والباطل وسموه بالمنطق‏.‏ ومحصل ذلك أن النظر الذي يفيد تمييز الحق من الباطل إنما هو للذهن في المعاني المنتزعة من الموجودات الشخصية فيجرد منها أولاً صوراً منطبقة على جميع الأشخاص كما ينطبق الطابع على جميع النقوش التي ترسمها في طين أو شمع‏.‏ وهذه المجردة من المحسوسات تسمى المعقولات الأوائل‏.‏ ثم تجرد من تلك المعاني الكلية إذا كانت مشتركة مع معان أخرى وقد تميزت عنها في الذهن فتجرد منها معان أخرى وهي التي اشتركت بها ثم تجرد ثانياً إن شاركها غيرها وثالثاً إلى أن ينتهي التجريد إلى المعاني البسيطة الكلية المنطبقة على جميع المعاني والأشخاص ولا يكون منها تجريد بعد هذا وهي الأجناس العالية‏.‏ وهذه المجردات كلها من غير المحسوسات هي من حيث تأليف بعضها مع بعض لتحصيل العلوم منها تسمى المعقولات الثواني‏.‏ فإذا نظر الفكر في هذه المعقولات المجردة وطلب تصور الوجود كما هو فلا بد للذهن من إضافة بعضها إلى بعض ونفي بعضها عن بعض بالبرهان العقلي اليقيني ليحصل تصور الوجود تصوراً صحيحاً مطابقاً إذا كان ذلك بقانون صحيح كما مر‏.‏ وصنف التصديق الذي هو تلك الإضافة والحكم متقدم عندهم على صنف التصور في النهاية والتصور متقدم عليه في البداية والتعليم لأن التصور التام عندهم هو غاية الطلب الإدراكي وإنما التصديق وسيلة له وما تسمعه في كتب المنطقيين من تقدم التصور وتوقف التصديق عليه فبمعنى الشعور لا بمعنى العلم التام وهذا هو مذهب كبيرهم أرسطو‏.‏ ثم يزعمون أن السعادة في إدراك الموجودات كلها ما في الحس وما وراء الحس بهذا النظر وتلك البراهين‏.‏ وحاصل مداركهم في الوجود على الجملة وما آلت إليه وهو الذي فرعوا عليه قضايا أنظارهم أنهم عثروا أولاً‏:‏ على الجسم السفلي بحكم الشهود والحس ثم ترقى إدراكهم قليلاً فشعروا بوجود النفس من قبل الحركة والحس بالحيوانات ثم أحسوا من قوى النفس بسلطان العقل‏.‏ ووقف إدراكهم فقضوا على الجسم العالي السماوي بنحو من القضاء على أمر الذات الإنسانية‏.‏ ووجب عندهم أن يكون للفلك نفس وعقل كما للإنسان ثم أنهوا ذلك نهاية عدد الآحاد وهي العشر تسع مفصلة ذواتها جمل وواحد أول مفرد وهو العاشر‏.‏ ويزعمون أن السعادة في إدراك الوجود على هذا النحو من القضاء مع تهذيب النفس وتخلقها بالفضائل وأن ذلك ممكن للإنسان ولو لم يرد شرع لتمييزه بين الفضيلة والرذيلة من الأفعال بمقتضى عقله ونظره وميله إلى المحمود منها واجتنابه للمذموم بفطرته وأن ذلك إذا حصل للنفس حصلت لها البهجة واللذة وأن الجهل بذلك هو الشقاء السرمدي وهذا عندهم هو معنى النعيم والعذاب في الآخرة إلى خبط لهم في تفاصيل ذلك معروف من كلماتهم‏.‏ وإمام هذه المذاهب الذي حصل مسائلها ودون علمها وسطر حجاجها فيما بلغنا في هذه الأحقاب هو أرسطو المقدوني من أهل مقدونية من بلاد الروم من تلاميذ أفلاطون وهو معلم الإسكندر ويسمونه‏:‏ المعلم الأول على الإطلاق يعنون معلم صناعة المنطق إذ لم تكن قبله مهذبة‏.‏ وهو أول من رتب قانونها واستوفى مسائلها وأحسن بسطها‏.‏ ولقد أحسن في ذلك القانون ما شاء لو تكفل له بقصدهم في الإلهيات‏.‏ ثم كان من بعده في الإسلام من أخذ بتلك المذاهب واتبع فيها رايه حذو النعل بالنعل إلا في القليل وذلك أن كتب أولئك المتقدمين لما ترجمها الخلفاء من بني العباس من اللسان اليوناني إلى اللسان العربي تصفحها كثير من أهل الملة وأخذ من مذاهبهم من أضله الله من منتحلي العلوم وجادلوا عنها واختلفوا في مسائل من تفاريعها وكان من أشهرهم أبو نصر الفارابي في المائة الرابعة لعهد سيف الدولة وأبو علي بن سينا في المائة الخامسة لعهد نظام الملك من بني بويه بأصبهان وغيرهما‏.‏ واعلم أن هذا الرأي الذي ذهبوا إليه باطل بجميع وجوهه‏.‏ فأما إسنادهم الموجودات كلها إلى العقل الأول واكتفاؤهم به في الترقي إلى الواجب فهو قصور عما وراء ذلك من رتب خلق الله فالوجود أوسع نطاقاً من ذلك ‏"‏ ويخلق ما لا تعلمون[/url] ‏"‏ وكأنهم في اقتصارهم على إثبات العقل فقط والغفلة عما وراءه بمثابة الطبيعيين المقتصرين على إثبات الأجسام خاصة المعرضين عن النقل والعقل المعتقدين أنه ليس وراء الجسم في حكمة الله شيء‏.‏ وأما البراهين التي يزعمونها على مدعياتهم في الموجودات ويعرضونها على معيار المنطق وقانونه فهي قاصرة وغير وافية بالغرض‏.‏ أما ما كان منها في الموجودات الجسمانية ويسمونه العلم الطبيعي فوجه قصوره أن المطابقة بين تلك النتائج الذهنية التي


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 15:54 عدل 1 مرات
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:52

تستخرج بالحدود والأقيسة كما في زعمهم وبين ما في الخارج غير يقيني لأن تلك أحكام ذهنية كلية عامة والموجودات الخارجية متشخصة بموادها‏.‏ ولعل في المواد ما يمنع من مطابقة الذهني الكلي للخارجي الشخصي الفهم إلا ما يشهد له الحس من ذلك فدليله شهوده لا تلك البراهين فأين اليقين الذي يجدونه فيها وربما يكون تصرف الذهن أيضاً في المعقولات الأول المطابقة للشخصيات بالصور الخيالية لا في المعقولات الثواني التي تجريدها في الرتبة الثانية فيكون الحكم حينئذ يقينياً بمثابة المحسوسات‏.‏ إذ المعقولات الأول أقرب إلى مطابقة الخارج لكمال الانطباق فيها فنسلم لهم حينئذ دعاويهم في ذلك‏.‏ إلا أنه ينبغي لنا الإعراض عن النظر فيها إذ هو من ترك المسلم لما لا يعنيه فإن مسائل الطبيعيات لا تهمنا في دينا ولا معاشنا فوجب علينا تركها‏.‏ وأما ما كان منها في الموجودات التي وراء الحس وهي الروحانيات ويسمونه العلم الإلهي وعلم ما بعد الطبيعة فإن ذواتها مجهولة رأساً ولا يمكن التوصل إليها ولا البرهان عليها لأن تجريد المعقولات من الموجودات الخارجية الشخصية إنما هو ممكن فيما هو مدرك لنا‏.‏ ونحن لا ندرك الذوات الروحانية حتى نجرد منها ماهيات أخرى بحجاب الحس بيننا وبينها فلا يتأتى لنا برهان عليها ولا مدرك لنا في إثبات وجودها على الجملة إلا ما نجده بين جنبينا من أمر النفس الإنسانية وأحوال مداركها وخصوصاً في الرؤيا التي هي وجدانية لكل أحد وما وراء ذلك من حقيقتها وصفاتها فأمر غامض لا سبيل إلى الوقوف عليه‏.‏ وقد صرح بذلك محققوهم حيث ذهبوا إلى أن ما لا مادة له لا يمكن البرهان عليه لأن مقدمات البرهان من شرطها أن تكون ذاتية‏.‏ وقال كبيرهم أفلاطون‏:‏ إن الإلهيات لا يوصل فيها إلى يقين وإنما يقال فيها بالأحق والأولى يعني الظن‏.‏ وإذا كنا إنما نحصل بعد التعب والنصب على الظن فقط فيكفينا الظن الذي كان أولاً فأي فائدة لهذه العلوم والاشتغال بها ونحن إنما عنايتنا بتحصيل اليقين فيما وراء الحس من الموجودات وهذه هي غاية الأفكار الإنسانية عندهم‏.‏ وأما قولهم إن السعادة في إدراك الموجودات على ما هي عليه بتلك البراهين فقول مزيف مردود وتفسيره أن الإنسان مركب من جزأين‏:‏ أحدهما جسماني والآخر روحاني ممتزج به ولكل واحد من الجزأين مدارك مختضة به والمرك فيهما واحد وهو الجزء الروحاني يدرك تارة مدارك روحانية وتارة مدارك جسمانية إلأ أن المدارك الروحانية يدركها بذاته بغير واسطة والمدارك الجسمانية بواسطة آلات الجسم من الدماغ والحواس‏.‏ وكل مدرك فله ابتهاج بما يدركه‏.‏ واعتبره بحال الصبي في أول مداركه الجسمانية التي هي بواسطة كيف يبتهج بما يبصره من الضوء وبما يسمعه من الأصوات فلا شك أن الابتهاج بالإدراك الذي للنفس من ذاتها بغير واسطة يكون أشد وألذ‏.‏ فالنفس الروحانية إذا شعرت بإدراكها الذي لها من ذاتها بغير واسطة حصل لها ابتهاج ولذة لا يعبر عنها وهذا الإدراك لا يحصل بنظر ولا علم وإنما يحصل بكشف حجاب الحس ونسيان المدارك الجسمانية بالجملة‏.‏ والمتصوفة كثيراً ما يعنون بحصول هذا الإدراك للنفس بحصول هذه البهجة فيحاولون بالرياضة إماتة القوى الجسمانية ومداركها حتى الفكر من الدماغ ليحصل للنفس إدراكها الذي لها من ذاتها عند زوال الشواغب والموانع الجسمانية فيحصل لهم بهجة ولذة لا يعبرعنها‏.‏ وهذا الذي زعموه بتقدير صحته مسلم لهم وهو مع ذلك غير واف بمقصودهم‏.‏ فأما قولهم‏:‏ إن البراهين والأدلة العقلية محصلة لهذا النوع من الإدراك والابتهاج عنه فباطل كما رأيته إذ البراهين والأدلة من جملة


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:52

المدارك الجسمانية لأنها بالقوى الدماغية من الخيال والفكر والذكر‏.‏ ونحن نقول إن أول شيء نعنى به في تحصيل هذا الإدراك إماتة هذه القوى الدماغية كلها لأنها منازعة له قادحة فيه‏.‏ وتجد الماهر منهم عاكفاً على كتاب الشفاء والإشادات والنجاة وتلاخيص ابن رشد للقص من تأليف أرسطو وغيره يبعثر أوراقها ويتوثق من براهينها ويلتمس هذا القسط من السعادة فيها ولا يعلم أنه يستكثر بذلك من الموانع عنها‏.‏ ومستندهم في ذلك ما ينقلونه عن أرسطو والفارابي وابن سينا أن من حصل له إدراك العقل الفعال واتصل به في حياته فقد حصل حظه من هذه السعادة‏.‏ والعقل الفعال عندهم عبارة عن أول رتبة ينكشف عنها الحس من رتب الروحانيات ويحملون الاتصال بالعقل الفعال على الإدراك العلمي وقد رأيت فساده‏.‏ وإنما يعني أرسطو وأصحابه بذلك الاتصال والإدراك إدراك النفس الذي لها من ذاتها وبغير واسطة وهو لا يحصل إلا بكشف حجاب الحس‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن البهجة الناشئة عن هذا الإدراك هي عين السعادة الموعود بها فباطل أيضاً لأنا إنما تبين لنا بما قرروه أن وراء الحس مدركاً آخر للنفس من غير واسطة وأنها تبتهج بإدراكها ذلك ابتهاجاً شديداً وذلك لا يعين لنا أنه عين السعادة الأخروية ولا بد بل هي من جملة الملاذ التي لتلك السعادة‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن السعادة في إدراك هذه الموجودات على ما هي عليه فقول باطل مبني على ما كنا قدمناه في أصل التوحيد من الأوهام والأغلاط في أن الوجود عند كل مدرك منحصر في مداركه وبينا فساد ذلك وأن الوجود أوسع من أن يحاط به أو يستوفى إدراكه بجملته روحانياً أو جسمانياً‏.‏ والذي يحصل من جميع ما قررناه من مذاهبهم أن الجزء الروحاني إذا فارق القوى الجسمانية أدرك إدراكاً ذاتياً له مختصاً بصنف من المدارك وهي الموجودات التي أحاط بها علمنا وليس بعام الإدراك في الموجودات كلها إذ لم تنحصر وأنه يبتهج بذلك النحو من الإدراك ابتهاجاً شديداً كما يبتهج الصبي بمداركه الحسية في أول نشوئه‏.‏ ومن لنا بعد ذلك بإدراك جميع الموجودات أو بحصول السعادة التي وعدنا بها الشارع إن لم نعمل لها هيهات هيهات لما توعدون‏.‏ وأما قولهم‏:‏ إن الإنسان مستقل بتهذيب نفسه وإصلاحها بملابسة المحمود من الخلق ومجانبة المذموم فأمر مبني على أن ابتهاج النفس بإدراكها الذي لها من ذاتها هو عين السعادة الموعود بها لأن الرذائل عائقة للنفس عن تمام إدراكها ذلك بما يحصل لها من الملكات الجسمانية وألوانها‏.‏ وقد بينا أن أثر السعادة والشقاوة من وراء الإدراكات الجسمانية والروحانية‏.‏ فهذا التهذيب الذي توصلوا إلى معرفته إنما نفعه في البهجة الناشئة عن الإدراك الروحاني فقط الذي هو على مقاييس وقوانين‏.‏ وأما ما وراء ذلك من السعادة التي وعدنا بها الشارع على امتثال ما أمر به من الأعمال والأخلاق فأمر لا يحيط به مدارك المدركين‏.‏ وقد تنبه لذلك زعيمهم أبو علي ابن سينا فقال في كتاب المبدإ والمعاد ما معناه‏:‏ إن المعاد الروحاني وأحواله هو مما يتوصل إليه بالبراهين العقلية والمقاييس لأنه على نسبة طبيعية محفوظة ووتيرة واحدة فلنا في البراهين عليه سعة‏.‏ وأما المعاد الجسماني وأحواله فلا يمكن إدراكه بالبرهان لأنه ليس على نسبة واحدة وقد بسطته لنا الشريعة الحقة المحمدية فلينظر فيها ولنرجع في أحواله إليها‏.‏ فهذا العلم كما رأيته غير واف بمقاصدهم التي حوموا عليها مع ما فيه من مخالفة الشرائع وظواهرها‏.‏ وليس له فيما علمنا إلا ثمرة واحدة وهي شحذ الذهن في ترتيب الأدلة والحجاج لتحصيل ملكة الجودة والصواب في البراهين‏.‏ وذلك أن نظم المقاييس وتركيبها على وجه الإحكام والإتقان هو كما شرطوه في صناعتهم المنطقية وقولهم بذلك في علومهم الطبيعية وهم كثيراً ما يستعملونها في علومهم الحكمية من الطبيعيات والتعاليم وما بعدها فيستولي الناظر فيها بكثرة استعمال البراهين بشروطها على ملكة الإتقان والصواب في الحجاج والاستدلالات لأنها وإن كانت غير وافية بمقصودهم فهي أصح ما علمناه من قوانين الأنظار‏.‏ هذه هي ثمرة هذه الصناعة مع الاطلاع على مذاهب أهل العلم وآرائهم ومضارها ما علمت‏.‏ فليكن الناظر فيها متحرزاً جهده من معاطبها وليكن نظر من ينظر فيها بعد الامتلاء من الشرعيات والاطلاع على التفسير والفقه ولا يكبن أحد عليها وهو خلو من علوم الملة فقل أن يسلم لذلك من معاطبها‏.‏ والله الموفق للصواب وللحق والهادي إليه‏.‏ وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:53

الفصل الثاني والثلاثون في إبطال صناعة النجوم وضعف مداركها وفساد غايتها
هذه الصناعة يزعم أصحابها أنهم يعرفون بها الكائنات قي عالم العناصر قبل حدوثها من قبل معرفة قوى الكواكب وتأثيرها في المولدات العنصرية مفردة ومجتمعة‏.‏ فتكون لذلك أوضاع الأفلاك والكواكب دالة على ما سيحدث من نوع نوع من أنواع الكائنات الكلية والشخصية‏.‏ فالمتقدمون منهم يرون أن معرفة قوى الكواكب وتأثيراتها بالتجربة وهو أمر تقصر الأعمار كلها لو اجتمعت عن تحصيله إذ التجربة إنما تحصل في المرات المتعددة بالتكرار ليحصل عنها العلم والظن‏.‏ وأدوار الكواكب منها ما هو طويل الزمن فيحتاج تكرره إلى آماد وأحقاب متطاولة يتقاصر عنها ما هو طويل من أعمار العالم‏.‏ وربما ذهب ضعفاء منهم إلى أن معرفة قوى ومن أوضح الأدلة فيه أن تعلم أن الأنبياء عليهم الضلاة والسلام أبعد الناس عن الصنائع وأنهم لا يتعرضون للأخبار عن الغيب إلأ أن يكون عن الله فكيف يدعون استنباطه بالصناعة ويشيرون بذلك لتابعيهم من الطق‏.‏ وأما بطليموس ومن تبعه من المتأخرين فيرون أن دلالة الكواكب على ذلك دلالة طبيعية من قبل مزاج يحصل للكواكب في الكائنات العنصرية قال لأن فعل النيرين وأثرهما في العنصريات ظاهر لا يسع أحداً جحده مثل فعل الشمس في تبدل الفصول وأمزجتها ونضج الثمار والزرع وغير ذلك وفعل القمر في الرطوبات والماء وإنضاج المواد المتعفنة وفواكه القناء وسائر أفعاله‏.‏ ثم قال‏:‏ ولنا فيما بعدهما من الكواكب طريقتان‏:‏ الأولى التقليد لمن نقل ذلك عنه من أئمة الصناعة إلا أنه غير مقنع للنفس‏.‏ والثانية الحدس والتجربة بقياس كل واحد منها إلى النير الأعظم الذي عرفنا طبيعته وأثره معرفة ظاهرة فننظر هل يزيد ذلك الكوكب عند القرآن في قوته ومزاجه فتعرف موافقته له في الطبيعة أو ينقص عنها فتعرف مضادته‏.‏ ثم إذا عرفنا قواها مفرعة عرفناها مركبة وذلك عند تناظرها بأشكال التثليث والتربيع وغيرهما ومعرفة ذلك من قبل طبائع البروج بالقياس أيضاً إلى النير الأعظم‏.‏ وإذا عرفنا قوى الكواكب كلها فهي مؤثرة في الهواء وذلك ظاهر‏.‏ والمزاج الذي يحصل منها للهواء يحصل لما تحتها من المولدات وتتخلق به النطف والبزر فتصير حالاً للبدن المتكون عنها وللنفس المتعلقة به الفائضة عليه المكتسبة لما لها منه ولما يتبع النفس والبدن من الأحوال لأن كيفيات البزرة والنطفة كيفيات لما يتولد عنهما وينشأ منهما‏.‏ قال وهو مع ذلك ظني وليس من اليقين في شيء وليس هو أيضاً من القضاء الإلهي يعني القدر إنما هو من جملة الأسباب الطبيعية للكائن والقضاء الإلهي سابق على كل شيء‏.‏ هذا محصل كلام بطليموس وأصحابه وهو منصوص في كتابه الأربع وغيره‏.‏ ومنه يتبين ضعف مدرك هذه الصناعة‏.‏ وذلك أن العلم الكائن أو الظن به إنما يحصل عن العلم بجملة أسبابه من الفاعل والقابل والصورة والغاية على ما تبين في موضعه‏.‏ والقوى النجومية على ما قرروه إنما هي فاعلة فقط والجزء العنصري هو القابل‏.‏ ثم إن القوى النجومية ليست هى الفاعل بجملتها بل هناك قوى أخرى فاعلة معها في الجزء المادي مثل قوة التوليد للأب والنوع التي في النطفة وقوى الخاصة التي تميز بها صنف صنف من النوع وغير ذلك‏.‏ فالقوى النجومية إذا حصل كمالها وحصل العلم فيها إنما هي فاعل واحد من جملة الأسباب الفاعلة للكائن‏.‏ ثم إنه يشترط مع العلم بقوى النجوم وتأثيراتها مزيد حدس وتخمين وحينئذ يحصل عنده الظن بوقوع الكائن‏.‏ والحدس والتخمين قوى للناظر في فكره وليس من علل الكائن ولا من أصول الصناعة فإذا فقد هذا الحدس والتخمين رجعت أدراجها عن الظن إلى الشك‏.‏ هذا إذا حصل العلم بالقوى النجومية على سداده ولم تعترضه آفة وهذا معوز لما فيه من معرفة حسبانات الكواكب في سيرها لتتعرف به أوضاعها ولما أن اختصاص كل كوكب بقوة لا دليل عليه‏.‏ ومدرك بطليموس في إثبات القوى للكواكب الخمسة بقياسها إلى الشمس مدرك ضعيف لأن قوة الشمس غالبة لجميع القوى من الكواكب ومستولية عليها فقل


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:53

أن يشعر بالزيادة فيها أو النقصان منها عند المقارنة كما قال وهذه كلها قادحة في تعريف الكائنات الواقعة في عالم العناصر بهذه الصناعة‏.‏ ثم إن تأثير الكواكب فيما تحتها باطل إذ قد تبين في باب التوحيد أن لا فاعل إلا الله بطريق استدلالي كما رأيته‏.‏ واحتج له أهل علم الكلام بما هو غني عن البيان من أن إسناد الأسباب إلى المسببات مجهول الكيفية والعقل متهم على ما يقضي به فيما يظهر بادئ الرأي من التأثير فلعل استنادها على غير صورة التأثير المتعارف‏.‏ والقدرة الإلهية رابطة بينهما كما ربطت جميع الكائنات علواً وسفلاً سيما والشرع يرد الحوادث كلها إلى قدرة الله تعالى ويبرأ مما سوى ذلك‏.‏ والنبوات أيضاً منكرة لشأن النجوم وتأثيراتها‏.‏ واستقراء الشرعيات شاهد بذلك في مثل قوله‏:‏ ‏"‏ إن الشمس والقمر لا يخسفان لموت أحد ولا لحياته ‏"‏ وفي قوله‏:‏ ‏"‏ أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر بي‏.‏ فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي كافر بالكواكب وأما من قال مطرنا بنوء كذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب ‏"‏ الحديث الصحيح‏.‏ فقد بان لك بطلان هذه الصناعة من طريق الشرع وضعف مداركها مع ذلك من طريق العقل مع ما لها من المضار في العمران الإنساني بما تبعث في عقائد العوام من الفساد إذا اتفق الصدق من أحكامها في بعض الأحايين اتفاقاً لا يرجع إلى تعليل ولا تحقيتي فيلهبج بذلك من لا معرفة له ويظن اطراد الصدق في سائر أحكامها وليس كذلك‏.‏ فيقع في رد الأشياء إلى غير خالقها‏.‏ ثم ما ينشأ عنها كثيراً في الدول من توقع القواطع وما يبعث عليه ذلك التوقع من تطاول الأعداء المتربصين بالدولة إلى الفتك والثورة‏.‏ وقد شاهدنا من ذلك كثيراً فينبغي أن تحظر هذه الصناعة على جميع أهل العمران لما ينشأ عنها من المضار في الدين والدول ولا يقدح في ذلك كون وجودها طبيعياً للبشر بمقتضى مداركهم وعلومهم‏.‏ فالخير والشر طبيعتان موجودتان في العالم لا يمكن نزعهما وإنما يتعلق التكليف بأسباب حصولهما فيتعين السعي في اكتساب الخير بأسبابه ودفع أسباب الشر والمضار‏.‏ هذا هو الواجب على من عرف مفاسد هذا العلم ومضاره‏.‏ وليعلم من ذلك أنها وإن كانت صحيحة في نفسها فلا يمكن أحداً من أهل الملة تحصيل علمها ولا ملكتها بل إن نظر فيها ناظر وظن الإحاطة بها فهو في غاية القصور في نفس الأمر‏.‏ فإن الشريعة لما حظرت النظر فيها فقد الاجتماع من أهل العمران لقراءتها والتحليق لتعليمها وصار المولع بها من الناس وهم الأقل وأقل من الأقل إنما يطالع كتبها ومقالاتها في كسر بيته متستراً عن الناس وتحت ربقة الجمهور مع تشعب الصناعة وكثرة فروعها واعتياصها على الفهم فكيف يحصل منها على طائل‏.‏ ونحن نجد الفقه الذي عم نفعه ديناً ودنيا وسهلت مآخذه من الكتاب والسنة وعكف الجمهورعلى قراءته وتعليمه ثم بعد التحقيق والتجميع وطول المدارسة وكثرة المجالس وتعددها إنما يحذق فيه الواحد بعد الواحد في الأعصار والأجيال‏.‏ فكيف يعلم مهجور للشريعة مضروب دونه سد الحظر والتحريم مكتوم عن الجمهور صعب المآخذ محتاج بعد الممارسة والتحصيل لأصوله وفروعه إلى مزيد حدس وتخمين يكتنفان به من الناظر فأين التحصيل والحذق فيه مع هذه كلها‏.‏ ومدعي ذلك من الناس مردود على عقبه ولا شاهد له يقوم بذلك لغرابة الفن بين أهل الملة وقلة حملته فاعتبر ذلك يتبين لك صحة ما ذهبنا إليه‏.‏ والله أعلم بالغيب فلا يظهر على غيبه أحداً‏.‏ ومما وقع في هذا المعنى لبعض أصحابنا من أهل العصر عندما غلب العرب عساكر السلطان أبي الحسن وحاصروه بالقيروان وكثر إرجاف الفريقين الأولياء والأعداء وقال في ذلك أبو القاسم الروحي من شعراء أهل تونس‏:‏ أستغفر الله كل حين قد ذهب العيش والهناء أصبح في تونس وأمسي والصبح لله والمساء الخوف والجوع والمنايا يحدثها الهرج والوباء والناس في مرية وحرب وماعسى ينفغ المراء فأحمدي يرى علياً حل به الهلك والتواء وآخر قال سوف يأتي به إليكم صباً رخاء والله من فوق ذا وهذا يقضي لعبديه مايشاء ياراصد الخنس الجواري ما فعلت هذه السماء مطلتمونا وقد زعمتم أنكم اليوم أملياء مر خميس على خميس وجاء سبت وأربعاء ونصف شهر وعشر ثان وثالث ضمه القضاء رضيت بالله لي إلهاً حسبكم البدر أو ذكاء ما هذه الأنجم السواري إلا عباديد أو إماء يقضى عليها وليس تقضي ومالها في الورى اقتضاء ضلت عقول ترى قديماً ما شأنه الجرم والفناء وحكمت فى الوجود طبعاً يحدثه الماء والهواء لم تر حلواً إزاء مر تغذ وهمو تربة وماء الله ربي ولست أدري ما الجوهر الفرد والخلاء ولا الهيولى التي تنادي ما لي عن صورة عراء ولا وجود ولا انعدام ولا ثبوت ولا انتفاء ولست أدري ما الكسب إلا ما جلب البيع والشراء وإنما مذهبي وديني ما كان والناس أولياء إذ لا فصول ولا أصول ولا جدال ولا ارتياء أنا أجزي بالشر شراً والخير عن مثله جزاء وإنني إن أكن مطيعاً فلست أعصي ولي رجاء وإنني تحت حكم بار أطاعه العرش والثراء ليس انتصار لكم ولكن أتاحه الحكم والقضاء لو حدث الأشعري عمن له إلى رأيه انتماء لقال أخبرهم بأني مما يقولونه براء


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:55

الفصل الثالث والثلاثون في إنكار ثمرة الكيمياء واستحالة وجودها وما ينشأ من المفاسد عن انتحالها
اعلم أن كثيراً من العاجزين عن معاشهم تحملهم المطامع على انتحال هذه الصنائع ويرون أنها أحد مذاهب المعاش ووجوهه وأن اقتناء المال منها أيسر وأسهل على مبتغيه فيرتكبون فيها من المتاعب والمشاق ومعاناة الصعاب وعسف الحكام وخسارة الأموال في النفقات زيادة على النيل من غرضه والعطب آخراً إذا ظهر على خيبة وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعاً‏.‏ وإنما أطعمهم في ذلك رؤية أن المعادن تستحيل وينقلب بعضها إلى بعض للمادة المشتركة فيحاولون بالعلاج صيرورة الفضة ذهباً والنحاس والقصدير فضة ويحسبون أنها من ممكنات عالم الطبيعة ولهم في علاج ذلك طرق مختلفة لاختلاف مذاهبهم في التدبير وصورته وفي المادة الموضوعة عندهم للعلاج المسماة عندهم بالجحر المكرم هل هي العذرة أو الدم أو الشعر أو البيض أو كذا أو كذا مما سوى ذلك‏.‏ وجملة التدبير عندهم بعد تعين المادة أن تمهى بالفهر على حجر صلد أملس وتسقى أثناء إمهائها بالماء بعد أن يضاف إليها من العقاقير والأدوية ما يناسب القصد منها ويؤثر في انقلابها إلى المعدن المطلوب‏.‏ ثم تجفف بالشمس من بعد السقي أو تطبخ بالنار أو تصعد أو تكلس لاستخراح مائها أو ترابها‏.‏ فإذا رضي بذلك كله من علاجها وتم تدبيره على ما اقتضته أصول صنعته حصل من ذلك كله تراب أو مائع يسمونه الإكسير ويزعمون أنه إذا القي على الفضة المحماة بالنار عادت ذهباً أو النحاس المحمى بالنار عاد فضة على حسب ما قصد به في عمله‏.‏ ويزعم المحققون منهم أن ذلك الإكسير مادة مركبة من العناصر الأربعة حصل فيها بذلك العلاج الخاص والتدبير مزاج ذو قوى طبيعية تصرف ما حصلت فيه إليها وتقلبه إلى صورتها ومزاجها وثبت فيه ما حصل فيها من الكيفيات والقوى كالخميرة للخبز تقلب العجين إلى ذاتها وتعمل فيه ما حصل لها من الانفشاش والهشاشة ليحسن هضمه في المعدة ويستحيل سريعاً إلى الغذاء‏.‏ وكذا إكسير الذهب والفضة فيما يحصل فيه من المعان يصرفه إليهما ويقلبة إلى صورتهما‏.‏ هذا محصل زعمهم على الجملة فتجدهم عاكفين على هذا العلاج يبتغون الرزق والمعاش فيه ويتناقلون أحكامه وقواعده من كتب لأئمة الصناعة من قبلهم يتداولونها بينهم ويتناظرون في فهم لغوزها وكشف أسرارها إذ هي في الأكثر تشبه المعمى‏.‏ كتأليف جابر بن حيان في رسائله السبعين ومسلمة المجريطي في كتابه رتبة الحكيم والطغرائي والمغيربي في قصائده العريقة في إجادة النظم وأمثالها ولا يحلون من بعد هذا كله بطائل منها‏.‏ فاوضت يوماً شيخنا أبا البركات التلفيفي كبير مشيخة الأندلس في مثل ذلك ووقفته على بعض التآليف فيها فتصفحه طويلاً ثم رده إلي وقال لي وأنا الضامن له أن لا يعود إلى بيته إلا بالخيبة‏.‏ ثم منهم من يقتصر في ذلك على الدلسة فقط‏.‏ إما الظاهرة كتمويه الفضة بالذهب أو النحاس بالفضة أو خلطهما على نسبة جزء أو جزأين أو ثلاثة أو الخفية كإلقاء الشبه بين المعادن لصناعة مثل تبييض النحاس وتليينه بالزوق المصعد فيجيء جسماً معدنياً شبيهاً بالفضة ويخفى إلا على النقاد المهرة فيقدر أصحاب هذه الدلس مع دلستهم هذه سكة يسربونها في الناس ويطبعونها بطابع السلطان تمويهاً على الجمهور بالخلاص وهؤلاء أخس الناس حرفة وأسؤاهم عاقبة لتلبسهم بسرقة أموال الناس فإن صاحب هذه الدلسة إنما هو يدفع نحاساً في الفضة وفضة في الذهب ليستخلصها لنفسه فهو سارق وأشر من السارق‏.‏ ومعظم هذا الصنف لدينا بالمغرب من طلبة البربر المنتبذين بأطراف البقاع ومساكن الأغمار يأوون إلى مساجد البادية ويموهون على الأغنياء منهم بأن بأيديهم صناعة الذهب والفضة والنفوس مولعة بحبهما والاستهلاك في


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:56

طلبهما فيحصلون من ذلك على معاش‏.‏ ثم يبقى ذلك عندهم تحت الخوف والرقبة إلى أن يظهر العجز وتقع الفضيحة فيفرون إلى موضع آخر ويستجدون حالاً آخرى في استهواء بعض أهل الدنيا بأطماعهم فيما لديهم‏.‏ ولا يزالون كذلك في ابتغاء معاشهم‏.‏ وهذا الصنف لا كلام معهم لأنهم بلغوا الغاية في الجهل والرداءة والاحتراف بالسرقة ولا حاسم لعلتهم إلا اشتداد الحكام عليهم وتناولهم من حيث كانوا وقطع أيديهم متى ظهروا على شأنهم لأن فيه إفساداً للسكة التي تعم بها البلوى وهي متمول الناس كافة‏.‏ والسلطان مكلف بإصلاحها والاحتياط عليها والاشتداد على مفسديها‏.‏ وأما من انتحل هذه الصناعة ولم يرض بحال الدلسة بل استنكف عنها ونزه نفسه عن إفساد سكة المسلمين ونقودهم وإنما يطلب إحالة الفضة للذهب والرصاص والنحاس والقصدير إلى الفضة بذلك النحو مع العلاج وبالإكسير الحاصل عنده فلنا مع هؤلاء متكلم وبحث في مداركهم لذلك‏.‏ مع أنا لا نعلم أن أحداً من أهل العلم تم له هذا الغرض أو حصل منه على بغية‏.‏ إنما تذهب أعمارهم في التدبير والفهر والصلابة والتصعيد والتكليس واعتيام الأخطار بجمع العقاقير والبحث عنها‏.‏ ويتناقلون في ذلك حكايات وقعت لغيرهم ممن تم له الغرض منها أو وقف إلى الوصول يقنعون باستماعها والمفاوضة فيها ولا يستريبون في تصديقها شأن الكلفين المغرمين بوساوس الأخبار فيما يكلفون به فإذا سئلوا عن تحقيق ذلك بالمعاينة أنكروه وقالوا إنما سمعنا ولم نر‏.‏ هكذا شأنهم في كل عصر وجيل‏.‏ واعلم أن انتحال هذه الصنعة قديم في العالم وقد تكلم الناس فيها من المتقدمين والمتأخرين‏.‏ فلننقل مذاهبهم في ذلك ثم نتلوه بما يظهر فيها من التحقيق الذي عليه الأمر في نفسه فنقول‏:‏ إن مبنى الكلام في هذه الصناعة عند الحكماء على حال المعادن السبعة المنطرقة وهي الذهب والفضة والرصاص والقصدير والنحاس والحديد والخارصين‏:‏ هل هي مختلفات بالفصول وكلها أنواع قائمة بأنفسها أو أنها مختلفة بخواص من الكيفيات وهي كلها أصناف لنوع واحد فالذي ذهب إليه أبو نصر الفارابي وتابعه عليه حكماء الأندلس أنها نوع واحد وأن اختلافها إنما هو بالكيفيات من الرطوبة واليبوسة واللين والصلابة والألوان من الصفرة والبياض والسواد وهي كلها أصناف لذلك النوع الواحد‏.‏ والذي ذهب إليه ابن سينا وتابعه عليه حكماء المشرق أنها مختلفة بالفصول وانها أنواع متباينة كل واحد منها قائم بنفسه متحقق بحقيقته له فصل وجنس شأن سائر الأنواع‏.‏ وبنى أبو نصر الفارابي على مذهبه في اتفاقها بالنوع إمكان انقلاب بعضها إلى بعض لإمكان تبدل الأغراض حينئذ وعلاجها بالصنعة‏.‏ فمن هذا الوجه كانت صناعة الكيمياء عنده ممكنة سهلة المأخد‏.‏ وبنى أبو علي ابن سينا على مذهبه في اختلافها بالنوع إنكار هذه الصنعة واستحالة وجودها بناء على أن الفصل لا سبيل بالصناعة إليه وإنما يخلقه خالق الأشياء ومقدرها وهو الله عز وجل‏.‏ والفصول مجهولة الحقائق رأساً بالتصور فكيف يحاول انقلابها بالصنعة‏.‏ وغلطه الطغرائي من أكابر أهل هذه الصناعة في هذا القول‏.‏ ورد عليه بأن التدبير والعلاج ليس في تخليق الفصل وإبداعه إنما هو إعداد المادة لقبوله خاصة و الفصل يأتي من بعد الإعداد من لدن خالقه وبارئه كما يفيض النور على الأجسام بالصقل والإمهاء‏.‏ ولا حاجة بنا في ذلك إلى تصوره ومعرفته قال‏:‏ وإذا كنا قد عثرنا على تخليق بعض الحيوانات مع الجهل بفصولها مثل العقرب من التراب والنتن ومثل الحيات المتكونة من الشعر ومثل ما ذكره أصحاب الفلاحة من تكوين النحل إذا فقدت من عجاجيل البقر‏.‏ وتكوين القصب من قرون ذوات الظلف وتصييره سكراً بحشو القرون بالعسل بين يدي ذلك الفلح للقرون فما المانع إذاً من العثور على مثل ذلك في الذهب والفضة فتتخذ مادة تضيفها للتدبير بعد أن يكون فيها استعداد أول لقبول صورة الذهب والفضة‏.‏ ثم تحاولها بالعلاج إلى أن يتم فيها الاستعداد لقبول فصلها‏.‏ انتهى كلام الطغرائي بمعناه‏.‏ وهذا الذي ذكره في الرد على ابن سينا صحيح‏.‏ لكن لنا في الرد على أهل هذه الصناعة مأخذاً آخر يتبين منه استحالة وجودها وبطلان مزعمهم أجمعين لا الطغرائي


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:57

ولا ابن سينا‏.‏ وذلك أن حاصل علاجهم أنهم بعد الوقوف على المادة المستعدة بالاستعداد الأول يجعلونها موضوعاً ويحاذون في تدبيرها وعلاجها تدبير الطبيعة في الجسم المعدني حتى إحالته ذهباً أو فضة ويضاعفون القوى الفاعلة والمنفعلة ليتم في زمان أقصر‏.‏ لأنه تبين في موضعه أن مضاعفة قوة الفاعل تنقص من زمن فعله وتبين أن الذهب إنما يتم كونه في معدنه بعد ألف وثمانين من السنين دورة الشمس الكبرى‏.‏ فإذا تضاعفت القوى والكيفيات في العلاج كان زمن كونه أقصر من ذلك ضرورة على ما قلناه أو يتحرون بعلاجهم ذلك حصول صورة مزاجية لتلك المادة تصيرها كالخميرة فتفعل في الجسم المعالج الأفاعيل المطلوبة في إحالته وذلك هو الإكسير على ما تقدم‏.‏ واعلم أن كل متكون من المولدات العنصرية فلا بد فيه من اجتماع العناصر الأربعة على نسبة متفاوتة إذ لو كانت متكافئة في النسبة لمأ تم امتزاجها فلا بد من الجزء الغالب على الكل‏.‏ ولا بد في كل ممتزج من المولدات من حرارة غريزية هي الفاعلة لكونه الحافظة لصورته‏.‏ ثم كل متكون في زمان فلا بد من اختلاف أطواره وانتقاله في زمن التكوين من طور إلى طور حتى ينتهي إلى غايته‏.‏ وانظر شأن الإنسان في طور النطفة ثم العلقة ثم المضغة ثم التصوير ثم الجنين ثم المولود ثم الرضيع ثم ثم إلى نهايته‏.‏ ونسب الأجزاء في كل طور تختلف في مقاديرها وكيفياتها وإلا لكان الطور بعينه الأول هو الآخر وكذا الحرارة الغريزية في كل طور مخالفة لها في الطور الآخر‏.‏ فانظر إلى الذهب ما يكون له في معدنه من الأطوار منذ ألف سنة وثمانين وما ينتقل فيه من الأحوال فيحتاج صاحب الكيمياء إلى أن يساوق فعل الطبيعة في المعدن ويحاذيه بتدبيره وعلاجه إلى أن يتم‏.‏ ومن شرط الصناعة أبداً تصور ما يقصد إليه بالصنعة‏.‏ فمن الأمثال السائرة للحكماء‏:‏ أول العمل آخر الفكرة وآخر الفكرة أول العمل‏.‏ فلا بد من تصور هذه الحالات للذهب في أحواله المتعددة ونسبها المتفاوتة في كل طور واختلاف الحار الغريزي عند اختلافها ومقدار الزمان في كل طور وما ينوب عنه من مقدار القوى المضاعفة ويقوم مقامه حتى يحاذي بذلك كله فعل الطبيعة في المعدن أو تعد لبعض المواد صورة مزاجية تكون كصورة الخميرة للخبز وتفعل في هذه المادة بالمناسبة لقواها ومقاديرها‏.‏ وهذه كلها إنما يحصرها العلم المحيط والعلوم البشرية قاصرة عن ذلك‏.‏ وإنما حال من يدعي حصوله على الذهب بهذه الصنعة بمثابة من يدعي بالصنعة تخليق إنسان من المني‏.‏ ونحن إذا سلمنا له الإحاطة بأجزائه ونسبته وأطواره وكيفة تخليقه في رحمه وعلم ذلك علماً محصلاً بتفاصيله حتى لا يشذ منه شيء عن علمه سألنا له تخليق هذا الإنسان وأنى له ذلك‏!‏‏!‏‏.‏ ولنقرب هذا البرهان بالاختصار ليسهل فهمه فنقول‏:‏ حاصل صناعة الكيمياء وما يدعونة بهذا التدبير أنه مساوقة الطبيعة المعدنية بالفعل إلى الصناعي ومحاذاتها به إلى أن يتم كون الجسم المعدني أو تخليق مادة بقوى وأفعال وصورة مزاجية تفعل في الجسم فعلاً طبيعياً فتصيره وتقلبه إلى صورتها‏.‏ والفعل الصناعي مسبوق بتصورات أحوال الطبيعة المعدنية التي يقصد مساوقتها أو محاذاتها أو فعل المادة ذات القوى فيها تصوراً مفصلاً واحدة بعد أخرى‏.‏ وتلك الأحوال لا نهاية لها والعلم البشري عاجز عن الإحاطة بما دونها وهو بمثابة من يقصد تخليق إنسان أو حيوان أو نبات‏.‏ هذا محصل هذا البرهان وهو أوثق ما علمته وليست الاستحالة فيه من جهة الفصول كما رأيته ولا من الطبيعة إنما هو من تعذر الإحاطة وقصور البشر عنها‏.‏ وما ذكره ابن سينا بمعزل عن ذلك وله وجه آخر في الاستحالة من جهة غايته‏.‏ وذلك أن حكمة الله في الحجرين وندورهما أنهما قيم لمكاسب الناس ومتمولاتهم‏.‏ فلو حصل عليهما بالصنعة لبطلت حكمة الله في ذلك وكثر وجودهما حتى لا يحصل أحد من اقتنائهما على شيء‏.‏ وله وجه آخر من الاستحالة أيضاً وهو أن الطبيعة لا تترك أقرب الطرق في أفعالها وترتكب الأعوص والأبعد‏.‏ فلو كان هذا الطريق الصناعي الذي يزعمون أنه صحيح وأنه أقرب من طريق الطبيعة في معدنها وأقل زماناً لما تركته الطبيعة إلى طريقها الذي سلكته في كون الفضة والذهب وتخلقهما‏.‏ وأما تشبيه الطغرائي هذا التدبير بما عثر عليه من مفردات مثاله في الطبيعة كالعقرب والنحل والحية وتخليقها فأمر صحيح في هذه أدى إليه العثور كما زعم‏.‏ وأما الكيمياء فلم ينقل عن أحد من أهل العلم أنه عثر عليها ولا على طريقها وما زال منتحلوها يخبطون فيها خبط عشواء إلى هلم جرا ولا يظفرون إلا بالحكايات الكاذبة‏.‏ ولو صح ذلك لأحد منهم لحفظه عنه أولاده أو تلميذه وأصحابه وتنوقل في الأصدقاء وضمن تصديقه صحة العمل بعده إلى أن ينتشر ويبلغ إلينا أو إلى غيرنا وأما قولهم إن الإكسير بمثابة الخميرة وأنه مركب يحيل ما يحصل فيه ويقلبه إلى ذلك فاعلم أن الخميرة إنما تقلب العجين وتعده للهضم وهو فساد والفساد في المواد سهل يقع بأيسر شيء من الأفعال والطبائع‏.‏ والمطلوب بالإكسير قلب المعدن إلى ما هو أشرف منه وأعلى فهو تكوين وصلاح والتكوين أصعب من الفساد فلا يقاس الإكسير بالخميرة‏.‏ وتحقيق الأمر في ذلك أن الكيمياء إن صح وجودها كما تزعم الحكماء المتكلمون فيها مثل جابر بن حيان ومسلمة بن أحمد المجريطي وأمثالهم فليست من باب الصنائع الطبيعية ولا تتم بأمر صناعي‏.‏ وليس كلامهم فيها من منحى


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:57

الطبيعيات إنما هو من منحى كلامهم في الأمور السحرية وسائر الخوارق وما كان من ذلك للحلاج وغيره وقد ذكر مسلمة في كتاب الغاية ما يشبه ذلك‏.‏ وكلامه فيها في كتاب رتبة الحكيم من هذا المنحى‏.‏ وهذا كلام جابر في رسائله‏.‏ ونحو كلامهم فيه معروف ولا حاجة بنا إلى شرحه‏.‏ وبالجملة فأمرها عندهم من كليات المواد الخارجة عن حكم الصنائع‏.‏ فكما لا يتدبر ما منه الخشب والحيوان في يوم أو شهر خشباً أو حيواناً فيما عدا مجرى تخليقه كذلك لا يتدبر ذهب من مادة الذهب في يوم ولا شهر ولا يتغير طريق عادته إلا بإرفاد مما وراء عالم الطبائع وعمل الصنائع فكذلك من طلب الكيمياء طلباً صناعياً ضيع ماله وعمله‏.‏ ويقال لهذا التدبير الصناعي التدبير العقيم لأن نيله إن كان صحيحاً فهو واقع مما وراء الطبائع والصنائع فهو كالمشي على الماء وامتطاء الهواء والنفوذ في كثائف الأجساد ونحو ذلك من كرامات الأولياء الخارقة للعادة أو مثل تخليق الطير ونحوها من معجزات الأنبياء‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏"‏ وإذ تخلق من الطين كهيئة الطير بإذني فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني.‏ وعلى ذلك فسبيل تيسيرها مختلف بحسب حال من يؤتاها‏.‏ فربما أوتيها الصالح ويؤتيها غيره فتكون عنده معارة‏.‏ وربما أوتيها الصالح ولا يملك إيتاءها فلا تتم في يد غيره‏.‏ ومن هذا الباب يكون عملها سحرياً فقد تبين أنها إنما تقغ بتأثير النفوس وخوارق العادة إما معجزة أو كرامة أو سحراً‏.‏ ولهذا كان كلام الحكماء كلهم فيها ألغازاً لا يظفر بحقيقته إلا من خاض لجة من علم السحر واطلع على تصرفات النفس في عالم الطبيعة‏.‏ وأمور خرق العادة غير منحصرة ولا يقصد أحد إلى تحصيلها‏.‏ والله بما يعملون محيط‏.‏ وأكثر ما يحمل على التماس هذه الصناعة وانتحالها هو كما قلناه العجز عن الطرق الطبيعية للمعاش وابتغاؤه من غير وجوهه الطبيعية كالفلاحة والتجارة والصناعة فيستصحب العاجز ابتغاءه من هذه ويروم الحصول على الكثير من المال دفعة بوجوه غير طبيعية من الكيمياء وغيرها‏.‏ وأكثر من يعنى بذلك الفقراء من أهل العمران‏.‏ وللناس أقوال كثيرة - حتى في الحكماء المتكلمين في إنكارها واستحالتها‏.‏ فإن ابن سينا القائل باستحالتها كان علية الوزراء فكان من أهل الغنى والثروة والفارابي القائل بإمكانها كان من أهل الفقر الذين يعوزهم أدنى بلغة من المعاش وأسبابه‏.‏ وهذه تهمة ظاهرة في أنظار النفرس المولعة بطرقها وانتحالها‏.‏ والله الرزاق


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 15:59 عدل 1 مرات
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 15:58

الفصل الرابع والثلاثون في أن كثرة التآليف في العلوم
عائقة عن التحصيل اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها ثم مطالبة المتعلم والتلميذ باستحضار ذلك‏.‏ وحينئذ يسلم له منصب التحصيل فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها‏.‏ ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل‏.‏ ويمثل ذلك من شأن الفقه في المذهب المالكي بالكتب المدونة مثلاً وما كتب عليها من الشروحات الفقهية مثل كتاب ابن يونس واللخمي وابن بشير والتنبيهات والمقدمات والبيان والتحصيل على العتبية وكذلك كتاب ابن الحاجب وما كتب عليه‏.‏ ثم إنه يحتاج إلى تمييز الطريقة القيروانية من القرطبية والبغدادية والمصرية وطرق المتأخرين عنهم والإحاطة بذلك كله وحينئذ يسلم له منصب الفتيا وهي كلها متكررة والمعنى واحد‏.‏ والمتعلم مطالب باستحضار جميعها وتمييز ما بينها والعمر ينقضي في واحد منها‏.‏ ولو اقتصر المعلمون بالمتعلمين على المسائل المذهبية فقط لكان الأمر دون ذلك بكثير وكان التعليم سهلاً ومأخذه قريباً ولكنه داء لا يرتفع لاستقرار العوائد عليه فصارت كالطبيعة التي لا يمكن نقلها ولا تحويلها‏.‏ ويمثل أيضاً علم العربية من كتاب سيبويه وجميع ما كتب عليه وطرق البصريين والكوفيين والبغداديين والأندلسيين من بعدهم وطرق المتقدمين والمتأخرين مثل ابن الحاجب وابن مالك وجميع ما كتب في ذلك‏.‏ وكيف يطالب به المتعلم وينقضي عمره دونه ولا يطمع أحد في الغاية منه إلا في القليل النادر مثل ما وصل إلينا بالمغرب لهذا العهد من تآليف رجل من أهل صناعة العربية من أهل مصر يعرف بابن هشام ظهر من كلامه فيها أنه استولى على غاية من ملكة تلك الصناعة لم تحصل إلا لسيبويه وابن جني وأهل طبقتهما لعظم ملكته وما أحاط به من أصول ذلك الفن وتفاريعه وحسن تصرفه فيه‏.‏ ودل ذلك على أن الفضل ليس منحصراً في المتقدمين سيما مع ما قدمناه من كثرة الشواغب بتعدد المذاهب والطرق والتآليف ولكن فضل الله يؤتيه من يشاء‏.‏ وهذا نادر من نوادر الوجود وإلا فالظاهر أن المتعلم ولو قطع عمره في هذا كله فلا يفي له بتحصيل علم العربية مثلاً الذي هو آلة من الآلات ووسيلة فكيف يكون في المقصود الذي هو الثمرة ولكن الله يهدي من يشاء‏.‏ في المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف وإلغاء ما سواها اعلم أن العلوم البشرية خزانتها النفس الإنسانية بما جعل الله فيها من الإدراك الذي يفيدها ذلك الفكر المحصل لها ذلك بالتصور للحقائق أولاً ثم بإثبات العوارض الذاتية لها أو نفيها عنها ثانياً إما بغير وسط أو بوسط حتى يستنتج الفكر بذلك مطالبه التي يعني بإثباتها أو نفيها‏.‏ فإذا استقرت من ذلك صورة علمية في الضمير فلا بد من بيانها لآخر‏:‏ إما على وجه التعليم أو على وجه المفاوضة تصقل الأفكار في تصحيحها‏.‏ وذلك البيان إنما يكون بالعبارة وهي الكلام المركب من الألفاظ النطقية التي خلقها الله في عضو اللسان مركبة من الحروف وهي كيفيات الأصوات المقطعة بعضلة اللهاة واللسان ليتبين بها ضمائر المتكلمين بعضهم لبعض في مخاطباتهم وهذه رتبة أولى في البيان عما في الضمائر وإن كان معظمها وأشرفها العلوم فهي شاملة لكل ما يندرج في الضمير من خبر أو إنشاء على العموم‏.‏ وبعد هذه الرتبة الأولى من البيان رتبة ثانية يؤدي بها ما في الضمير لمن توارى أو غاب شخصه وبعد أو لمن يأتي بعد ولم يعاصره ولا لقيه‏.‏ وهذا البيان منحصر في الكتابة وهي رقوم باليد تدل أشكالها وصورها بالتواضع على الألفاظ النطقية حروفاً بحروف وكلمات بكلمات فصار البيان فيها على ما في الضمير بواسطة الكلام المنطقي فلهذا كانت في الرتبة الثانية واحداة فسمي هذا البيان‏.‏ يدل على ما في الضمائر من العلوم والمعارف فهو أشرفها‏.‏ وأهل الفنون معتنون بإيداع ما يحصل في ضمائرهم من ذلك في بطون الأوراق بهذه الكتابة لتعلم الفائدة في حصوله للغائب والمتأخر وهؤلاء هم المؤلفون‏.‏ والتآليف بين العوالم البشرية والأمم الإنسانية كثير ومنتقلة في الأجيال والأعصار وتختلف باختلاف الشرائع والملل والأجيال عن الأمم والدول‏.‏ وأما العلوم الفلسفية فلا اختلاف فيها لأنها إنما تأتي على نهج واحد فيما تقتضيه الطبيعة الفكرية في تصور الموجودات على ما هي عليه جسمانيها وروحانيها وفلكيها وعنصريها ومجردها ومادتها‏.‏ فإن هذه العلوم لا تختلف وإنما يقع الاختلاف في العلوم الشرعية لاختلاف الملل أو التاريخية لاختلاف خارج الخبر‏.‏ ثم الكتابة مختلفة باصطلاحات البشر في رسومها وأشكالها ويسمى ذلك قلماً وخطاً‏.‏ فمنها الخط الحميري ويسمى المسند وهو كتابة حمير وأهل اليمن الأقدمين وهو يخالف كتابة العرب المتأخرين من مضر كما يخالف لغتهم‏.‏ وإن الكل عربياً‏.‏ إلا أن ملكة هؤلاء في اللسان والعبارة غير ملكة أولئك‏.‏ ولكل منهما قوانين كلية مستقراة من عبارتهم غير قوانين الآخرين‏.‏ وربما يغلط في ذلك من لا يعرف ملكات العبارة‏.‏ ومنها الخط السرياني وهو كتابة النبط والكلدانيين‏.‏ وربما يزعم بعض أهل الجهل أنه الخط الطبيعي لقدمه فإنهم كانوا أقدم الأمم وهذا وهم ومذهب عامي‏.‏ لأن الأفعال الاختيارية كلها ليس شيء منها بالطبع وإنما هو يستمر بالقدم والمران حتى يصير ملكة راسخة فيظنها المشاهد طبيعية كما هو رأي كثيرمن البلداء في اللغة العربية فيقولون‏:‏ العرب كانت تعرب بالطبع وتنطق بالطبع وهذا وهم‏.‏ ومنها الخط العبراني الذي هو كتابة بني عابر بن شالح من بني إسرائيل وغيرهم‏.‏ ومنها الخط اللطيني خط اللطينيين من الروم ولهم أيضاً لسان مختص بهم‏.‏ ولكل أمة من الأمم اصطلاح في الكتاب يعزى إليها ويختص بها‏.‏ مثل الترك والفرنج والهنود وغيرهم‏.‏ وإنما وقعت العناية بالأقلام الثلاثة الأولى‏.‏ أما السرياني فلقدمه كما ذكرنا وأما العربي والعبري فلتنزل القرآن والتوراة بهما بلسانهما‏.‏ وكان هذان الخطان بياناً لمتلوهما فوقعت العناية بمنظومهما أولاً وانبسطت قوانين لاطراد العبارة في تلك اللغة على أسلوبها لتفهم الشرائع التكليفية من ذلك الكلام الرباني‏.‏ وأما اللطيني فكان الروم وهم أهل ذلك اللسان لما أخذوا بدين النصرانية وهو كله من التوراة كما سبق في أول الكتاب ترجموا التوراة وكتب الأنبياء الإسرائيليين إلى لغتهم ليقتنصوا منها الأحكام على أسهل الطرق‏.‏ وصارت عنايتهم بلغتهم وكتابتهم آكد من سواها‏.‏ وأما الخطوط الأخرى فلم تقع بها عناية وإنما هي لكل أمة بحسب اصطلاحها‏.‏ ثم إن الناس حصروا مقاصد التأليف التي ينبغي أولها استنباط العلم بموضرعه وتقسيم أبوابه وفصوله وتتبع مسائله أو استنباط مسائل ومباحث تعرض للعالم المحقق ويحرص على إيصاله بغيره لتعم المنفعة به فيودع ذلك بالكتاب في المصحف لعل المتأخر يظهر على تلك الفائدة كما وقع في الأصول في الفقه‏.‏ تكلم الشافعي أولاً في الأدلة الشرعية اللفظية ولخصها ثم جاء الحنفية فاستنبطوا مسائل القياس واستوعبوها وانتفع بذلك من بعدهم إلى الآن‏.‏ وثانيها‏:‏ أن يقف على كلام الأولين وتآليفهم فيجدها مستغلقة على الأفهام ويفتح الله له في فهمها فيحرص على إبانة ذلك لغيره ممن عساه يستغلق عليه لتصل الفائدة لمستحقها‏.‏ وهذه طريقة البيان لكتب المعقول والمنقول وهو فصل شريف‏.‏ وثالثها‏:‏ أن يعثر المتأخر على غلط اوخطإ في كلام المتقدمين ممن اشتهر فضله وبعد في الإفادة صيته ويستوثق في ذلك بالبرهان الواضح الذي لا مدخل للشك فيه فيحرص على إيصال ذلك لمن بعده إذ قد تعذر محوه ونزعه بانتشار التأليف في الآفاق والأعصار وشهرة المؤلف ووثوق الناس بمعارفه فيودع ذلك الكتاب ليقف على بيان ذلك‏.‏ ورابعها‏:‏ أن يكون الفن الواحد قد نقصت منه مسائل أو فصول بحسب انقسام موضوعه فيقصد المطلع على ذلك أن يتمم ما نقص من تلك المسائل ليكمل الفن بكمال مسائله وفصوله وخامسها‏:‏ أن يكون مسائل العلم قد وقعت غير مرتبة في أبوابها ولا منتظمة فيقصد المطلع على ذلك أن يرتبها ويهذبها ويجعل كل مسألة في بابها كما وقع في المدونة من رواية سحنون عن ابن القاسم وفي العتبية من رواية العتبي عن أصحاب مالك فإن مسائل كثيرة من أبواب الفقه منها قد وقعت في غير بابها فهذب ابن أبي زيد المدونة وبقيت العتبية غير مهذبة‏.‏ فنجد في كل باب مسائل من غيره‏.‏ واستغنوا بالمدونة وما فعله ابن أبي زيد فيها والبرادعي من بعده‏.‏ وسادسها‏:‏ أن تكون مسائل العلم مفرقة في أبوابها من علوم أخرى فيتنبه بعض ا لفضلاء إلى موضوع ذلك الفن وجميع مسائله فيفعل ذلك ويظهر به فن ينظمه في جملة العلوم التي ينتحلها البشر بأفكارهم كما وقع في علم البيان‏.‏ فإن عبد القاهر الجرجاني وأبا يوسف السكاكي وجدا مسائله مستقرية في كتب النحو وقد جمع منها الجاحظ في كتاب البيان والتبيين مسائل كثيرة تننه الناس فيها لموضوع ذلك العلم وانفراده عن سائر العلوم فكتبت في ذلك تآليفهم المشهورة وصارت أصولاً لفن البيان ولقنها المتأخرون فأربوا فيها على كل متقدم‏.‏ وسابعها‏:‏ أن يكون الشيء من التآليف التي هي أمهات للفنون مطولاً مسهباً فيقصد بالتأليف تلخيص ذلك بالاختصار والإيجاز وحذف المتكرر إن وقع مع الحذر من حذف الضروري لئلا يخل بمقصد المؤلف الأول‏.‏ فهذه جماع المقاصد التي ينبغي اعتمادها بالتأليف ومراعاتها‏.‏ وما سوى ذلك ففعل غير محتاج إليه وخطأ عن الجادة التي يتعيين سلوكها في نظر العقلاء مثل انتحال ما تقدم لغيره من التآليف أن ينسبه إلى نفسه ببعض تلبيس من تبديل الألفاظ وتقديم المتأخر وعكسه أو يحذف ما يحتاج إليه في الفن أو يأتي بما لا يحتاج إليه أو يبدل الصواب بالخطأ أو يأتي بما لا فائدة فيه‏.‏ فهذا شأن الجهل والقحة‏.‏ ولذا قال أرسطو لما عدد هذه المقاصد وانتهى إلى آخرها فقال‏:‏ وما سوى ذلك ففصل أو شره يعني بذلك الجهل والقحة‏.‏ نعوذ بالله من العمل في ما لا ينبغي للعاقل سلوكه‏.‏ والله يهدي للتي هي أقوم‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:00

الفصل السادس والثلاثون في أن كثرة الاختصارات
الموضوعة في العلوم مخلة بالتعليم ذهب كثير من المتأخرين إلى اختصار الطرق والانحاء في العلوم يولعون بها ويدونون منها برنامجاً مختصراً في كل علم يشتمل على حصرمسأئله وأدلتها باختصار في الألفاظ وحشو القليل منها بالمعاني الكثيرة من ذلك الفن‏.‏ فصار ذلك مخلاً بالبلاغة وعسيراً على الفهم‏.‏ وربما عمدوا إلى الكتب الأمهات المطولة في الفنون للتفسير والبيان فاختصروها تقريباً للحفظ كما فعله ابن الحاجب في الفقه وأصول الفقه وابن مالك في العربية والخونجي في المنطق وأمثالهم‏.‏ وهو فساد في التعليم وفيه إخلال بالتحصيل وذلك لأن فيه تخليطاً على المبتدىء بإلقاء الغايات من العلم عليه وهو لم يستعد لقبولها بعد وهو من سوء التعليم كما سيأتي‏.‏ ثم فيه مع ذلك شغل كبير على المتعل بتتمع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليها وصعوبة استخراج المسائل من بينها‏.‏ لأن ألفاظ المختصرات نجدها لأجل ذلك صعبة عويصة فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ثم بعد ذلك كله فالملكة الحاصلة من التعليم في تلك المختصرات إذا تم على سداده ولم تعقبه آفة فهي ملكة قاصرة عن الملكات التي تحصل من الموضوعات البسيطة المطولة لكثرة مايقع في تلك من التكرار والإحالة المفيدين لحصول الملكة التامة‏.‏ وإذا اقتصر على التكرار قصرت الملكة لقلته كشأن هذه الموضوعات المختصرة فقصدوا إلى تسهيل الحفظ على المتعلمين فأركبوهم صعباً يقطعهم عن تحصيل الملكات النافعة وتمكنها‏.‏ ‏"‏ ومن يهدي الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له ‏"‏‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:00

الفصل السابع والثلاثون وطريق إفادته
اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً وقليلاً قليلاً يلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب‏.‏ ويقرب له في شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يورد عليه حتى ينتهي إلي آخر الفن وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة‏.‏ وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله‏.‏ ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ويستوفى الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته‏.‏ ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصاً ولا مبهماً ولا منغلقاً إلا وضحه وفتح له مقفله فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته‏.‏ هذا وجه التعليم المفيد وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاث تكرارات‏.‏ وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك بحسب ما يخلق له ويتيسر عليه‏.‏ وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفاداته ويحضرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ويحسبون ذلك مراناً على التعليم وصواباً فيه ويكلفونه رعي ذلك وتحصيله فيخلطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها وقبل أن يستعد لفهمها فإن قبول العلم والاستعدادات لفهمه تنشأ تدريجاً‏.‏ ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل وعلى سبيل التقريب والإجمال وبالأمثال الحسية‏.‏ ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالطة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه والانتقال فيها من التقريب إلى الاستيعاب الذي فوقه حتى تتم الملكة في الاستعداد ثم في التحصيل ويحيط هو بمسائل الفن‏.‏ وإذا ألقيت عليه الغايات في البدايات وهوحينئذ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كل ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله وتمادى في هجرانه‏.‏ وإنما أتى ذلك من سوء التعليم‏.‏ ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكب على التعليم منه بحسب طاقته وعلى نسبة قبوله للتعليم مبتدئاً كان أو منتهياً ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره ويحصل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره‏.‏ لأن المتعلم إذا حصل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق حتى يستولي على غايات العلم وإذا خلط عليه الأمر عجزعن الفهم وأدركه الكلال وانطمس فكره ويئس من التحصيل وهجر العلم والتعليم‏.‏ والله يهدي من يشاء‏.‏ وكذلك ينبغي لك أن لا تطول على المتعلم في الفن الواحد والكتاب الواحد بتقطيع المجالس وتفريق ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض فيعسر حصول الملكة بتفريقها‏.‏ وإذا كانت أوائل العلم وأواخره حاضرة عند الفكرة مجانبة للنسيان كانت الملكة أيسر حصولاً وأحكم ارتباطا وأقرب صبغة لأن الملكات إنما تحصل بتتابع الفعل وتكراره وإذا تنوسي الفعل توسيت الملكة الناشئة عنه‏.‏ والله علمكم ما لم تكونوا تعلمون‏.‏ ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم أن لا يخلط على المتعلم علمان معاً فإنه حينئذ قل أن يظفر بواحد منهما لما فيه من تقسيم البال وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً ويستصعبان ويعود منهما بالخيبة‏.‏ وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه فربما كان ذلك أجدر بتحصيله‏.‏ والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب‏.‏ الفكر الإنساني واعلم أيها المتعلم أني أتحفك بفائدة في تعلمك فإن تلفيتها بالقبول وأمسكتها بيد الصناعة ظفرت بكنز عظيم وذخيرة شريفة‏.‏ وأقدم لك مقدمة تعينك في فهمها وذلك أن الفكر الإنساني طبيعة مخصوصة فطرها الله كما فطر سائر مبتدعاته وهو وجدان حركة للنفس في البطن الأوسط من الماغ‏.‏ تارة يكون مبدءاً للأفعال الإنسانية على نظام وترتيب وتارة يكون مبدءاً لعلم ما لم يكن حاصلاً بأن يتوجه إلى المطلوب‏.‏ وقد يصور طرفيه ويروم نفيه أو إثباته فيلوح له الوسط الذي يجمع بينهما أسرع من لمح البصر إن كان واحداً‏.‏ وينتقل إلى تحصيل وسط آخر إن كان متعدداً ويصير إلى الظفر بمطلوبه‏.‏ هذا شأن هذه الطبيعة الفكرية التي تميز بها البشرمن بين سائر الحيوانات‏.‏ ثم الصناعة المنطقية هي كيفية فعل هذه الطيعة الفكرية النظرية تصفه ليعلم سداده من خطئه‏.‏ لأنها وإن كان الصواب لها ذاتياً إلا أنه قد يعرض لها الخطأ في الأقل من تصور الطرفين على غير صورتهما ومن اشتباه الهيئات في نظم القضايا وترتيبها للنتائج فتعين المنطق على التخلص من ورطة هذا الفساد إذا عرض‏.‏ فالمنطق إذا مر صناعي مساوق للطبيعة الفكرية ومنطبق على صورة فعلها ولكونه أمراً صناعياً استغني عنه في الأكثر‏.‏ ولذلك تجد كثيراً من فحول النظار في الخليقة يحصلون على المطالب في العلوم دون صناعة علم المنطق ولا سيما مع صدق النية والتعرض لرحمة الله تعالى فإن ذلك أعظم معنى‏.‏ ويسلكون بالطبيعة الفكرية على سدادها فتفضي بهم لطبع إلى حصول الوسط والعلم بالمطلوب كما فطرها الله عليه‏.‏ ثم من دون هذا الأمر الصناعي الذي هو المنطق مقدمة أخرى من التعليم وهي معرفة الألفاظ ودلالتها على المعاني الذهنية تردها من مشافهة الرسوم بالكتاب ومشافهة اللسان فأولاً‏:‏ دلالة الكتابة المرسومة على الألفاظ المقولة وهي أخفها ثم دلالة الألفاظ المقولة على المعاني المطلوبة ثم القوانين في ترتيب المعاني للاستدلال في قوالبها المعروفة في صناضة المنطق ثم تلك المعاني مجردة في الفكر اشتراكاً يقتنص بها المطلوب بالطبيعة الفكرية بالتعرض لرحمة الله ومواهبه‏.‏ وليس كل أحد يتجاوز هذه للمراتب بسرعة ولا يقطع هذه الحجب في التعليم بسهولة بل ربما وقف الذهن في حجب الألفاظ بالمناقشات أو عثر في اشتراك الأدلة بشغب الجدال والشبهات فقعد عن تحصيل المطلوب‏.‏ ولم يكد يتخلص من تلك الغمرة إلا قليلاً ممن هداه الله‏.‏ فإذا ابتليت بمثل ذلك وعرض لك ارتباك في فهمك أوتشغيب بالشبهات في ذهنك فاطرح ذلك وانتبذ حجب الألفاظ وعوائق الشبهات واترك الأمر الصناعي جملة واخلص إلى فضاء الفكر الطبيعي الذي فطرت عليه‏.‏ وسرح نظرك فيه وفرغ ذهنك فيه للغوص على مرامك منه واضعاً قدمك حيث وضعها أكابر النظار قبلك متعرضاً للفتح من الله كما فتح عليهم من رحمته وعلمهم ما لم يكونوا يعلمون‏.‏ فإذا فعلت ذلك أشرقت عليك أنوار الفتح من الله بالظفر بمطلوبك وحصل الإمام الوسط الذي جعله الله من مقتضيات هذا الفكر وفطرك عليه كما قلناه‏.‏ وحينئذ فارجع به إلى قوالب الأدلة وصورها فأفرغه فيها ووفه حقه من القانون الصناعي ثم اكسه صور الألفاظ وأبرزه إلى عالم الخطاب والمشافهة وثيق العرى صحيح البنيان‏.‏ وأما إن وقفت عند المناقشة في الألفاظ والشبهة في الأدلة الصناعية وتمحيص صوابها من خطئها وهذه أمور صناعية وضعية تستوي جهاتها المتعددة وتتشابه لأجل الوضع والاصطلاح فلا تتميز جهة الحق منها إذ جهة الحق إنما تستبين إذا كانت بالطبع فيستمر ما حصل من الشك والارتياب وتسدل الحجب على المطلوب وتقعد بالناظر عن تحصيله‏.‏ وهذا شأن الأكثر من النظار والمتأخرين سيما من سبقت له عجمة في لسانه فربطت على ذهنه أو من حصل له شغف بالقانون المنطقي وتعصب له فاعتقد أنه الذريعة إلى إدراك الحق بالطبع فيقع في الحيرة بين شبه الأدلة وشكوكها ولا يكاد يخلص منها‏.‏ والذريعة إلى إدرك الحق بالطبع إنما هو الفكر الطبيعي كما قلناه إذا جرد عن جميع الأوهام وتعرض الناظر فيه إلى رحمة الله تعالى‏.‏ وأما المنطق فإنما هو واصف لفعل هذا الفكر فيساوقه لذلك في الأكثر‏.‏ فاعتبر ذلك واستمطر رحمة الله تعالى متى أعوزك فهم المسائل تشرق عليك أنواره بالإلهام إلى الصواب‏.‏ واللة الهادي إلى رحمته وما العلم إلا من عند الله‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:01

الفصل الثامن والثلاثون
اعلم أن العلوم المتعارفة بين أهل العمران على صنفين‏:‏ علوم مقصودة بالذات كالشرعيات من التفسير والحديث والفقه وعلم الكلام وكالطبيعيات والإلهيات من الفلسفة وعلوم هي آلة ووسيلة لهذه العلوم كالعربية والحساب وغيرهما للشرعيات وكالمنطق للفلسفة‏.‏ وربما كان آلة لعلم الكلام وأصول الفقه على طريقة المتأخرين‏.‏ فأما العلوم التي هي مقاصد فلا حرج في توسعة الكلام فيها وتفريع المسائل واستكشاف الأدلة والأنظار فإن ذلك يزيد طالبها تمكناً في ملكته وإيضاحاً لمعانيها المقصودة‏.‏ وأما العلوم التي هي آلة لغيرها مثل العربية والمنطق وأمثالهما فلا ينبغي أن ينظر فيها إلا من حيث هي آلة لذلك الغير فقط‏.‏ ولا يوسع فيها الكلام ولا تفرع المسائل لأن ذلك يخرج بها عن المقصود إذ المقصود منها ما هي آلة له لا غير‏.‏ فكلما خرجت عن ذلك خرجت عن المقصود وصار الاشتغال بها لغواً مع ما فيه من صعوبة الحصول على ملكتها بطولها وكثرة فروعها‏.‏ وربما يكون ذلك عائقاً عن تحصيل العلوم المقصودة بالذات لطول وسائلها مع أن شأنها أهم والعمر يقصر عن تحصيل الجميع على هذه الصورة فيكون الاشتغال بهذه العلوم الآلية تضييعاً للعمر وشغلاً بما لا يغني‏.‏ وهذا كما فعله المتأخرون في صناعة النحو وصناعة المنطق لا بل وأصول الفقه لأنهم أوسعوا دائرة الكلام فيها نقلاً واستدلالاً وأكثروا من التفاريع والمسائل بما أخرجها عن كونها آلة وصيرها مقصودة بذاتها‏.‏ وربما يقع فيها لذلك أنظار ومسائل لا حاجة بها في العلوم المقصودة بالذات فتكون لأجل ذلك من نوع اللغو وهي أيضاً مضرة بالمتعلمين على الإطلاق لأن المتعلمين اهتمامهم بالعلوم المقصودة أكثر من اهتمامهم بهذه الآلات والوسائل‏.‏ فإذا قطعوا العمر في تحصيل الوسائل فمتى يظفرون بالمقاصد فلهذا يجب على المعلمين لهذه العلوم الآلية أن لا يستبحروا في شأنها ولا يستكثروا من مسائلها وينبهوا المتعلم على الغرض منها ويقفوا به عنده‏.‏ فمن نزعت به همته بعد ذلك إلى شيء من التوغل ورأى من نفسه قياماً بذلك وكفاية به فليختر لنفسه ما شاء من المراقي صعباً أو سهلاً‏.‏ وكل ميسر لما خلق له‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:01

الفصل التاسع والثلاثون في تعليم الولدان واختلاف مذاهب الأمصار الإسلامية في طرقه
اعلم أن تعليم الولدان للقرآن شعار من شعائر الدين أخذ به أهل الملة ودرجوا عليه في جميع أمصارهم لما يسبق فيه إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده من آيات القرآن وبعض متون الأحاديث‏.‏ وصار القرآن أصل التعليم الذي ينبني عليه ما يحصل بعده من الملكات‏.‏ وسبب ذلك أن تعليم الصغر أشد رسوخاً وهو أصل لما بعده لأن السابق الأول للقلوب كالأساس للملكات‏.‏ وعلى حسب الأساس وأساليبه يكون حال ما ينبني عليه‏.‏ واختلفت طرقهم في تعليم القرآن للولدان باختلافهم باعتبار ما ينشأ عن ذلك التعليم من الملكات‏.‏ فأما أهل المغرب فمذهبهم في الولدان الاقتصار على تعليم القرآن فقط وأخذهم أثناء المدارسة بالرسم ومسائله واختلاف حملة القرآن فيه لا يخلطون ذلك بسواه في شيء من مجالس تعليمهم لا من حديث ولا من فقه ولا من شعر ولا من كلام العرب إلى أن يحذق فيه أو ينقطع دونه فيكون انقطاعه في الغالب انقطاعاً عن العلم بالجملة‏.‏ وهذا مذهب أهل الأمصار بالمغرب ومن تبعهم من قرى البربر أمم المغرب في ولدانهم إلى أن يجاوزوا حد البلوغ إلى الشبيبة‏.‏ وكذا في الكبير إذا راجع مدارسة القرآن بعد طائفة من عمره‏.‏ فهم لذلك أقوم على رسم القرآن وحفظه من سواهم‏.‏ وأما أهل الأندلس فمذهبهم تعليم القرآن والكتاب من حيث هو وهذا هو الذي يراعونه في التعليم‏.‏ إلا أنه لما كان القرآن أصل ذلك وأسه ومنبع الدين والعلوم جعلوه أصلاً في التعليم‏.‏ فلا يقتصرون لذلك عليه فقط بل يخلطون في تعليمهم للولدان رواية الشعر في الغالب والترسل وأخذهم بقوانين العربية وحفظها وتجويد الخط والكتاب‏.‏ ولا تختص عنايتهم في التعليم بالقرآن دون هذه بل عنايتهم فيه بالخط أكثر من جميعها إلى أن يخرج الولد من عمر البلوغ إلى الشبيبة وقد شدا بعض الشيء في العربية والشعر والبصر بهما وبرز في الخط والكتاب وتعلق بأذيال العلم على الجملة لو كان فيها سند لتعليم العلوم‏.‏ لكنهم ينقطعون عند ذلك لانقطاع سند التعليم في آفاقهم ولا يحصل بأيديهم إلا ما حصل من ذلك التعليم الأول‏.‏ وفيه كفاية لمن أرشده الله تعالى واستعداد إذا وجد المعلم‏.‏ وأما أهل إفريقية فيخلطون في تعليمهم للولدان القرآن بالحديث في الغالب ومدارسة قوانين العلوم وتلقين بعض مسائلها إلا أن عنايتهم بالقرآن واستظهار الولدان إياه ووقوفهم على اختلاف رواياته وقراءاته أكثر مما سواه وعنايتهم بالخط تبع لذلك‏.‏ وبالجملة فطريقتهم في تعليم القرآن أقرب إلى طريقة أهل الأندلس لأن سند طريقتهم في ذلك متصل بمشيخة الأندلس الذين أجازوا عند تغلب النصارى على شرق الأندلس واستقروا بتونس وعنهم أخذ ولدانهم بعد ذلك‏.‏ وأما أهل المشرق فيخلطون في التعليم كذلك على ما يبلغنا ولا أدري بم عنايتهم منها‏.‏ والذي ينقل لنا أن عنايتهم بدراسة القرآن وصحف العلم وقوانينه في زمن الشبيبة ولا يخلطونه بتعليم الخط بل لتعليم الخط عندهم قانون ومعلمون له على انفراده كما تعلم سائر الصنائع ولا يتداولونها في مكاتب الصبيان‏.‏ وإذا كتبوا لهم الألواح فبخط قاصر عن الإجادة ومن أراد تعلم الخط فعلى قدر ما يسنح له بعد ذلك من الهمة في طلبه ويبتغيه من أهل صنعته‏.‏ فأما أهل إفريقية والمغرب فأفادهم الاقتصار على القرآن القصور عن ملكة اللسان جملة وذلك أن القرآن لا ينشأ عنه في الغالب ملكة لما أن البشر مصروفون عن الإتيان بمثله فهم مصروفون لذلك عن الاستعمال على أساليبه والاحتذاء بها‏.‏ وليس لهم ملكة في غير أساليبه فلا يحصل لصاحبه ملكة فى اللسان العربي وحظه الجمود في العبارات وقلة التصرف في الكلام وربما كان أهل إفريقية في ذلك أخف من أهل المغرب لما يخلطون في تعليمهم القرآن بعبارات العلوم في قوانينها كما قلناه فيقتدرون على شيء من التصرف ومحاذاة المثل بالمثل إلا أن ملكتهم في ذلك قاصرة عن البلاغة لما أن أكثر محفوظهم عبارات العلوم النازلة عن البلاغة كما سيأتي في فصله‏.‏ وأما أهل الأندلس فأفادهم التفنن في التعليم وكثرة رواية الشعر والترسل وممارسة العربية من أول العمر حصول ملكة صاروا بها أعرف في اللسان العربي‏.‏ وقصروا في سائر العلوم لبعدهم عن مدارسة القرآن والحديث الذي هو أصل العلوم وأساسها‏.‏ فكانوا لذلك أهل خط وأدب بارع أو مقصر على حسب ما يكون التعليم الثاني من بعد تعليم الصبا‏.‏ ولقد ذهب القاضي أبو بكر بن العربي في كتاب رحلته إلى طريقة غريبة في وجه التعليم وأعاد في ذلك وأبدأ وقدم تعليم العربية والشعر على سائر العلوم كما هو مذهب أهل الأندلس‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ لأن الشعر ديوان العرب ويدعو إلى تقديمه وتقديم العربية في التعليم ضرورة فساداً للغة ثم ينتقل منه إلى الحساب فيتمرن فيه حتى يرى القوانين ثم ينتقل إلى درس القرآن فإنه يتيسر عليه بهذه المقدمة ‏"‏ ثم قال‏:‏ ‏"‏ ويا غفلة أهل بلادنا في أن يؤخذ الصبي بكتاب الله في أول عمره يقرأ ما لا يفهم وينصب في أمر غيره أهم عليه منه ‏"‏‏.‏ قال‏:‏ ‏"‏ ثم ينظر في أصول الدين ثم أصول الفقه ثم الجدل ثم الحديث وعلومه ‏"‏‏.‏ ونهى مع ذلك أن يخلط في التعليم علمان إلا أن يكون المتعلم قابلاً لذلك بجودة الفهم والنشاط‏.‏ هذا ما أشار إليه القاضي أبو بكر رحمه الله وهو لعمري مذهب حسن إلا أن العوائد لا تساعد عليه وهي أملك بالأحوال ووجه ما اختصت به العوائد من تقديم دراسة القرآن إيثاراً للتبرك أو الثواب وخشية ما يعرض للولد في جنون الصبا من الآفات والقواطع عن العلم فيفوته القرآن لأنه ما دام في الحجر منقاد للحكم‏.‏ فإذا تجاوز البلوغ وانحل من ربقة القهر فربما عصفت به رياح الشبيبة فألقته بساحل البطالة فيغتنمون في زمان الحجر وربقة الحكم تحصيل القرآن له لئلا يذهب خلواً منه‏.‏ ولو حصل اليقين باستمراره في طلب العلم وقبوله التعليم لكان هذا المذهب الذي ذكره القاضي أولى ما أخذ


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:02

الفصل الأربعون في أن الشدة على المتعلمين مضرة بهم
وذلك أن إرهاف الحد في التعليم مضمر بالمتعلم سيما في أصاغر الولد لأنه من سوء الملكة‏.‏ ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلميبن أو المماليك أو الخدم سطا به القهر وضيق على النفس في انبساطها وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث وهو التظاهر بغير ما في ضميره خوفاً من انبساط الأيدي بالقهر عليه وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له هذه عادة وخلقاً وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن وهي الحمية والمدافعة عن نفسه أو منزله‏.‏ وصار عيالاً على غيره في ذلك بل وكسلت النفس عن اكتساب الفضائل والخلق الجميل فانقبضت عن غايتها ومدى انسانيتها فارتكس وعاد في أسفل السافلين‏.‏ وهكذا وقع لكل أمة حصلت في قبضة القهر ونال منها العسف واعتبره في كل من يملك أمرة عليه‏.‏ ولا تكون الملكة الكافلة له رفيقة به‏.‏ وتجد ذلك فيهم استقراء‏.‏ وانظره في اليهود وما حصل بذلك فيهم من خلق السوء حتى إنهم يوصفون في كل أفق وعصر بالخرج ومعناه في الاصطلاح المشهور التخابث والكيد وسببه ما قلناه‏.‏ فينبغي للمعلم في متعلمه والوالد في ولده أن لا يستبدوا عليهم في التأديب‏.‏ وقد قال محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين‏:‏ ‏"‏ لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة أسواط شيئاً ‏"‏‏.‏ ومن كلام عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏"‏ من لم يؤدبه الشرع لا أدبه الله ‏"‏‏.‏ حرصاً على صون النفوس عن مذلة التأديب وعلماً بأن المقدار الذي عينه الشرع لذلك أملك له فإنه أعلم بمصلحته‏.‏ ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده‏.‏ قال خلف الأحمر‏:‏ بعث إلي الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال‏:‏ ‏"‏ يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين‏.‏ أقرئه القرآن وعلمه الأخبار وروه الأشعار وعلمه السنن وبصره بمواقع الكلام وبدئه وامنعه من الضحك إلا في أوقاته وخذه بتعظيم مشايخ بني هاشم إذا دخلوا عليه ورفع مجالس القواد إذا حضروا مجلسه‏.‏ ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه فتميت ذهنه‏.‏ ولا تمعن في مسامحته فيستحلي الفراغ ويألفه‏.‏ وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة‏.‏ انتهى ‏"‏‏.‏ في أن الرحلة في طلب العلوم‏.‏ ‏.‏ ولقاء المشيخة مزيد كمال في التعليم والسبب في ذلك أن البشر يأخذون معارفهم وأخلاقهم وما ينتحلونه به من المذاهب والفضائل‏:‏ تارة علماً وتعليماً وإلقاءً وتارة محاكاة وتلقيناً بالمباشرة‏.‏ إلا أن حصول الملكات عن المباشرة والتلقين أشد استحكاماً وأقوى رسوخاً‏.‏ فعلى قدر كثرة الشيوخ يكون حصول الملكات ورسوخها‏.‏ والاصطلاحات أيضاً في تعليم العلوم مخلطة على المتعلم حتى لقد يظن كثير منهم أنها جزء من العلم‏.‏ ولا يدفع عنه ذلك إلا مباشرته لاختلاف الطرق فيها من المعلمين‏.‏ فلقاء أهل العلوم وتعدد المشايخ يفيده تمييز الاصطلاحات بما يراه من اختلاف طرقهم فيها فيجرد العلم عنها ويعلم أنها أنحاء تعليم وطرق توصيل‏.‏ وتنهض قواه إلى الرسوخ والاستحكام في الملكات‏.‏ ويصحح معارفه ويميزها عن سواها مع تقوية ملكته بالمباشرة والتلقين وكثرتهما من المشيخة عند تعددهم وتنوعهم‏.‏ وهذا لمن يسر الله عليه طرق العلم والهداية‏.‏ فالرحلة لا بد منها في طلب العلم لاكتساب الفوائد والكمال بلقاء المشايخ ومباشرة الرجال‏.‏ والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم‏.‏ في أن العلماء من بين البشر‏.‏ ‏.‏ أبعد عن السياسة ومذاهبها والسبب في ذلك أنهم معتادون النظم الفكري والغوص على المعاني وانتزاعها من المحسوسات وتجريدها في الذهن أموراً كلية عامة ليحكم عليها بأمر على العموم لا بخصوص مادة ولا شخص ولا جيل ولا آفة ولا صنف من الناس‏.‏ ويطبقون من بعد ذلك الكلي على الخارجيات‏.‏ وأيضاً يقيسون الأمور على أشباهها وأمثالها بما اعتادوه من القياس الفقهي‏.‏ فلا تزال أحكامهم وأنظارهم كلها في الذهن ولا تصير إلى المطابقة إلا بعد الفراغ من البحث والنظر‏.‏ أو لا تصير بالجملة إلى مطابقة وإنما يتفرع ما في الخارج عما في الذهن من ذلك كالأحكام الشرعية فإنها فروع عما في المحفوظ من أدلة الكتاب والسنة فتطلب مطابقة ما في الخارج لها عكس الأنظار في العلوم العقلية التي يطلب في صحتها مطابقتها لما في الخارج‏.‏ فهم متعودون في سائر أنظارهم الأمور الذهنية والأنظار الفكرية لا يعرفون سواها‏.‏ والسياسة يحتاج صاحبها إلى مراعاة ما في الخارج وما يلحقها من الأحوال ويتبعها فإنها خفية‏.‏ ولعل أن يكون فيها ما يمنع من إلحاقها بشبه أو مثال وينافي الكلي الذي يحاول تطبيقه عليها‏.‏ ولا يقاس شيء من أحوال العمران على الآخر إذ كما اشتبها في أمر واحد فلعلهما اختلفا في أمور فتكون العلماء لأجل ما تعودوه من تعميم الأحكام وقياس الأمور بعضها على بعض إذا نظروا في السياسة أفرغوا ذلك في قالب أنظارهم ونوع استدلالاتهم فيقعون في الغلط كثيراً ولا يؤمن عليهم‏.‏ ويلحق بهم أهل الذكاء والكيس من أهل العمران لأنهم ينزعون بثقوب أذهانهم إلى مثل شأن الفقهاء من الغوص على المعاني والقياس والمحاكاة فيقعون في الغلط‏.‏ والعامي السليم الطبع المتوسط الكيس لقصور فكره عن ذلك وعدم اعتياده إياه يقتصر لكل مادة على حكمها وفي كل صنف من الأحوال والأشخاص على ما اختص به ولا يعدي الحكم بقياس ولا تعميم ولا يفارق في أكثر نظره المواد المحسوسة ولا يجاوزها في ذهنه كالسابح لا يفارق البر عند الموج‏.‏ قال الشاعر‏:‏ فلا توغلن إذا ماسبحت فإن السلامة في الساحل فيكون مأموناً من النظر في سياسته مستقيم النظر في معاملة أبناء جنسه فيحسن معاشه وتندفع آفاقه ومضاره باستقامة نظره‏.‏ وفوق كل ذي علم عليم‏.‏ ومن هنا يتبين أن صناعة المنطق غير مألوفة الغلط لكثرة ما فيها من الانتزاع وبعدها عن المحسوس فإنها نظر في المعقولات الثواني‏.‏ ولعل المواد فيها ما يمانع تلك الأحكام وينافيها عند مراعاة التطبيق اليقيني‏.‏ وأما النظر في المعقولات الأول وهي التي تجريدها قريب فليس كذلك لإنها خيالية وصور المحسوسات‏.‏ حافظة مؤذنة بتصديق انطباقه‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:02

الفصل الثالث والأربعون في أن حملة العلم في الإسلام أكثرهم العجم
من الغريب الواقع أن حملة العلم في الملة الإسلامية أكثرهم العجم وليس في العرب حملة علم لا في العلوم الشرعية ولا في العلوم العقلية إلا في القليل النادر‏.‏ وإن كان منهم العربي في نسبه فهو أعجمي في لغته ومرباه ومشيخته مع أن الملة عربية وصاحب شريعتها عربي‏.‏ والسبب في ذلك أن الملة في أولها لم يكن فيها علم ولا صناعة لمقتضى أحوال السذاجة والبداوة وإنما أحكام الشريعة التي هي أوامر الله ونواهيه كان الرجال ينقلونها في صدورهم وقد عرفوا مأخذها من الكتاب والسنة بما تلقوة من صاحب الشرع وأصحابه‏.‏ والقوم يرمئذ عرب لم يعرفوا أمر التعليم والتآليف والتدوين ولا دفعوا إليه ولا دعتهم إليه الحاجة‏.‏ وجرى الأمر على ذلك زمن الصحاية والتابعين وكانوا يسموق المختصين بحمل ذلك‏.‏ ونقله القراء أي الذين يقرأون الكتاب وليسوا أميين لأن الأمية يومئذ صفة عامة في الصحابة بما كانوا عرباً فقيل لحملة القرآن يومئذ قراء إشارة إلى هذا‏.‏ فهم قراء لكتاب الله والسنة المأثورة عن الله لأنهم لم يعرفوا الأحكام الشرعية إلا منه‏.‏ ومن الحديث الذي هو في غالب موارده تفسير له وشرح قال صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ تركت فيكم أمرين لن تضلوا ما تمسكتم بهما‏:‏ كتاب الله وسنتي ‏"‏‏.‏ فلما بعد النقل من لدن دولة الرشيد فما بعد احتيج إلى وضع التفاسير القرآنية وتقييد الحديث مخافه ضياعه ثم احتيج إلى معرفة الأسانيد وتعديل الناقلين للتمييز بين الصحيح من الأسانيد وما دونه ثم كثر استخراج أحكام الوقائع من الكتاب والسنة وفسد مع ذلك اللسان فاحتيج إلى وضع القوانين النحوية وصارت العلوم الشرعية كلها ملكات في الاستنباط والاستخراج والتنظير والقياس واحتاجت إلى علوم أخرى هي وسائل لها‏:‏ من معرفة قوانين العربيه وقوانين ذلك الاستنباط والقياس والذب عن العقائد الإيمانية بالأدلة لكثرة البدع والإلحاد فصارت هذه العلوم كلها علوماً ذات ملكات محتاجة إلى التعليم فاندرجت في جملة الصنائع‏.‏ وقد كنا قدمنا أن الصنائع من منتحل الحضر وأن العرب أبعد الناس عنها فصارت العلوم لذلك حضرية وبعد العرب عنها وعن سوقها‏.‏ والحضر لذلك العهد هم العجم أو من في معناهم من الموالي وأهل الحواضر الذين هم يومئذ تبع للعجم في الحضارة وأحوالها من الصنائع والحرف لإنهم أقوم على ذلك للحضارة الراسخة فيهم منذ دولة الفرس فكان صاحب صناعة النحو سيبويه والفارسي من بعده والزجاج من بعدهما وكلهم عجم في أنسابهم‏.‏ وإنما ربوا في اللسان العربي فاكتسبوه بالمربى ومخالطة العرب وصيروه قوانين وفناً لمن بعدهم‏.‏ وكذا حملة الحديث الذين حفظوه على أهل الإسلام أكثرهم عجم أو مستعجمون باللغة والمربى لاتساع الفن بالعراق‏.‏ وكان علماء أصول الفقه كلهم عجماً كما يعرف وكذا حملة علم الكلام وكذا أكثر المفسرين‏.‏ ولم يقم بحفظ العلم وتدوييه إلا الأعاجم‏.‏ وظهر مصداق قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ لو تعلق العلم بأكناف السماء لناله قوم من أهل فارس ‏"‏‏.‏ وأما العرب الذين أدركوا هذه الحضارة وسوقها وخرجوا إليها عن البداوة فشغلتهم الرياسة في الدولة العباسية وما دفعوا إليه من القيام بالملك عن القيام بالعلم والنظر فيه فإنهم كانوا أهل الدولة وحاميتها وأولي سياستها مع ما يلحقهم من الأنفة عن انتحال العلم حينئذ بما صار من جملة الصنائع‏.‏ والرؤساء ابداً يستنكفون عن الصنائع والمهن وما يجر إليها ودفعوا ذلك إلى من قام به من العجم والمولدين‏.‏ وما زالوا يرون لهم حق القيام به فإنه دينهم وعلومهم ولا يحتقرون حملتها كل الاحتقار‏.‏ حتى إذا خرج الأمر من العرب جملة وصار للعجم صارت العلوم الشرعية غريبة النسبة عند أهل الملك بما هم عليه من البعد عن نسبتها وامتهن حملتها بما يرون أنهم بعداء عنهم مشتغلين بما لا يغني ولا يجدي عليهم في الملك والسياسة كما ذكرناه في فصل المراتب الدينية‏.‏ فهذا الذي قررناه هو السبب في أن حملة الشريعة أو عامتهم من العجم‏.‏ وأما العلوم العقلية أيضاً فلم تظهر في الملة إلا بعد أن تميز حملة العلم ومؤلفوه‏.‏ واستقر العلم كله صناعة فاختصت بالعجم وتركها العرب وانصرفوا عن انتحالها فلم يحملها إلا المعربون من العجم شأن الصنائع كما قلناه أولاً‏.‏ فلم يزل ذلك في الأمصار الإسلامية ما دامت الحضارة في العجم وببلادهم من العراق وخراسان وما وراء النهر‏.‏ فلما خربت تلك الأمصار وذهبت منها الحضارة التي هي سر الله في حصول العلم والصنائع ذهب العلم من العجم جملة لما شملهم من البداوة‏.‏ واختص العلم ألامصار الموفورة الحضارة‏.‏ ولا أوفر اليوم في الحضارة من مصر فهي أم العالم وإيوان الإسلام وينبوع العلم والصنائع‏.‏ وبقي بعض الحضارة فيما وراء النهر لما هناك من حضارة بالدولة التي فيها فلهم بذلك حصة من العلوم والصنائع لا تنكر‏.‏ وقد دلنا إلى ذلك كلام بعض علمائهم في تآليف وصلت إلينا إلى هذه البلاد وهو سعد الدين التفتازاني‏.‏ وأما غيره من العجم فلم نر لهم من بعد الإمام ابن الخطيب ونصير الدين طوسي كلاماً يعول على نهايته في الإصابة‏.‏ فاعتبر ذلك وتأمله تر عجباً في أحوال الخليقة‏.‏ والله يخلق ما يشاء لا إله إلا هو وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:03

الفصل الرابع والأربعون في أن العجمة إذا سبقت إلى اللسان قصرت بصاحبها
في تحصيل العلوم عن أهل اللسان العربي والسر في ذلك أن مباحث العلوم كلها إنما هي في المعاني الذهنية والخيالية من بين العلوم الشرعية التى هي أكثر مباحثها في الألفاظ وموادها من الأحكام المتلقاة من الكتاب والسنة ولغاتها المؤدية لها وهي كلها في الخيال وبين العلوم العقلية وهي في الذهن‏.‏ واللغات إنما هي ترجمان عما في الضمائر من تلك المعاني يؤديها بعض إلى بعض بالمشافهة في المناظرة والتعليم وممارسة البحث بالعلوم لتحصيل ملكتها بطول المران على ذلك‏.‏ والألفاظ واللغات وسائط وحجب بين الضمائر وروابط وختام عن المعاني‏.‏ ولا بد في اقتناص تلك المعاني من ألفاظها لمعرفة دلالاتها اللغوية عليها وجودة الملكة لناظر فيها وإلا فيعتاص عليه اقتناصها زيادة على ما يكون في مباحثها الذهنية من الاعتياص‏.‏ وإذا كانت ملكته في تلك الدلالات راسخة بحيث يتبادر المعاني إلى ذهنه من تلك الألفاظ عند استعمالها شأن البديهي والجبلي زال ذاك الحجاب بالجملة بين المعاني والفهم أو خف ولم يبق إلا معاناة ما في المعاني من المباحث فقط‏.‏ هذا كله إذا كان التعليم تلقيناً وبالخطاب والعبارة‏.‏ وأما إن احتاج المتعلم إلى الدراسة والتقييد بالكتاب ومشافهة الرسوم الخطية من الدواوين بمسائل العلوم كان هنالك حجاب آخر بين الخط ورسومه في الكتاب وبين الألفاظ المقولة في الخيال‏.‏ لأن رسوم الكتابة لها دلالة خاصة على الألفاظ المقولة‏.‏ وما لم تعرف تلك الدلالة تعذرت معرفة العبارة وإن عرف بملكة قاصرة كانت معرفتها أيضاً قاصرة ويزداد على الناظر والمتعلم بذلك حجاب آخر بينه وبين مطلوبه من تحصيل ملكات العلوم أعوص من الحجاب الأول‏.‏ وإذا كانت ملكته في الدلالة اللفظية والخطية مستحكمه ارتفعت الحجب بينه وبين المعاني‏.‏ وصار إنما يعاني فهم مباحثها فقط‏.‏ هذا شأن المعاني مع الألفاظ والخط بالنسبة إلى كل لغة‏.‏ والمتعلمون لذلك في الصغر أشد استحكاماً لملكاتهم‏.‏ ثم إن الملة الإسلامية لما اتسع ملكها واندرجت الأمم في طيها ودرست علوم الأولين بنبوتها وكتابها وكانت أمية النزعة والشعار فأخذ الملك والعزة وسخرية الأمم لهم بالحضارة والتهذيب وصيروا علومهم الشرعية صناعة بعد أن كانت نقلاً فحدثت فيهم الملكات وكثرت الدواوين والتآليف وتشوفوا إلى علوم الأمم‏.‏ فنقلوها بالترجمة إلى علومهم وأفرغوها في قالب أنظارهم وجردوها من تلك اللغات الأعجمية إلى لسانهم وأربوا فيها على مداركهم وبقيت تلك الدفاتر التي بلغتهم الأعجمية نسياً منسياً وطللاً مهجوراً وهباء منثوراً‏.‏ وأصبحت العلوم كلها بلغة العرب ودواوينها المسطرة بخطهم واحتاج القائمون بالعلوم إلى معرفة الدلالات اللفظية والخطية في لسانهم دون ما سواه من الألسن لدروسها وذهاب العناية بها‏.‏ وقد تقدم لنا أن اللغة ملكة في اللسان وكذا الخط صناعة ملكتها في اليد قإذا تقدمت في اللسان ملكة العجمة صار مقصراً في اللغة العربية لما قدمناه من أن الملكة إذا تقدمت في صناعة بمحل فقل أن يجيد صاحبها ملكة في صناعه أخرى وهو ظاهر‏.‏ وإذا كان مقصراً في اللغة العربية ودلالاتها اللفظية والخطية اعتاص عليه فهم المعاني منها كما مر‏.‏ إلا أن تكون ملكة العجمة السابقة لم تستحكم حين انتقل منها إلى العربية كأصاغر أبناء العجم الذين يربون مع العرب قبل أن تستحكم عجمتهم فتكون اللغة العربية كأنها السابقة لهم ولا ايكون عندهم تقصير في فهم المعاني من العربية‏.‏ وكذا أيضاً شأن من سبق له تعلم الخط الأعجمي قبل العربي‏.‏ ولهذا نجد الكثير من علماء الأعاجم في دروسهم ومجالس تعليمهم يعدلون عن نقل التقاسير من الكتب إلى قراءتها ظاهراً يخففون بذلك عن أنفسهم مؤونة بعض الحجب ليقرب عليهم تناول المعاني‏.‏ وصاحب الملكة في العبارة والخط مستغن عن ذلك بتمام ملكته وإنه صار له فهم الأقوال من الخط والمعاني من الأقوال كالجبلة الراسخة وارتفعت الححب بينه وبين المعاني‏.‏ وربما يكون الدؤوب على التعليم والمران على اللغة وممارسة الخط يفضيان بصاحبهما إلى تمكن الملكة كما نجده في الكثير من علماء الأعاجم إلا أنه في النادر‏.‏ وإذا قرن بنظيره من علماء العرب وأهل طبقته منهم كان باع العربي أطول وملكته أقوى لما عند المستعجم من الفتور بالعجمه السابقة التي يؤثر القصور بالضرورة ولا يعترض ذلك بما تقدم بأن علماء الإسلام أكثرهم العجم لأن المراد بالعجم هنالك عجم النسب لتداول الحضارة فيهم التي قررنا أنها سبب لانتحال الصنائع والملكات ومن جملتها العلوم‏.‏ وأما عجمة اللغة فليست من ذلك وهي المرادة هنا‏.‏ ولا يعترض ذلك أيضاً مما كان لليونانيين في علومهم من رسوخ القدم فإنهم إنما تعلموها من لغتهم السابقة لهم وخطهم المتعارف بينهم‏.‏ والأعجمي المتعلم للعلم في الملة الإسلامية يأخذ العلم بغير لسانه الذي سبق إليه ومن غير خطه الذي يعرف ملكته‏.‏ فلهذا يكون له ذلك حجاباً كما قلناه‏.‏ وهذا عام في جميح أصناف أهل اللسان الأعجمي من الفرس والروم والترك والبربر والفرنج وسائر من ليس من أهل اللسان العربي‏.‏ وفي ذلك آيات للمتوسمين‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:04

الفصل الخامس والأربعون في علوم اللسان العربي
أركانه أربعة‏:‏ وهي اللغة والنحو والبيان والأدب‏.‏ ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب ونقلتها من الصحابة والتابعين عرب وشرح مشكلاتها من لغتهم فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة‏.‏ وتتفاوت قي التأكيد بتفاوت مراتبها في التوفية بمقصود الكلام حسبما يتبين في الكلام عليها فناً فناً‏.‏ والذي يتحصل أن الأهم المقدم منها هو النحو إذ به يتبين أصول المقاصد بالدلالة فيعرف الفاعل من المفعول والمبتدأ من الخبر ولولاه لجهل أصل الإفادة‏.‏ وكان من حق علم اللغة التقدم لولا ان أكثر الأوضاع باقية في موضوعاتها لم تتغير بخلاف الإعراب الدال على الإسناد والمسند والمسند إليه فإنه تغير بالجملة ولم يبق له أثر‏.‏ فلذلك كان علم النحو أهم من اللغة إذ في جهله الإخلال بالتفاهم جملة وليست كذلك اللغة‏.‏ واللة سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏ علم النحو اعلم أن اللغة في المتعارف هي عبارة المتكلم عن مقصوده‏.‏ وتلك العبارة فعل لساني ناشئ عن القصد بإفادة الكلام فلابد أن تصير ملكة متقررة في العضو الفاعل لها وهو اللسان‏.‏ وهو في كل أمة بحسب اصطلاحاتهم‏.‏ وكانت الملكة الحاصلة للعرب من ذلك أحسن الملكات وأوضحها إبانة عن المقاصد لدلالة غير الكلمات فيها على كثير من المعاني‏.‏ مثل الحركات التي تعين الفاعل من المفعول من المجرور أعني المضاف ومثل الحروف التي تفضي بالأفعال أي الحركات إلى الذوات من غير تكلف ألفاظ أخرى‏.‏ وليس يوجد ذلك إلا في لغة العرب‏.‏ وأما غيرها من اللغات فكل معنى أو حال لا بد له من ألفاظ تخصه بالدلالة ولذلك نجد كلام العجم في مخاطباتهم أطول مما نقدره بكلام العرب‏.‏ وهذا هو معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً ‏"‏‏.‏ فصار للحروف في لغتهم والحركات والهيآت أي الأوضاع اعتبار في الدلالة على المقصود غير متكلفين فيه لصناعة يستفيدون ذلك منها‏.‏ إنما هي ملكة في ألسنتهم يأخذها الآخر عن الأول كما تأخذ صبياننا لهذا العهد لغاتنا‏.‏ فلما جاء الإسلام وفارقوا الحجاز لطلب الملك الذي كان في أيدي الأمم والدول وخالطوا العجم تغيرت تلك الملكة بما ألقى إليها السمع من المخالفات التي للمتعربين من العجم‏.‏ والسمع أبو الملكات اللسانية ففسدت بما ألقي إليها مما يغايرها لجنوحها إليه باعتياد السمع‏.‏ وخشي أهل العلوم منهم أن تفسد تلك الملكة رأساً ويطول العهد بها فينغلق القرآن والحديث على المفهوم فاستنبطوا من مجاري كلامهم قوانين لتلك الملكة مطردة شبه الكليات والقواعد يقيسون عليها سائر أنواع الكلام ويلحقون الأشباه بالأشباه‏.‏ مثل أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب والمبتدأ مرفوع‏.‏ ثم رأوا تغير الدلالة بتغير حركات هذه الكلمات فاصطلحوا على تسميته إعراباً وتسمية الموجب لذلك التغير عاملاً وأمثال ذلك‏.‏ وصارت كلها اصطلاحات خاصة بهم فقيدوها بالكتاب وجعلوها صناعة لهم مخصوصة واصطلحوا على تسميتها بعلم النحو‏.‏ وأول من كتب فيها أبو الأسود الدؤلي من بني كنانة ويقال بإشارة علي رضي الله عنه لأنه رأى تغير الملكة فأشار عليه بحفظها ففزع إلى ضبطها بالقوانين الحاضرة المستقرأة ثم كتب فيها الناس من بعده إلى أن انتهت إلى الخليل بن أحمد الفراهيدي أيام الرشيد أحوج ما كان الناس إليها لذهاب تلك الملكة من العرب‏.‏ فهذب الصناعة وكمل أبوابها‏.‏ وأخذها عنه سيبويه فكمل تفاريعها واستكثر من أدلتها وشواهدها ووضع فيها كتابه المشهور الذي صار إماماً لكل ما كتب فيها من بعده‏.‏ ثم وضع أبو علي الفارسي وأبو القاسم الزجاج كتباً مختصرة للمتعلمين يحذون فيها حذو الإمام في كتابه‏.‏ ثم طال الكلام في هذه الصناعة وحدث الخلاف بين أهلها في الكوفة والبصرة‏:‏ المصرين القديمين للعرب‏.‏ وكثرت الأدلة والحجاج بينهم وتباينت الطرق في التعليم وكثر الاختلاف في إعراب كثير من آي القرآن باختلافهم في تلك القواعد وطال ذلك على المتعلمين‏.‏ وجاء المتأخرون بمذاهبهم في الاختصار فاختصروا كثيراً من ذلك الطول مع استيعابهم لجميع ما نقل كما فعله ابن مالك في كتاب التسهيل وأمثاله أو اقتصارهم على المبادىء للمتعلمين كما فعله الزمخشري في المفصل وابن الحاجب في المقدمة له‏.‏ وربما نظموا ذلك نظماً مثل ابن مالك في الأرجوزتين الكبرى والصغرى وابن معطي في الأرجوزة الألفية‏.‏ وبالجملة فالتآليف في هذا الفن أكثر من أن تحصى أو يحاط بها وطرق التعليم فيها مختلفة فطريقة المتقدمين مغايرة لطريقة المتأخرين‏.‏ والكوفيون والبصريون والبغداديون والأندلسيون مختلفة طرقهم كذلك‏.‏ وقد كادت هذه الصناعة أن تؤذن بالذهاب لما رأينا من النقص في سائر العلوم والصنائع بتناقص العمران ووصل إلينا بالمغرب لهذه العصور ديوان من مصر منسوب إلى جمال الدين ابن هشام من علمائها استوفى فيه أحكام الإعراب مجملة ومفصلة‏.‏ وتكلم على الحروف والمفردات والجمل وحذف ما في الصناعة من المتكرر في أكثر أبوابها وسماه بالمغني في الإعراب‏.‏ وأشار إلى نكت إعراب القرآن كلها وضبطها بأبواب وفصول وقواعد انتظمت سائرها فوقفنا منه على علم جم يشهد بعلو قدره في هذه الصناعة ووفور بضاعته منها وكأنه ينحو في طريقته منحى نحاة أهل الموصل الذين أقتفوا آثر ابن جني واتبعوا مصطلح تعليمه فأتى من ذلك بشيء عجيب دال على قوة ملكته واطلاعه‏.‏ والله يزيد في الخلق ما يشاء هذا العلم هو بيان الموضوعات اللغوية‏.‏ وذلك أنه لما فسدت ملكة اللسان العربي في الحركات المسماة عند أهل النحو بالإعراب واستنبطت القوانين لحفظها كما قلناه‏.‏ ثم استمر ذلك الفساد بملابسة العجم ومخالطتهم حتى تأذى الفساد إلى موضوعات الألفاظ فاستعمل كثير من كلام العرب في غير موضوعه عندهم ميلاً مع هجنة المتعربين في اصطلاحاتهم المخالفة لصريح العربية فاحتيج إلى حفظ الموضوعات اللغوية بالكتاب والتدوين خشية الدروس وما ينشأ عنه من الجهل بالقرآن والحديث فشمر كثير من أئمة اللسان لذلك وأملوا فيه الدواوين‏.‏ وكان سابق الحلبة في ذلك الخليل بن أحمد الفراهيدي‏.‏ ألف فيها كتاب العين فحصر فيه مركبات حروف المعجم كلها من الثنائي والثلاثي والرباعي والخماسي وهو غاية ما ينتهي إليه التركيب في اللسان العربي‏.‏ وتأتى له حصر ذلك بوجوه عديدة حاصرة وذلك أن جملة الكلمات الثنائية تخرج من جميع الأعداد على التوالي من واحد إلى سبعة وعشرين وهو دون نهاية حروف المعجم بواحد‏.‏ لأن الحرف الواحد منها يؤخذ مع كل واحد من السبعة والعشرين فتكون سبعة وعشرين كلمة ثنائية‏.‏ ثم يؤخذ الثاني مع الستة والعشرين كذلك‏.‏ ثم الثالث والرابع‏.‏ ثم يؤخذ السابع والعشرون مع الثامن والعشرين فيكون واحداً فتكون كلها أعداداً على توالي الأعداد من واحد إلى سبعة وعشرين فتجمع كما


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:04

هي بالعمل المعروف عند أهل الحساب وهو أن تجمع الأول مع الاخير وتضرب المجموع في نصف العدة‏.‏ ثم تضاعف لأجل قلب الثنائي لأن التقديم والتأخير بين الحروف معتبر في التركيب فيكون الخارج جملة الثنائيات‏.‏ وتخرج الثلاثيات من ضرب عدد الثنائيات فيما يجتمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد لأن كل ثنائية تزيد عليها حرفاً فتكون ثلاثية‏.‏ فتكون الثنائية بمنزلة الحرف الواحد مع كل واحد من الحروف الباقية وهي ستة وعشرون حرفاً بعد الثنائية فتجمع من واحد إلى ستة وعشرين على توالي العدد ويضرب فيه جملة الثنائيات ثم تضرب الخارج في ستة جملة مقلوبات الكلمة الثلاثية فيخرج مجموع تركيبها من حروف المعجم‏.‏ وكذلك في الرباعي والخماسي‏.‏ فانحصرت له التراكيب بهذا الوجه ورتب أبوابه على حروف المعجم بالترتيب المتعارف‏.‏ واعتمد فيه ترتيب المخارج فبدأ بحروف الحلق ثم ما بعده من حروف الحنك ثم الأضراس ثم الشفة وجعل حروف العلة آخراً وهي الحروف الهوائية‏.‏ وبدأ من حروف الحلق بالعين لأنه الأقصى منها‏.‏ فلذلك سمي كتابه بالعين لأن المتقدمين كانوا يذهبون في تسمية دواوينهم إلى مثل هذا وهو تسميته بأول ما يقع فيه من الكلمات والألفاظ‏.‏ ثم بين المهمل منها من المستعمل وكان المهمل في الرباعي والخماسي أكثر لقلة استعمال العرب له لثقله ولحق به الثنائي لقلة دورانه وكان الاستعمال في الثلاثي أغلب فكانت أوضاعه أكثر لدورانه‏.‏ وضمن الخليل ذلك كله في كتاب العين واستوعبه أحسن استيعاب وأوفاه‏.‏ وجاء أبو بكر الزبيدي وكتب لهشام المؤيد بالأندلس في المائه الرابعة فاختصره مع المحافظة على الاستيعاب وحفف منه المهمل كله وكثيراً من شواهد المستعمل ولخصه للحفظ أحسن تلحيص‏.‏ وألف الجوهري من المشارقة كتاب الصحاح على الترتيب المتعارف لحروف المعجم فجعل البداءة منها بالهمزة وجعل الترجمة بالحروف على الحرف اآاخير من الكلمة لاضطرار الناس في الأكثر إلى أواخر الكلم فيجعل ذلك باباً‏.‏ ثم يأتي بالحروف أول الكلمة على ترتيب حروف المعجم أيضاً ويترجم عليها بالفصول إلى آخرها‏.‏ وحصر اللغة اقتداءً بحصر الخليل‏.‏ ثم ألف فيها من الأندلسيين ابن سيده من أهل دانية في دوله علي بن مجاهد كتاب المحكم على ذلك المنحى من الاستيعاب وعلى نحو ترتيب كتاب العين‏.‏ وزاد فيه التعرض لاشتقاقات الكلم وتصاريفها فجاء من أحسن الدواوين‏.‏ ولخصه محمد بن أبي الحسين صاحب المستنصر من ملوك الدولة الحفصية بتونس‏.‏ وقلب ترتيبه إلى ترتيب كتاب الصحاح في اعتبار أواخر الكلم وبناء التراجم عليها فكانا توأمي رحم وسليلي أبوة‏.‏ هذه أصول كتب اللغة فيما علمناه‏.‏ وهناك مختصرات أخرى مختصة بصنف من الكلم ومستوعبة لبعض الأبواب أو لكلها إلا أن وجه الحصر فيها خفي ووجه الحصر في تلك جلي من قبل التراكيب كما رأيت‏.‏ ومن الكتب الموضوعة أيضاً في اللغة كتاب الزمخشري في المجاز وسماه أساس البلاغة بين فيه كل ما تجوزت به العرب من الألفاظ فيما تجوزت به من المدلولات وهو كتاب شريف الإفادة‏.‏ ثم لما كانت العرب تضع الشيء لمعنى على العموم ثم تستعمل في الأمور الخاصة ألفاظاً أخرى خاصة‏.‏ بها فرق ذلك عندنا بين الوضع والاستعمال واحتاج الناس إلى فقه في اللغة عزيز المأخذ كما وضع الأبيض بالوضع العام لكل ما فيه بياض ثم اختص ما فيه بياض من الخيل بالأشهب ومن الإنسان بالأزهر ومن الغنم بالأملح حتى صار استعمال الأبيض في هذه كلها لحناً وخروجاً عن لسان العرب‏.‏ واختص بالتأليف في هذا المنحى الثعالبي وأفرده في كتاب له سماه فقه اللغة وهو من آكد ما يأخذ به اللغوي نفسه أن يحرف استعمال العرب عن مواضعه‏.‏ فليس معرفة الوضع الأول بكاف في التركيب حتى يشهد له استعمال العرب لذلك‏.‏ وأكثر ما يحتاج إلى ذلك الأديب في فني نظمه ونثره حذراً من أن يكثر لحنه في الموضوعات اللغوية في مفرداتها وتراكيبها وهو أشر من اللحن في الإعراب وافحش‏.‏ وكذلك آلف بعض المتأخرين في الألفاظ المشتركة وتكفل بحصرها وإن لم يبلغ إلى النهاية في ذلك فهو مستوعب للأكثر‏.‏ وأما المختصرات الموجودة في هذا الفن المخصوصة بالمتداول من اللغة الكثير الاستعمال تسهيلاً لحفظها على الطالب فكثيرة مثل الألفاظ لابن السكيت والفصيح لثعلب وغيرهما‏.‏ وبعضها أقل لغة من بعض لاختلاف نظرهم في الأهم على الطالب للحفظ‏.‏ والله الخلاق العليم لا رب سواه‏.‏ فصل‏:‏ واعلم أن النقل الذي تثبت به اللغة إنما هو النقل عن العرب أنهم استعملوا هذه الألفاظ لهذه المعاني لا تقل إنهم وضعوها لأنه متعذر وبعيد ولم يعرف أحد منهم‏.‏ وكذلك لا تثبت اللغات بقياس ما لم نعلم استعماله على ما عرف استعماله في ماء العنب باعتبار الإسكار الجامع‏.‏ لأن شهادة الاعتبار في باب القياس إنما يدركها الشرع الدال على صحة القياس من أصله‏.‏ وليس لنا مثله في اللغة إلا العقل وهو محكم وعلى هذا جمهور


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:05

الأئمة‏.‏ وإن مال إلى القياس فيها القاضي وابن سريج وغيرهم‏.‏ لكن القول بنفيه أرجح‏.‏ ولا تتوهمن أن إثبات اللغة في باب الحدود اللفظية لأن الحد راجع إلى المعاني ببيان أن مدلول اللفظ المجهول الخفي هو مدلول الواضح المشهور واللغة إثبات أن اللفظ كذا لمعنى كذا والفرق في غاية ظهور‏.‏ هذا العلم حادث في الملة بعد علم العربية واللغة وهو من العلوم اللسانية أنه متعلق بالألفاظ وما تفيده‏.‏ ويقصد بها الدلالة عليه من المعاني‏.‏ وذلك أن الأمور التي يقصد المتكلم بها إفادة السامع من كلامه هي‏:‏ إما تصور مفردات تسند ويسند إليها ويفضي بعضها إلى بعض والدلالة على هذه هي المفرادت من الأسماء والأفعال والحروف وأما تمييز المسندات من المسند إليها والأزمنة وبدل عليها بتغير إدركات وهو الإعراب وأبنية الكلمات‏.‏ وهذه كلها هي صناعة النحو‏.‏ ويبقى من الأمور المكتنفة بالواقعات المحتاجة للدلالة أحوال المتخاطبين أو الفاعلين وما يقتضيه حال الفعل وهو محتاج إلى الدلالة عليه لأنه من تمام الإفادة وإذا حصلت للمتكلم فقد بلغ غاية الإفادة من كلامه‏.‏ وإذا لم يشتمل على شيء منها فليس من جنس كلام العرب فإن كلامهم واسع ولكل مقام عندهم مقال يختص به بعد كمال الإعراب والإبانة‏.‏ ألا ترى أن قولهم‏:‏ ‏"‏ زيد جاءني ‏"‏ مغاير لقولهم ‏"‏ جاءني زيد ‏"‏ من قبل أن المتقدم منهما هو الأهم عند المتكلم‏.‏ فمن قال‏:‏ جاءني زيد أفاد أن اهتمامه بالمجيء قبل الشخص المسند إليه ومن قال‏:‏ زيد جاءني أفاد أن اهتمامه بالشخص قبل المجيء المسند‏.‏ وكذا التعبير عن أجزاء الجملة بما يناسب المقام من موصول أو مبهم أو معرفة‏.‏ وكذا تأكيد الإسناد على الجملة كقولهم‏:‏ زيد قائم وإن زيداً قائم وإن زيداً لقائم متغايرة كلها في الدلالة وإن استوت من طريق الإعراب فإن الأول العاري عن التأكيد إنما يفيد الخالي الذهن والثاني المؤكد ب إن يفيد المتردد والثالث يفيد المنكر فهي مختلفة‏.‏ وكذلك تقول‏:‏ جاءني الرجل ثم تقول مكانه بعينه جاءني رجل إذا قصدت بذلك التنكير تعظيمه وأنه رجل لا يعادله أحد من الرجال‏.‏ ثم الجملة الإسنادية تكون خبرية وهي التي لها خارج تطابقة أولاً وإنشائية وهي التي لا خارج لها كالطلب وأنواعه‏.‏ تم قد يتعين ترك العاطف بين الجملتين إذ كان للثانية محل من الإعراب‏:‏ فينزل بذلك منزلة التابع المفرد نعتاً أو توكيداً أو بدلاً بلا عطف أو يتعين العطف إذا لم يكن للثانية محل من الإعراب‏.‏ ثم يقتضي المحل الإطناب أو الإيجاز فيورد الكلام عليهما‏.‏ ثم قد يدل باللفط ولا يراد منطوقه ويراد لازمه إن كان مفرداً كما تقول‏:‏ زيد أسد فلا تريد حقيقة الأسد لمنطوقه وإنما تريد شجاعته اللازمة وتسندها إلى زيد وتسمى هذه استعارة‏.‏ وقد تريد باللفظ المركب الدلالة على ملزومه كما تقول‏:‏ زيد كثير رماد القدور وتريد به ما لزم ذلك عنه من الجود وقرى الضيف لأن كثره الرماد ناشئة عنهما فهي دالة عليهما‏.‏ وهذه كلها دلالة زائدة على دلالة الألفاظ من المفرد والمركب وإنما هي هيئات وأحوال للواقعات جعلت للدلالة عليها أحوال وهيآت في الألفاظ كل بحسب ما يقتضيه مقامه فاشتمل هذا العلم المسمى بالبيان على البحث عن هذه الدلالات التي للهيآت والأحوال والمقامات وجعل على ثلاثة أصنات‏:‏ الصنف الأول يبحث فيه عن هذه الهيأت والأحوال التي تطابق باللفظ جميع مقتضيات الحال ويسمى علم البلاغة والصنف الثاني يبحث فيه عن الدلالة على اللازم اللفظي وملزومه وهي الاستعارة والكناية كما قلناه ويسمى علم البيان‏.‏ وألحقوا بهما صنفاً آخر وهو النظر في تزيين الكلام وتحسينه بنوع من التنميق‏:‏ إما بسجع يفصله أو تجنيس يشابه بين ألفاظه أو ترصيع يقطع أوزانه أو تورية عن المعنى المقصود لإيهام معنى أخفى منه لاشتراك اللفظ بينهما أو طباق بالتقابل بين الأضداد وأمثال ذلك ويسمى عندهم علم البديع‏.‏ وأطلق على الأصناف الثلاثة عند المحدثين اسم البيان وهو اسم الصنف الثاني لأن الأقدمين أول ما تكلموا فيه‏.‏ ثم تلاحقت مسائل الفن واحدة بعد أخرى وكتب فيها جعفر بن يحيى والجاحظ وقدامة وأمثالهم إملاءات غير وافية فيها‏.‏ ثم لم تزل مسائل الفن تكمل شيئاً فشيئاً إلى أن مخض السكاكي زبدته وهذب مسائله ورتب أبوابه على نحو ما ذكرناه آنفاً من الترتيب وألف كتابه المسمى بالمفتاح في النحو والتصريف والبيان فجعل هذا الفن من بعض أجزائه‏.‏ وأخذه المتأخرون من كتابه ولخصوا منه أمهات هي المتداولة لهذا العهد كما فعله السكاكي في كتاب التبيان وابن مالك في كتاب المصباح وجلال الدين القزويني في كتاب الإيضاح والتلخيص وهو أصغر حجماً من الإيضاح والعناية به لهذا العهد عند أهل المشرق في الشرح والتعليم منه أكثر من غيره‏.‏ وبالجملة فالمشارقة على هذا الفن أقوم من المغاربة وسببه والله أعلم أنه كمالي في العلوم اللسانية والصنائع الكمالية توجد في وفور العمران‏.‏ والمشرق أوفر عمراناً من المغرب كما ذكرناه‏.‏ أو نقول لعناية العجم وهم معظم أهل المشرق كتفسير الزمخشري وهو كله مبني على هذا الفن وهو أصله‏.‏ وإنما اختص بأهل المغرب من أصنافه علم البديع خاصة وجعلوه من جملة علوم الأدب الشعرية وفرعوا له ألقاباً وعددوا أبواباً ونوعوا أنواعاً‏.‏ وزعموا أنهم أحصوها من لسان العرب وإنما حملهم على ذلك الولوع بتزيين الألفاظ وأن علم البديع سهل المأخذ‏.‏ وصعبت عليهم مآخذ البلاغة والبيان لدقة أنظارهما وغموض معانيهما فتجافوا عنهما‏.‏ وممن ألف في البديع من أهل إفريقية ابن رشيق وكتاب العمدة له مشهور‏.‏ وجرى كثير من أهل إفريقية والأندلس على منحاه‏.‏ واعلم أن ثمرة هذا الفن إنما هي في فهم الإعجاز من القرآن لأن إعجازه في وفاء الدلالة منه بجميع مقتضيات الأحوال منطوقة ومفهومة وهي أعلى مراتب الكمال مع الكلام فيما يختص بالألفاظ في انتقائها وجودة رصفها وتركيبها وهذا هو الإعجاز الذي تقصر الأفهام عن إدراكه‏.‏ وإنما يدرك بعض الشيء منه من كان له ذوق بمخالطة اللسان العربي وحصول ملكته فيدرك من إعجازه على قدر ذوقه‏.‏ فلهذا كانت مدارك العرب الذين سمعوه من مبلغه أعلى مقاماً في ذلك لأنهم فرسان الكلام وجهابذته والذوق عندهم موجود بأوفر ما يكون وأصحه‏.‏ وأحوج ما يكون إلى هذا الفن المفسرون وأكثر تفاسير المتقدمين غفل منه حتى ظهر جار الله الزمخشري ووضع كتابه في التفسير وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن بما يبدي البعض من إعجازه فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة‏.‏ ولأجل هذا يتحاماه كثير من أهل السنة مع وفور بضاعته من البلاغة‏.‏ فمن أحكم عقائد السنة وشارك في هذا الفن بعض المشاركة حتى يقتدر على الرد عليه من جنس كلامه أو يعلم أنها بدعة فيعرض عنها ولا تضره في معتقده فإنه يتعين عليه النظر في هذا الكتاب للظفر بشيء من الإعجاز مع السلامة من البدع والأهواء‏.‏ والله الهادي من يشاء إلى سواء السبيل‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:05

علم الأدب
هذا العلم لا موضوع له ينظر في إثبات عوارضه أو نفيها‏.‏ وإنما المقصود منه عند أهل اللسان ثمرته وهي الإجادة في فني المنظوم والمنثور على أساليب العرب ومناحيهم فيجمعون لذلك من كلام العرب ما عساه تحصل به الكلمة من شعر عالي الطبقة وسجع متساو في الإجادة ومسائل من اللغة والنحو مبثوثة أثناء ذلك متفرقة يستقري منها الناظر في الغالب معظم قوانين العربية مع ذكر بعض من أيام العرب يفهم به ما يقع في أشعارهم منها‏.‏ وكذلك ذكر المهم من الأنساب الشهيرة والأخبار العامة‏.‏ والمقصود بذلك كله أن لا يخفى على الناظر فيه شيء من كلام العرب وأساليبهم ومناحي بلاغتهم إذا تصفحه لأنه لا تحصل الملكة من حفظه إلا بعد فهمه فيحتاج إلى تقديم جميع مايتوقف عليه فهمه‏.‏ ثم إنهم إذا أرادوا حد هذا الفن قالوا‏:‏ الأدب هو حفظ أشعار العرب وأخبارها والأخذ من كل علم بطرف يريدون من علوم اللسان أو العلوم الشرعية من حيث متونها فقط وهي القرآن والحديث‏.‏ إذ لا مدخل لغير ذلك من العلوم في كلام العرب إلا ما ذهب إليه المتأخرون عند كلفهم بصناعة البديع من التورية في أشعارهم وترسلهم بالاصطلاحات العلمية فاحتاج صاحب هذا الفن حينئذ إلى معرفة اصطلاحات العلوم ليكون قائماً على فهمها‏.‏ وسمعنا من شيوخنا في مجالس التعليم أن أصول هذا الفن وأركانه أربعة دواوين وهي‏:‏ أدب الكاتب لابن قتيبة وكتاب الكامل للمبرد وكتاب البيان والتبيين للجاحظ وكتاب النوادر لأبي علي القالي البغدادي‏.‏ وما سوى هذه الأربعة فتبع لها وفروع عنها‏.‏ وكتب المحدثين في ذلك كثيرة‏.‏ وكان الغناء في الصدر الأول من أجزاء هذا الفن لما هو تابع للشعر إذ الغناء إنما هو تلحينه‏.‏ وكان الكتاب والفضلاء من الخواص في الدولة العباسية يأخذون أنفسهم به حرصاً على تحصيل أساليب الشعر وفنونه فلم يكن انتحاله قادحاً في العدالة والمروءة‏.‏ وقد ألف القاضي أبو الفرج الأصبهاني وهو ما هو كتابه في الأغاني جمع فيه أخبار العرب وأشعارهم وأنسابهم وأيامهم ودولهم‏.‏ وجعل مبناه على الغناء في المائة صوت التي اختارها المغنون للرشيد فاستوعب فيه ذلك أتم استيعاب وأوفاه‏.‏ ولعمري إنه ديوان العرب وجامع أشتات المحاسن التي سلفت لهم في كل فن من فنون الشعر والتاريخ والغناء وسائر الأحوال ولا يعدل به كتاب في ذلك فيما نعلمه وهو الغاية التي يسمو إليها الأديب ويقف عندها وأنى له بها‏.‏ ونحن الآن نرجع بالتحقيق على الإجمال فيما تكلمنا عليه من علوم اللسان‏.‏ والله الهادي للصواب‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:06

الفصل السادس والأربعون في أن اللغة ملكة صناعية
اعلم أن اللغات كلها ملكات شبيهة بالصناعة إذ هي ملكمات في اللسان للعبارة عن المعاني وجودتها وقصورها بحسب تمام الملكة أو نقصانها‏.‏ وليس ذلك بالنظر إلى المفردات وإنما هو بالنظر إلى التراكيب‏.‏ فإذا حصلت الملكة التامة في تركيب الألفاظ المفردة للتعبير بها عن المعاني المقصودة ومراعاة التأليف الذي يطبق الكلام على مقتضى الحال بلغ المتكلم حينئذ الغاية من إفادة مقصوده للسامع وهذا هو معنى البلاغة‏.‏ والملكات لا تحصل إلا بتكرار الأفعال لأن الفعل يقع أولاً وتعود منه للذات صفة ثم تتكرر فتكون حالاً‏.‏ ومعنى الحال أنها صفة غير راسخة ثم يزيد التكرار فتكون ملكة أي صفة راسخة‏.‏ فالمتكلم من العرب حين كانت ملكته اللغة العربية موجودة فيهم يسمع كلام أهل جيله وأساليبهم في مخاطباتهم وكيفية تعبيرهم عن مقاصدهم كما يسمع الصبي استعمال المفردات في معانيها فيلقنها أولاً ثم يسمع التراكيب بعدها فيلقنها كذلك‏.‏ ثم لا يزال سماعهم لذلك يتجدد في كل لحظة ومن كل متكلم واستعماله يتكرر إلى أن يصير ذلك ملكة وصفة راسخة ويكون كأحدهم‏.‏ هكذا تصيرت الألسن واللغات من جيل إلى جيل وتعلمها العجم والأطفال‏.‏ وهذا هو معنى ما تقوله العامة من أن اللغة للعرب بالطبع أي بالملكة الأولى التي أخذت عنهم ولم يأخذوها عن غيرهم‏.‏ ثم فسدت هذه الملكة لمضر بمخالطتهم الأعاجم‏.‏ وسبب فسادها أن الناشىء من الجيل صار يسمع في العبارة عن المقاصد كيفيات أخرى غير الكيفيات التي كانت للعرب فيعبر بها عن مقصوده لكثرة المخالطين للعرب من غيرهم ويسمع كيفيات العرب أيضاً فاختلط عليه الأمر وأخذ من هذه وهذه فاستحدث ملكة وكانت ناقصة عن الأولى‏.‏ وهذا ولهذا كانت لغة قريش أفصح اللغات العربية وأصرحها لبعدهم عن بلاد العجم من جميع جهاتهم‏.‏ ثم من اكتنفهم من ثقيف وهذيل وخزاعة وبني كنانة وغطفان وبني أسد وبني تميم‏.‏ وأما من بعد عنهم من ربيعة ولخم وجذام وغسان وإياد وقضاعة وعرب اليمن المجاورين لأمم الفرس والروم والحبشة فلم تكن لغتهم تامة الملكة بمخالطة الأعاجم‏.‏ وعلى نسبة بعدهم من قريش كان الأعاجم بلغاتهم في الصحة والفساد عند أهل الصناعة العربية‏.‏ والله سبحانه وتعالى أعلم وبه التوفيق‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:06

الفصل السابع والأربعون في أن لغة العرب لهذا العهد لغة مستقلة مغايرة
للغة مضر ولغة حمير وذلك أنا نجدها في بيان المقاصد والوفاء بالدلالة على سنن اللسان المضري ولم يفقد منها إلا دلالة الحركات على تعين الفاعل من المفعول فاعتاضوا منها بالتقديم والتأخير وبقرائن تدل على خصوصيات المقاصد‏.‏ إلا أن البيان والبلاغة في اللسان المضري أكثر وأعرق لأن الألفاظ بأعيانها دالة على المعاني بأعيانها‏.‏ ويبقى ما تقتضيه الأحوال ويسمى بساط الحال محتاجاً إلى ما يدل عليه‏.‏ وكل معنى لا بد وأن تكتنفه أحوال تخصه فيجب أن تعتبر تلك الأحوال في تأدية المقصود لأنها صفاته وتلك الأحوال في جميع الألسن أكثر ما يدل عليها بألفاظ تخصها بالوضع‏.‏ وأما في اللسان العربي فإنما يدل عليها بأحوال وكيفيات في تراكيب الألفاظ وتأليفها من تقديم أو تأخير أو حذف أو حركة إعراب‏.‏ وقد يدل عليها بالحروف غير المستقلة‏.‏ ولذلك تفاوتت طبقات الكلام في اللسان العربي بحسب تفاوت الدلالة على تلك الكيفيات كما قدمناه فكان الكلام العربي لذلك أوجز وأقل ألفاظاً وعبارة من جميع الألسن‏.‏ وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏"‏ أوتيت جوامع الكلم واختصر لي الكلام اختصاراً ‏"‏‏.‏ واعتبر ذلك بما يحكى عن عيسى بن عمر وقد قال له بعض النحاة‏:‏ ‏"‏ إني أجد في كلام العرب تكراراً في قولهم‏:‏ زيد قائم وإن زيداً قائم وإن زيداً لقائم والمعنى واحد‏.‏ فقال له‏:‏ إن معانيها مختلفة فالأول‏:‏ لإفادة الخالي الذهن من قيام زيد والثاني‏:‏ لمن سمعه فتردد فيه والثالث‏:‏ لمن عرف بالإصرار على إنكاره فاختلفت الدلالة باختلاف الأحوال‏.‏ وما زالت هذه البلاغة والبيان ديدن العرب ومذهبهم لهذا العهد‏.‏ ولا تلتفتن في ذلك إلى خرفشة النحاة أهل صناعة الإعراب القاصرة مداركهم عن التحقيق حيث يزعمون أن البلاغة لهذا العهد ذهبت وأن اللسان العربي فسد اعتباراً بما وقع أواخر الكلم من فساد الإعراب الذي يتدارسون قوانينه‏.‏ وهي مقالة دسها التشيع في طباعهم وألقاها القصور في أفئدتهم وإلا فنحن نجد اليوم الكثير من ألفاظ العرب لم تزل في موضوعاتها الأولى والتعبير عن المقاصد والتعاون فيه بتفاوت الإبانة موجود في كلامهم لهذا العهد وأساليب اللسان وفنونه من النظم والنثر موجودة في مخاطباتهم وفيهم الخطيب المصقع في محافلهم ومجامعهم والشاعر المفلق على أساليب لغتهم‏.‏ والذوق الصحيح والطبع السليم شاهدان بذلك‏.‏ ولم يفقد من أحوال اللسان المدون إلا حركات الإعراب في أواخر الكلم فقط الذي لزم في لسان مضر طريقة واحدة ومهيعاً معروفاً وهو الإعراب وهو بعض من أحكام اللسان وإنما وقعت العناية بلسان مضر لما فسد بمخالطتهم الأعاجم حين استولوا على ممالك العراق والشام ومصر والمغرب وصارت ملكته على غير الصورة التي كانت أولاً فانقلب لغة أخرى‏.‏ وكان القرآن منزلاً به والحديث النبوي منقولاً بغته وهما أصلا الدين والملة فخشي تناسيهما وانغلاق الأفهام عنهما بفقدان اللسان الذي تنزلا به فاحتيج إلى تدوين أحكامه ووضع مقاييسه واستنباط قوانييه‏.‏ وصار علماً ذا فصول وأبواب ومقدمات ومسائل سماه أهله بعلم النحو وصناعة العربية فأصبح فناً محفوظاً وعلماً مكتوياً وسلماً إلى فهم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم راقياً‏.‏ ولعلنا لو اعتنينا بهذا اللسان العربي لهذا العهد واستقرينا أحكامه نعتاض عن الحركات الإعرابية التي فسدت في دلالتها بأمور أخرى وكيفيات موجودة فيه فتكون لها قوانين تخصها‏.‏ ولعلها تكون في أواخره على غير المنهاج الأول في لغة مضر فليست اللغات وملكاتها مجاناً‏.‏ ولقد كان اللسان المضري مع اللسان الحميري بهذه المثابة وتغيرت عند مضر كثير من موضوعات اللسان الحميري وتصاريف كلماته‏.‏ تشهد بذلك الأنقال الموجودة لدينا خلافاً لمن يحمله القصور على أنهما لغة واحدة ويلتمس إجراء اللغة الحميرية على مقاييس اللغة المضرية وقوانينها كما يزعم بعضهم في اشتقاق ‏"‏ القيل ‏"‏ في اللسان الحميري أنه من القول وكثير من أشباه هذا وليس ذلك بصحيح‏.‏ ولغة حمير لغة أخرى مغايرة للغة مضر في الكثير من أوضاعها وتصاريفها وحركات إعرابها كما هي لغة العرب لعهدنا مع لغة مضر إلا أن العناية بلسان مضر من أجل الشريعة كما قلناه حمل ذلك على الاستنباط والاستقراء وليس عندنا لهذا العهد ما يحملنا على مثل ذلك ويدعونا إليه‏.‏ ومما وقع في لغة هذا الجيل العربي لهذا العهد حيث كانوا من الأقطار شأنهم في النطق بالقاف فإنهم لا ينطقون بها من مخرج القاف عند أهل الأمصار كما هو مذكور في كتب العربية أنه من أقصى اللسان وما فوقة من الحنك الأعلى‏.‏ وما ينطقون بها أيضاً من مخرج الكاف وإن كان أسفل من موضع القاف وما يليه من الحنك الأعلى كما هي بل يجيئون بها متوسطة بين الكاف والقاف وهو موجود للجيل أجمع حيث كانوا من غرب أو شرق حتى صار ذلك علامة عليهم من بين الأمم والأجيال ومختصاً بهم لا يشاركهم فيها غيرهم‏.‏ حتى إن من يريد التعرب والانتساب إلى الجيل والدخول فيها يحاكيهم في النطق بها‏.‏ وعندهم أنه إنما يتميز العربي الصريح من الدخيل في العروبية والحضري بالنطق بهذه القاف‏.‏ ويظهر بذلك أنها لغة مضر بعينها فإن هذا الجيل الباقين معظمهم ورؤساؤهم شرقاً وغرباً في ولد منصور بن عكرمة بن حصفة بن قيس بن عيلان من سليم بن منصور ومن بني عامر بن صعصعة بن معاوية بن بكر بن هوازن بن منصور‏.‏ وهم لهذا العهد أكثر الأمم في المعمور وأغلبهم وهم من أعقاب مضر وسائر الجيل معهم من بني كهلان فى النطق بهذه القاف أسوة‏.‏ وهذه اللغة لم يبتدعها هذا الجيل بل هي متوارثة فيهم متعاقبة ويظهر من ذلك أنها لغة مضر الأولين ولعلها لغة النبي صلى الله عليه وسلم بعينها‏.‏ وقد ادعى ذلك فقهاء أهل البيت وزعموا أن من قرأ في أم القرآن ‏"‏اهدنا الصراط المستقيم] ‏"‏ بغير القاف التي لهذا الجيل فقد لحن وأفسد صلاتة ولم أدر من أين جاء هذا فإن أهل الأمصار أيضاً لم يستحدثوها وإنما تناقلوها من لحن سلفهم وكان أكثرهم من مضر لما نزلوا الأمصار من لدن الفتح‏.‏ وأهل الجيل أيضاً لم يستحدثوها إلا أنهم أبعد من مخالطة الأعاجم من أهل الأمصار‏.‏ فهذا يرجح فيما يوجد من اللغة لديهم أنه من لغة سلفهم‏.‏ هذا مع اتفاق أهل الجيل كلهم شرقاً وغرباً في النطق بها وأنها الخاصية التي يتميز بها العربي من الهجين والحضري‏.‏ والظاهر أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الجيل العربي البدوي هو من مخرج القاف عند أولهم من أهل اللغة وأن مخرج القاف متسع فأوله من أعلى الحنك وآخره مما يلي الكاف‏.‏ فالنطق بها من أعلى الحنك هو لغة الأمصار والنطق بها مما يلي الكاف هي لغة هذا الجيل البدوي‏.‏ وبهذا يندفغ ما قاله أهل البيت من فساد الصلاة بتركها في أم القرآن فإن فقهاء الأمصار كلهم على خلاف ذلك‏.‏ وبعيد أن يكونوا أهملوا ذلك فوجهه ما قلناه‏.‏ نعم نقول إن الأرجح والأولى ما ينطق به أهل الجيل البدوي لأن تواترها فيهم كما قدمناه شاهد بأنها لغة الجيل الأول من سلفهم وأنها لغة النبي صلى الله عليه وسلم‏.‏ ويرجح ذلك أيضاً إدغامهم لها في الكاف لتقارب المخرجين‏.‏ ولو كانت كما ينطق بها أهل الأمصار من أصل الحنك لما كانت قريبة المخرج من الكاف ولم تدغم‏.‏ ثم إن أهل العربية قد ذكروا هذه القاف القريبة من الكاف وجهي التي ينطق بها أهل الجيل البدوي من العرب لهذا العهد وجعلوها متوسطة بين مخرجي القاف والكاف‏.‏ على أنها حرف مستقل وهو بعيد‏.‏ والظاهر أنها من آخر مخرج القاف لاتساعه كما قلناه‏.‏ ثم إنهم يصرحون باستهجانه واستقباحه كأنهم لم يصح عندهم أنها لغة الجيل الأول‏.‏ وفيما ذكرناه من اتصال نطقهم بها لأنهم إنما ورثوها من سلفهم جيلاً بعد جيل وأنها شعارهم الخاص بهم دليل على أنها لغة ذلك الجيل الأول ولغة النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ذلك كله‏.‏ وقد يزعم زاعم أن هذه القاف التي ينطق بها أهل الأمصار ليست من هذا الحرف وأنها إنما جاءت من مخالطتهم للعجم وإنهم ينطقون بها كذلك فليست من لغة العرب‏.‏ ولكن الأقيس كما قدمناه من أنهما حرف واحد متسع المخرج‏.‏ فتفهم ذلك‏.‏ والله الهادي المبين‏.‏


عدل سابقا من قبل محمد منسى في الإثنين 5 مايو 2008 - 16:09 عدل 1 مرات
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

تاريخ ابن خلدون - صفحة 6 Empty رد: تاريخ ابن خلدون

مُساهمة من طرف محمد منسى الإثنين 5 مايو 2008 - 16:07

الفصل الثامن والأربعون في أن لغة أهل الحضر والأمصار
لغة قائمة بنفسها مخالفة للغة مضر اعلم أن عرف التخاطب في الأمصار وبين الحضر ليس بلغة مضر القديمة ولا بلغة أهل الجيل بل هي لغة أخرى قائمة بنفسها بعيدة عن لغة مضر وعن لغة هذا الجيل العربي الذي لعهدنا وهي عن لغة مضر أبعد‏.‏ فأما أنها لغة قائمة بنفسها فهو ظاهر يشهد له ما فيها من التغاير الذي بعد عن صناعة أهل النحو لحناً‏.‏ وهي مع ذلك تختلف باختلاف الأمصار في اصطلاحاتهم فلغة أهل المشرق مباينة بعض الشيء للغة أهل المغرب وكذا أهل الأندلس معهما وكل منهم متوصل بلغته إلى تأدية مقصوده والإبانة عما في نفسه‏.‏ وهذا معنى اللسان واللغة‏.‏ وفقدان الإعراب ليس بضائر لهم كما قلناه في لغة العرب لهذا العهد‏.‏ وأما أنها أبعد عن اللسان الأول من لغة هذا الجيل فلأن البعد عن اللسان إنما هو بمخالطة العجمة‏.‏ فمن خالط العجم أكثر كانت لغته عن ذلك اللسان الأصلي أبعد لأن الملكة إنما تحصل بالتعليم كما قلناه‏.‏ وهذه ملكة ممتزجة من الملكة الأولى التي كانت للعرب ومن الملكة الثانية التي للعجم‏.‏ فعلى مقدار ما يسمعونه من العجمة ويربون عليه يبعدون عن الملكة الأولى‏.‏ واعتبر ذلك في أمصار إفريقية والمغرب والاندلس والمشرق‏.‏ أما إفريقية والمغرب فخالطت العرب فيها البرابرة من العجبم لوفور عمرانها بهم ولم يكد يخلو عنهم مصر ولا جيل فغلبت العجمة فيها على اللسان العربي الذي كان لهم وصارت لغة أخرى ممتزجة‏.‏ والعجمة فيها أغلب لما ذكرناه فهي عن اللسان الأول أبعد‏.‏ وكذا المشرق لما غلب العرب على أممه من فارس والترك فخالطوهم وتداولت بينهم لغاتهم في الأكرة والفلاحين والسبي الذين اتخذوهم خولاً ودايات وأظآراً ومراضع ففسدت لغتهم بفساد الملكة حتى انقلبت لغة أخرى‏.‏ وكذا أهل الأندلس مع عجم الجلالقة والإفرنجة‏.‏ وصار أهل الأمصار كلهم من هذه الأقاليم أهل لغة أخرى مخصوصة بهم تخالف لغة مضر ويخالف أيضاً بعضها بعضاً كما نذكره وكأنها لغة أخرى لاستحكام ملكتها في أجيالهم‏.‏ والله يخلق ما يشاء ويقدر‏.‏


((  إن لم يكن شعري كعهدي به


فحسنك الشعر الذي أهوي   ))


م . منسي
محمد منسى
محمد منسى

عضومميز
عضومميز


المشاركات المشاركات : 3296

الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل

صفحة 6 من اصل 20 الصفحة السابقة  1 ... 5, 6, 7 ... 13 ... 20  الصفحة التالية

الرجوع الى أعلى الصفحة

- مواضيع مماثلة

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى