تعالى اشطفها
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.

قصة صدام حسين ..

صفحة 3 من اصل 7 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7  الصفحة التالية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق اذهب الى الأسفل

*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:00

تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :

تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها..


أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.

ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).

صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.....

*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:15

هطلت الامطار مدرارا بعد رحيل المنبوذ، وصارت الاغنام تلد مرتين في العام الواحد.
قال محمود مخاطبا جده:
ـ اتعرف، يا والدي، منذ ان غادرنا المنبوذ حسقيل، صارت الدنيا كأنها تمطر خيرا علينا، بعد ان واجهنا احتباس الامطار سنوات بعينها او اشهرا كثيرة من سنين بعينها.. بل حتى اغنامنا صارت تلد مرتين في السنة؟! ويجيبه ابراهيم:
ـ نعم، يا ولدي، انه خير من الله لدنيانا، لكن خير الآخرة لمن يعملون صالحا افضل، واكثر ديمومة، حيث ضيافة الرب الرحيم.
ويجيب محمود ويوسف وأم الخير:
ـ آمنا بالله، ولا اله الا الله والله اكبر..
ثم يقول يوسف موجها كلامه الى جده:
ـ لاحظت ان حسقيل ازداد سوءا بعد سفرته الطويلة التي ذهب فيها الى بابل، حيث سمع قصصا كثيرة من بقايا من سباهم البابليون الى هناك، كما افضى لي، ومنهم عدد من الكهنة، قال انهم من سلالة من حجزوا كأسرى، وحرم عليهم في حينه الخروج خارج اسوار المدينة، وقال حسقيل انهم يفهمون في شؤون الدين وانهم تعلموا السحر هناك، وهم من بقايا سلالة اولئك الذين جاء بهم اسرى قائد البلاد نبوخذ نصر.. اي ان اجدادهم، وفق ما اوضح لي حسقيل، كانوا يسكنون ارضا مجاورة لارضنا هذه، هي في الاصل من اراضي بلاد الشام، كانوا قد اغتصبوها من اهلها الاصليين او انهم وسعوا ديارهم على حساب جيرانهم، حيث عندما غزاهم نبوخذ نصر ودمر معابدهم واسر دهاقنتهم، لم يهب لنصرتهم احد من المجاورين، بل ان حسقيل قال لي، وفق ما سمع منهم في مدينة بابل العظيمة، ان السكان المجاورين في بلاد الشام، رحبوا بما قام به نبوخذ نصر ضدهم.
قال ذلك يوسف، وفي نفس الوقت كأنه اراد ان يوجه سؤالا الى ابراهيم:
ـ ولكن لماذا تصرف سكان البلاد المجاورة بعدم مبالاة ازاء احتلالهم من نبوخذ نصر؟ بل لماذا ناصروه في حقيقة الامر عليهم؟
اجابه ابراهيم:
ـ ان اولئك القوم، مثلما اعرف عنهم، قوم انانيون، ودورهم استغلالي استئثاري ازاء من يجاورهم او يخالطهم، بل غالبا ما كان عدوانيا استحواذيا، لذلك غالبا ما كانت الشعوب التي كانت تخالطهم او تجاورهم، تكرههم او تمقتهم، فضلا عن ان شعوب بلاد الشام شعوب عربية، يا ولدي.. وان شعب بلاد بابل عربي، وعندما يكون الدم واحدا ويجري في مجرى واحد، يكون شعوره واحدا ايضا.
عاد يوسف ليقول:
ـ كنت قبل ذلك الوقت اختلف مع حسقيل في امور كثيرة قبل سفره الى بابل، لكن بعد سفره وعودته منها، لم اجد مجالا او شيئا يمكن ان اتفق معه عليه، بل لعلي وجدته على دين آخر واجتهادات ما انزل الله بها من سلطان، وهي في كل احوالها، وفي الحال التي توصف بأقل ما يمكن من السوء، ليست الدين الذي علمتنا اياه، وصار اجتهاد حسقيل يتم بعيدا عن المنطلقات والمرتكزات التي علمتنا اياها وامرتنا بها وفقا لدينك الحنيف.. وقد لاحظت ذلك ليس اثناء حوارنا على امور بعينها، وانما لاحظته عندما كان يرشد من تحيلهم الينا لنوجههم في الايمان والحكمة، وعندما كنت اصحح له، كان ينهرني ولا يصغي لملاحظاتي، وكنت اسكت على مضض، باعتباره الاكبر سنا وقد اخطأت لانني لم افض بذلك اليك، لانني خشيت ان اخلق مشكلة بينكما، بأمل ان يرعوي ويعود الى رشده، ولكنه بدلا من أن يعود إلى رشده ارتكب جريمته القبيحة مع ابنة شيخ القبيلة، الرجل الكريم، الطيب الشجاع.
ثم يعود ليقول بعد ان يسكت برهة:
ـ سوّد الله وجهه في الدنيا قبل الآخرة، بعد ان اخزانا بفعله السيئ.
ويقول الجميع ابراهيم وحليمة ومحمود:
ـ آمين يا رب العالمين..
ثم يتساءل محمود: لقد لاحظت انني اختلف مع يوسف ايضا في اجتهادي وما افتي به في شؤون الدين والدنيا.. فهل هذا صحيح؟ ام لك وجهة نظر اخرى، يا والدي؟
هوامش

1 ـ الطاسة : آنية من النحاس لشرب الماء.
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:16

وفي الحلقتين السابقتين، دارت حوارات بين الجد واحفاده حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع.
راح ابراهيم يتأمل في النجوم وهم يجلسون خارج بيت الشعر في بداية الليل، ورغم ان تلك الايام كانت الايام الاولى من الشهر العاشر (تشرين الاول) فقد كانوا جميعا يرتدون كنزات (فروات) (1) صوفية من غير اكمام، تصل الى ما تحت الخصر بقليل، عكس فروة الشتاء التي تكون بأكمام وتكاد تلامس الارض عندما يرتدونها، وغالبا ما تستخدم غطاء في النوم المنفرد، الا حليمة فإنها تبقى على هذا النوع من الفروات القصيرة من غير كم، لتسهل لها مهمة العمل والحركة داخل البيت، ولأنها بحكم استقرارها في البيت يكون تعرضها للبرد اقل منهم.
كان الجميع يرتدون فروات قصيرة.. اتقاء لنفحات برد الشهر العاشر، لكنهم كانوا يتمتعون بطراوته ولا يدخلون بيت الشعر الا عندما ينامون، ومن ينام خارج البيت لا بد ان يحتاج الى دثار.

كانت نفحات البرد تأتي معلنة تغير الطقس، بعد ان عبر الشهر الاول من الخريف وصاروا في شهره الاوسط: العاشر.. كانت عينا ابراهيم تتقلبان في السماء بعد ان سمع سؤال محمود، كأنه يستنجد بالله ان يهديه الى الجواب الصحيح، في الوقت الذي يتأمل عظمة شريعته وقانونه، وهو ينظر الى السماء التي رفعها رب السموات من غير عمد، وزينها بالنجوم هادية ورجوما للشياطين.. ثم ينتقل ابراهيم بنظره الى الابل والماشية.. يتأملها ويتأمل ما فيها من تسهيلات خلقها الله للانسان.. ثم يقول بلغة مليئة بالثقة مع الايمان:

ان الاساس، يا ولدي، ان نؤمن بإله واحد، هو الله، سبحانه وجلت قدرته.. انه ربنا وخالقنا، ولا اله آخر غيره.. واننا له مسلمون مشيئتنا وفعلنا وعبادتنا له سبحانه وليس لغيره.. وان اقامة العدل والانصاف وقول الحق والعمل به ورفض الباطل والسعي في الارض في علاقاتنا الانسانية، معمرين لها لا مفسدين، هو سبيلنا، ولذلك عليكم ان تتذكروا شريعتي وما علمتكم اياه قولا وفعلا، وبعد ذلك، لكم ان تجتهدوا، على ان تراعوا وانتم تجتهدون، ان يكون اجتهادكم، اذا اضطررتم، منزها من الهوى وعلى اساس الضرورة الملجئة لما تقتضيه الحياة ويستوجبه الدين، وليس محض بناء طريق مختلف بين طرق مطروقة، ليعرف صاحبه فيه، وان لا يرتب الاجتهاد او ينشئ حقا من باطل او يلغي ويزور حقا ثابتا، وان لا يكون تعبيرا عن ضجر او خوف او مراءاة ونفاق او تعبيرا عن غضب او رغبة في الحاق اذى بآخرين وان يكون اتكالكم بعد ذلك وقبل ذلك، على الواحد الاحد.. وان النية والهدف الصادقين حالة فاصلة وان الامانة والدعوة لها والعمل بها واقامة العدل والحج الى بيت الله لمن استطاع اليه سبيلا، ضرورية كلها وان التوفيق بعد ذلك من الله القادر الحكيم.
عاود ابراهيم التأمل في الطبيعة.. ثم قام وصلى.. ودعا حليمة وولديه لأن يصلوا ايضا..
بعد ان انجزوا صلاتهم، جاءتهم حليمة بما قسمه الله من المطبوخ من طير (الحبر) الذي اصطاده محمود بعصاه او سهامه، وهو يباري رعاة الإبل والغنم في المرعى.
بعد انتهائهم من العشاء وجدوا انهم بحاجة الى ان يوقدوا نارا.. كانت السماء صافية، تسطع فيها النجوم التي تستطيع عين الانسان ان تكتشفها وتمتد اليها.. وراح محمود ويوسف يتباريان في ذكر اسمائها، وراح ابراهيم يصحح لهما ما يخطئان فيه او يضيف الى معلوماتهما ما لم يهتديا اليه.
قال محمود.. بعد ان استأذن جده:
ـ أليس من الافضل ان توزع الاتجاهات بيننا بصورة اسمية، يا والدي؟.. توزعها بيني وبين يوسف، لكي يعرف كل منا حدود مسؤوليته في ما يدعو اليه الناس، مبتدئين بالعرب، حيث هناك العراق، الى الشرق منا، وعلى مقربة منا بلاد الشام، وبعدها الحجاز ونجد واليمن.. أليس من الافضل، ومنعا للتداخل ان تقول لكل واحد منا اين يتجه في نشاطه، ليعرف كل منا سبيله؟
قال ابراهيم:
ـ نعم، اقول ابتداء ان اهل نجد والحجاز واليمن والعراق، عدا نينوى، من حصتك يا محمود، اما اهل نينوى في العراق، وكل بلاد الشام، عدا ارض الجزيرة الملاصقة للعراق، فهي من حصة يوسف، واعود لأكرر، ان هذا التقسيم اسمي وليس مطلقا، وهو الى حين وليس دائما، ولاغراض النشاط وتوجيهه وليس لاغراض الاختلاف وفي كل الاحوال، فأي اختلاف بينكما، يجب ان يكون الحكم الفاصل فيه شريعتي وما يرضي الرب الرحيم، وان تتذكرا انكما ابنا عم، وان تبعدا عنكما الشر وحكمه والطمع ومهاويه وان تبقيا الشيطان بعيدا عن صدريكما وعقليكما وان تتنزها عن الهوى وان تبعدا فتن الاجنبي عنكما وطريقة فهمه للدين.. وان تحذرا حسقيل لئلا يلوث دينكما بالهوى والطمع ويحرف طريقكما.
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:17

هنا سأل محمود جده ابراهيم:
ـ قلت ان نبتعد عن فتن الاجنبي بيننا.. وهذا مفهوم، لكنك قلت (وفهمه للدين وطريقة او طرق التعبير عن الدين، على اساس هوى الاجنبي او فهمه).. أليس دينك وشريعتك انسانيين يتعديان امتنا ويتوجهان الى أمم الارض كلها ام انهما قوميان فحسب؟

تأمل ابراهيم في وجه محمود وهو يبتسم بحبور واضح، وقال:

ـ نعم، يا ولدي، ان ديننا وشريعتنا انسانيان، لكن امتنا هي قاعدتهما الاساس.. وهذا ما اراده الله سبحانه ولذلك فان ما يختمر في القاعدة، يا ولدي، في روحه وبنائه، هو الاساس وان توجهنا في دعوتنا الى الانسانية ككل يقتضي، مع ضرورة التنبه الى اننا حيثما تشعبت امامنا الطرق بعد ذلك، ومن بعدنا الاجيال التي نورثها العقيدة، نعود الى الاساس والمنطلق وما اختمر في وعاء الامة وضميرها وعقلها، ليكون بوصلة حركتنا الى الامام والقاعدة والحكم الفصل في ما يختلف عليه او يقال فيه من اجتهاد، ذلك لأن الامم الاخرى، ستتلقى الدين منا وسنكون نحن مستودع اسراره ونبضه وروح انطلاقته ونماذجه الحية في منبعه الاساس وان اتسع الافق امامنا ليمتد الى البعيد البعيد، ذلك لان الأمم الاخرى متكونة على اعتقادات ليست بديانات الهية، وانما عبادات قومية صيرتها رغبة او عبقرية اصحابها في تلك الامم، لتلتم عبر التاريخ على ما يوحدها ويحقق لها الاهداف التي اختارتها في مراحل متعاقبة من الزمن، لذلك ما ان يؤمنوا بأساسيات ما ندعوهم اليه وينفصلوا عن توجيهنا المباشر، حتى تخالط عقائدهم السابقة الدين الجديد.. ومع تعدد الاجيال واحتمالات انتشار البدع على اساس الهوى او التسهيلات التي تنادي بها حياتهم او تفرضها عليهم هي وملوكهم، تصير اساسيات ما عرفوه عن تقاليدهم القومية من عبادات، كأنها اساس لدينهم وشعائرهم وتكون اساسيات الدين الجديد كأنها جزء من ذلك، وليس القاعدة والجوهر الذي يلغي ما عداه او يصححه بموجبها والخطير، يا ولدي، ان تتوافق مع هوى النفس الرغبة في الانعزال عن التوجيه المباشر للعرب المؤمنين على الوصف الذي ذكرناها عنهم.. وعندها تكون كأنها اديان جديدة وان سميت باسم ديننا.
قال محمود:
ـ شكرا، يا والدي.. لقد فهمت.

قال يوسف لابراهيم:

ـ التقيت قبل زمن بأناس من بلاد الروم.. التقيتهم بادئ الامر مقبلين بقوافلهم الى نينوى من بلاد الشام، وعرضت عليهم ديننا، مع انهم اجانب ومن قوميات اخرى، فهل ما فعلته صحيح ام خطأ؟
ـ بل، صحيح، يا يوسف، ذلك لأن ديننا موجه الى الناس كلهم، عربا واعاجم، سواء كانت بشرتهم بيضاء او سوداء او سمراء او من اللون الاصفر، كما في الصين وما جاورها، لكن عليكما الانتباه الى ما قلته لمحمود الآن، لأنه يعنيكما، وان كان لكل منكما اجتهاده وطريقه الآخر بعد ان انطلقتم من طريق التوحيد الاساس.
ـ نعم يا والدي، سوف انتبه الى ما قلته لنا الآن، لانك تقوله لأول مرة.
ـ نعم، يا ولدي، قلته لأول مرة، ليس لأن محمود سألني عنه الآن، ذلك انني كنت سأقوله.. ولو لم اقله اليوم، لقلته غدا او بعد غد، لان دعوتنا كانت محصورة في بلاد العرب فقط، اما الآن فصارت تمتد الى اقوام وشعوب اخرى.

****




منذ ذلك اليوم عرف كل حدود واجباته، وصار كل منهما يستقبل من يستقبله ويوجه من يوجهه، على اساس ما امر به ابراهيم مثلما كانا يفعلان قبل ذلك او يخرج كل منهما الى مواطن القبائل والقرى او مسارات رحلات الشتاء والصيف، بين بلاد الشام وهذه الاصقاع من ارض الله.

***


كان حسقيل قد استقر في قبيلة مناوئة لقبيلة غريمه: ذلك الشيخ الجليل، وجعل البحر الميت بينه وبين الاماكن التي تسكنها قبيلة الشيخ او مرابعه ومشاتيه، حيث يستقر جده ومرابعه ومشاتيه، وما ان حل في تلك القبيلة البعيدة ولنسمها (القبيلة المضطرة)، فيما نطلق على قبيلة الشيخ الطيب اسم (القبيلة المختارة)، حتى بدأت المشاكل تنشب وتزداد احتداما بين القبيلتين، وكان اساس التحرش هو تحريض حسقيل لتلك القبيلة، ليروج بضاعته من الاسلحة وليدفع ابناءها الى كسب غنائم ليبيع الذهب والفضة لنسائهم ولمن يرغب في شرائهما ولا يملك اموالا تعينه على ذلك.
كانت دسائس حسقيل تزداد، بعد ان رتب اشعارا وقصائد عن طريق من اغراهم ودفع لهم، تسيئ للقبيلة المضطرة وشيخها، وبناته وبنات العشيرة ويدعي من ينقلها بأنه سمعها من شيخ القبيلة المختارة مباشرة او من شعراء قبيلته في اي من رحلات الشتاء والصيف او في مرابع العشيرة ومشاتيها، وكان يفعل الشيء نفسه مع شيخ القبيلة المختارة عن طريق آخرين او عن طريق نفس الاوساط، ناقلا اليه والى قبيلته ما هو معاكس عن شيخ القبيلة المضطرة وافراد قبيلته، لكن شيخ القبيلة المختارة كان غالبا ما يأخذ رأي ابراهيم في ما يصله من الطرف الآخر، فيهدئه ابراهيم، ويقول له ان ذلك من فعل وتدبير حسقيل، وهما فعل وتدبير غير نزيهين، ويحذره من ان يوقع بينهما، لكن شيخ القبيلة المضطرة لم يكن امامه من يحذره من حسقيل، الذي صار يتصرف مع شيخها وكأنه صاحب فضل عليه وعلى قبيلته، ذلك انه قال لشيخ القبيلة انه على استعداد ليصنع له ولقبيلته السلاح الذي يحتاجونه، وانه لن يستوفي ثمنه الى ان يغزو شيخ القبيلة المضطرة القبيلة المختارة وشيخها، لقاء فائدة اتفقوا عليها.. وصار حسقيل من يومها يتردد كصديق حميم لشيخ القبيلة المضطرة ومستشارا في الاغلب الاعم، لا يتجاوز رأيه في ما يشير به او يقوله.. وصارت القبيلة المضطرة تكثر الغارات على القبيلة المختارة وتنصب الكمائن وتستولي على الماشية وتقتل من تنفرد به خارج الجماعة، وغالبا ما كانت القبيلة المضطرة، عندما تقوم برد فعل على القبيلة المختارة برد فعل على اعمالها واعتداءاتها، تتملص من المواجهة المباشرة، وتتحصن في حصون اعدت لهذا الغرض او تنسحب الى الجبال، متخذة من المغاور والكهوف البعيدة التي يعرفونها مأوى لهم، خاصة عندما تقرر القبيلة المختارة مواجهتهم بحشود منظمة، اما اذا رأوا ان المجموعة التي تواجههم ليست حشودا منظمة وانما محض مجاميع من غير عمق، كانوا ينقضون عليها ويقتلون رجالها ويروعون اطفالهم او يقتلونهم ويستولون على متاعهم ومواشيهم واذا ما ظفروا بأي من نسائهم اتخذوها سبية.
عندما حل الربيع في السنة الثانية، نصح حسقيل شيخ القبيلة المضطرة بأن يرتحل، ويتجاوز الارض التي كانت محرمة عرفا بين القبيلتين، كمسافة امان لتجنب الاحتكاك والتهيؤ عند اعتراض القبيلة المختارة للانقضاض عليها والاستيلاء على مواشيها (حلالها)، وقتل رجالها وسبي نسائها، وسحقها سحقا كاملا، بدلا من اسلوب الغارات والمهارشة، لكنه التمس او اشترط امرا على شيخ القبيلة ان هم غلبوا غريمهم:
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:19

ان شرطي الاساس، يا شيخ، هو ان تجعل ابنة شيخ القبيلة من نصيبي، اذا غلبتم.
ورغم ان ذلك كان شرطا قاسيا، حيث كان شيخ القبيلة المضطرة طامعا بها لنفسه، على اساس عرف ذلك الزمان، فقد قبل شرط حسقيل على مضض.

في أواخر شهر فبراير (شباط) من تلك السنة، أمر شيخ القبيلة المضطرة ان يشد عدد قليل من الرجال الرحال من غير نساء واطفال، ليجاوروا، متجاوزين الارض الحرام، القبيلة المختارة، وقال إنه سيختار الوقت المناسب ليأمرهم بالهجوم على القبيلة المختارة.. بعد الوصول، كان حسقيل قد أقنع شيخ القبيلة المضطرة بأن بقاءه في الديار ضروري لتدبير شؤون بيت الشيخ، والاستجابة لطلبات الحريم، والأهم ـ هكذا قال حسقيل ـ ان اواصل صناعة النبال والسيوف والخناجر، والرماح، لأن القتال قد يمتد إلى زمن طويل قبل أن يتحقق النصر.. ولأن صاحب العادة السيئة الذي يكون الشيطان رفيقه بدلا من معاني الرحمن، لا يغير عادته، فما أن خلت له الدار بعد رحيل شيخ القبيلة، حتى بدأ يغازل زوجة الشيخ، ويقدم لها الحلي بسخاء لاستدراجها إلى بيته، وعندما كانت تنهره بادئ ذي بدء، وتقول له: أنا زوجة شيخ القبيلة يا ولد، وان من ابسط معاني إخلاص المرأة لزوجها أن تحفظ غيبته وشرفه فيها..

يقول لها حسقيل متضاحكا:

ـ إنك لست بنت عمه، بل لست بالأساس من قبيلته وقومه، إنما غريبة عن قومه، وان عادات أهلك ليس من عاداتهم وتقاليدهم، ومع هذا، وفوق هذا، ما ادراك، فقد لا يعود شيخ المضطرة، حيث قد يقع في الأسر، أو يقتل، وعندها لن يبقى لك وأنت غريبة من تلوذين به غيري.. مع ما يردف هذا من كلام معسول يقوله.. وما ان تمكن منها، حتى بدأ يساومها على بنتها الوحيدة، خاصة بعد أن رأتهما متلبسين بالجريمة النكراء، وعندما كان يقترب من ابنة الشيخ تنهره، لكنه يقول لها: انه حاول مع أمها لأنها الوسيلة الوحيدة التي يمكن من خلالها وبعدها ان يصل إليها، ومع ان الابنة كانت تشمئز من قوله، مثلما اشمأزت من فعلته مع أمها وفعل أمها معه، لكن مع مرور الأيام، واطلاعها على فعل والدتها معه، بدأت تغير أسلوبها جزئيا، وتناقش نفسها لمواجهة المصيبة بأسلوب آخر.. ذلك ان هذه الأم كانت تنسل مع زوال الشمس في افقها، ومجيء الرعاة بالغنم، وانصرافهم إلى بيوتهم، إلى بيت حسقيل، ولا تعود إلى بيتها إلا قبل بزوغ الشمس بقليل، وعندما كانت الابنة تعاتب أمها، وتلومها، تقول لها الأم:

ـ دعيني لحالي، انك لم تتزوجي بعد، ولا تعرفين شعور المرأة الغريبة عندما يغيب عنها زوجها الذي لا تحبه.. ثم انني، تقول الأم، لست منكم ولا على تقاليدكم، وان أباك كان يعرف عندما تزوجني بأنني عاشرت رجالا آخرين قبله، وعليه ما دامت غيبة ابيك غير معروف أمدها، فدعيني لحالي مع حسقيل، وليتحمل كل وزره.. الخ.. من الكلام الأعمى النزق.

ثم تقول: ان حسقيل رجل قوي، ويعرف كيف يعامل المرأة في السرير وخارج السرير، وهو الآن من يتولى أمر عائلتنا في غياب فرسان الديرة.. كما انه فوق ذلك اغرقنا بالذهب.. أُنظري.. هذه القلادة منه، وتلك الاقراط، وهذا السوار منه ايضا.. وهو بصدد أن يحوك لي حزاما من الذهب، مطعما بالفضة، وعندما اقول له إن هذا كثير، يقول لي (ابديلك) نفس حسقيل، أي نفس حسقيل فداء لك.
ورغم ان كلام امها هذا لم يدفعها الى تصرف مضاد، فإنها مع الزمن راحت تداور مع نفسها كل شيء تسمعه منها: الحلي.. ولا تملك شيئاً منها، ذلك ان أباها يملك، لكنه بخيل ولا يستهويه الصرف على عائلته، لذلك أبقى زوجته وابنته في حرمان إزاء رغبات الحد الأدنى، رغم تمكنه مادياً من ذلك.. أليس المثل القائل (اكسر البصلة وشمها تأتي البنت على أمها)، صحيحاً؟، ثم ماذا يمكن أن يتوقع من بنت لا تنظر أمها لأبيها بتقدير ومحبة واحترام، وتحكي لابنتها ما يشوقها للفاحشة، غير ان تهوي البنت في قعرها إذا استسلمت لمهاوي الشيطان، ولم يكن فيها ومن حولها ما يحصّنها؟، لكن بنت الشيخ لم تهو إلى قعر البئر الآسن السحيق التي سبقتها أمها إليها، رغم انها كانت قد قدرت هي وأمها أن شيخ القبيلة المضطرة اضعف من أن يعاقبهما عقابا صارما، إذا عرف.
نعم، ان الاعداد الجيد، والتربية الجيدة على المبادئ، وفي مقدمتها مبادئ الدين والالتزام بحقوق الله، وحقوق الناس، مثلما هي حقوق الإنسان نفسه، في الأقل، مهمة لحصانة الإنسان إزاء مزالق الشيطان، سواء من رجل أو امرأة، أو في علاقة الرجل بالمرأة، أو في الحقوق والأمور الأخرى، لكن يبقى ثمة شيئان حاسمان أمام انهيار أي خط دفاعي مما ذكرنا.. أولهما الوسط الاجتماعي القريب (العائلة).. او الوسط الاجتماعي الأبعد (المدرسة، الدائرة، السكن، الاصدقاء، والمعارف).. الخ.
والثاني هو العقاب، على قاعدة المثل العربي المشهور (من أمِن العقاب أساءَ الأدب).. و(آخر الدواء الكي).
ان العقاب، سواء كان عقاب القانون أو عقاب العائلة نفسها، هو الخط الدفاعي الأخير والحاسم، إذا ما انهارت الخطوط الدفاعية الأخرى، ذلك ان أي إنسان عندما يعرف أن هناك رادعاً ينتظره، وقد يكون الرادع قاسياً، يفكر ويفكر ويفكر، قبل أن يُقدم، وبخاصة عندما يكون الإقدام على فعل ليس مما يعزّه، أو يعز أهله بين الناس، إنما يخزيهم أمام الله والناس، وقد لا تفضي نتائج التفكير والتأمل في سوء العاقبة الى التردد فحسب، إنما إلى الامتناع والسعي إلى تحصين النفس، بما يقنعها ويحول بينها وبين الرغبات غير المشروعة، لذلك فإن الله، سبحانه، وهو يعد عباده الصالحين والمتقين بالجنة وطيباتها، يحذرهم من النار، ويعد الكافرين والضالين بها، والعياذ بالله من حرّها وما يخزي النفس فيها أمام الله.
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:22

افتعل حسقيل العفّة ذات ليلة، مدعياً أنه منشغل بأفكار كلها خطيرة، وعندما سألته زوجة الشيخ:
ـ ماذا بك، يا حسقيل؟
ـ قال:
ـ ان فكري منشغل باحتمال أن تخبر ابنتك أباها الشيخ، عندما يعود، وعندها سنكون، أنا وأنت، أمام وضع خطر.. بل سيكون حكمنا معروفاً مسبقاً، ومصيرنا إلى موت محتّم.
وعندما تحاول أن تثنيه عن هذه الهواجس وتقول له.. إن ابنتها لن تقول شيئاً لأبيها.. يقول لها: بل ستقول له، وحتى لو تغاضى عن هذه الحال، فإن أعمامه لن يتركونا سالمين.
وعندما تسأله: ما الحل؟ يقول لها: إن الحل الوحيد الذي يجعلنا في أمان هو أن أغويها وأراودها عن نفسها.
وعندما تجفل زوجة الشيخ لوقاحته وخروجه عن المألوف، يقول لها: هوّني عليك، أنا لا اقصد أن أفعل معها ما أفعله معك، إنما قصدي أن تتعلق بي، وأن أقبّلها، وأن تنام معي في الفراش من غير أن أنال منها، وضمن توقيت بعينه نتفق أنا وإياك عليه، تداهميننا لتريها وهي معي في الفراش، وعند ذلك تعنّفينني وتعنّفينها، لكي تستمر علاقتنا، أنا وأنت، مثلما هي عليه الآن، وتكون عين ابنتك قد (كسرت)، ولا تكون بعد ذلك قادرة على إفشاء سر علاقتنا لوالدها.. أليس الاشتراك في الجرم يقود إلى الحرص على عدم كشفه؟!.
وعندما قال (الاشتراك في الجرم) ادرك غلطته.. لكن ليس كاللسان مما لا يمكن تفاديه عندما ينفلت.

***

وصل شيخ قبيلة المضطرة إلى مكان قريب من الحافة القريبة لمكان انتشار القبيلة المختارة، وحيثما نبهه أحد رجاله إلى ذلك، أمرهم بالمسير، حتى صاروا ملاصقين لمسرح ابل القبيلة المختارة..
أمرهم الشيخ أن ينزلوا من فوق ظهور الجمال، بعد ان تبرك كل في المكان المخصص لبناء البيت الذي يعود لصاحبه، لكن بدلاً من أن تكون هناك عائلة في كل بيت جعل في كل بيت مجموعة من الرجال حيث لم ترافقهم نساء ولا أطفال، إنما فرسان قادرون على حمل السلاح والقتال فحسب.
فعل الرجال ما أمروا به، بعد ان حدد شيخ القبيلة مكان بيته وأماكن بيوت قومه ووجودههم على يمين ويسار بيته، وأمرهم بأن لا ينسوا، وهم يبنون بيت الشعر، أن يجعلوا (الربعة) (2)، أو الديوان من جهة شروق الشمس، في الوقت الذي يكون الطرف الآخر للبيت باتجاه مغيبها، سواء كانت قبلة البيت شمالا أو جنوبا.. وعندما يعترض احدهم بالقول إن ليس معنا عوائل، يا شيخ، ينهره الشيخ ويقول له:
ـ أتريد أن تغير عاداتنا وعادات العرب، يا حمار، لمجرد أننا وضعنا أنفسنا ضمن خطة جديدة لمداهمة العدو؟، ثم لو غيرت طريقة بناء بيت الشعر، فإن أي عابر سبيل سيكتشف حالتنا الشاذة، وعندها قد يقول إنهم ليسوا من أهل الديرة، أو دخلاء عليها، مما ينبه شيخ القبيلة المختارة وجماعته، ويجعل من الصعب علينا مفاجأته.
حط الرجال الأثقال عن إبلهم، وباشروا في بناء بيوت الشعر، وما أن تم بناء بيت شيخ القبيلة، وعدد من بيوت شيوخ القبيلة الأدنى مرتبة منه، حتى لاح لهم من بعيد خيال قافلة قادمة، ليس فيها خيول ولا جمال، إنما عدد من الحمير، قال ذلك من استطاع أن يراها من مسافة أبعد فحسب، وقد استنتجوا ان عدد العوائل في القافلة ربما لا يزيد على عشر.. وأراد بعض الشباب أن يستقبلوا القافلة على مسافة من ديارهم، ليبعدوا مسارها عن المكان الذي حطوا فيه، بعد ان امرهم شيخ القبيلة بذلك، إلا أنه انثنى بعد أن قال أحد الشيوخ:
ـ لو فعلتم ذلك، ربما ستثيرون اهتمامهم بنا أكثر، وربما حتى شكوكهم وهواجسهم إزاءنا.
بعد دقائق جاء مقدمهم، وسلم على شيخ القبيلة، قائلا:
ـ تشرفنا يا شيخ القبيلة المضطرة.
كان شيخ المضطرة يعرف هذا الرجل، ويعرف أنه وجه لناس من الغجر، الذين غالباً ما كانوا يتنقلون بين القبائل، لترقص نساؤهم عند من يستدعيهن لذلك، وغالبا ما يكون بيت أكبر شيخ في القبيلة مكانا للرقص، ثم يتناوب من بعده شيوخ القبيلة على استدعائهم لحفلات في بيوتهم، بعد ان يستأذنوا الشيخ الكبير. وهكذا حتى ينتهوا من ذلك، وبعدها يتحولون الى قبيلة ومنازل اخرى، ومن هذا يعيش الغجر ولا يعملون أبداً بأي نوع من أنواع العمل، إنما يمتهنون الرقص فقط، يرافق الرجال النساء إلى حيث يستدعين.. وعندما يبدأن الرقص، تكون شعورهن مغطاة بـ (الفوط) (4)، ولا تنزع أي منهن فوطتها، إلا عندما تترك إحداهن فوطتها لدى شيخ القبيلة، تقديرا له، ولإشعاره بأنها عائدة إليه بعد فاصلة الرقص، أو ينهض من ينهض إلى أي منهن ليطلب فوطتها، أو يؤشر لها بيده لتفعل ذلك، ومن تكون فوطتها عنده يعني انها ستجلس قربه بعد انتهاء فاصلة الغناء والرقص، ويتكرر الحال مع تكرار فواصل الغناء والرقص حتى مطلع الفجر.. ويرتاح الغجر وينامون في النهار، ويسهرون في الليل، ويتنقلون في البادية أو الريف، أو يحطون على اطراف المدن، ولا احد يؤذيهم، أو يغزوهم، أو يجبرهم على عمل لا يرغبون فيه، أو يجبر نساءهم على امر لا يرغبن فيه، هذا ما كان عليه حالهم، في تلك الايام والى وقت ليس ببعيد، اما الآن فقد اختلف حالهم، حيث صارت حفلاتهم الاساس في المدن، في بيوت من يستطيعون دفع المال لهم، وبالذات من يملكون مالا حراما يشوي البطون في الآخرة، ويخزي اهله في الدنيا، بعد ان جمعه من يأكلون السحت بعمليات مضاربة، أو بصفقات مريبة، أو تجارة لا تكتفي بحدود الله من الربح، أو أكل مال يتيم أو فقير، أو جراء سرقة ينتظرهم عقابها في الدنيا بقطع اليد أو العنق، عندما يكتشف امر السراق، أو الحبس الثقيل في الاقل، وصارت بعض نساء الغجر لا يتعففن عن الانحدار مع من ينحدر الى الفواحش على اساس عوامل دوافعها واغراءاتها، وصار ما يعد عيبا وعارا وشنارا على من يعتدي على غجري، يجري احيانا ولا يحس اصحابه بتعذيب ضمير أو برادع من المجتمع، على نفس ما كان يحصل ايام زمان، باعتبار ان الرجل ينتقص أو يذم ان هو نازل أو اعتدى على من هو ليس بكفء له.. وقد ساهم في اضعاف هذا الحاجز النفسي لدى الرجال ان الغجر، مثلما ترتبت لهم التزامات وفق القانون، بعد ان استقروا وتخلوا عن حياتهم السابقة، ومنها حياة الترحال والتنقل المستمر من غير ان يستقروا في مكان بعينه، صارت لهم الآن حقوق وواجبات مساوية لحقوق وواجبات الآخرين، طبقا للقانون، ومنها الخدمة العسكرية التي كانوا معفيين منها، ولكنهم في العراق، مثلا قلما تكون لهم واجبات قتالية، وفق ما نعرف، وانما يقومون في الغالب، وعلى اساس تشبثهم بأعمال الخدمة في مقرات بعض الآمرين، وربما حابى بعضهم الآمرين خفيفي الوزن باحياء حفلة رقص له، عند تمتعه بالاجازة.. الخ، ونساؤهم في العادة لا يسمحن للرجال بما يخزي اكثر، في تلك الايام، غير ما يقمن به من غناء ورقص.. وعندما نقول ان احدا لا يؤذيهم في الزمن القديم ولا يغزوهم، ذلك ان العرب لا يعدون الغجر قرناء صالحين أو اكفاء لهم، ولذلك كانوا يعيبون من يتزوج منهم، أو يغزوهم، ومن هذا كانت حريتهم في التنقل ليلا ونهارا، وبين قبيلة وأخرى، أكثر من حرية اي شخص وأي قبيلة من قبائل العرب..
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:24

ورغم ان كل الشيوخ الذين كانوا مع الشيخ الكبير ارتابوا من الغجر، وان شيخ القبيلة اظهر انه يرتاب منهم ايضا، ولكنه في حقيقة امره سر بوجودهم.. وكان سبب الارتياب ان الغجر عندما يكونون اليوم معهم فانهم قد يرحلون غدا الى القبيلة المختارة، و(من طباع الغجر انهم ينقلون ما يرونه، الزين والشين، والجيد والسيء، على حد سواء) ـ هكذا قال احدهم وهو يعلن عدم ارتياحه لمجيء الغجر اليهم، ولكن الشيخ قال لمقدم الغجر:

ـ حطوا هناك ـ واشار عليه بمكان على مسافة قريبة من بيته من جهة مغيب الشمس ـ لتكونوا الطرف الغربي لمنزل القبيلة، ولا يكون لأي من القبيلة بيت متداخل معكم أو بعدكم من جهة المغيب.. وخذوا شاة، فاذبحوها وتعشوا بها، واعفونا من مهمة تضييفكم، ذلك لأننا في حالة رحيل..
سأله الغجري:
ـ اترحلون ليلا، يا عم؟
فأجاب الشيخ:
ـ لا، لقد وصلنا قبلكم بقليل، وعندما نكمل نصب البيوت سوف نستدعيكم الى حفلة رقص..
ما ان أخذ مقدم الغجر الشاة من بين عدد من الشياه تعود الى شيخ القبيلة، وقادها الى حيث نزل جماعته، وفق ما أمرهم الشيخ، حتى عنَّ له ان يذهب على الفور الى شيخ القبيلة المختارة تحت غطاء جلب خبز من هناك لتناوله ثريدا مع لحم الشاة، حيث لم يزودهم به شيخ القبيلة المضطرة، وهناك من يفضي الى شيخ القبيلة المختارة بما رآه واستنتجه لينال رضاه وكرمه..
قال مقدم الغجر في نفسه وهو يخاطبها بصوت مسموع:
ـ ان شيخ القبيلة المختارة افضل من هذا الشيخ، وهو وقبيلته اكرم من هؤلاء، واذا كان هذا قد اكرمنا اليوم لأمر اراده في نفسه، فانه سبق ان طردنا من دياره اكثر من مرة، ولم يعطنا ما نأكله، حتى عندما نرقص ونغني له لا يعطينا شيئا ذا قيمة، ثم ان هذا الشيخ جاء هو ورجال قبيلته ليغدروا بالقبيلة المختارة، وليس ادل على هذا مما رأيته، حيث لا نساء ولا اطفال برفقتهم، وانما رجال وسيوف ونبال.. الخ. انهم ينوون ان يأخذوا القبيلة المختارة على حين غرة وغفلة، لذلك عندما ابلغ شيخها، سيكرمنا، وستكون لنا دالة عليه.. وسأقولها له بمفرده، واشدد عليه ان يكتمها لكي لا يؤذينا شيخ القبيلة المضطرة فيما بعد..
ثم يعود ليقول:
ـ نعم، علي ان اقوم بهذا على الفور، لكي لا تفوتني الفرصة، وقد تفوت القبيلة المختارة فرصة الاعداد والتهيؤ لمواجهة العدوان..
ذهب من فوره الى هناك، واختلى بشيخ القبيلة المختارة، وابلغه بما رأى، وقال له استنتاجاته.
شكره شيخ القبيلة، واكرمه بكيس صغير فيه قطع ذهب، ووعده بما هو اكثر، وهيأ له كمية من الخبز، امر بجمعها من البيوت المجاورة لهم، كغطاء لعودته الى حيث مكان تجمع رجال القبيلة المضطرة، فيما لو رآه احد رجال القبيلة بعد عودته الى هناك.

***

اعد رجال القبيلة المختارة انفسهم لمواجهة نوايا المضطرة، وأمر شيخ القبيلة المختارة رجاله بأن يتجنبوا الاحتكاك برجال القبيلة المضطرة.. ولا يعطوهم بأي شكل من الاشكال فرصة ايجاد غطاء لعدوانهم، لاقامة الحجة عليهم، وقاموا بسلسلة من الاجراءات أهمها ان الشيخ أوعز للنساء بأن يسرحن بالاغنام والابل بدلا من الرجال في الاتجاه المضاد للاتجاه الذي اعتادوا ان تسرح مواشيهم فيه، وان يكون دونهن الرجال على ان يخلى الصف الامامي القريب من القبيلة المضطرة من بيوت الشعر من ساكنيها، ويحتشد الرجال حاملو النبال معززين بالرماح في بيوت الشعر في الصف الذي يلي الصف الامامي، والصف الآخر الذي يليه، فيما يحتشد الفرسان على خيولهم خلف ذلك المنزل في الوديان الكائنة الى الخلف وعلى يمين ويسار أماكن (بيوتنا هذه) واشار بيده الى ما قصده.. وما ان حل الصباح، وقد تعمد مقدم الغجر ان يجعل كل رجال القبيلة المضطرة يسهرون مع فرقته وهم يستمعون الى غنائها، ويحتسون الخمر، ويتمتعون بمنظر الرقص والحركات البهلوانية لمن يقوم بها حتى الصباح، وكان آخر بيتي (نايل) رددهما مقدم الغجر على الربابة:
احوف من حبني مثل ما يحوف الذيب واجيب (اجلب) علم الصدك (الصدق) بلكي الجروح تطيب..
وقال ايضا:
الدرب ما كلفس المجبل على حبابو سلام زين الوصف ريح الهوى جابو وبعدها خرج مقدم الغجر من دار شيخ القبيلة الذي من فوره امر اصحابه بأن يمتطوا خيولهم، ويغيروا على ديار القبيلة المختارة..
لم يواجه رجال المضطرة في طريقهم الى القبيلة المختارة، ابلا ولا اغناما، فاستمروا يغيرون باتجاه بيوت الشعر، وعندما لم يجدوا احدا في الصفوف الامامية لبيوت الشعر، بما في ذلك بيت الشيخ وهو أكبر البيوت، تصوروا ان القبيلة خافت منهم، عندما علمت بوجودهم قربها، وهرب رجالها هائمين على وجوههم بمواشيهم، تاركين البيوت على حالها هي وما فيها من غنائم. ولأن اساس غزوهم وفي المقدمة شيخهم هو السلب والنهب والاستيلاء على الاسلاب، فقد نزلوا من فوق ظهور جيادهم، بمن في ذلك شيخهم، وكل منهم يسابق الآخر في الاستيلاء على بساط هنا أو فراش هناك، أو كيس تمر أو طحين، أو كمية ضئيلة من شعير أو ذرة، أو (عكة) زيت أو زيتون، وكل يضع على ظهر فرسه ما يستولي عليه، الا ثلة قليلة من الفرسان الذين رأوا غبار الماشية في الافق البعيد، فانطلقوا باتجاهها، وما هي الا لحظات، بعد ان قدر شيخ القبيلة المختارة ان القسم الاكبر من القبيلة المضطرة قد ثقل عليه حمله، حتى امر فرسانه المختبئين في الوديان ان انطلقوا. وبدأ رجال النبال والرماح ينقضون عليهم من كل ناحية، كل منهم حسب واجبه ونوع سلاحه.. وعمل السيف والاسلحة الأخرى في رقابهم، وفي الوقت نفسه، عزلوا الفرسان الذين انطلقوا معقبين الماشية والابل، وافرزوا لهم مجموعة من الخيالة لتعقبهم، وتستولي عليهم اسرى هم وخيولهم، فاعملوا السيف في رقاب الآخرين، وقتلوا منهم خلقا كثيرا، واستولوا على ما يملكون، واسروا اعدادا منهم، لم يطلق سراح اي منهم، الا بفدية مغرية لصاحبه الذي اوقعه في حبائل الاسر، مع حصة معلومة للشيخ في كل ذلك.
وهكذا نصر الله، اصحاب الحق المعتدى عليهم على اصحاب الطمع والضغينة والغدر، ولم ينج منهم الا ما يعادل ثلث العدد، ولوا هاربين، بعد ان رأوا شيخ القبيلة المضطرة يرمي ما حمل فرسه به من غنائم وقد هرب فوق ظهر فرسه قبل ان يجرب سيفه، عندما وجد نفسه في ذلك الموقف الشائك..
نعم، هرب شيخ المضطرة، وهل من مفر غير الهرب من الموت حتى لو كان ذلا لمن يفكر بالحياة على قاعدة ما هو ضعيف وخاسئ، وليس من بين اهدافه ما يعز ليعلي النفس والاعتبار!؟


*
هوامش:

1
ـ الفروات، مفردها (فروة)، كنزة على شكل سترة، تخاط من جلود الأغنام بأصوافها، منها الطويل والقصير، يرتديها البدو وسكان المناطق الباردة في فصل الشتاء.
2
ـ الربعة: مشتقة من الربع وتعني مكان جلوس الجماعة في عرف البادية.
3
ـ الفوط: على وزن نقط، وهي غطاء اسود في الغالب كانت النساء، خاصة الغجريات يلففن شعورهن به.
4
ـ الشف: دثار من الغزل يحاك يدويا ويستخدم كغطاء مثل البطانية.

*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:25

وفي الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد واحفاده حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. في غياب شيخ القبيلة، وبمعاونة زوجة الشيخ، وباستخدامه اسلوب الاغراء، والفراغ الذي تركه غياب وجوه القوم في رحلة الغزو، نظم حسقيل شبكة من المستفيدين، واصحاب النفوس الضعيفة... وما ان خلا الجو لحسقيل، وباشر يمارس بعض الواجبات التي كان يمارسها الشيخ أو أبناء عمومته في القبيلة، حتى امالتهم مصالحهم ونفوسهم الضعيفة إليه..




نعم، هكذا ينساب الماء الضعيف إلى المنحدر، ولا يصعد العاليات، وتجد الجرذان فرصتها في أي فراغ بين جدران البناء لتنفذ إلى داخله، وتفرخ الافاعي في السقوف الهشة، أو بين الانقاض، وكذا تفرخ الشياطين، مثلما تفرخ العقارب في الجحور المظلمة وهوائها الفاسد، أو في غرف ودهاليز البيوت المقفلة التي لا يدخلها النور، ولا يتبدل فيها الهواء.. ثم أليس كثر من الناس، حتى يومنا هذا، يؤثر فيهم الحضور، ويردعهم الخوف من السطوة، وتراهم ينافقون بحضور مسؤول لا يقتنع أي منهم به وبدوره، وما أن يحتجب عن الظهور، أو يغيب عن كرسيه، أو يضعف ساعده على سيفه أو سوطه، حتى تسلقه ألسنتهم سلقاً، وما أن يستبدل بغيره حتى كأن القسم الذي أدوه بحضوره شيء لم يكن، أما صاحب الحضور في إدارة مسؤولية بعينها. أو عنوان قيادي على أساس تميزه بالخواص، لأداء واجباته على قاعدة مبادئ وعمق تضحية تقتنع بها الجماعة، فرغم ان حضوره ضروري لممارسة الدور القيادي بخواص القيادة وتأثيرها، واشهاد الجماعة على النموذج الحي الذي يكونه ليقتدوا به بعد ان يتعلموا منه، فإن غيابه لا ينهي تأثيره، حتى لو كان غيابه بالموت، أو الشهادة. وعلى اساس هذا يفهم لماذا وكيف اندثر الذكر الحسن لعناوين وعناوين، وعلى أساس ما هو نقيض، يفهم الموقف من سيدنا علي وسيدنا الحسين وسيدنا الحسن، رضي الله عنهم وارضاهم، هم والصالحين من ذريتهم وكل من عمل صالحا إلى يوم الدين.. نجد ان شجرة النسب لعائلة سيدنا علي محفوظة حتما بحفظ الله، سبحانه، وباعتزاز من ينتمي إليها ومحبة الناس لها.. وفي الوقت الذي كان اتباع السيد المسيح، هم والحواريون بأعداد قليلة في فترة حياته، ازدادت اعدادهم بعد موته، أو رفعه إلى السماء، إلا الديانة اليهودية، فإن عدد المنتمين إليها لم يزدد، إلا قليلا، ذلك لأن الدين اليهودي الآن ليس صحائف موسى عليه السلام، ولم يبن عليها، إنما على أساس ما اخترعه أو صوّره أو نسبه إلى ذلك دهاقنة اليهود وأحبارهم عند أسرهم في مدينة بابل التاريخية، وما اضافوا إليه بعد ذلك وفق النظرية الصهيونية العالمية ودورها التخريبي التآمري الاستغلالي في العالم، وعلى أساس ما تم وضعه وفق هذا لم يكن مقنعاً لأصحاب الحجا من الناس، فبقي المنتمون إليه يتناقصون ولا يزدادون، رغم ان دينهم اقدم الأديان بعد دين التوحيد لإبراهيم، خليل الله، وأبي الأنبياء.. أما الدين الإسلامي، فإنه بعد أن كان بالعدد القليل الذي كان عليه من أسلم في الحجاز قبل وبعد فتح مكة، فقد توسع وازداد عدد المنتمين إليه اضعاف اضعاف ذلك العدد بعد وفاة الرسول محمد، صلى الله عليه وسلم.. حتى وصل إلى جنوب فرنسا من جهة الغرب، وأسوار الصين من جهة الشرق، على عهد الدولة الأموية.


لكن هل يكون لأصحاب الخواص الضعيفة، الذين لا يصلحون قدوة جمعهم، حضور في نفوس وعقول جمعهم، وتأثير في حالة غيابهم؟!، وعلى أساس هذا التساؤل، هل يصلح شيخ القبيلة المضطرة، الذي اضطر أهله وقبيلته للقبول به بعد موت أبيه فجأة من غير أن يسبقه مرض ينبئ بموته، مع معرفتهم بأنه لا يستحق المشيخة، وانه غير مؤهل لها.. بينما اختارت القبيلة المختارة، بتشاور اصحاب الحل والعقد، شيخها باقتناع وحماس، لأنه يحمل صفات القيادة لقبيلتهم؟.. وقد يكون هذا واحداً من أهم الأسباب التي جعلت النزاع محتدماً بين القبيلة المختارة والقبيلة المضطرة، بالاضافة الى عواملها وأسبابها الأخرى.


وعلى هذا وجد أصحاب الخواص الضعيفة، وفي المقدمة منهم حسقيل، ان الجو مهيأ ليصطاد في ماء عكرته دماء سالت من قبل، وخيول وجمال خاضت به في منازعات مستمرة، ولكن لم تصل الحال بينهما الى حد ان تغزو القبيلة كلها القبيلة الاخرى كلها، مثلما غزت القبيلة المضطرة هي وشيخها، بل وشيوخها بالمواقع الأخرى داخل القبيلة، القبيلة المختارة.
في هذا الجو، والحالة الهشة داخل القبيلة المضطرة التي تبدو فيها رؤوس أهلها كأنها ملتقية، لكن في إقفاص الصدور قلوب شتى، وبعد ان وجد ضالته في زوجة شيخ القبيلة، وبعدها بمن استضافهم وانزلهم على مقربة من ديارهم وهم مجموعة من الروم تضاعف عدد افراد القبيلة المضطرة او زاد عن ذلك لطمعه في تصريف بضاعته عليهم. وفي هذا الجو ايضا سمعوا بالنكسة التي اصابت شيخ العشيرة ومن معه في غزوهم للقبيلة المختارة، قبل ان يصل شيخ القبيلة عائدا الى ديار عشيرته.
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:26

رغم ان زوجة شيخ العشيرة المضطرة نفرت من حسقيل باديء الامر، وهو يشرح لها خطته لاستدراج ابنتها الى فراشه، وذهبت تاركة اياه في بيته في بداية تلك الليلة.. ورغم انها لم تذهب الى بيت حسقيل في اليوم التالي، لكن ما ان حل منتصف الليلة التالية حتى وجدت نفسها غير قادرة على الاستغناء عن علاقتها به، لذلك راحت تذرع البيت جيئة وذهابا..
رفعت ابنتها رأسها من على الوسادة لتقول لها:
ـ اراك لم تنامي حتى الآن، يا امي.. ولم تذهبي الى حيث ينبغي.
قالت ذلك بصورة واثقة من انها تعرف كل شيء، وأي شيء، قالته وهي (تتمزمز) وتكاد تكتم ضحكة استهزاء خلفها ألم دفين في نفسها، واردفت تقول:
ـ حتى انني لاحظت انك عدت يوم امس في وقت مبكر، وانك لم تستطيعي ان تنامي وفق ما لاحظته الى الفجر.
عندما سمعت امها ذلك من ابنتها لذة، لاحظت انها كانت تقول ذلك وتكتم ضحكتها، لكن ليس بصيغة المتشفي او اللائم على عمل قبيح، وانما قالته بخلاف ما كانت تتصرف على اساسه في السابق، اي بلهجة اقرب الى التعاطف، مثلما صديقة تعرف عن صديقتها ما يعبر عن هوى نفسها وان لم تحزه او هكذا توهمت الأم.. لذلك قالت لها امها:
ـ أتذهبين معي لو ذهبت؟
اجابتها ابنتها لذة:
ـ وماذا افعل معك وما هو دوري؟
لاحظت امها انها قالت ذلك بصيغة المستفهم وليس المستنكر.. قالت الأم لابنتها لذة انها تخاصمت مع حسقيل في اليوم السابق وانها غادرت بيته محتجة.
لم تشأ لذة ان تسألها عن السبب، لانها قدرت ان أمها قد لا تريد ان تفصح عنه.
بعد تردد كان التمنع فيه اكثر من الامتناع والتمثيل فيه اكثر من الحقيقة، قالت لذة:
ـ لا بأس، لكن عليَّ ان لا ادخل البيت معكما!؟
قالت الأم:
ـ لماذا لا تدخلين البيت ونحن الآن في وقت متأخر من الليل؟ سوف يؤذيك البرد ان بقيت في الخارج..
قالت لذة:
ـ بيت حسقيل صغير (مكورن)، اي بعمودين ووجودي في الداخل يحرجكما.
واصرت على موقفها هذا، رغم محاولة امها لاقناعها..
قالت الأم:
ـ لا بأس، لكن عندما تبردين وتحسين بذلك، عليك ان تدخلي الى الربعة (الديوان)..
قالت الابنة:
ـ لا بأس.
عندها ذهبتا الى حسقيل وعندما دخلت زوجة الشيخ قالت له:
ـ لم آت اليك، وانما جئت اختار للذة هدية.
ـ الدكان امامك.. وفتح لها صندوق خشب كبيرا لتختار منه.
اختارت قلادة.. وقالت:
ـ احضر لي المرآة.. وكان حسقيل قد علقها امامها على عمود بيت الشعر، عندما علقت القلادة لصيق رقبتها، لتلاحظ ما اذا كانت تلائمها ام لا او هكذا تظاهرت، طلبت من حسقيل ان يربط لها ذؤابتي او نهايتي القلادة على رقبتها من الخلف.. وقالت بعد ان ادعت انها حاولت فأخفقت:
ـ لم استطع ربطها.. هلا عاونتني، يا حسقيل؟
قال حسقيل وهو (يتمزمز):
ـ (ابدالك)، اي فداء لك.
امسك حسقيل طرفي القلادة من الخلف، وقرب جسمه منها وقبل ان يربط القلادة، استدارت نحوه وطوقته بكلتا يديها، وهكذا فعل هو الآخر وكل يعبر عن الشوق الذي يوسوس به الشيطان واستمر في هذا الحال وبعد حين.. وبعد ان انجزا العتاب بينهما.. قالت له:
ـ اتدري ان لذة خارج البيت الآن؟
سألها باستغراب:
ـ الى اين ذهبت؟ وفي ظنه انها خرجت من بيت ابيها.
قالت له: ـ لا، انا لا قصد خارج بيتنا، وانما جاءت معي.. وهي الآن في الخارج قريبة من بيتك، بانتظاري، لتعود معي عندما اخرج منك..
ـ ولماذا لم تقولي ذلك؟ ايجوز ان تكون خارج البيت في هذا الجو البارد؟ قال ذلك كأنه اراد ان يتظاهر بالحرص عليها اكثر من امها..
قالت وهي تسحبه اليها:
ـ لا عليك، اتركها فانها تتحمل البرد، وتعال اليَّ..
ولكنه قال لها بحزم:
ـ كيف يا أم لذة؟ كيف تقبلين هذا لنفسك؟ وكيف تقبلين عليَّ ان يكون ضيفي خارج بيتي..!؟
قال كل هذا بصورة مفتعلة، لانه ليس جزءا من عادته المعروفة، ثم اردف ليقول، وهو يلبس ثوبه ويسحب فروته المرمية على الفراش: ـ هاك خذي (الشف) (1) بدلا عنها وسوف اذهب بالفروة الى لذة لادثرها بها، ان لم تقبل الدخول الى (الربعة)، اما انت فلا تلحقي بي، لانني عائد اليك..
ـ لا بأس، لكن لا تتأخر.
خرج حسقيل ووجد لذة جالسة القرفصاء امام (مقادم) بيت الشعر.
سلم عليها، واقترب منها ليضع عليها الفروة..
قالت له:
ـ اشكرك، لا احتاجها.
ورغم انه كرر ذلك عدة مرات، فقد رفضت ذلك..
سألها:
ـ لماذا؟
ـ قالت وهي تضحك بما يشبه الغنج او هكذا ارادت ان توحي له:
ـ يقال ان في فروتك الكثير من القمل، لانك لا تغتسل! ثم قالت بليونة:
ـ حسقيل! ـ ها..
ـ لماذا لا تغتسل؟ اذا لم يكن لديك (شنان) لدينا الكثير منه وبامكاني ان اتيك به غدا، لو اردت او ابعثه اليك بيد واحدة من العبيد..
قال بشوق: ـ بل تأتين به بدلا من العبدة..
ـ لا بأس، وفي نفس الوقت، انا بحاجة الى قلادة ورغم انني كلفت امي بان تختارها، فانني افضل ان اتيك غدا لاختارها بنفسي، خاصة ان الاختيار في النهار غيره في الليل.. وارجو ان تقول لوالدتي ان ترجئ موضوع القلادة الى الغد..
وضع حسقيل يده على عينيه، ناقلا اياها من العين اليمنى الى العين اليسرى:
ـ بعيني هاتين.. وسوف اضع فروتي هذه على مقربة من فوهة تنور، وبعد ان اجد ان النار قد ضايقت القمل ودوخته، سوف انفضها للتخلص من القمل، وبعدها اضعها في الشمس اذا صادف ان يكون يوم غد مشمسا.. وعندها ستجدينني انا وفروتي في احسن حال.. قال ذلك تملقا بصورة مكشوفة.
وفي الوقت الذي كان شعاع السراج يتسرب اليهما ضعيفا من داخل بيت الشعر، كان كل منهما لا يرى من وجه صاحبه الا شيئا من بريق العينين.
سمعا صوت أم لذة تنادي:
ـ حسقيل! قالت لذة:
ـ اتركني، يا حسقيل، واذهب اليها.
لاحظ حسقيل انها قالت (اذهب اليها) ولم تقل (اذهب الى أمي)..
وهل تستحق هذه الداعرة صفة الأم من ابنتها؟ أليست حالة داعرة، بصورة مشددة، ان تكون الأم على هذا الوصف في علاقتها بأجنبي، وعلى معرفة من ابنتها؟ ان حالها يستحق هذا الوصف لانها تمارس الحالة الداعرة امام ابنتها!! قال حسقيل للذة، بعد ان امسك بمقدمة لحيته من الحنك:
ـ اعمليها (لخاطري) وادخلي البيت من جهة الربعة، وسأكون معها من جهة (الحرم).. قال ذلك كأنه اراد ان يشوقها الى ما يضمره ازاءها، وما يمكن ان تتهيأ عليه نفسها، عندما تحس بهما وهما في حال السوء وتسمع صوتيهما.
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:28

قالت البنت:
ـ لا بأس، ونهضت من مكانها ودخلت القسم المخصص للرجال من البيت، بينما دخل الى حيث زوجة الشيخ، امها، لا يفصل بينهم سوى رواق من الصوف.. ممزوج بغزول شعر الماعز، يردفه حصير محاك من قصب الزل او البردي.. وبعد ان استدار حسقيل الى الشيخة، سألته:
ـ ها، ماذا فعلت!؟..
ـ لم افعل شيئا..
ـ على اي حال، ان ما اردته وما طلبته مني فعلته، وعليك الباقي، رغم انني غير مقتنعة به تماما، اضافت (تماما) كأنها ارادت ان تخفف على حسقيل وقع انها لم تكن مقتنعة بالفكرة لكي لا يزعل منها.. وقد لاحظ حسقيل ذلك..
ـ المهم ان تساعديني في ذلك..
قالت مستفسرة:
ـ كيف!؟
ـ انت تعرفين كيف.. وفي كل الاحوال، تذكري ما اقنعك فيَّ وضيفي اليه ما اكتشفته في بعد المعاشرة.. قال ذلك وهو يضحك.
اجابته وهي تضحك ايضا:
ـ يا غبي، ان شعور البنت التي لم تجرب رجلا غير شعور المرأة التي جربت الرجل، ثم اتدري يا حسقيل، انني ربما لم اخترك، لو اتيح امامي غير الرعاة ممن يدخل الينا وندخل اليه من غير ان نتهم من القبيلة ابتداء؟ الا تختار غير المقتنعة بزوجها او زوجة شيخ مثلي، لمعاشرتها من لا يلفت الانتباه، ومن يظنه الناس مستبعدا عن الظن!؟.. وعلى هذا فقد لا ترى لذة ضالتها فيك..
قال حسقيل
:
ـ لكن الانسان ابن محيطه والصغير يتبع الكبير وعندما ترى معاشرتنا بعينها، قد يغريها هذا.. كما انها شابة ولم يبق في الديار الا كبار السن من الرجال او الذين لا يجيدون استخدام السلاح.. وكل هذا قد يغير نظرتها واعود لاقول ان الاهم هو ان تحكي لها جانبا من تفاصيل علاقتنا، لتشويقها.. ان بعض البنات والاولاد يسعون في هذه السن لتجربة ما لم يجربوه، لو زل بهم الشيطان من باب حب الاطلاع او اقناع الذات بانهم صاروا في حال كامل..
وعندما لاحظ حسقيل انه قال (لو زل بهم الشيطان).. استدرك ليقول:
ـ انه لأمر طبيعي، كما علاقة النعاج بالكباش عندما تكبر النعاج.. هنا علقت أم لذة لتقول له:
ـ الحق معك في هذا التشبيه، بل الاصح ان تقول: كما علاقة العنزة بالتيس، لينطبق التشبيه عليَّ وعليك فحسب..
ثم اردفت:
ـ النساء لسن كلهن مثلي، يا حسقيل، والبنات لسن كلهن وفق ما تتمنى، وفي كل الاحوال، يعتمد الامر على مستوى الحصانة الذاتية والخوف من العقاب.. قالت الجملة الاخيرة كأنها ارادت ان تقرع نفسها، او هي فلتة لسان ما ارادتها ان تكون، لكن ما يخرج من اللسان يصعب لمه..
عاد حسقيل ليقول:
ـ اعول على ان تحكي لها تفاصيل علاقتنا بما يشوقها، وربما نسمعها شيئا عندما تأتي لتجلس هنا في البيت، خلف الستارة.. وفي كل الاحوال، لا اظن انها تخشى عقوبة الشيخ، ذلك لانني اعرف ان هذا الشيخ غالبا ما (يشوف بعينه ويغطي بذيله)..

قالت أم لذة، بعد ان ضربته بقفا يدها على وجهه:
ـ يا غبي، الشيخ ليس هو المهم، انما عمامه.. القبيلة كبيرة يا غبي، واذا أمنا عقاب الشيخ، فمن يعطينا ضمانة بان نأمن عقاب القبيلة وشيوخ آخرين فيها غيره!؟
ـ على اي حال، سوف اعاونك، فعاونيني لنكون بعد ذلك مطمئنين كلنا.. ثم تساءل بخبث:
ـ هل كل الشيوخ مثل ابي لذة؟
قالت له:
ـ لا، ليسوا كلهم، انما القسم الذي يكون مثله فهو مثله.. لاحظ مثلا شيخ القبيلة المختارة، فرغم انه خصمنا، لكن كل ما نسمعه عنه طيب، وبالمناسبة ـ قالت ـ انا لست مقتنعة بضرورة ان تغزوه قبيلتنا ولا ارى لذلك سببا سوى الغيرة التي في قلب شيخنا ازاء شيخ القبيلة المختارة وقد زدتها انت ولا اعرف لذلك سببا غير ان الطمع المشترك جمعكما وربما كان هناك ما هو اضافي لا اعرفه..
ضحك حسقيل.. وقال بنشوة:
ـ هل تقبلونني شيخا عليكم لو قتل الشيخ في هذه الغزوة؟
ورغم انها قالت: (ابعد الله الشر عنه)، فقد لاحظ حسقيل انها لم تقل ما قالته بحماسة، انها لم تقله بورع، في كل الاحوال..
وقال:
ـ انه محض تساؤل، فأنا ايضا اتمنى له العودة سالما..
ـ على اي حال، لا داعي لتستبق الاحداث.
قالت ذلك وهي ترتدي ملابسها وتقول:
ـ لقد تأخرنا.. وربما (رص) البرد ضلوع لذة.. كأنها ارادت بقولها الاخير ان لا تسد الباب عن مواصلة الحديث في الفكرة او في الاقل التأمل فيها..
في اليوم التالي جاءته لذة، بعد ان قالت لامها انها ذاهبة الى حسقيل لتختار قلادة، وفق ما اشارت الى ذلك في الليلة الماضية، وقد لاحظت امها انها قالت ذلك، في الوقت الذي كانت امها منشغلة بعدد من (شيخات) القبيلة اللائي جئن لزيارتها، وعندما لاحظت ان ابنتها مصرة على الذهاب، وانها لن تنتظرها.. قالت لها:
ـ خذي معك العبدة فلانة.
ـ بل العبدة فلانة، قالت لذة، وقصدت ان تأخذ العبدة التي كان عمرها لا يزيد عن عشر سنين، بينما ارادت زوجة الشيخ من ابنتها لذة ان تأخذ ام العبدة الصغيرة.
عرفت الأم قصد ابنتها عندما اختارت العبدة الصغيرة، او هكذا تصورت، ومع ذلك لم تستطع ان تجادل ابنتها، او تمنعها بسبب وجود ضيوفها.. لكنها قالت في نفسها: لماذا أمنعها مما رأتني فيه؟.. وعندما تقول: اذا كانت ابنتي لم تمنعني مما قمت به لانها غير قادرة على ان تقوم بهذا علي، أليس من واجبي ان أمنعها عن عمل اميزه عقليا بأنه خاطئ ومنحرف ومشين، بغض النظر عن نوع مشاعري الشخصية ازاء ما هو مثله لو تعلق الامر بي؟ وهل يكون تورط ابنتي كأنه في حكم الحال الحتمية، لانني تورطت؟ ثم تعاود، بعد ان انشغلت عن ضيوفها بأمر كأنها تتابعه، مع انها في حقيقة الامر لم تفعل الا متابعة تساؤلاتها مع نفسها: ولكن ماذا يحصل، كرد فعل من حسقيل، لو منعتها عنه؟ ترى الا يعاقبني؟ وماذا لو هجرني؟ الا تكون حالي حال من يجرد من ملابسه ممن يسلبها منه، ولا يدافع عن نفسه وعن ملابسه، ويولي هاربا وهو يقول لمن سلبوه ملابسه: اراهن على انكم غير قادرين على اللحاق بي فيضحكون عليه، ويقولون له: لم يبق لديك ما يغرينا على الركض وراءك.. فاذهب راشدا.!؟ ثم تعود لتقول: سأخسر المتعة، بعد ان خسرت الشرف.
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:29

وبعدها تقول: أليس الافضل ان اقبل بهذا الاحتمال لاحافظ على السمعة، حتى رغم علمي بأن شرفي قد ضاع؟ أليست السمعة المعروفة بقياسات حسنة في الشكل العام غطاء للشرف المهدور، من غير ان يعرف صاحبه ويسمى عليه؟ وعندما لا يعرف احد انه قد هدر.. أليس الافضل ان احافظ على شرف ابنتي وسمعتها، واحافظ على سمعتي بين الناس، رغم انني اعرف ان شرفي قد هدر، وان حسقيل وابنتي يعرفان هذا؟ ثم تظهر مترددة امام نفسها، لا تعرف اي قرار تتخذ.. ومع ذلك تقول: لأترك هذه الهواجس الآن، ريثما تعود لذة.. ولكن ما ادراني، فقد يتمكن حسقيل منها في هذه الزيارة!! ثم تقول: كان علي ان اصر على ان ترافقها العبدة الكبيرة.. وعندها تعلق: وماذا يمكن ان يفعله مملوك غير ان يغطي على عيوب سيده؟ وحتى لو اوصيها بما اوصيها به.. هل تستطيع ان تمنعها عندما تريد؟ ثم تعود لتقول: لن تستطيع ذلك، لانها في الاقل لن تنسى انها عبدة، وان ابناءها عبيد، وحتى لو ماتت سيبقون عبيدا للشيخ، وانها عند ذلك ستحسب الحساب حتى لعلاقة ابنائها مع لذة، لو صارت في يوم من الايام بموقع الشيخة الذي انا عليه، لذلك حتى لو ذهبت العبدة الكبيرة معها، لن تستطيع ان تفعل شيئا امام رغبة حسقيل وضعف لذة. ثم تعاود القول: اذا كنت، انا كبيرتهم لم اصمد امام شراك والاعيب حسقيل، فكيف يمكن ان تصمد ابنة غرة امامه، بعد ان بدأت قبلها طريق الانحراف، ووصلت الى حضيضه؟ ثم تنهمر دموعها، وبعد ان تكفكفها تبدو كالمحطمة، وعندما تعود الى نساء القبيلة، ويلاحظن انها بكت يهوِّنّ عليها بقولهن:


ـ لا تبكي، ان فلانا ـ ويقصدن شيخ القبيلة ـ سيعود هو واصحابه وقد غنموا مالا كثيرا، بعد ان يقهروا القبيلة المختارة.. وفي ظنهن انها كانت تبكي تنفيسا لحسرة في صدرها على غياب زوجها.
عندها تبتسم وتقول:
ـ لا عليكن، ان شؤون الدنيا كثيرة، والوانها متعددة.

***

ذهبت لذة الى بيت حسقيل، ووجدت انه اعد نفسه بانتظارها ودخلت ومعها شنان وضعته في صرة.
تناول حسقيل الشنان، وشكرها عليه، ثم اندفع بصورة مرتبكة، وانتزع فروته من على القاطع بين مكان الرجال حيث جلست العبدة الصغيرة، وفق ما امرتها سيدتها، ومكان الحريم حيث يقفان ـ حسقيل ولذة ـ وقال لها وهو يفتح الفروة ليريها اياها:
ـ الآن هي خالية من القمل.. لقد نفضتها فوق نار التنور، وابقيتها طيلة النهار مفتوحة ومنشورة، تضربها الشمس على الحبل الوسط لبيت الشعر.. انظري هنا حيث ظهر الفروة من الداخل.. وانظري هنا تحت الابط والاكمام.. انها خالية من القمل تماما، وسوف اغتسل بالشنان الذي جئتني به وفق ما امرتني.
كان حسقيل يقول ذلك بارتباك واضح، وبدا كأنه مهووس.. ثم فتح صندوق الخشب الكبير الموضوع في صدر البيت، اقرب ما يكون الى قاطع وسط البيت او ملاصقا له.. وقال: ـ هذا الصندوق وما فيه من ذهب وانا في خدمتك، فخذي اي شيء مما فيه، واتركي ما تشائين.

كان الصندوق مصنوعا من الخشب الهندي، ومزخرفا بزخرفة الهند، تتوسط الطبقة العلوية من الصندوق قطعة حديد تتعشق مع نتوء من الحديد مثبت في وسط الصندوق في القسم الاسفل منه، وعندما يتعشقان مع بعضهما ويربطان بقفل، يكون الصندوق مقفولا في الوقت الذي ثبتت على غطائه الاعلى من الداخل مرآة يحلق لحيته امامها، او يرى شكله بها، هو ومن تشتري منه الذهب.. وكان هذا الصندوق مثل او قريبا من الصناديق التي كانت جداتنا وامهاتنا قبل سبعين او مائة عام، يضعن ملابسهن فيه، ويضعن معها صابونة افرنجي (ام الريحة)، وفق ماكُن يسمينها، لتتعطر بها ملابسهن، ويبعدن العث عنها بصورة او بأخرى.

فتح حسقيل الصندوق وعرض ما فيه من ذهب.. وتناولت لذة قلادة منه، وعندما ثبتتها لصيق رقبتها من غير ان تربطها، قالت لحسقيل بغنج، ومن غير ان تستدير ناحيته، حيث كان يقف خلفها قريبا منها:
ـ حسقيل، هل تعجبك هذه!؟
اصفر وجه حسقيل، واضطربت شفتاه، وصار بالكاد يبلع ريقه، وهو يقول (فديلك).. كل شيء تلبسينه يصير حلوا.
اقترب حسقيل منها اكثر وهو يقول: ـ هل اربط لك القلادة؟ لكنه قالها هذه المرة بثقة اكبر رغم انه لم يتخلص من اضطرابه، مع انه هذه المرة لم يكن اضطراب تحسب من النوع الذي يسبق المحاولة، ولا تعرف على وجه اليقين عواقبها، ورد فعل المرأة عليها، وانما اضطراب الرغبة الجامحة التي اجتاحته حين قالت له «حسقيل هل تعجبك!؟».
ألا يكفي الرجل هذا كاشارة دالة على رغبة المرأة فيه، او ايهامه بهذا، في الاقل؟ بل هل ينتظر رجل غريب من امرأة ما هو اوضح من هذا ليعرف رغبتها فيه، او يتوهم في ذلك، وبخاصة عندما ينفردان في مكان واحد؟
كرر حسقيل تساؤله:
هل اربط لك القلادة من الخلف؟
ـ نعم، لو سمحت.. ورفعت طرف ملفعها المتدلي على ظهرها من الخلف، واظهرت له رقبتها، ثم انحنت برأسها للامام قليلا، في الوقت الذي ابقت يديها مرتفعتين ممسكتين بطرفي القلادة وهي تشير اليه ان امسك بطرفي القلادة مني.
وجد حسقيل فرصته ليقترب منها، منها الحد الذي اقترب جسمه من جسمها من الخلف، حتى كاد يلتصق بها، ولكن يديه كادتا، وهو يفعل ذلك، تعجزان من شدة ارتعاشهما عن الاحتفاظ بالقلادة من طرفيها، بل تعذر عليه ان يعقد طرفي القلادة..
ـ حسقيل، ماذا حصل لك؟
ـ صبرك علي، يا من فداك روح حسقيل.. قالها ايضا بصورة متلجلجة من شدة ارتعاشه، ولكن ما ان استدارت بوجهها اليه، حتى حاول ان يلثمها، فدفعته بقوة عنها، وخرجت والقلادة بيدها بعد ان قالت له:
ـ اذا كنت لا تستطيع ربطها، اتركها لي سوف احاول ربطها.
ـ بل استطيع ربطها!! ان صبرك علي كان قليلا..
قالت جوابا على ما غمزها به:
ـ ولكن صبرك قليل ايضا.. اترك هذا الآن حتى اعتاد عليك، اترك هذا، لئلا اتأخر عن والدتي التي تنتظرني في بيتنا، وسوف آتيك مساء اليوم، بعد ان تغتسل... ولا تضع الفروة على جسمك حتى تغتسل تماما بالشنان الذي جئتك به.
قال حسقيل وهي تهم بأن تخرج من البيت: ـ ولكن، ماذا عن والدتك..
ـ سأقول لها ان هذه الليلة ليلتي.. او اجد العذر الذي يصلح غطاء.. الا يعجبك ذلك؟
ـ ثم عادت لتقول مع نفسها: وهل يعجز من يقرر، ويقدم على انحراف او غطاء، او حتى ذريعة لفعله!؟
ـ بل اموت في ما تقولينه، وروحي (فداك).
عندما مرت هي وحسقيل على عبدتها الصغيرة وجداها لمت جسمها، وضمت ركبتيها الى بطنها، لتتقي برد آذار في بلاد الشام ونامت فوق برذعة حمار، بعد ان لمت يديها ايضا، ووضعتهما بين فخذيها، ذلك ان الانسان كلما قلص المساحة السطحية لجسمه صار البرد اقل عليه..

***

خرجت لذة وعبدتها الصغيرة تمشي خلفها.. كان ربيع آذار (يدفن) قدميها، وهي تسير باتجاه بيتها.. وثغاء البهائم الصغيرة يأتي من كل بيت شعر في اشارة الى حاجتها الى امهاتها في الوقت الذي كانت الحمير ومنها حمار حسقيل، تنهق كعلامة على رغبتها في ان تقوم بدورها الطبيعي في ادامة الحياة، بعد ان تخلصت من برد الشتاء وجوعه.
بينما كانت لذة تمشي مختالة وهي تردد مع نفسها: يا كلب، وتقصد بذلك حسقيل، سوف اكشف كل غاطسك واعلمك ان بنات العرب غير بنات العجم. وقد غمزت في هذا من امها باعتبارها لم تكن من اعمامهم وانما هي اعجمية.. وبينما هي تسير في الربيع باتجاه بيتهم.. انزلقت احدى قدميها في حفرة عميقة نسبيا، لم تكن قد تبينتها بسبب كثافة العشب، ووجود احجار قريبة منها، فالتوت ساقها، وكسرت قدمها من الكاحل، وبعد عدة صيحات ألم، أغمي عليها في المكان ولم تفق الا بعد ان نقلتها امها بمساعدة نساء الحي الى البيت.

*
هامش:
1
ـ نبات كان هو الوسيلة الاساسية لاغتسال البدو والحضر.. بعد ان يطحن او ينقع.. ثم يغتسل به وبمائه.. ويقابل الصابون في عصرنا.
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:32

كان الطب شعبيا آنذاك، يعتمد على الاعشاب والمتمرسين فيه من اصحاب الخبرة فحسب، حيث لا مدارس ولا كليات ولا من يعلمه لغيره، الا من خلال المعايشة والممارسة التي تفرضها حاجة المريض، وحاجة من يمارس الطب.
كانت الكسور تجبّر عادة بربط عيدان حول الرجل، او الساق، او اليد من كل الجهات.. ولفها بخرقة بعد تنقيعها بصفار البيض، او (النورة)، وتثبيتها كلها بخيوط حول المفصل او العظم المكسور، والتوصية بعدم الحركة اذا كان الكسر في القدم او الساقين او الفخذين او ان تكون الحركة محدودة اذا كان الكسر في الايدي. واذا ما اكتشف المجبر ان الربط ليس صحيحا بعد عدة أيام، وأراد أن يعيد الكسر إلى ما كان عليه ليعاود ربطه من جديد، لف منطقة الكسر بسمكة ليوم واحد او من المغرب حتى ضحى اليوم التالي وعندها يجد الكسر قد عاد الى خط البداية، وقد تكون اسهل على المريض من العملية الجراحية في العصر الحديث، حيث يعاد العظم الى ما كان عليه عند خط البداية بدلا من التئامه المخطوء.. وفي كل الاحوال، فإن التوصية بإطعام المصاب لحما لا يتنازل عنها من يمتهن هذه المهنة ولا المريض، بسبب قلة من يتناولون اللحم ايام زمان، في غير مناسبات متباعدة بعينها في السنة الواحدة غالبا ما لا تتجاوز اصابع اليد الواحدة او اصابع اليدين.. هكذا كان حال الناس في الوطن العربي كله، وهكذا على سبيل المثال كان الحال في العراق حتى اواسط السبعينات من القرن العشرين.. اذ ان اكل اللحم في الريف العراقي حتى السبعينات من القرن العشرين، انما كان يحصل في مناسبات بعينها عندما يتوفى الله من يتوفاه او عندما يحصل زواج او ختان او دعوة لمناسبة بعينها، ومن ذلك ان يكون الضيف على القبيلة رجلا معروفا من قبيلة اخرى، جاءهم من مسافة تجعل ضيافته واجبة، واذا كان هذا يجري في العراق على هذا المجرى حتى السبعينات، فبإمكان من يتصور ان يقدر الوضع في بلاد الشام قبل ألف وخمسمائة عام او نحو ذلك!! بدت نصيحة الطبيب الشعبي كأنها نزلت من السماء، وامرت الشيخة، أم لذة، بذبح شاة على الفور، وبقيت تفعل ذلك بين يوم ويوم طيلة الفترة التي غاب فيها زوجها عن الديار، لتعالج ما كانوا فيه من حرمان تحت غطاء الضرورات الظرفية، وليس استجابة لحاجة لذة مكسورة القدم اليه فحسب.
كان حسقيل يزورهم في البيت ليطمئن على لذة، وفي الوقت نفسه ليطمئن على شؤون البيت، وصار يأمر الخدم والعبيد، وصار ابناء العشيرة لا يخرجون عن اوامره مع غياب الشيخ، وكان الكثير من رغباته ينفذ، بل راح بعضهم ينفذها بحماسة، وعندما ينتقد احد حماستهم لتنفيذ اوامر حسقيل، يقولون له ان القوة الآن بيد حسقيل ونحن لا قوة لنا في مواجهته، لذلك فإن طاعته اصبحت واجبة.
ـ وهل تطيعونه لانكم ترغبون في هذا أم لانكم لا تعرفون مواطن ومصادر قدرتكم لو رفضتم طاعته وهو غريب وانتم ابناء القبيلة؟
يقولون له:
ـ ان مصلحتنا تقتضي ان نلثم اليد التي لا نستطيع ان نلويها في مواجهة، وان نفعل الشيء نفسه لو كانت تنفعنا بشيء..
ـ حتى لو كان هذا على حساب مصلحة القبيلة، واخلالا بتقاليدها وتراثها ودينها؟
عندها يقولون:
ـ دعك من هذا، ان من يتزوج أمنا يصير عمنا.. يقولون هذا منساقين خلف مثل شعبي يعبر عن مرحلته ومرحلة ضعف الناس فيها او غامزين من علاقة حسقيل بزوجة الشيخ.. وكانوا مبهورين بقدرة حسقيل على ادارة شؤون القبيلة في غياب شيخها ومتمتعين بثنائه عليهم وما يخصهم به من دريهمات او فتات، بل ان قسما منهم مقتنعون بأن اوامر وتوجيهات حسقيل ادق من تلك التي كان شيخ العشيرة يصدرها لهم، عدا عن ان بعض ابناء العشيرة صاروا يستفيدون من (خبرات) حسقيل، بعد ان باتوا ضمن شبكة الدعاية والعيون التي نشرها على القبيلة.
كانت أم لذة تتردد على حسقيل في كل ليلة، وكان حسقيل يزور بيت الشيخ في النهار او بالاحرى يرابط في (الربعة)، وكلما وجد فرصة استدار الى قسم الحريم او وقف ليغازل لذة او أمها، من خلف القاطع الوسطي. ولكن يبدو ان كسر كاحل لذة مع الاسباب الذاتية جعلها تصحو على نفسها وجعلها تتردد ازاء رغبات الحد الادنى لحسقيل، ومن ذلك كانت تستثقل كلام الغزل الذي كان يغمزها به من خلف القاطع، كلما وجد الى ذلك فرصة، لكن وضع قدمها ورقودها في الفراش جعلها غير قادرة على ان تفعل ما خططت له.. بالضد من رغباته.

***
ـ حسقيل؟ سألت لذة..
ـ نعم.. أجاب حسقيل..
ـ لماذا امتهنت الحدادة ومن بعدها صياغة الفضة والذهب الآن؟
ـ وأي مهنة تريدينني ان امتهنها غير هذه المهنة.. أأرعى الاغنام أم الجمال أم ماذا؟
فقاطعته قائلة:
ـ بل تمتلك الخيول والجمال والاغنام والبغال وهناك من يرعاها لك.. على حد علمي، فإن جدك كبير قومه، صار بعد الدعوة التي يتحدث عنها وبعد ان أمن بها كثير من الناس، كأنه كبير كل الاقوام، بفضل حكمته وورعه وعدله.
ـ لم أشأ ان املك الخيول والبغال والجمال والغنم.. ان عبئها كبير وقيمتها أقل من الذهب، قال حسقيل.
ـ لكنها، هي والزراعة، القياس العام للثروة في حياة الناس الآن.. وقلة ضئيلة، بل بعض النساء فقط هن اللائي يجرين خلف ملكية الذهب والفضة.. اجابته لذة. ـ وما ادراني، يا لذة، لو ملكت الخيول والاغنام والابل.. ربما كنت الآن قد مت قتلا، حيث سيطمع الناس في ما أملك؟
ـ ولكنك الآن تمتلك الذهب والفضة ولم تمت قتيلا..
ـ نعم، الآن املك الذهب والفضة.. ولا أحد يغزوني.. لان الصائغ لا يكون علم قومه، رغم قيمة ما يملك، انما شيخ العشيرة.. ثم ان العرب لا يغزون اصحاب الحرف، ويعتبرونهم ضعفاء ولا يشاركون قومهم في غزو، انما يصنعون لهم عدة الغزو مثلما افعل الآن ونمارس الغزو بطريق آخر.. نحن نستولي على ملكية الآخرين برضاهم.. بل برغبتهم مع رضاهم من غير ان يسيل دمنا.
ـ وكيف؟! ـ نبيعهم ونستولي على ما في جيوبهم.
ـ ولكنك الآن، تتمنطق بسيف وخنجر.
ـ نعم، اتمنطق بسيف وخنجر، لكي اشعر الآخرين بضرورته في الحياة.. ولكي اناول أيا منهما لمن يتشاجر قربي، اذا كان سيفه او خنجره بعيدين عنه في اللحظة التي يقرر ان يجعل الدم يسيل من صاحبه.
ـ ولكنك، على هذا تكون شريكا في الجريمة امام الله، على وفق مبادئ جدك ابراهيم، وعلى وفق مبادئ محمود ويوسف من بعده.. قالت لذة.
ـ ولكن ليس على مبادئ شريعتي وما أؤمن به، بل لا يهمني حتى ان اكون شريكا في الجريمة على وفق ما اشرت اليه، وانما ان يرتكبها غيري بيده، من غير ان ارتكبها بيدي.. الا لو اضطررت اضطرارا لكي لا تكون لي عداوات شخصية مباشرة تؤثر سلبيا على تجارتي بالحلي والسيوف والخناجر والرماح والنبال، لكن كلما ساد الوئام بين الناس، افتعلت بينهم ما يشغلهم ببعضهم ويوفر لي فرصة افضل في جني الارباح.
ـ ولكن، لو ساد الوئام بين الناس واستقرت نفوسهم على الأمن والسلام، لاشترت النساء منك ذهبا وفضة اكثر، بعد ان يوفر الرجال ما يملكون، ولا يصرفونه على الرماح والخناجر والسيوف والنبال.
ـ عند ذلك سأربح من بضاعة واحدة، وعندها سيكون ربحي منها، مهما بلغ، اقل مما لو تعددت وتنوعت مصادره.. ثم ان الاستقرار قد يجعل لي منافسين آخرين كثرا في مهنتي، بينما يشغلهم القتال فيما بينهم بتنمية عوامل الفرقة والغدر والثأر، وعلى هذا الاساس اشجع الغزو، لكن لا اشارك فيه مباشرة، انما بصورة غير مباشرة واشجع الاحتراب بين الناس بسيوفي واروج لحسن صفاتها، لكن لا أستخدم سيفي بصورة مباشرة الا مضطرا..
ـ وعلى هذا الاساس افسر سبب عدم مشاركتك ابي في الغزو.
ـ لا.. ليس لهذا السبب وحده، انما لاسباب اخرى ايضا، لا مجال لان اقولها لك الآن يا لذة.. لاسباب اخرى.. كرر الجملة الاخيرة، وسكت.
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:35

عاد شيخ القبيلة المضطرة بمفرده اولا، وجاء بعده من نجا من الاسر او الموت.. وكانوا يصلون في غير انتظام وبمعنويات محطمة تماما مثل جيش ينكسر، ليس بسبب تفوق عدوه عليه في الكثرة او السلاح، انما في الروح المعنوية ويتضاعف الشعور الذي يخزي النفس، اذا كان الجيش المكسور بلا هدف مشرف استدعاه للقتال او ان يكون الاعتداء منه على غيره واضحا وبينا، فكيف اذا كان شيخ القبيلة، مع هذا كله، اول من دعا الى الغزو والعدوان واول من هرب من المعركة من غير ان يجرب سيفه؟! لقد انطبق كل ما في هذه المفارقات من سلبيات، وما يخزي اهلها ويضعفهم، على حال شيخ القبيلة المضطرة اولا، وعلى الهاربين معه من ساحة المعركة.. جاءوا مكسورين نفسيا، بل محطمين تماما.. ومثلما هو معروف في الظروف التي تنكسر فيها الجيوش والزمر والمجموعات، يكثر تبادل الاتهامات واللوم والتعنيف والتنصل من كل واي شيء كان سببا في الهزيمة، لكن الجمرات المحرقة وكل ما هو مخز كان يرمى بها على شيخ القبيلة المضطرة.. أليس الاسم العالي بيرقا لجماعته في المواقف المشرفة والاسم البين والاظهر في الشهرة من غير تاريخ مشرف، مزبلة للنفايات اذا اخزى نفسه وجماعته في المواقف؟ وهل هناك ما هو اخزى من ان ينهزم القائد او اي عنوان متقدم ويترك جماعته نهبا لاسلحة العدو؟ وهل يستحق، بعد ذلك صفة القيادة؟ او بالاحرى هل يستحق غير ان يرجم ويجلل بالعار؟
وجد حسقيل والبطانة التي كونها قبل وفي غياب الشيخ وفرسان القبيلة، ضالتهم في هذه الهزيمة وصاروا بعد ان جمعوا المعلومات التفصيلية عن سير الاحداث وطبيعة المواقف، يمعنون تجريحا او يوسعون جراح من اصابه مشرط الحقيقة على موقفه، فأصابت سهامهم شيخ القبيلة بوصفه الهدف الاسهل لان يصاب.. كان حسقيل يقول، وهو يحدث شيخ القبيلة:
ـ لقد استعجلت في الهجوم، سلمك الله، بخلاف ما اوصيتك ونصحتك به، فقد قلت لك: جاور خصمك واستطلعه واتخذ عليه حجة، عند وقوع خصمك في اي خطأ تجاهكم او ان تفتعل ما يجعلك تصوره خطأ وتحرشا منه بكم لتقيموا عليه الحجة وتضعفوا موقفه في علاقته مع جمعه وقد فعلت العكس، حيث اقام عليك الحجة امام جماعتك.. وفي الوقت الذي قاتل في مقدمة جمعه، هربت، كما علمنا، قبل ان تجرب سيفك.
ثم يعود حسقيل ليقول بخبث:
ـ يا جماعة، لقد امضيت في صناعة سيف طويل العمر وقتا اطول بكثير مما امضيته في صناعة سيوف الآخرين الذين قاتلوا.. بأمل ان يفي طويل العمر حق السيف وصنعته وكان اثمن عشرة سيوف مماثلة او اكثر لكثرة ما حوى من جواهر رصعت بها قبضته ليدل على عنوان صاحبه..
ثم يلتفت الى الشيخ، ويقول:
ـ لقد اوصيتك بأن لا تهاجم الا وفق تدبير تعده سلفا وان توزع الواجبات الى حد الرجل الواحد، حيث يعرف واجبه، لكنك هاجمت عدوك من غير خطة.. واوصيتك بان تهاجم في ظلام، حتى لو جاء هجومك آخر الليل، فلليل ثقله على اهله اذا ما اقترنت معه المباغتة والتدبير.. ولكنك هاجمت عدوك بعد طلوع الشمس، وبعد ان انهكك وانهك فرسان القبيلة سهر الليل، واحتساء الخمر مع الغجر ـ ثم يقول حسقيل ويكرر كلامه ـ اقول لك يا شيخ: الصحيح ان فرسان قبيلتنا رجال طيبون وفرسان جيدون لو كان الرأس فيهم شجاعا ومدبرا.. قائلا هذه المرة (فرسان قبيلتنا) بدلا من (فرسان قبيلتك)، وكأنه منهم نسبا، وموقفا وشعورا وليس رغبة في انجاح خطته وتوفير الغطاء لها فحسب.. فعل ذلك ليكون كلامه مؤثرا برجال العشيرة تماما، ولكي ينتقل كلامه من الرجال الى النساء عندما يحكون لهن.

***

استغل حسقيل الفرصة ليحطم شيخ القبيلة وفق تدبير مسبق، ليكون هو شيخها وفق ما فعل في وطننا العربي الكبير بعض الاعاجم الذين لم ينسبوا انفسهم الى بطون العرب المعروفة، وانما حتى الى ساداتهم، لولا حماية الله لشجرة آل البيت.
كان حسقيل قد اتفق مع الشيخة على الكثير مما يضمره، بما في ذلك ان يحل شيخا محل شيخ القبيلة المضطرة، واعدا اياها بالزواج بعد ذلك، لتقوم هي بدورها بين النساء، بينما يقوم هو وشبكته بما يقومون به بين الرجال.. ولقد اتفق معها، بعد ان سمعوا بالهزيمة (الكسيرة) التي حلت بالقبيلة، وهروب الشيخ من ساحة المعركة، على ان يقيم فور وصول الشيخ مأدبة كبيرة في بيت الشيخ على نفقة حسقيل، ويدعو لها كل من في العشيرة من الرجال تحت غطاء تكريم من وصلوا بسلامة، وفي مقدمتهم الشيخ، وأوصى الشيخة بأن تقيم مثلها للنساء لتقوم بما يقوم به مع الرجال، مع تكييف كل حالة وفق جنس مستمعيها..

*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:36

كان رجال القبيلة ينصتون الى حسقيل وهو يتكلم، ووجد كل منهم غطاءه في هزيمته، بعد ان انصب لوم وتجريح حسقيل على شيخ المضطرة فحسب، أو وجد أولئك الذين اصابهم جرح نازف بموت ابنائهم، أو ذويهم، أو اسر الآخرين، متكأ ليحاسبوا شيخ القبيلة، وهكذا اقترح احدهم ان يعودوا، بإشراف حسقيل، ليجتمعوا في بيت حسقيل، وعندما قال احدهم ان بيت حسقيل لا يستوعب العدد، قال حسقيل:
ـ بل يستوعب.. وانا منذ الغد سأشتري بيتا كبيرا يستوعب رجال العشيرة من أهل الحل والعقد، بالاضافة الى فرسانها، ثم اننا الآن في بداية شهر نيسان، وليس في شهر نيسان برد مفاجئ، ولذلك تصلح هذه الارض كلها مضيفا للفرش وموائد الطعام، ثم قال:
ـ ابشروا، ابشروا، يا اعمامي، اي، نعم في بيتي، في بيت ابن اخيكم، والقلب أوسع لكم محبة وضيافة، تردفه العيون، يا ولد العم، يا اهلا وسهلا بكم.
قال أحدهم:
نعم، نجتمع في بيت حسقيل، بعد ان نعرف من سيأتي الينا حيا بعدنا، ونتعرف تفصيليا على من مات، أو وقع في الأسر.
قال ابن شيخ قتل ابوه في المعركة:
ـ بل نلتقي بعد اسبوع من الآن، لكي لا يبقى هذا الموضوع معلقا، وتبقى القبيلة من غير شيخ.
قال شيخ القبيلة المضطرة، بعد ان كان يستمع اليهم مطرقا:
ـ اتقول، يا ولد، ان القبيلة من غير شيخ، كأنك تقرر ذلك؟. وهمَّ بأن ينهض ليضربه، لولا ان اجلسه حسقيل في مكانه..
وعاد ابن الشيخ يقول..
ـ نعم، ان القبيلة من غير شيخ، لأن من لا يقاتل مع القبيلة، ويحمي من يحتمي بسيفه، لا يصلح ان يكون شيخا على القبيلة، وبدلا من ان تهم بأن تضربني، كان يفترض بك ان تضرب عدونا.. أم ان همتك لا تكتشف، ولا تستخدم، الا على ابناء جلدتك؟
واراد ان يسترسل بعد ان غير جلسته، ليكون في وضعية طوى بها رجليه تحته، واتكأ على ركبتيه وسيفه في حضنه، كأنه يتأهب ليفعل شيئا، لولا ان حجز حسقيل بينهما، بعد ان اجلس الشيخ في مكانه، واشار بيده الى ابن الشيخ الآخر ليسكت، فسكت..
عاد ابن الشيخ ليقول:
ـ بعد اسبوع من الآن في بيت حسقيل.
نبهه احدهم الى ان ذلك اليوم سيكون يوم سبت، فقال:
ـ بعد ستة ايام من الآن نكون على الغداء في بيت حسقيل، لنناقش أمورنا ونتخذ تدابيرنا، ومن لا يوافق يرفع يده.. ولم يرفع أحد يده غير الشيخ.. رفع يده كأنه سلم ضمنا بأن من يدير جلسة القبيلة هو ابن ذلك الشيخ باشراف من حسقيل.. وبذلك انفضوا بأمل ان يلتقوا بعد ستة ايام على الغداء في بيت حسقيل.

***

كانت زوجة شيخ القبيلة المضطرة قد استغلت تقليدا عند نساء العرب هو ان يقسمن بأن لا يستقبلن الرجال في مخادعهن عندما يكونون، فرادى أو جماعات، في موقف غير مشرف، ولذلك التقت بنساء القبيلة، وحرضتهن على ازواجهن ليهجرنهم في المخادع، واعلنت انها لن تستقبل زوجها في مخدعها منذ ذلك اليوم، وانها ستطرده من البيت الكبير الى بيت يبنونه له بعيدا عن البيت الكبير، ليكون فيه ريثما تقرر القبيلة مصيره، فإن جردته القبيلة من صفة المشيخة، طردته نهائيا من حياتها، وقالت: «هذا هو عهدي امامكن».
اثار قرار الشيخة حماس النسوة، لانهن لم يكن يعرفن نواياها الحقيقية، وفي كل الاحوال، كان قرار الامتناع عن قبول الرجال في المخادع تقليدا للعربيات في علاقتهن بازواجهن ان اصابهم ما ينتقصهم.. ولأن صفة النقيصة تنطبق على من يهرب من جبهات القتال، فقد انطبق القانون على أولئك الهاربين من المعركة، وهو اجراء يحض على الموقف العالي، والتصرف الذي يستلزم التضحية من الرجال حتما، وقد اتخذنه فعلا.. ولكن زوجة الشيخ استغلت ذلك لمآربها.. فهل يمكن ان يعاب تقليد اصيل، يقوي ويعمق جذور الجماعة، وثوابتها الاصيلة، بما يعز قومها، حتى لو استغل هذا ضعيف نفس هنا أو هناك لمآرب خاصة!؟ ان العيب لا يكون في استغلال التقليد الاصيل والتمسك به من أهله، حتى لو استغل من قلة باتجاهات غير الاتجاهات الصحيحة، وعكسه، التمسك بالتقليد الاصيل، والبناء عليه من غير تفريط أو تساهل فيه بما يسمح بدخول الهواء الفاسد، والفعل الذي يعيب من الثغرات.. وقد طردت الشيخة زوجها، بعد ان عزلته في بيت (مكورن) اي بعمودين بدلا من البيت (المثومن)، اي بثمانية اعمدة.. وصار حسقيل يتصرف في البيت الكبير، ليس بصفة مشرف عليه فحسب، وانما بصفة صاحب الامر والنهي، تسنده زوجة الشيخ في كل هذا، وتقف ابنته كأنها في موقف محرج بين حال ابيها وموقف امها منه، وما جعلها على هذا الحال هو ان موقف ابيها كان غير مشرف بل مخزيا، عدا مجاملتها لحسقيل، الذي عرفت ان هواه مضاد لهوى ابيها، وموقف امها التي لم تتبين بعد نواياها الخفية لتعرف كيف تتصرف.

***

خلال الايام الستة التي سبقت اجتماعهم المقرر، عقد حسقيل سلسلة من الاجتماعات واللقاءات في بيته الذي استأجره من اقرب تاجر، بدلا من ان يشتريه، ولكنه كان بيتا كبيرا بستة أعمدة، وليس كبيته القديم ذي العمودين، وكانت شقق البيت الجديدة كلها محاكة حديثا من شعر الماعز، بدلا من ذلك القديم الذي غالبا ما كانت شققه مهترئة.
كان حسقيل يعقد الاجتماعات بصيغة دعوات ينظمها، ويقدم الطعام فيها بسخاء، رغم بخله، بل كأنه في الدعوات التي اقامها، غادر ما هو معروف عنه من بخل ينتقل بالعدوى حتى لمن يجاوره ويتأثر بطباعه.. الا يغطي من لديه غرض سيئ غرضه بما يضحي به، اذا اقتضى الوصول اليه صرف الاموال؟ ثم ان حسقيل، الذي يحسب لكل فلس حسابه، رسم لما بعد الوصول الى هدفه، ان يسترجع الفلس بأضعافه، بل كأنه اراد، وهو يصرف على الدعوات، أو اعد ليكون كل فلس يصرفه مدخلا الى فرصة صممها لتحقيق مآربه.. وكان حسقيل، عندما يحضر الرجال دعوته، يفتح موضوعات ديونه عليهم بصورة غير مباشرة، أو يتفق مع احد افراد الشبكة، رغم انه مدين له، ليقول له:
ـ والله، يا حسقيل، يا طويل العمر، انت تعرف الحال، وان ما حصل لنا كبير، فنرجو ان تضع هذا في اعتبارك، فاصبر علينا بضعة أشهر اضافية، وبعدها نسدد لك الدين مع فوائده.
ويقول حسقيل:
ـ الأمر هين، انا اعرف الـظروف، واعرف كل شيء، وسأتصرف.
ويسكت من غير ان يقطع بشيء حاسم..
ثم يقول آخر:
ـ يا طويل العمر، يا شيخنا..
وعندما يقول (يا شيخنا) تنتفخ اوداج حسقيل فرحا، ويجفل ابناء عمومة الشيخ المهزوم.
ثم يقول حسقيل:
ـ ما زال فلان هو الشيخ، شيخ القبيلة المضطرة، الا اذا قررتم شيئا جديدا.. فالمهم عندنا ان تتفق القبيلة على من ترى انه صالح لقيادتها.. ثم يردف:
ـ كان الله بعون من يكون شيخا للقبيلة، فهو يحتاج الى مال لكي يطفئ نسبة الفائدة في الاقل نيابة عن المدينين بثمن السلاح، اذا لم اقل نسبة من قيمة ديون السلاح ايضا، ثم ان القبيلة اذا ارادت ان تأخذ بثأرها لما اصابها فهي بحاجة الى مدبر، لا ليعرف كيف يدبر امور القبيلة فحسب، وانما لينشيء تحالفات بعينها مع القبائل القريبة والبعيدة، ومن ذلك قبيلة الروم التي صارت منا وصرنا منها. ثم انه بحاجة لأن يتمعن في الكيفية التي يساعد بها الارامل واليتامى بعد هذه النكبة.. و.. و.
كان حسقيل يقول كل هذا كأنه ينسج صورة لا تنطبق الا عليه، او انه يوحي، ويجعل شبكته تنشط لتروج قول ان مثل هكذا مواصفات تنطبق على حسقيل وحده، حتى ان بعض الشعراء صاروا يصفونه بغير صفاته، وصار البعض الآخر، وهم يتحدثون فيما بينهم عمن (يرْهَمٌ) يصلح شيخا للقبيلة، يقولون: ان حسقيل منا.. يا اخي، ان القول المأثور (من عاشر القوم اربعين يوما صار منهم) ينطبق على حسقيل، وقد مضى على حسقيل معنا زمن طويل، الا يكفي هذا لأن نجعله منا، أو كأنه منا، لنختبر كفاءته في القيادة؟
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:39

ويقول آخر:
ـ ماذا يحصل لو اعطيناه فرصة لنعرف كفاءته ونواياه؟.. وماذا نخسر ان لم يعجبنا؟ يا اخي ـ يقول لمن يعترض ـ فعندها نستبدله بشيخ جديد..
ثم يردف قوله:
ـ الم نختر قبله ذلك الشيخ الفاشل في كل شيء.. فلا هو بكريم، ولا هو بحليم، ولا هو بمقتدر!؟ لماذا لا نعطي حسقيل فرصته؟ ثم ان حسقيل ثري، وهو الذي يصنع لنا السلاح، فماذا نعمل لو طلب منا اداء اثمان الاسلحة مع فائدتها الآن؟ في الوقت الذي يكون عدد كبير منا منشغلا بالتفكير في ما يعمله، وكيف يدبر فدية رقاب الأسرى.
وعندما يسأل آخر:
ـ ولماذا لا نختار ابن عمنا فلانا؟
يقول من يعترض عليه:
ـ وماذا نأمله في ابن عمنا؟ لقد جربنا الشيخ الذي نحن بصدد خلعه، ولم ينفعنا بشيء رغم انه ابن عمنا.. ثم ان حسقيل رتب تحالف القبيلة مع قبيلة الروم الكبيرة، ومن تكون قبيلة الروم معه لا يغلب، عدا انه سيطور الوضع الاقتصادي لقبيلتنا، ويحسن سلاحنا.. ويجعل من يعترض على ولايتنا غير قادر على تغييرنا بعد ان نحظى بوعد، وحماية شيخ قبيلة الروم لنا بأن يقاوم اي رغبة بهذا الاتجاه.
ـ وعندما يتساءل احدهم بالقول:
ـ اذا كانت قبيلة الروم حليفة حسقيل، وستكون حليفتنا، فما هي حاجتنا للاسلحة!؟
يجيبه احد ازلام حسقيل:
ـ لنواجه بها قبائل العرب، اعداء حسقيل، واعداء الروم.
واذ ذاك يتبادل اثنان من الشباب النظر فيما بينهما، ثم ينهضان تاركين مكان النقاش.
وعندما يقول له أحدهم:
ـ كان اختيارنا لأبي لذة خاطئا بالاساس، ثم، الا تتذكر ان القبيلة الفلانية التي غلبتنا فرضته علينا في ذلك الوقت، بعد ان قتل شيخنا ذاك الشهم في المعركة، عندما قالوا لنا انهم لا يطمئنون على علاقتهم معنا، ولا يقيمون معنا الصلح ما لم نقبل بهذا شيخا، وقد قبلنا به على هذا الاساس، ولم نختره نحن، بل كأنهم قد تعمدوا آنذاك ان يختاروا الاردأ من بين رجال القبيلة، فلنختر واحداً من الفرسان الجيدين من أبناء عمومتنا.. بديلاً له، وليس حسقيل..
عندها يصيح به آخر:
ـ دعنا، يا أخي، من تكرار قولك.. أبناء عمومتنا.. أبناء عمومتنا.. لنترك عمومتنا جانباً، ولنجرب اختيار أجنبي، حتى لو لم تعتبروا حسقيل منا، ماذا به حسقيل؟
ثم يصيح عدد من الحضور بصوت واحد ليرهبوا الحاضرين:
ـ بل حسقيل منا..
ويصيح آخرون:
ـ نريد حسقيل شيخاً لنا.
ويقول أحدهم ضاحكا:
ـ بل أنا على استعداد لأن أزوجه ابنتي فوراً.
ويقول آخر:
ـ وأنا أيضاً، أعطيه أختي من غير متأخر الصداق.. يكفيني ما يقدمه لي مقدماً بما يجود به! كانت هذه الاتجاهات بوجه عام، وكل ضمن تفاصيل يومه، هي الاتجاهات الأساسية التي كانت تدور حولها اللقاءات التي يجريها حسقيل مع من يحضر إلى بيته.
لاحظ الرجال أنهم ما أن يعودوا إلى بيوتهم حتى يواجهوا تساؤلات ومفردات أحاديث من زوجاتهم، أو أمهاتهم، أو اخواتهم، وكأنهن كن يحضرن الاجتماعات، وقسم كبير منها لصالح حسقيل، مع تمنيات تتعلق بالنساء المعنيات بأن يجود حسقيل على من يجود عليها (بمحبس) خاتم من ذهب أو فضة، أو بسوار، أو قلادة، لو فاز بالمشيخة، وكل منهن ترسم الخيال المناسب لثقل وزنها في القبيلة، أو لمستوى جمالها.. وعلى طرف الرجال المعنيين يمنّي كل نفسه بما يمكن أن يجود عليه حسقيل، ورضاه عنه بمال أو جاه، أو ما يثبته شيخاً على قبيلته، أو يمكّنه من كرسي مشيخة يناوئ عليه أباه أو ابن عمه أو أحد شيوخ عشائر القبيلة..
وما أن حان الموعد الذي حدّدوه، حتى التقى رجال القبيلة في ذلك اليوم، لكن حسقيل، بدلا من جعلهم يلتقون في بيته ذي الأعمدة الستة، فقد جمع شيوخ العشائر التابعين لهذه القبيلة في اليوم الذي سبق يوم اللقاء، ورجاهم أن يكون اللقاء الأول في بيت شيخ المضطرة بوصفه البيت الأكبر.. وأنه سوف يضمن لهم عدم حضوره، لكي لا يقول أهله وأبناء عمه إن اللقاء حصل في بيت حسقيل ذي الأعمدة الستة، بدلا من البيت ذي الأعمدة الثمانية (وبذلك يجدون مدخلا للطعن بقراراتكم).. هكذا قال حسقيل.
ثم أردف قائلا:
ـ ثم ان البيت صار الآن بيت أم لذة، بعد أن طردته منه.
وقال آخر:
ـ يا أخي، إذا كان الاعتراض على عدد أعمدة البيت، لنجعل عدد الأعمدة في بيت حسقيل سبعة بدلا من ستة، لنجعله ذا أعمدة ثمانية، بإضافة عمودين على الأعمدة الستة من غير مقطع اضافي في البيت.
ثم يعترض شاب لم يهرب من المعركة، وقاتل ببسالة:
ـ يا اخوان، ان الموضوع ليس موضوع عدد الأعمدة وإنما الفكرة، هل نلتقي في بيت شيخ العشيرة وتحت إشراف عدد منا، أم نلتقي في بيت حسقيل وتحت إشرافه؟
ثم يقول آخر:
ـ لديّ فكرة: لماذا لا نلتقي في بيت شيخ قبيلة الروم، وبذلك نحل الموضوع، ولكي لا نترك لدى أحد حساسية من الذين يتحسسون من حسقيل وبيته..
يعترض أحدهم ليقول:
ـ ليس المهم التسميات، إنما الفكرة، هل نقبل بأن يشرف أجنبي على مناقشاتنا ويوجه اختيارنا لشيخنا، أم نحل شأننا بأنفسنا، وبإشراف واحد من أبناء عمومتنا؟
ينفض حسقيل عباءته بحركة تمثيلية واضحة ويقول:
ـ إذا كان حضوري هو المشكلة، سأترك المكان.
صاح العدد الأكبر من شيوخ العشيرة بصوت واحد:
ـ بل يبقى حسقيل والروم الموجودون بيننا، فكلهم اخواننا، ولا فرق بيننا وبينهم
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:40

وافق شيوخ العشائر المنتسبون لتلك القبيلة، ومعهم أغلبية الحضور.. رغم اعتراض أحد الشيوخ بقوة على هذا، وسحب صلاح سيفه وهو يصيح بقوة:


ـ ان هذا غدر.. ان هذا خيانة لتاريخنا وتراثنا، وتضحيات أجدادنا وآبائنا، حتى وصلنا إلى ما وصلنا إليه، قبل أن يصير أبو لذة شيخا علينا والآن تسعون لأن يصير حسقيل شيخا علينا مع كلب الروم، بل ان تصرفا هكذا وصفه يعتبر خيانة حتى لدين من هو على دين حقيقي منا.. خيانة للحاضر وللأجيال من بعدنا.. فوالله لن ارضخ لأمر يسيئ لكل هذا، ولن يرهبني ويجعلني لا أقرر طريقي واختياري بنفسي، أنا وعشيرتي، ولن أخشى حسقيل ولا الروم، ولا أخشى من يرضخ صاغراً مخزياً لهما.


وعندما يعترض أحد الشيوخ يصيح به بقوة.. وعندما يهم أن يهوي عليه بسيفه يسقط على ظهره حتى تظهر عورته.. فيضحك قسم من الشباب، بعد أن يخرج الشيخ الشهم، على منظر جُبن مَن جَبُن.. عندما واجه ذلك الشهم الضعفاء.


من جانبه، كان حسقيل قد رتب الأمور مع زوجة الشيخ، لذلك كان الاجتماع في بيت الشيخ، واختيار وجهاء وشيوخ العشائر أن يكون حسقيل هو الذي يدير الاجتماع، وعندما حاول أن يظهر شيئاً من التمنع التمثيلي، قام كثر منهم إليه، ملحفين الرجاء، هذا يقبّل كتفه، وذاك أنفه، والآخر جبينه، أو كتفه، وصغار السن يقبِّلون يديه، وكلهم يرجون حسقيل أن يقبل الإشراف على مناقشة مصير القبيلة، إلا واحداً من الحضور، كان رجلاً مهيباً، قاتل قتالاً مشهوداً عند المنازلة مع القبيلة المختارة، رغم أنه أساساً لم يكن مقتنعاً بضرورة شن الغارة على تلك القبيلة، ولا بأسبابها ودوافعها.
لذلك عندما نزل رجال المضطرة من على صهوات جيادهم لينهبوا حاجيات بيوت المختارة قبل أن تبدأ المنازلة، بقي هو على ظهر جواده، ولم يشترك في جمع الأسلاب، وجعلته حصانته الذاتية وروحه العالية، وشجاعته، من بين القلة النادرة، بل في مقدمتهم، مع ما سجل من علامات متقدمة على من قاتل فعلا، لذلك كان آخر من انسحب من المعركة، ولكثرة ما سال على قبضة سيفه من دماء، جفت على كفه اليمنى بسبب الإمساك بالسيف لمدة طويلة، وهو يهجم بأمل أن يخلص أكبر عدد ممكن من الوقوع في الأسر.. ولأن الدماء جفت وجمدت على كفه وهي ممسكة بالسيف، فإنه لم يتمكن من فتح قبضة يده ويخليها من قبضة السيف، إلا بعد أن نقعها في ماء دافئ عند أعرابي استضافهم وهم في طريق العودة إلى ديارهم بشهادة من كانوا عائدين معه، إلى قبيلتهم بعد الغزو الفاشل.


قال صلاح، بعد أن نهض ليتكلم وقوفاً:
ـ إننا أبناء قبيلة واحدة، نحن الحضور هنا في دار الشيخ الذي خزينا به قبل أن يخزي نفسه، ذلك لأن من لا يستحي من العار لا تخزيه نفسه إذا ما ارتكب ما يعيب، أقول، نحن الموجودين في هذا البيت، كلنا أبناء قبيلة واحدة، إلا حسقيل، ومن احضرهم معه، فهو رجل غريب، والذين معه غرباء ايضا، بل جاءنا دخيلاً، وقبلنا أن يعيش بيننا كمستضعف، ويعمل وفق مصلحته صائغاً أو حذّاء للخيل، أو حداداً وصانعاً للأسلحة، لكن لا يجوز أن نبحث شؤوننا بحضوره، خاصة في شأن مصيري كهذا.. وفي كل الأحوال، لا يجوز أن يكون حسقيل مشرفاً على حوارنا هنا، أو شيخاً علينا..
وفي الوقت الذي كان يقول ذلك، كان كثر من الجالسين يشوشون عليه، وبعضهم يحصبه بالنوى أو الحصى الصغير، بعد أن كان حسقيل قد قدم لهم تمراً، قبل الغداء، وقد أراد بهذا لا أن يظهر لهم كرمه، إنما يجعلهم يتناولون التمر، وينكبون على شرب الماء، بما يجعلهم مقلين في تناول الطعام الذي أوصى أم لذة أن تزيد سمناً لكي لا يبالغ الشرهون في تناول الطعام.. هكذا قال حسقيل للشيخة أم لذة.
ـ وبذلك يا شيخة، بإمكاننا بأقل ما يمكن من الذبائح والثريد أن نجعلهم يشبعون.
ورغم ان الحاضرين كانوا يشوشون على صلاح، ذلك الرجل الوقور الشجاع، فقد واصل كلامه، وقال:
ـ انني اعترض على وجود حسقيل وأي غريب بيننا، ولكي لا تتصوروا أن اعتراضي على حسقيل لسبب ذاتي، فأنا لا أرشح نفسي شيخاً للقبيلة، وإذا كنتم لا توافقون رأيي، فأنا أعلن انسحابي من هذا المكان، وسأعزل منزلي عن منزلكم حتى تصحوا على زمانكم، وتلتزموا بتقاليد آبائنا وأجدادنا، وتحترموا حقوق القبيلة ومبادئها.. ومن يتبعني فليتبعني، ومن يبقى فعليه إثم ذنبه.
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:41

نهض، ونهض معه عدد من الشباب الذين كانوا يحضرون هذا الاجتماع، ولم يبق إلاّ عدد قليل من الشباب لم ينسحبوا، مع عدد آخر من اعمار أكبر منهم، وأغلبهم كانوا كهولاً أو شيوخاً، وأثناء عبوره آخر صف من الجالسين، لطم وجه من كان يحصبه وهو يتكلم فسقط على الأرض، وتدحرج غطاء رأسه، وعندما حاول بعضهم أن يتجاسر عليه، سحب سيفه، وسحب الشباب الذين نهضوا معه سيوفهم ايضا، وهنا قام حسقيل ليقول:

ـ (اخوي راشدة)، اترك الرجل يرحل، ولا تعملوا لنا قصة، يا اخوان نحن لسنا بصدد ان ننشغل ببعضنا الآن، فلذلك شأن آخر، قد يأتي وقته لاحقاً.. لا تضيعوا علينا فرصة تدبير امرنا، ثم استدار ليهمس في أذن شيخي أكبر عشيرتين في القبيلة، كان أحدهما يجلس على يمينه، والآخر على يساره..
ـ سوف يعاقبه شيخ الروم على موقفه.. لا تقلقوا.
قال حسقيل ذلك، ليجبر الخواطر، ولكي لا تضيع عليه الفرصة التي خطط لها.. حتى انسحب الرجل الشجاع هو ومن تبعه من شباب القبيلة.
جلس الباقون، كل في مكانه.. وأمر حسقيل العبيد أن يصبوا القهوة للضيوف.. هكذا قال ليوحي بأنه صاحب البيت.
قال أحد الحضور:
ـ لنبدأ.
وبدأ ينتقد تصرف الشيخ أبي لذة..
تبعه آخرون، كل يصف عيوب الشيخ، وكان شيخ المضطرة، في الواقع، مليئاً بالعيوب.
قال أحدهم:
ـ لماذا لا نحضر الشيخ، لنسمع منه؟
نهره أحد شيوخ الروم.. فسكت.

***

استمرت محاكمة الشيخ حتى قرروا خلع صفة المشيخة عنه بحضور الجميع، وبإشراف حسقيل، وعندها صاروا امام ضرورة ان يختاروا شيخا للعشيرة بدلا من الشيخ المخلوع.
قال أحدهم:
ـ انا ارشح نفسي لهذا المنصب.. ومن لديه اعتراض فليقله.. قال ذلك بعد ان سحب سيفه من جنبه، وشهره بوجه من قد يعترض، وقام خلفه ابناء عمومته والاقربون، ومعهم بعض الروم، وهم يسحبون سيوفهم ويشهرونها.. وهكذا فعل آخر، ومعه فعل المقربون اليه، ثم ثالث ورابع وخامس، حتى لم يبق وجه وشيخ من وجوه وشيوخ العشائر ضمن تلك القبيلة الا ورشح نفسه، وسحب سيفه، ومعه اتباعه يشهرون سيوفهم بوجه المجهول..
هنا قال حسقيل: ـ يا (هالربع)، في مثل هذا الجو، من الصعب ان نختار من بيننا شيخا للقبيلة، وأخشى ان تحصل مذبحة بيننا، اذا اخترنا من بين الحضور شيخا لنا، بسبب تعارض الرغبات والاتجاهات.. ومن اجل ان نحقن الدماء ونحافظ على وحدة القبيلة، اشير عليكم بأن نحكم في امرنا شيخ القبيلة الرومية، فهو رجل حصيف، وفوق ذلك شيخ أكبر وأقوى قبيلة، وهو فوق كل ذلك، تحمل عبء ومخاطر الطريق ليجاورنا هو وقبيلته، أليس من الحكمة ان نعطيه فرصة ان يقول في امرنا رأيه، وهو شرف كبير لنا لا يدانيه شرف!؟
قال حسقيل ذلك وهو واقف، وعندما جلس صفق له كثير من شيوخ العشائر في القبيلة المضطرة، الا واحد اعترض على المقترح، وقال:
ـ انني افضل ان نحل امرنا بأنفسنا، بدلا من الشيخ الذي اقترحته، يا حسقيل.
وعندما رفض الحضور الرأي الوحيد للشيخ المعترض، قال حسقيل:
ـ اذن، على هذا الاساس، اعتبر ان شيوخ عشائر المضطرة قد وافقوا على مقترحي، الا شيخ عشيرة واحدا.
أصبح تحكيم شيخ الروم حالة ملزمة وواجبة طبقا لقرار اتخذه عدد من شيوخ عشائر القبيلة.. ورغم انهم لم يكونوا الاغلبية، ولكنهم فرضوه كأمر واقع، على اية حال.
نهض شيخ الروم، وتنحنح، وكلما تنحنح، قال له اقربهم:
ـ ابشر، ابشر، والله يا طويل العمر، لن نخرج عن مشورتك (شورك) وما تقرره، انت (خوينا) الكبير، وصاحب السطوة العالية في هذا الزمان.
عندها قال شيخ القبيلة الرومية:
ـ اجد صعوبة كبيرة في أن اختار واحدا منكم، بعد ان رأيت ما انتم عليه من فرقة، لذلك أرى، من اجل مصلحة القبيلة، ان يكون حسقيل شيخ قبيلتكم..
ثم اردف:
ـ ان حسقيل ذو تدبير، وهو يصنع السلاح، وله وكالات للمال والدعاية كثيرة، ويقيم معنا علاقات نثق بها ونأتمنها، وعلى هذا الاساس فنحن ايضا بامكاننا ان نساعدكم، وعندما تكون ايدينا بايديكم، ويكون حسقيل شيخ قبيلتكم، فإن كل شيء ممكن، بما في ذلك ان نتكاتف على قهر القبيلة المختارة.
ورغم اعتراض شباب القبيلة الذين ليس في ايديهم حل ولا عقد، صفق شيوخ عشائر القبيلة الا واحدا، قام وقال:
ـ انا ارفض هذا الاختيار، انه اختيار مهين لقبيلتنا، وانا اعترض عليه.
قال شيخ الروم:
ـ ولكننا سنحارب من يرفض.. وسوف نكون جميعا متحدين ضده.
قال ذلك الشيخ:
ـ انا ارفض هذا الطريق، ومع انني لا اريد الحرب، ولكن عندما اكون مضطرا عليها سوف اقاتل..
ومع ان شباب القبيلة صفقوا له، فإن ايا من شيوخ عشائر القبيلة الذين وافقوا حسقيل لم يأخذ برأيه، لذلك غادر الجلسة..
قال حسقيل:
ـ اشكركم اخواني، وأبناء عمومتي، على اختياركم اياي شيخا للقبيلة المضطرة.. سوف اسقط عنكم نسبة الفائدة على الديون المقررة بذمتكم.. وسوف أمنح كل شيخ من شيوخ العشائر في القبيلة مبلغا من المال يدبر به شؤون بيته، ويديم شراء القهوة ليقدمها في مضيفه، وكل على اساس وزن عشيرته، وسوف اخصص نسبة مما تجمعه العشيرة من عملها وثروتها لشيخ قبيلة الروم ليديم دعمه لنا، وكاعتراف منا بجميل اسناده، وصنيعه.. فنحن من غيره لا نستطيع ان نستمر في مشيختنا.
التفت حسقيل الى من كان يجلس جواره، ووجده يضحك، فقال:
ـ ان الطامعين في مشايخنا كثر، وان قوتنا غير مهيأة دائما لتكون في وضع تستطيع ان تصد عنا طمع الطامعين، خاصة اذا ما ظهروا لنا من بين صفوفنا.. ولذلك فإن حاجتنا دائمة، يا ابن اخي، للقبيلة الرومية وشيوخها..
وأضاف:
ـ اشكر لكم جميلكم وصنيعكم، واذا وافقتم، فانتم مدعوون في بيتي اليوم، لنحتفل معا انا وجماعتي.
قال (جماعتي) كأنها فلتة لسان، وكان يقصد شبكة العيون والدساسين، ومتسقطي الاخبار، لكنه استدرك ليقول:
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:42

عفوكم، اقصد انا وقبيلتي، نساء ورجالا، اليست الحفلات المختلطة افضل، يا جماعة الخير؟
صاح قسم من الشباب بحماس:
ـ بلى، يا شيخ.
وقال احد الحضور، وهو ثمل ويمسك بيده قنينة خمر من فخار، وباليد الاخرى قدح فخار ايضا، وبعد ان ملأه من القنينة رفع القدح الى الاعلى فوق رؤوس الجالسين، وصاح بصوت متقطع، ووجهه يتصبب عرقا، وهو بالكاد يجد بداية الكلام ليقول:
ـ بصحتكم.. بصحة حسقيل..
قالها متقطعة هكذا:
بــ.. صحـ.. ـتكم.. بـ.. ـصحة.. حســ.. ـقيل.
وقد اجابه شيخ قبيلة الروم بلغة اجنبية:
ـ (تشيرز).. ـ ثم استطرد حسقيل:
ـ ومعنا شيخ قبيلة الروم، نساء ورجالا، لنحيي حفلة مشتركة حتى المساء، ولنشاهد رقصات ودبكات الروميات، ومعهن، أو الى جانبهن شيخات قبيلتنا، بالاضافة الى رجال القبيلتين.
قال الاكثرية:
ـ نعم.. نعم.. الا اثنين.. اعترضا وخرجا.

***

بعد ان صار حسقيل شيخ القبيلة، حدد لمن يطلبهم ثمن السلاح موعدا ليسددوا ما عليهم، واستولى على ما يساوي دين من عجز عن التسديد من اغنام وابل وابقار، بل راح يستولي على بيوت الشعر العائدة الى من لا يستطيع التسديد..
وعندما يسأله من يسأل:
ـ اليس هذا مبالغا فيه، يا شيخ؟
يجيبه:
ـ وماذا افعل مع من لا يستجيبون لتسديد حقي؟
وعندما يقول له من يقول:
ـ اليس من حق ابن القبيلة على شيخه ان يتضامن معه في مواجهة الظرف الصعب؟
يجيب:
ـ وما قيمة الشيخ والمشيخة من غير فلوس، يا اخي؟ اترى انكم تختارونني شيخا عليكم لو لم املك مالا؟ الم يكن كثر منكم يأخذ برأي صلاح عندما كانت فلوسه كثيرة قبل القتال، وبقيتم في مجلسي عندما احتج على اختياري شيخا، ولم يكن ذلك لأن مالي كثير، وصار هو لا يملك كما كان في السابق، وان نفوذي اندمج مع قدرة ونفوذ الروم؟.. نعم يا اخي ان المال يجمع منك ومن الآخرين، لنواجه به اناسا كصلاح، ما ادرانا.. قد يظهر من بيننا كثر مثله! استمر حسقيل، الى جانب ذلك، يجمع الفلوس من حصيلة ما تشعب من مصالحه.. حتى صارت لمصالحه فروع ليس ضمن القبيلة المضطرة فحسب، وانما اتفق مع قبيلة الروم على ان يتوسعوا في مصالحهم وفق شراكة خاصة، ويمتدوا في مجاميع الحدادة والنجارة والحياكة وبيع السمن والبسط والزيت والزيتون لكل القبائل، ومن لا يفتح لهم مجالا لمصالحهم يشنون عليه حربا بصورة مشتركة، حتى انهم اسسوا وكالات خاصة لتصدير واستيراد كل شيء تبيعه القبائل أو تستورده، الا اهل العراق، فانهم رفضوا ان يبيعوهم شيئا، أو يستوردوا منهم شيئا، من خلال المكاتب التي اسسها حسقيل، أو اسسها بصورة مشتركة مع الروم.
ولأن ما كانوا يستوردونه من العراق هو النفط والقار (اي القير)، والتمر.. وكلها، عدا الحبوب، لم يكن احد ممن يجاورهم يمتلك بديلا عنها، فقد اضطروا الى ان يسمحوا للقبائل بأن تستورد من العراق من غير شروط. وتسببت المكاتب التي اسسها حسقيل، أو تلك التي اسسها بصورة مشتركة مع الروم في عداوات واسعة بين قبائل العرب ضد حسقيل وضد الروم من بعده، لأنهم تضامنوا مع حسقيل في تجارته الاستغلالية، عدا عن الارباح الفاحشة التي كان يتقاضاها من الربا، سواء من خلال وكالاته ومكاتبه المتخصصة المستقلة، أو تلك التي اسسها حسقيل بصورة مشتركة مع الروم. وقد فرض حسقيل والروم على كثر من قبائل العرب، بل حرموا عليهم ان يبتاعوا سلاحا، أو اي نوع من انواع ادوات الزراعة أو الحرف اليدوية، وحتى أواني الطبخ، الا من الروم أو حسقيل، وكانت عقوبة من يتجاوز ذلك ان يغزوه، ويستولوا على ممتلكاته، وعاثوا في الارض فسادا، بعد ان اصبحوا اكبر قوة في هذا المحيط، في ذلك الزمان، وكلما ظهر صوت يعترض على حسقيل وقبيلة الروم من بين الشباب، دبروا له في ليل خنجرا مسموما ليغمد في ظهره أو بين ضلوعه، أو يغروه يما يغرونه به، كل حسب هواياته واهتماماته ليتنازل عن موقفه لصالحهم، وصاروا الاكثر ثروة بين القبائل، بل لعل ثروة حسقيل بصورة خاصة، وثروة شيوخ قبيلة حسقيل وشيوخ قبيلة الروم صارت الاكثر، بغض النظر عن مستوى ملكية افراد القبائل العاديين، الغني منهم والافقر، حتى بالقياس بما كان عليه مستوى المعيشة بين القبائل الأخرى..

***

كانت الشيخة أم لذة تنتظر ان يتقدم حسقيل لخطوبتها، بعد ان طلقها زوجها الشيخ السابق، أو هي طلقته، وعلى اساس ما اتفقت معه من قبل، وعلى خلفية خدماتها التي قامت بها بين صفوف نساء القبيلة، ولكنه كان يبقيها بالامل مع كل يوم أو اسبوع أو شهر يمر الى ما بعده.. حتى صار الزمن يعد بالسنوات بدلا من الاشهر، وفي الوقت الذي كان يؤمل أم لذة، كانت عينه على لذة، ذلك ان لذة لم تمكنه من نفسها، ولأن من عادة هذا النمط من الناس ان يبحث عمن لم يلمسها، وفي الوقت الذي يشبع من تلك التي بين يديه، راح حسقيل يجري خلف لذة، وكلما حاول معها، تملصت منه بطريقة لا تجعلها تبتعد عنه ليقطع الأمل فيها، ولا تقترب الى الحد الذي تحقق بغيته فيها..
وعندما كان يقول لها:
ـ لقد اتعبتني يا بنت الحلال، ولم اعد اعرف ما اذا كنت راغبة فيَّ فعلا ام تلعبين بي.
تقول لذة:
ـ لا عاش من يلعب بك، لكن صبرك عليَّ، لئلا نلفت انتباه الناس لحالنا بما يثير التساؤلات، التي ما ان تكون في افواه خصومك، حتى تضعفك عندما يتقولون بما يعني ان عائلة الشيخ القديم متفقة معك على النتائج التي حصلت، سواء بعزل الشيخ ابي او بتنصيبك شيخا علينا.. وبذلك يضاف اليك عبء جديد، عدا الاعباء التي نسمعها ونراها من ان القبيلة صارت موزعة في ولائها بينك وبين من خرجوا عليك، بعد ان رفضوا انتخابك وولايتك على القبيلة، حتى صار لاعدائك شأن لم يكونوا عليه، عندما فزت بمنصب المشيخة..
ثم أليس ما تنتظره اكثر اثارة مما تأكله..!؟
سكت حسقيل على مضض، لا لقناعته بما قالته لذة، انما لقوة حجتها ومنطقها
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:44

ثم يعود حسقيل لاجئا لأم لذة.. وان كان يراجعها وتراجعه، لكنه لم يبق في شوق اليها، مثلما كان في السابق، وعندما طال الزمن بها، ولم تلمس منه ما هو يقين في رغبته ونيته في الزواج منها، قالت له بوضوح:
ـ ان لم تتزوجني، يا حسقيل، سأجمع كل نساء القبيلة، واحكي لهن قصة المؤامرة التي حكتها على القبيلة، وما وجهتني بان اقوم به من دور وسط النسوة.. بل لعلي جمعت الرجال لاقول لهم الشيء نفسه، وعند ذلك سيكون مصيرك في كف عفريت.. ترى ماذا سيكون عليه حالك لو فعلت ذلك، خاصة بعد ان صار لك خصوم جديون داخل القبيلة، واولئك الذين شكلوا عشيرة مستقلة من الذين خرجوا عليك، بعد ان اشرفت على القبيلة، ثم خرج من خرج على ولايتك، عندما اختارك شيخ قبيلة الروم شيخا على قبيلتنا؟.. لقد غدرت (نكت) بي، ولم يبق امامي غير ما قتله لك، فعليك ان تنظر في الامر جديا، وتحكم عقلك وتقرر ولا بد ان تعرف كيف ومتى تقرر وامامك اسابيع قليلة، فان لم تقرر، سأحدد لك زمنا بالايام، وبعدها اكون في حل في اختيار التوقيت المناسب والطريقة الاكثر ايذاء بالافضاء بكل ما اعرفه للقبيلة..

داور حسقيل الامر مع نفسه، وانصت وهو في اسوأ حالة اضطراب، وهو يسمع منها كل ما قالته، حتى تحول التخلي عنها الى حقد وكره شديدين، والى شعور ورغبة جامحة في الانتقام.. لذلك افتعل او تقمص مظهر الهدوء وقال:
ـ انك واهمة في ما استنتجته، ولا اعتقد انك بحاجة الى ان تطبقي ما قلته، ذلك لأنني احبك ولا استطيع ان استغني عنك، لكنني اردت ان يبتعد الزمن عن خط البداية، لكي لا نلفت انتباه المتصيدين، ونعطي متسقطي الاخبار ومن يحاولون اضعافي واضعاف وهز القناعة بمشيختي، التي بنيتها انت بالدرجة الاساس، تخطيطا وتنفيذا ـ كأنه بهذا استعار جانبا اساسا من الحجج التي قالتها لذة، عندما كان يتحايل عليها ليتزوجها، بعد ان فشل في الحصول عليها من غير زواج.
قالت الشيخة:
ـ على اي حال، قلت ما قلته، رغم انني واثقة من انك ستتزوجني.. لكني اردت ان احسم ترددك في امر ينطوي على مصيري ومصيرك، واردت ان استعجلك، محاولة ورغبة مني في ان احصل منك على ولد يكون قرة عيوننا ويجعل دارنا تخضر من جديد، بعد ان كبرت لذة وامتناعي عن انجاب غيرها بعد ان اكتشفت ان حياتي مع شيخ العشيرة السابق لن تستمر.. وها هي لم تستمر، مثلما تعرف وترى..
ما ان خرج حسقيل من بيتها حتى بدأت افكاره تسير باتجاه التآمر على حياتها، بعد ان وضعته امام الأمر الواقع.

***

استمر حسقيل وشيخ قبيلة الروم في عملهما الذي اعتادا عليه من استغلال وابتزاز للقبائل المجاورة، تحت كل العناوين والانشطة التي ذكرنا والتي لم نذكر، واغتيال هذا او ذاك وفق تدبير مشترك لمن يِكتشف انه يعارض خططهما، بالاضافة الى العدوان المستمر على من كان يجاورهما، بما في ذلك انهما امتدا في غزواتهما وعدوانهما حتى الى العراق، لكنهما هنا ردا على اعقابهما، رغم ما الحقاه من اذى بالناس، ومنه قتل المواشي او الاستيلاء عليها وحرق المزروعات وقطع النخيل ومع ذلك ردا واتباعهما مهزومين بالنتيجة وكانوا عندما ينهزمون امام اي قوة او قبيلة، يزدادون حقدا على المنطقة ويزدادون امعانا في القتل وحرق المزروعات وقتل الحيوانات التي لم يستطيعوا الاستيلاء عليها ونقلها الى حيث ديارهم.. ولم يسلم منهم حتى النساء والاطفال، حيث لم يبقوا احدا يحبهم، بل صار الكل يكرههم من شرق المنطقة الى غربها ومن شمالها الى جنوبها.. وعبثا حاول شيوخ القبائل، زرافات ووحدانا، ان يقنعوا حسقيل وشيخ قبيلة الروم، بتغيير مواقفهما.. وارهق الناس من حولهما جراء عدم الاستقرار والحروب، وبدأ الفقر يدب بسبب الاتاوات التي فرضاها على الناس، عدا الزامهم بان يكون كل نشاط تجاري او اقتصادي بوجه عام مع حسقيل ووكالته ومع رئيس قبيلة الروم وقبيلته حكما، على ان يفرضا اسعار ما يشتريانه او يبيعانه، ولم يعد للمنافسة من اي طرف مكان او دور، انما ما ذكر فحسب.. بالاضافة الى الاتاوات المباشرة التي يفرضانها على الناس واصحاب الاموال منهم بوجه خاص، من حين الى آخر، تحت هذه الذريعة او تلك..

***

في أحد الايام، اقترح حسقيل على شيخ الروم اقتراحا غريبا، قبله شيخ الروم.. اقترح حسقيل ان يشيدا بناءين شامخين كأنهما برجان عملاقان، وصارت المبالغات والقصص تدور حولهما، بسبب ارتفاعهما ومستوى البناء، حتى قال احد البنائين الفرس ممن استخدموا في البناء، ان فأس البناء سقط من يده يوما وهو في الطابق الاخير، وبسبب ارتفاع البناء لم يصل الفأس الى الارض حتى ذلك اليوم الذي كان يتكلم فيه.. وانهم عندما كانوا يعملون في البرج ـ يقول الفارسي ـ كان صعودهم يستغرق اسبوعين ونزولهم اسبوعا، بعد ان يبقوا معلقين في سلم البناء ثلاثة اسابيع ليل نهار..
كان عدد من الاعراب وغيرهم يستمعون الى مبالغات هذا الفارسي، وعبثا حاول من حاول منهم ان يقنعه بعدم دقة ما قاله.. لكنهم لم يقولوا له انه يكذب على غرار ما تفعله الدبلوماسية في هذا العصر، بقولها عن الكبار عندما يكذبون، ان فلانا الأميركي.. او الانكليزي او الفرنسي، لا يقصد ما قاله، او ان الصحافي الذي نقل عنه الكلام لم يكن دقيقا او لم يكن دقيقا تماما..
اراد احد الاعراب ان يناكد الفارسي بسبب كذبه، فقال له:
ـ كنت مع والدي في زيارة للعراق، واشترى لي والدي خيارة قثاء من سوق مدينة (تل اسمر) (1) السومرية، وكانت الخيارة ناضجة وبذورها ناضجة هي الاخرى، وقد جلسنا نأكلها على حافة نهر ديالي، الذي كان اسمه تورنات في تلك المرحلة من الزمن، فسقطت بذورها ونبتت بذرة منها واورقت وازهرت واثمرت خيارة ونحن جلوس ننتظر ما يحصل، واستمرت خيارة القثاء تستطيل وتستطيل ونحن نمشي معها حتى وصلت الى حدود العراق مع ايران، واجتازت الحدود، واستمرت تستطيل فدخلت طهران، ثم قصر الشاه الايراني، ولم يتمكن الحرس منها، واستمرت كأنها افعى تسعى وتتلوى في طريقها، حتى اتجهت باتجاه غرفة زوجة الشاه.. وهنا صاح الايراني:
ـ (امان).. دخيلك.. اوقف الخيارة ولا تدعها تستمر.
قال محدثه:
ـ ايها الكلب، لن اوقف خيارة القثاء الا اذا جعلت فأس أبيك تسقط على الارض في الحال.
على هذه الصورة والتخيلات كانت صور البرجين ترسم وتنسج حولهما القصص والروايات والمبالغات، لكنهما على اي حال برجان شاهقان وفريدان من نوعهما، وقد اقنع حسقيل شيخ قبيلة الروم بانشائهما، لكي يكون لكل واحد منهما برج يضع فيه ثروته او جل ثروته، بما في ذلك الحبوب والصوف والسمن والتمر والذهب، حيث تتعذر السيطرة عليهما لو وقع غزو، اذ يكفي ان يكون فيهما عدد من الحراس مع القسي والنبال والسهام، او اي من الاسلحة الاخرى، ليكون من المتعذر على الغزاة السيطرة عليهما وانتزاع موجوداتهما.. وقد بني البرجان عبر البحر على الحدود الفاصلة بين القبيلتين: القبيلة المضطرة وقبيلة الروم.. وعندما انجزا، صارا من بين العجائب على قياس الاعاجيب في ذلك الزمان.. وبانجاز بنائهما، كان الشيخان قد عصرا عظام الناس واكبادهم وقلوبهم، ليوفرا تكاليف بنائهما، ولكي يخزنا ممتلكاتهما، كل في برجه.. وبالاضافة الى هذا الغرض، فقد كان الشيخان يحييان، كل في برجه، حفلات ماجنة جعلت الناس تضج مستاءة من تصرفاتهما ومجونهما.. وكل منهما يرصد غارات الاعداء عليهما او يرصد غارات جماعتهما ضد الاعداء، لما يوفره ارتفاعهما من امكانية النظر الى مسافة بعيدة.
*شيخ البلد*
*شيخ البلد*
VIP™
VIP™
المشاركات المشاركات : 657
الوظيفة الوظيفة : زملكاوى جداً

مُساهمة*شيخ البلد* السبت 14 يونيو 2008 - 20:45

وفي الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد واحفاده حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة وافراد عائلته بهدف السيطرة عليهم وعلى ثرواتهم عن طريق المصاهرة، وعن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي.

كانت لذة، وهي تداور في ذهنها شؤون القبيلة، وما وصل اليه حالها، في الوقت الذي سيطر عليها حسقيل، تلاحظ ان الظروف صارت تسير بها من سيئ الى اسوأ، وفي الوقت نفسه كانت تستحضر مع هذه الصور السيئة، وتتذكر ما حكته لها العجائز عن جدها، وكيف كان فارسا مغوارا لا يشق له غبار، ومع ذلك، ولأنه رجل حكيم، كان يتجنب ان يفتح ابوابا للشر، (لكن عندما تفتح القبائل المجاورة ابوابا للشر وللنار على قبيلتها، كان جدي، رحمه الله، يطفئها بسيفه، حين لا يكون لحكمته صدى في عقول ونفوس من يشعلون نار الشر)..


ثم تعود لتقول:
ـ لا بد ان يكون غضب الرب قد حل بنا، بعد ان صار الاكثرية في القبيلة لا يذكرون الله، وصاروا يبتعدون عن دين ابراهيم واولاده، وكان جدي تقيا ورعا امينا صادقا مغوارا حكيما كريما و.. و..


ثم تسكت لتقول بعدها: ـ لكنه ارتكب خطأ واحدا عندما تزوج اعجمية انجبت له والدي، لأن جمال جدتي، رحمها الله، اغواه، حسب ما حكى لي كبار السن، ومنهم ابي وامي، عن جمالها.. لذلك لم يدقق في الاصل، ولأن الاصل ينبئ بما ستكون عليه الفروع، فقد ورث والدي صفات وخواص اخواله، لا صفات وخواص اعمامه، لذلك اخزانا في غزوته الاخيرة، وكسر اعتبارنا، مثلما كان عليه حاله الضعيف، وبخله وعدم قدرته على ان يحفظ تفكيرا وفعلا، للمعاني العالية استحقاقها وصفاتها ومعانيها.. مثلما كان يفعل جدي.. ان والدي، رحمه الله، كانت صفاته الاساس غير عالية، وهي صفات جاءته منقولة من اخواله، لذلك لم ينتبه الى ما ينبغي من خواص لتكون في من يختارها زوجة له، جريا على مسار خواصه، فتزوج امي، وهي من أم وأب اعجميين، لذلك فعلت فعلتها مع الخاسئ حسقيل، لأنها لم تشعر بالمعاني العالية لما يعز القبيلة، ولم تكن ترعى حرمة شوارب اهلها، لأنها تعرف ان اهلها لا يقيمون وزنا للاعتبارات التي تحفظها قبيلتنا وتحافظ عليها.
سحبت حسرة عميقة وواصلت مناجاتها لنفسها:
ـ انها غريبة، انها ليست منا، رغم انها امي، فالعظم يعود لأهله، ولأن العظم لأهله، عليَّ ان احافظ على معاني القبيلة فيَّ.. لقد اخزتنا انا وابي، لكنها لا تخزي القبيلة، لأنها ليست بنت عمنا، اما انا فان جذري في قبيلتي، انهم اهلي وناسي وان اخزيت نفسي اخزيتهم، اذن، لأدافعن عن شرف اهلي وناسي الخيرين، ولن تكون البداية الا بأن ارفض اغواء حسقيل باقتدار وشمم، ولآخذ منه ثأر ضعف امي، ولأدافع عن شرف قومي، وعند ذلك لن يبقى اسمي لذة وانما (نخوة).. ان ابي وامي هما اللذان سمياني لذة، وهذا اسم لا يليق ببنت شريفة ماجدة، اذن لأغيرنه، لكن ليس الآن، ينبغي أن لا أفعل أي شيء يلفت انتباه حسقيل ويجعله في حالة حذر، لكن، يا ربي، ماذا أفعل إزاء العار الذي سبّبته أمي لي؟ انك أنت القادر العظيم..
عندما قالت الجملة الأخيرة، كانت دموعها تنهمر وتسيل على وجنتيها إلى ملفعها، ثم تنهض وهي تقول في نفسها:
ـ لأبدأ مع بنات القبيلة، فبعد أن وصل عمري إلى ما وصل إليه، صرت قادرة على فضح مساوئ حسقيل، وإذا اقتنعت النسوة فإن كثراً من الرجال يسمعون من النساء، بل كثر منهم يسمعون حتى ما هو ضعيف من النساء، وأحياناً يتأثر بعضهم بما يسمعون، فكيف إذا كان حديث النساء في المعاني العالية؟! وإذا تأثر بعض الرجال بما سيسمعونه، فإن ذلك سيسري بين الرجال ليبدو بعد ذلك كأنه رأيهم، فضلا عن ان المرأة، بسبب وجدوها في البيت، قادرة على زرع رأيها في عقول الأطفال، والأطفال هم شباب وشابات المستقبل، وعند ذلك يستطيع الرجال، بإسنادنا وإدامة زخمنا في الدعاية والفضح، ان يفعلوا ما يجب، ليخلصوا القبيلة من حسقيل..
تصمت لذة.. لكنها سرعان ما تقول في نفسها:
ـ وما أدراني، ربما يكون ما أعرفه وأتصوره عن مساوئ حسقيل معروفاً من الرجال.. وقد يتولون فضحه في ما بينهم ايضا.. ألم يخرج عدد من الرجال على طاعة حسقيل، وينعزلوا عن القبيلة ما دام حسقيل فيها؟ ألم يعزل حسقيل بعضهم بعد أن صار لا يأمن مواقفهم؟! إذن، لأبدأ بنساء القبيلة، وأتكل على الله أولاً وآخراً..
قالت (أتكل على الله أولاً وآخراً)، لأنها تعلمت ذلك مما تعلمته القبيلة من شريعة محمود ويوسف، ثم نهضت لتحرض نساء القبيلة، مبتدئة بالصديقات المقربات، وببنات أعمامها اللائي كانت متأكدة من أن آباءهن، أو أزواجهن، إن كن متزوجات، لا يحملون وداً لحسقيل.

***

عادت لذة إلى بيتها في أحد الأيام..
سألتها أمها:
ـ أين كنت؟
قالت:
ـ عند بنات أعمامي.
استفسرت الأم:
ـ بم كنت تتكلمين معهن؟
ـ أحاديث بنات فحسب، لكن قولي، يا أماه، ألم تقولي إن حسقيل سيتزوجك؟ لقد مضت عدة سنوات ولم يفعل، ماذا ينتظر حسقيل؟ هل ينتظر أن يكبر؟ أم تنتظرين أن تكبري؟
لاحظت الشيخة ان ابنتها قالت الجملة الأخيرة بما جعلها تفسرها بأنها استخفاف بها وبحسقيل، أو استهزاء بهما، فقامت من مكانها وصفعتها على وجهها، وأدمت أنفها.. لكن لذة لم تقل شيئاً، ولم تمنع أمها من ضربها.. غير أنها قالت:
ـ لست التي استأهل الضرب، يا أماه، ليتني لم أخلق.
همت أمها أن تصفعها مرة أخرى، لكن يدها ارتخت قبل أن تصل إلى وجهها لتهوي عليه.. وبدلاً من أن تفعل ذلك، احتضنت لذة، وبكت بمرارة، ومسحت الدماء من على وجه وأنف لذة، وهي تقول:
ـ انتقم الله لنا منك، يا حسقيل.. لعن الله ضعفك، يا أبا لذة، فلو كنت قد ملأت عيني، وجعلتني أخاف عاقبة فعل السوء، لما وصلت إلى ما وصلت إليه..
قالت ذلك وهي تنزوي في أحد أركان البيت، وفي ظنها أن لذة لا تسمع ما قالته، أو في الأقل كل ما قالته.
اقتربت لذة من أمها وقالت:
ـ أماه، افعلي أي شيء لا يجعلك مضغة في أفواه الناس بما يخزينا، فإن لم تستطيعي زواجه، يا أمي، انقطعي عنه، واستريني، واسترينا جميعا.
قالت الأم بتصميم الحاقد على حسقيل، وليس المقتنع به:

صفحة 3 من اصل 7 الصفحة السابقة  1, 2, 3, 4, 5, 6, 7  الصفحة التالية

استعرض الموضوع التالي استعرض الموضوع السابق الرجوع الى أعلى الصفحة

للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل

يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة

التسجيل

انضم الينا لن يستغرق منك الا ثوانى معدودة!


أنشئ حساب جديد

تسجيل الدخول

ليس لديك عضويه ؟ بضع ثوانى فقط لتسجيل حساب


تسجيل الدخول

 
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى