قصة صدام حسين ..
صفحة 5 من اصل 7 • شاطر
صفحة 5 من اصل 7 • 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
تذكير بمساهمة فاتح الموضوع :
أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.....
تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها..
أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.....
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
جاء سالم حاملا سيفه، وقد غطى وجهه، وتلثم بما كان يضعه على رأسه ولم تبن منه الا عيناه وما يحيط بهما، وما ان دخل البيت من جهة العيال، حتى (فك) لثامه.. وسلم على لذة، ثم اخته.
عندما رأته لذة تذكرت انها رأته من قبل، ولكنها لم تعره اهتماما آنذاك.. كان سالم شابا طويلا، طوله حلو، لم يكن فيه زيادة ولا نقصان، عيناه سوداوان، متوسطتا الحجم.. له انف مستقيم يتناسب حجمه مع طبيعة وجهه.. ليس في شكله ما يعيب، اضافة الى ان حديثه وتصرفه يوحيان بالثقة..
سألت لذة سالم عن احوالهم في منزلهم الجديد خارج سطوة حسقيل الملعون..
طمأنها سالم الى انهم بخير، وان علاقاتهم في ما بينهم في احسن احوالها.. ثم اردف:
ـ بل حتى لو لفحت (لحست) النار وجوهنا، من غير ان تزيل شواربنا، فاننا نتحملها طالما رفضنا ان يكون الخاسئ حسقيل شيخنا.. واريد ان اطمئنك الى ان علاقاتنا جيدة الآن مع كل شباب القبيلة، ونحن على اتصال سري معهم بما يشبه التنظيم السري..
قالت لذة من دون انتظار ان يكمل كلامه:
ـ ارجوك، يا سالم.. ارجوك انتبهوا من عيون حسقيل ووكالاته، لأنه رجل شرير، واذا كشف اي صلة لكم بشباب القبيلة قبل اوانها، فسوف نخسر كثيرا..
ـ اطمئني، فقد نظمنا امرنا بحيث صار لنا الآن من يأتينا باخباره اولا باول، حتى من بين عيونه انفسهم، ولكي تطمئني فانا اعرف ان علاقته مع امك، اصلحها الله، جيدة، عدا الاشهر الاخيرة.. اما علاقتك به، فليس فيها ود..
واضاف مبتسما:
ـ من ناحيتك، طبعا.
فغرت لذة فاهها لدقة معلومات سالم، وفي الوقت نفسه، احست بحرج لاشارته الى علاقة امها بحسقيل.. وقالت:
ـ انت تعرف، يا سالم، ان امي غريبة.. وان عادات الاعاجم ليست كعادات العرب، ومع ذلك قد لا تستمر مجاملتها لحسقيل ـ قالت عن امها (مجاملتها لحسقيل)، كأنها ارادت ان توحي لسالم بان ما بين امها وحسقيل محض مجاملة منتقدة ـ ذلك لان حسقيل لا يستاهل ذلك، ولكن ابي رحمه الله هو السبب في كل ما حصل..
قال سالم:
ـ دعك من هذا، فان لكل شيء حلا، ان شاء الله والمهم هو انت.. انت عقال رأسنا، او تاجه.. فسمعتك الجيدة صارت معروفة لنا، ولكل اعمامك الذين تمردوا على اوامر حسقيل والروم.. اما ما مضى، سواء تعلق الامر بعمي والدك رحمه الله، او بأمك، فقد مضى.. المهم ان نعالج الحال الذي اوقع تاريخ الضعفاء فيه اهل الحاضر في مأزقهم الذي هم فيه، وان نجعل المستقبل مضمونا لابناء قومنا، يعيشون فيه بكرامة، ويتخذون المسارات والاهداف التي يختارونها، ويؤمرون عليهم من بين اعمامهم من يؤمرونه، بعد ان يتخلصوا من الاجانب واولئك الذين فرضوا علينا ظلما وعدوانا.. المهم انت، يا بنت العم.. ونحمد الله ان بقيت نقية ابية، او صرت نقية ابية، حتى ان الشباب من ابناء قبيلتنا، ومنهم انا، ارادوا ان يجعلوك نخوتنا، لو لم نخش ان نكشفك قبل الأوان، وان ينصب غضب وحقد وخيبة حسقيل عليك، عندما يشعر انك صرت نخوة القبيلة.. او ان تكون القبيلة قررت باجماع آراء الشباب ان تكوني نخوتهم.. بل ان القسم الاكبر من الكهول، وحتى قسما من الشيوخ الذين يجاملون حسقيل والروم، قد يكون بينهم من هو على هذا الرأي..
قاطعت لذة سالم قبل ان يكمل قائلة:
ـ دعك من شيوخ قبيلتنا.. فمن يهترئ لا يعود الشباب اليه، يا ابن العم.. ومن يخرب من داخله لا يمكن ان يصلح من الخارج، ومن يسلِّم مصيره للاجنبي، ويكون الاجنبي ولي نعمته عندما يجعله شيخا، حتى لو لم يصرف عليه، يصعب عليه ان يتمرد على الاجنبي، بل يصعب عليه ان يثق بابناء جلدته، ويشكك في الاجنبي، ولذلك ليس صحيحا ان تقيموا بناءكم، وما انتم ناوون على فعله، على احتمال ان يكون أي من شيوخ القبيلة، الذين امرهم حسقيل والروم بان يشغلوا هم وابناؤهم عناوين المشيخة في قبيلتهم.. اساس بنائكم البديل..
كان سالم يصغي لكلام لذة كالمندهش، لمستوى رجاحة عقلها ومستوى تحسس ضميرها، وقلبها العامر بالايمان، والاحساس بقيمة وأهمية التمرد على الواقع االسلبي، الذي دفعت اليه القبيلة، وكبلت به..
لذلك قال:
ـ انك نخوتنا الآن.. وصار اسمك (نخوة) بدلا من لذة، بعد ان طهرت نفسك وقلبك وروحك من كل شيء، ورفضت بإباء ان تندفعي الى الهاوية التي يخطط حسقيل لدفعك اليها..
قال الجملة الاخيرة بلغة الواثق المطلع على ما ينوي حسقيل ان يفعله، فيما كانت نخوة تظن قبل هذا انها تعرف ذلك وحدها، او هي وأمها فحسب.. ثم قال سالم:
ـ لهذا كله.. ولانك شعرات عز في شارب كل خيِّر، يا بنت العم، ورسم عز له، جئت طالبا يدك.. وقد استعجلت قبل لقائي هذا بك وكلفت اختي، اختك، بأن تفاتحك بهذا، في محاولة مني لان ازيد تحصينك ازاء عاديات الدهر، وجانب من المغريات بعد ان بقيت في العائلة وحدك.. اما الآن فاطلبك زوجة لي فحسب، لانك لا تحتاجين الى حالة تحصين من الخارج، وانما الى شريك حياة لمواجهة ظروفها بسرائها وضرائها.. فهل تقبلين؟ ام انني تجاوزت الحد بطلبي؟..
قال سالم الجملة الاخيرة، بعد ان لاحظ ان نخوة منشغلة عنه، قبل ان يقولها.. ولذلك قالت اخته بنبرة تنبيه خفيف لها:
ـ ان سالم ينتظر جوابك، يا نخوة!..
عندما رأته لذة تذكرت انها رأته من قبل، ولكنها لم تعره اهتماما آنذاك.. كان سالم شابا طويلا، طوله حلو، لم يكن فيه زيادة ولا نقصان، عيناه سوداوان، متوسطتا الحجم.. له انف مستقيم يتناسب حجمه مع طبيعة وجهه.. ليس في شكله ما يعيب، اضافة الى ان حديثه وتصرفه يوحيان بالثقة..
سألت لذة سالم عن احوالهم في منزلهم الجديد خارج سطوة حسقيل الملعون..
طمأنها سالم الى انهم بخير، وان علاقاتهم في ما بينهم في احسن احوالها.. ثم اردف:
ـ بل حتى لو لفحت (لحست) النار وجوهنا، من غير ان تزيل شواربنا، فاننا نتحملها طالما رفضنا ان يكون الخاسئ حسقيل شيخنا.. واريد ان اطمئنك الى ان علاقاتنا جيدة الآن مع كل شباب القبيلة، ونحن على اتصال سري معهم بما يشبه التنظيم السري..
قالت لذة من دون انتظار ان يكمل كلامه:
ـ ارجوك، يا سالم.. ارجوك انتبهوا من عيون حسقيل ووكالاته، لأنه رجل شرير، واذا كشف اي صلة لكم بشباب القبيلة قبل اوانها، فسوف نخسر كثيرا..
ـ اطمئني، فقد نظمنا امرنا بحيث صار لنا الآن من يأتينا باخباره اولا باول، حتى من بين عيونه انفسهم، ولكي تطمئني فانا اعرف ان علاقته مع امك، اصلحها الله، جيدة، عدا الاشهر الاخيرة.. اما علاقتك به، فليس فيها ود..
واضاف مبتسما:
ـ من ناحيتك، طبعا.
فغرت لذة فاهها لدقة معلومات سالم، وفي الوقت نفسه، احست بحرج لاشارته الى علاقة امها بحسقيل.. وقالت:
ـ انت تعرف، يا سالم، ان امي غريبة.. وان عادات الاعاجم ليست كعادات العرب، ومع ذلك قد لا تستمر مجاملتها لحسقيل ـ قالت عن امها (مجاملتها لحسقيل)، كأنها ارادت ان توحي لسالم بان ما بين امها وحسقيل محض مجاملة منتقدة ـ ذلك لان حسقيل لا يستاهل ذلك، ولكن ابي رحمه الله هو السبب في كل ما حصل..
قال سالم:
ـ دعك من هذا، فان لكل شيء حلا، ان شاء الله والمهم هو انت.. انت عقال رأسنا، او تاجه.. فسمعتك الجيدة صارت معروفة لنا، ولكل اعمامك الذين تمردوا على اوامر حسقيل والروم.. اما ما مضى، سواء تعلق الامر بعمي والدك رحمه الله، او بأمك، فقد مضى.. المهم ان نعالج الحال الذي اوقع تاريخ الضعفاء فيه اهل الحاضر في مأزقهم الذي هم فيه، وان نجعل المستقبل مضمونا لابناء قومنا، يعيشون فيه بكرامة، ويتخذون المسارات والاهداف التي يختارونها، ويؤمرون عليهم من بين اعمامهم من يؤمرونه، بعد ان يتخلصوا من الاجانب واولئك الذين فرضوا علينا ظلما وعدوانا.. المهم انت، يا بنت العم.. ونحمد الله ان بقيت نقية ابية، او صرت نقية ابية، حتى ان الشباب من ابناء قبيلتنا، ومنهم انا، ارادوا ان يجعلوك نخوتنا، لو لم نخش ان نكشفك قبل الأوان، وان ينصب غضب وحقد وخيبة حسقيل عليك، عندما يشعر انك صرت نخوة القبيلة.. او ان تكون القبيلة قررت باجماع آراء الشباب ان تكوني نخوتهم.. بل ان القسم الاكبر من الكهول، وحتى قسما من الشيوخ الذين يجاملون حسقيل والروم، قد يكون بينهم من هو على هذا الرأي..
قاطعت لذة سالم قبل ان يكمل قائلة:
ـ دعك من شيوخ قبيلتنا.. فمن يهترئ لا يعود الشباب اليه، يا ابن العم.. ومن يخرب من داخله لا يمكن ان يصلح من الخارج، ومن يسلِّم مصيره للاجنبي، ويكون الاجنبي ولي نعمته عندما يجعله شيخا، حتى لو لم يصرف عليه، يصعب عليه ان يتمرد على الاجنبي، بل يصعب عليه ان يثق بابناء جلدته، ويشكك في الاجنبي، ولذلك ليس صحيحا ان تقيموا بناءكم، وما انتم ناوون على فعله، على احتمال ان يكون أي من شيوخ القبيلة، الذين امرهم حسقيل والروم بان يشغلوا هم وابناؤهم عناوين المشيخة في قبيلتهم.. اساس بنائكم البديل..
كان سالم يصغي لكلام لذة كالمندهش، لمستوى رجاحة عقلها ومستوى تحسس ضميرها، وقلبها العامر بالايمان، والاحساس بقيمة وأهمية التمرد على الواقع االسلبي، الذي دفعت اليه القبيلة، وكبلت به..
لذلك قال:
ـ انك نخوتنا الآن.. وصار اسمك (نخوة) بدلا من لذة، بعد ان طهرت نفسك وقلبك وروحك من كل شيء، ورفضت بإباء ان تندفعي الى الهاوية التي يخطط حسقيل لدفعك اليها..
قال الجملة الاخيرة بلغة الواثق المطلع على ما ينوي حسقيل ان يفعله، فيما كانت نخوة تظن قبل هذا انها تعرف ذلك وحدها، او هي وأمها فحسب.. ثم قال سالم:
ـ لهذا كله.. ولانك شعرات عز في شارب كل خيِّر، يا بنت العم، ورسم عز له، جئت طالبا يدك.. وقد استعجلت قبل لقائي هذا بك وكلفت اختي، اختك، بأن تفاتحك بهذا، في محاولة مني لان ازيد تحصينك ازاء عاديات الدهر، وجانب من المغريات بعد ان بقيت في العائلة وحدك.. اما الآن فاطلبك زوجة لي فحسب، لانك لا تحتاجين الى حالة تحصين من الخارج، وانما الى شريك حياة لمواجهة ظروفها بسرائها وضرائها.. فهل تقبلين؟ ام انني تجاوزت الحد بطلبي؟..
قال سالم الجملة الاخيرة، بعد ان لاحظ ان نخوة منشغلة عنه، قبل ان يقولها.. ولذلك قالت اخته بنبرة تنبيه خفيف لها:
ـ ان سالم ينتظر جوابك، يا نخوة!..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
قالت نخوة، كأنها تفوق من حلم جميل..
ـ ها.. ها.. عفوك، يا سالم، لم اكن منشغلة عنك، وانما فيك، وعليه اقول لك: نعم، اقبل، بل اتشرف بك، فأنت ابن عمي، وتاج رأسي، ولولا التقليد الدارج بأن يقولها الرجل، لقلتها لك من غير ان تستفسر مني مرة اخرى، لأن بنت عمنا، اختك، نقلت الي رغبتك هذه، وارجأت الجواب حتى اقوله لك مباشرة على ان لا نستعجل في الاظهار، اذ يكفي ان يكون الله شاهدا علينا، ولذلك اعتبر انك خطبتني من هذه اللحظة، وانني موافقة عليك، حتى نكمل حالنا بالزواج في مناسبته.. وعلينا ان نكتم هذا، وان نستمر كل في عمله، انت بين الرجال والشباب، وانا بين الشابات والنساء، بل حتى لقاءاتنا ينبغي ان لا تعرضك للخطر حين تأتي الى ديارنا..
ـ على بركة الله، يا نخوة.. كلي اعتزاز بجوابك.. وسأحفظ العهد داخل صدري، بين الضلوع، وفي قلبي وجفوني..
ـ بارك الله فيك، يا سالم.. حماك الله.. ولو سمحت، افضل ان تعود راشدا، ولا تنتظر مجيء عمي ابي سالم، لتسلم عليه.. ليبقى الامر بيننا نحن الثلاثة، ويشهد عليه الله ربنا.
***
ودعهما سالم وخرج.. ثم خرجت نخوة الى بيتها، وعندما وصلت وجدت ان الندى الذي كان يغطي الاعشاب بلل طرف ثوبها.. لكنها، وجدت امها مغمومة، ولم تستطع الا بالكاد ان تقول لها:
ـ لقد تأخرت، يا بنيتي، ماذا اخرك عني؟
كانت الأم يعتصرها حزن شديد وكان واضحا ان ما قالته لم يكن بالاساس اعتراضا على تأخر نخوة بقدر ما كان افتقادا لها لـ (تفضفض) لها بما كان يدور في خاطرها..
عرفت نخوة هذا استنتاجا من لحظة دخولها البيت..
ـ انا هنا، يا امي، أي شيء تأمرين؟
ـ لا شيء، يا ابنتي.. لا شيء..
قالت ذلك كأنها ارادت ان تنثني متعارضة مع رغبتها في ان تبوح لابنتها بما كان يثقل قلبها وروحها من علاقتها بحسقيل..
ولانها لاحظت ان السعادة تشرق على وجه نخوة، احتجبت عن البوح لها بما يثقل عليها، لكي لا تغير مزاجها، وتجعلها تنشغل بهمومها معها، بدلا من ان تعيش سعادتها..
قالت نخوة:
ـ بل، قولي يا امي.. واطلبي.. بل، آمري بأي شيء، وكل شيء.. انا ابنتك يا امي.. فقولي ما يثقل على نفسك ـ وارادت ان تقول: وقلبك، لكنها امتنعت عن قول ذلك، لان حسقيل لا يستاهل ان يشغل احد قلبه بحبه.. وكانت تقول ذلك بكل معاني الصلة وعاطفتها الصادقة بين البنت وامها، ورغم ان امها كانت قد اخزتها.. لكنها قالت ذلك بعد ان شعرت وقدرت ان الندم صار يأكل قلب امها، وروحها وهي تبحث عن مخرج، لا لينقذها من حسقيل فحسب، لانها صارت تكرهه بعد ان اكتشفت خبثه وغدره، وعدم احترامه للوعود والعهود، وعدم تحليه حتى باخلاق الحد الادنى للناس.. وانما لينقذها من نفسها ايضا، ولذلك صارت تقترب من ابنتها، بعد ان كانت معها على طرفي نقيض، ليس في الاخلاق ونوع التفكير والتصرف فحسب، وانما في امكانية التعايش حتى المظهري، من غير مشاكل يومية في بيت واحد، وعندما اكتشفت التغير الذي حصل لامها، صارت نخوة اكثر قربا منها، بل اقتربت كثيرا منها ليكون بأمكانها ان تقوم بانقاذ ما يمكن انقاذه من الحال قبل ان يتحطم..
عادت نخوة لتكرر على امها:
ـ ارجوك، يا امي.. قولي ما تريدين.. قولي لابنتك، لكي اعينك بعد ان اطلب العون من الرحمن الرحيم، هادينا في الدنيا الى ما يعز في الدنيا والآخرة، وعليه نتكل اولا واخيرا..
قالت امها:
ـ آمنت بالله.
قالت ذلك كأنها تنطقه لاول مرة، بعد ان غاب عنها منذ وقت طويل، او ان نخوة لم تسمعه منها، منذ صارت في عمر يقترب من البلوغ، بل حتى بعد ان صارت في سن البلوغ.. وفي كل الاحوال، قالت ما قالته، كأنها تنشد ان يتوب عليها ربها، بعد ان اوغلت في سوء اعمالها.. وبدت كأنها تعترف في محراب امام نفسها، او امام راهب.. فقالت:
ـ اسمعي، يا ابنتي، لقد انحرفت واذيتك كثيرا قبل ان اؤذي نفسي، او أي احد غيرنا، ذلك لانني لم اتصرف وفق ما يغضب الله ويخزي النفس فحسب وانما جعلتك تضطلعين على ما يغضب الله ويخزينا.. وانا اتألم يوميا في نفسي، حتى ان نومي لم يعد يكفي لادامة صحتي، وصار الخوف من غضب الله يؤرقني، وصارت عيناي تخجلان منك، وتتجنبان ان تلتقيا بعينيك مع انهما في شوق متزايد لذلك.. ولم اعد اعرف كيف اتصرف وقد تركت اي علاقة غير شريفة مع حسقيل، الا الاختلاء به احيانا لاناقش معه شأننا بأمل ان اقنعه بان يتزوجني، ولكي تعرفي اقول لك انا مصممة على ان اتركه بعد ان اتزوجه، وقد ارفضه امام العشيرة، بعد ان اوهمه بان يتقدم لخطبتي بحضور العشيرة كلها.. لكن ما اردت ان استشيرك به الآن شيء آخر، هو ان حسقيل خرج نهائيا من قلبي، ولم اعد احمل له غير الحقد عليه، لذلك قررت ان اقتله هنا في بيتنا، اذا وافقتني على هذا واعلنت استعدادك لان تعاونيني في القاء جثته خارج البيت، او ان اقتله واقول انه تحرش بي فقتلته..
ـ ها.. ها.. عفوك، يا سالم، لم اكن منشغلة عنك، وانما فيك، وعليه اقول لك: نعم، اقبل، بل اتشرف بك، فأنت ابن عمي، وتاج رأسي، ولولا التقليد الدارج بأن يقولها الرجل، لقلتها لك من غير ان تستفسر مني مرة اخرى، لأن بنت عمنا، اختك، نقلت الي رغبتك هذه، وارجأت الجواب حتى اقوله لك مباشرة على ان لا نستعجل في الاظهار، اذ يكفي ان يكون الله شاهدا علينا، ولذلك اعتبر انك خطبتني من هذه اللحظة، وانني موافقة عليك، حتى نكمل حالنا بالزواج في مناسبته.. وعلينا ان نكتم هذا، وان نستمر كل في عمله، انت بين الرجال والشباب، وانا بين الشابات والنساء، بل حتى لقاءاتنا ينبغي ان لا تعرضك للخطر حين تأتي الى ديارنا..
ـ على بركة الله، يا نخوة.. كلي اعتزاز بجوابك.. وسأحفظ العهد داخل صدري، بين الضلوع، وفي قلبي وجفوني..
ـ بارك الله فيك، يا سالم.. حماك الله.. ولو سمحت، افضل ان تعود راشدا، ولا تنتظر مجيء عمي ابي سالم، لتسلم عليه.. ليبقى الامر بيننا نحن الثلاثة، ويشهد عليه الله ربنا.
***
ودعهما سالم وخرج.. ثم خرجت نخوة الى بيتها، وعندما وصلت وجدت ان الندى الذي كان يغطي الاعشاب بلل طرف ثوبها.. لكنها، وجدت امها مغمومة، ولم تستطع الا بالكاد ان تقول لها:
ـ لقد تأخرت، يا بنيتي، ماذا اخرك عني؟
كانت الأم يعتصرها حزن شديد وكان واضحا ان ما قالته لم يكن بالاساس اعتراضا على تأخر نخوة بقدر ما كان افتقادا لها لـ (تفضفض) لها بما كان يدور في خاطرها..
عرفت نخوة هذا استنتاجا من لحظة دخولها البيت..
ـ انا هنا، يا امي، أي شيء تأمرين؟
ـ لا شيء، يا ابنتي.. لا شيء..
قالت ذلك كأنها ارادت ان تنثني متعارضة مع رغبتها في ان تبوح لابنتها بما كان يثقل قلبها وروحها من علاقتها بحسقيل..
ولانها لاحظت ان السعادة تشرق على وجه نخوة، احتجبت عن البوح لها بما يثقل عليها، لكي لا تغير مزاجها، وتجعلها تنشغل بهمومها معها، بدلا من ان تعيش سعادتها..
قالت نخوة:
ـ بل، قولي يا امي.. واطلبي.. بل، آمري بأي شيء، وكل شيء.. انا ابنتك يا امي.. فقولي ما يثقل على نفسك ـ وارادت ان تقول: وقلبك، لكنها امتنعت عن قول ذلك، لان حسقيل لا يستاهل ان يشغل احد قلبه بحبه.. وكانت تقول ذلك بكل معاني الصلة وعاطفتها الصادقة بين البنت وامها، ورغم ان امها كانت قد اخزتها.. لكنها قالت ذلك بعد ان شعرت وقدرت ان الندم صار يأكل قلب امها، وروحها وهي تبحث عن مخرج، لا لينقذها من حسقيل فحسب، لانها صارت تكرهه بعد ان اكتشفت خبثه وغدره، وعدم احترامه للوعود والعهود، وعدم تحليه حتى باخلاق الحد الادنى للناس.. وانما لينقذها من نفسها ايضا، ولذلك صارت تقترب من ابنتها، بعد ان كانت معها على طرفي نقيض، ليس في الاخلاق ونوع التفكير والتصرف فحسب، وانما في امكانية التعايش حتى المظهري، من غير مشاكل يومية في بيت واحد، وعندما اكتشفت التغير الذي حصل لامها، صارت نخوة اكثر قربا منها، بل اقتربت كثيرا منها ليكون بأمكانها ان تقوم بانقاذ ما يمكن انقاذه من الحال قبل ان يتحطم..
عادت نخوة لتكرر على امها:
ـ ارجوك، يا امي.. قولي ما تريدين.. قولي لابنتك، لكي اعينك بعد ان اطلب العون من الرحمن الرحيم، هادينا في الدنيا الى ما يعز في الدنيا والآخرة، وعليه نتكل اولا واخيرا..
قالت امها:
ـ آمنت بالله.
قالت ذلك كأنها تنطقه لاول مرة، بعد ان غاب عنها منذ وقت طويل، او ان نخوة لم تسمعه منها، منذ صارت في عمر يقترب من البلوغ، بل حتى بعد ان صارت في سن البلوغ.. وفي كل الاحوال، قالت ما قالته، كأنها تنشد ان يتوب عليها ربها، بعد ان اوغلت في سوء اعمالها.. وبدت كأنها تعترف في محراب امام نفسها، او امام راهب.. فقالت:
ـ اسمعي، يا ابنتي، لقد انحرفت واذيتك كثيرا قبل ان اؤذي نفسي، او أي احد غيرنا، ذلك لانني لم اتصرف وفق ما يغضب الله ويخزي النفس فحسب وانما جعلتك تضطلعين على ما يغضب الله ويخزينا.. وانا اتألم يوميا في نفسي، حتى ان نومي لم يعد يكفي لادامة صحتي، وصار الخوف من غضب الله يؤرقني، وصارت عيناي تخجلان منك، وتتجنبان ان تلتقيا بعينيك مع انهما في شوق متزايد لذلك.. ولم اعد اعرف كيف اتصرف وقد تركت اي علاقة غير شريفة مع حسقيل، الا الاختلاء به احيانا لاناقش معه شأننا بأمل ان اقنعه بان يتزوجني، ولكي تعرفي اقول لك انا مصممة على ان اتركه بعد ان اتزوجه، وقد ارفضه امام العشيرة، بعد ان اوهمه بان يتقدم لخطبتي بحضور العشيرة كلها.. لكن ما اردت ان استشيرك به الآن شيء آخر، هو ان حسقيل خرج نهائيا من قلبي، ولم اعد احمل له غير الحقد عليه، لذلك قررت ان اقتله هنا في بيتنا، اذا وافقتني على هذا واعلنت استعدادك لان تعاونيني في القاء جثته خارج البيت، او ان اقتله واقول انه تحرش بي فقتلته..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم «البلاد» على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة وافراد عائلته بهدف السيطرة عليهم وعلى ثرواتهم عن طريق المصاهرة، وعن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره
عندما كانت الشيخة تحكي لنخوة، كانت تبكي بحرقة وكانت نخوة تبكي معها من غير ان تظهر صوتا لبكائها، لكي لا تقطع على امها ما كانت عازمة على ان تسترسل به، وهي على كرسي الاعتراف..
قطعت نخوة نشيجها وبكاءها على الحال الذي وضعتها فيه امها.. بل على الورطة الشنيعة عندما سمعت ان امها تقول انها قررت ان تقتل حسقيل..
فغرت نخوة فاهها تعجبا مما سمعت، من غير ان تفقد تماسكها، وقالت اماه، ماذا تقولين!؟
كفت الام عن البكاء، وبدت اكثر هدوءا، بعد ان افرغت شحنات نفسها بالبكاء، بل وبما اعترفت به لابنتها، خاصة قرارها ونيتها قتل حسقيل، وقالت:
نعم، يا ابنتي، هذا هو قراري، وليكن بعد ذلك ما يكون، لم اعد احتمل.. ان شبح الآخرة ولهيب نارها، وغضب الله علي، يلاحقني في الوقت الذي يلاحقني عاري.. بل عيناك يا نخوة، عيناك اللتان تنطقان نيابة عن لسانك صارتا تقتلانني في كل لحظة، ولعل هذا اهون، بل صارتا تذكرانني بعاري وشناري في كل لحظة.. حتى صرت ادعو الله ان يأخذ روحي، بعد ان صرت على ما صرت عليه من نضج وحكمة وقدرة تدبير..
قالت ذلك ثم راحت تبكي من غير صوت، وتكفكف دموعها بطرف ثوبها، او طرف ملفعها (فوطتها)، من حين لآخر.
قالت نخوة:
ـ اسمعي يا امي، لاقول لك وفق ما افهم..
ـ بل تفهمين يا ابنتي، وامك هي التي لا تفهم ـ قالت الشيخة مقاطعة ابنتها ـ ثم اردفت تقول: لقد صنت نفسك وعفافك، بينما انحدرت امك وفتحت ابوابها للغرباء، وبامتناعك عن حسقيل رغم جبروته هو وحلفاؤه، وعدم انحنائك امام رغباته التي اعرف انها صارت شبه اوامر عليك، ممزوجة بالتهديد والوعيد، كنت كأنك تثأرين منه نيابة عني، ونيابة عن كل من تمكن منها، وكلما امتنعت عليه صار يتصرف بصورة محمومة ليكسر عفتك.. لانه وفق ما يرى، ومثلما اقرأ، وان جاءت قراءتي له متأخرة، اذا لم يكسر عفافك، ويجعلك تنحنين له، يعتبر ان كل انتصاراته وعهره قد خابا.. انه يعرف ان لا قيمة لان تستجيب لرغباته من لا اصول مشرفة لها مثلي، او من هن على شاكلتي، ولذلك فهو يقصد ان تنحني امامه الرقاب والانوف العالية، والاصول والمواقف المشهود لها امام العرب، ولكن الحمد لله الذي اعطاك هذا المستوى من العفاف الحصين والايمان العظيم والقدرة على الثبات واخزى الله الظالمين..
قالت نخوة:
ـ آمين.
وسكتت برهة قصيرة وعادت لتقول:
ـ ان باب رحمة الله لا يغلق امام توبة نصوح، يا اماه.. لا تقطعي الامل برحمة الله..
ـ ان الرحمة لا تقع على الضالين مثلي.. والذين يحاولون اسقاط ذويهم بعد ان يورطهم الشيطان.
ـ ان ابواب الرحمة، وان كانت بيد رب العالمين، لا تغلق، كما افهم، امام من يتوب توبة نصوحا.. في الوقت الذي يكون قادرا على الاستمرار بفعل السوء لو اراد ذلك.. اعود لاقول، يا اماه، ان قتلت حسقيل تكونين قد ارتكبت فعلا من الكبائر مما يغضب الله، وعندها يكون مثلك مثل من يحاول ان يصلح زجاجة مثلومة، فيحطمها بدلا من اصلاحها... انك ان قتلت حسقيل ترتكبين مثل ما ارتكبت من فعل وصفته بانه يغضب الله بينما افتش لك عن فعل يرضي الله، وليس افضل من التوبة العميقة الصادقة ما يرضي الله، بعد ان يقدم الانسان على سوء، واذا شاركتك في الجريمة، تكونين قد نقلت انسانة من الخانة التي كانت عليها امام الله وعيون الناس الى خانة جديدة معلومة هي ووصفها، فهل ترضين لي هذا يا امي؟ انا لا ارضاه لك ولا لي.
قالت امها:
ـ ولكن الناس لن يعرفوا.
تقول نخوة:
ـ ولكن الله يعرف.. ثم من يضمن ان لا يعرف الناس؟ وماذا سأقول؟ وماذا ستقولين لو عرفوا؟ اتقولين لهم ان حسقيل تحرش بك، وانك قتلته لذلك؟ فقد لا يصدق الناس، اذ سيقولون كيف يمكن ان يتحرش بك مع وجودي معك في البيت؟.. اليس من حقهم ان يقولوا انه تحرش بي وليس بك؟.. ثم ان الحرشة تخزينا، سواء كانت بي او بك، الا تظنين ان الطريق الذي يرضي الله افضل كعلاج؟..
ـ ما هو الطريق الذي يرضي الله؟
ـ ان تتزوجيه، ثم تتركيه عندما تشائين..
ـ وهل تتصورين اذا تركته ان احدا سيقول انني انا التي تركته لسوء خلقه ام سيقول حارقو البخور للجيف من حوله ان الشيخ تركها لسوء خلقها؟..
ـ اطرديه امام عدد من وجوه القوم، بعد ان تستدعيهم الى بيتنا وهو معهم، وقولي له بحضورهم بصورة جادة، لكن بشكل مؤدب: انك وانا امرأتان وحيدتان بعد ان توفى الله الشيخ والدي، لذلك اذا كان حسقيل يدخل البيت مع من يدخل بحضور صاحب البيت، فقد كان مرحبا به، اما الآن بعد ان مات صاحب الدار، ارجو ان يمتنع عن الحضور الى دارنا، واذا اراد شيئا ما، فليكلم احد اعمام نخوة، وبذلك تحققين الغرض.
راحت الشيخة تتأمل في الحل الآخر، نفثت حسرة من صدرها وقالت لابنتها:
ـ عند ذلك سوف يحقد حسقيل عليَّ وعليك يا ابنتي، وهذا هو الاهم عندي، لانني لا اعرف بعد ذلك اي تهم ستدبر لنا من امثال ما نحاول معالجتها والتخلص منها الآن، وتهم اخرى تعاونه في ذلك شبكته الواسعة وتحالفه مع الشرير الآخر شيخ الروم..
ـ كيف؟
ـ قد يقول ان لأمك ـ وتقصد الشيخة نفسها ـ او لك انت، لا سمح الله، عشيقا، ولأنني اتردد عليهما، خشيتا ان افضح امرهما، فافتعلتا ما قالتاه امام الشيوخ وعند ذلك وتحت هذه الحجة وما يضاف اليها، قد يأمر بمنع من يدخل علينا ويمنع حركتنا خارج البيت.
اجابتها نخوة:
ـ ليس بإمكان احد ان يقول عن اللون الابيض انه اسود..
وعندما لاحظت ان ابنتها تحاول ان تستبدل ما قالته بمثل آخر لكي لا يجرح المثل امها.. قالت امها:
ـ لا عليك، يا ابنتي، ان الحقيقة حقيقة، لا تبدلها المجاملات ولا ينفع فيها الا قولها مثلما هي بجوهرها في الاقل.. ان اول ما يصيبنا بالاذى من اجراءات حسقيل، هو انه سيعطل نشاطك بين نساء العشيرة خارج البيت..
عندما كانت الشيخة تحكي لنخوة، كانت تبكي بحرقة وكانت نخوة تبكي معها من غير ان تظهر صوتا لبكائها، لكي لا تقطع على امها ما كانت عازمة على ان تسترسل به، وهي على كرسي الاعتراف..
قطعت نخوة نشيجها وبكاءها على الحال الذي وضعتها فيه امها.. بل على الورطة الشنيعة عندما سمعت ان امها تقول انها قررت ان تقتل حسقيل..
فغرت نخوة فاهها تعجبا مما سمعت، من غير ان تفقد تماسكها، وقالت اماه، ماذا تقولين!؟
كفت الام عن البكاء، وبدت اكثر هدوءا، بعد ان افرغت شحنات نفسها بالبكاء، بل وبما اعترفت به لابنتها، خاصة قرارها ونيتها قتل حسقيل، وقالت:
نعم، يا ابنتي، هذا هو قراري، وليكن بعد ذلك ما يكون، لم اعد احتمل.. ان شبح الآخرة ولهيب نارها، وغضب الله علي، يلاحقني في الوقت الذي يلاحقني عاري.. بل عيناك يا نخوة، عيناك اللتان تنطقان نيابة عن لسانك صارتا تقتلانني في كل لحظة، ولعل هذا اهون، بل صارتا تذكرانني بعاري وشناري في كل لحظة.. حتى صرت ادعو الله ان يأخذ روحي، بعد ان صرت على ما صرت عليه من نضج وحكمة وقدرة تدبير..
قالت ذلك ثم راحت تبكي من غير صوت، وتكفكف دموعها بطرف ثوبها، او طرف ملفعها (فوطتها)، من حين لآخر.
قالت نخوة:
ـ اسمعي يا امي، لاقول لك وفق ما افهم..
ـ بل تفهمين يا ابنتي، وامك هي التي لا تفهم ـ قالت الشيخة مقاطعة ابنتها ـ ثم اردفت تقول: لقد صنت نفسك وعفافك، بينما انحدرت امك وفتحت ابوابها للغرباء، وبامتناعك عن حسقيل رغم جبروته هو وحلفاؤه، وعدم انحنائك امام رغباته التي اعرف انها صارت شبه اوامر عليك، ممزوجة بالتهديد والوعيد، كنت كأنك تثأرين منه نيابة عني، ونيابة عن كل من تمكن منها، وكلما امتنعت عليه صار يتصرف بصورة محمومة ليكسر عفتك.. لانه وفق ما يرى، ومثلما اقرأ، وان جاءت قراءتي له متأخرة، اذا لم يكسر عفافك، ويجعلك تنحنين له، يعتبر ان كل انتصاراته وعهره قد خابا.. انه يعرف ان لا قيمة لان تستجيب لرغباته من لا اصول مشرفة لها مثلي، او من هن على شاكلتي، ولذلك فهو يقصد ان تنحني امامه الرقاب والانوف العالية، والاصول والمواقف المشهود لها امام العرب، ولكن الحمد لله الذي اعطاك هذا المستوى من العفاف الحصين والايمان العظيم والقدرة على الثبات واخزى الله الظالمين..
قالت نخوة:
ـ آمين.
وسكتت برهة قصيرة وعادت لتقول:
ـ ان باب رحمة الله لا يغلق امام توبة نصوح، يا اماه.. لا تقطعي الامل برحمة الله..
ـ ان الرحمة لا تقع على الضالين مثلي.. والذين يحاولون اسقاط ذويهم بعد ان يورطهم الشيطان.
ـ ان ابواب الرحمة، وان كانت بيد رب العالمين، لا تغلق، كما افهم، امام من يتوب توبة نصوحا.. في الوقت الذي يكون قادرا على الاستمرار بفعل السوء لو اراد ذلك.. اعود لاقول، يا اماه، ان قتلت حسقيل تكونين قد ارتكبت فعلا من الكبائر مما يغضب الله، وعندها يكون مثلك مثل من يحاول ان يصلح زجاجة مثلومة، فيحطمها بدلا من اصلاحها... انك ان قتلت حسقيل ترتكبين مثل ما ارتكبت من فعل وصفته بانه يغضب الله بينما افتش لك عن فعل يرضي الله، وليس افضل من التوبة العميقة الصادقة ما يرضي الله، بعد ان يقدم الانسان على سوء، واذا شاركتك في الجريمة، تكونين قد نقلت انسانة من الخانة التي كانت عليها امام الله وعيون الناس الى خانة جديدة معلومة هي ووصفها، فهل ترضين لي هذا يا امي؟ انا لا ارضاه لك ولا لي.
قالت امها:
ـ ولكن الناس لن يعرفوا.
تقول نخوة:
ـ ولكن الله يعرف.. ثم من يضمن ان لا يعرف الناس؟ وماذا سأقول؟ وماذا ستقولين لو عرفوا؟ اتقولين لهم ان حسقيل تحرش بك، وانك قتلته لذلك؟ فقد لا يصدق الناس، اذ سيقولون كيف يمكن ان يتحرش بك مع وجودي معك في البيت؟.. اليس من حقهم ان يقولوا انه تحرش بي وليس بك؟.. ثم ان الحرشة تخزينا، سواء كانت بي او بك، الا تظنين ان الطريق الذي يرضي الله افضل كعلاج؟..
ـ ما هو الطريق الذي يرضي الله؟
ـ ان تتزوجيه، ثم تتركيه عندما تشائين..
ـ وهل تتصورين اذا تركته ان احدا سيقول انني انا التي تركته لسوء خلقه ام سيقول حارقو البخور للجيف من حوله ان الشيخ تركها لسوء خلقها؟..
ـ اطرديه امام عدد من وجوه القوم، بعد ان تستدعيهم الى بيتنا وهو معهم، وقولي له بحضورهم بصورة جادة، لكن بشكل مؤدب: انك وانا امرأتان وحيدتان بعد ان توفى الله الشيخ والدي، لذلك اذا كان حسقيل يدخل البيت مع من يدخل بحضور صاحب البيت، فقد كان مرحبا به، اما الآن بعد ان مات صاحب الدار، ارجو ان يمتنع عن الحضور الى دارنا، واذا اراد شيئا ما، فليكلم احد اعمام نخوة، وبذلك تحققين الغرض.
راحت الشيخة تتأمل في الحل الآخر، نفثت حسرة من صدرها وقالت لابنتها:
ـ عند ذلك سوف يحقد حسقيل عليَّ وعليك يا ابنتي، وهذا هو الاهم عندي، لانني لا اعرف بعد ذلك اي تهم ستدبر لنا من امثال ما نحاول معالجتها والتخلص منها الآن، وتهم اخرى تعاونه في ذلك شبكته الواسعة وتحالفه مع الشرير الآخر شيخ الروم..
ـ كيف؟
ـ قد يقول ان لأمك ـ وتقصد الشيخة نفسها ـ او لك انت، لا سمح الله، عشيقا، ولأنني اتردد عليهما، خشيتا ان افضح امرهما، فافتعلتا ما قالتاه امام الشيوخ وعند ذلك وتحت هذه الحجة وما يضاف اليها، قد يأمر بمنع من يدخل علينا ويمنع حركتنا خارج البيت.
اجابتها نخوة:
ـ ليس بإمكان احد ان يقول عن اللون الابيض انه اسود..
وعندما لاحظت ان ابنتها تحاول ان تستبدل ما قالته بمثل آخر لكي لا يجرح المثل امها.. قالت امها:
ـ لا عليك، يا ابنتي، ان الحقيقة حقيقة، لا تبدلها المجاملات ولا ينفع فيها الا قولها مثلما هي بجوهرها في الاقل.. ان اول ما يصيبنا بالاذى من اجراءات حسقيل، هو انه سيعطل نشاطك بين نساء العشيرة خارج البيت..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
اي نشاط تقصدين، يا أمي؟
ـ على اي حال.. لا عليك، يا ابنتي، ليعمل من يعمل على انقاذ القبيلة من تحالف حسقيل الملعون وجماعته مع شيخ الشر الرومي وقبيلته، وليبارك فعل من يفعل على هذا الاساس، بما في ذلك نشاطك مع بنات القبيلة!.
مرت ايام بعد ذلك، تزوج في احدها احد الشباب البارزين في موقفهم ضد حسقيل، لكن لانه احد ابناء الشيوخ الذين كان حسقيل يحرص على ان يظهر بموقف المؤيد له، فقد تغاضى عن نشاط ابنه، رغم انه ما انفك ينبهه على تصرفات ابنه:
ـ (خلي بالك) من ابنك، يا شيخ، لكي لا ينجرف مع التيار المناهض لنا..
هكذا قال حسقيل للشيخ الآخر عبارة (المناهض لنا) لكي يشركه معه..
قال الشيخ:
ـ لا عليك، يا شيخ قبيلتنا، ان ابني في النتيجة سيكون الى جانبك، وان حاول ان يجامل من هم في مثل عمره في لغو لسان فحسب.
اما هذا الشاب، فهو في حقيقته، وبغض النظر عن موقف ابيه، وحتى اخوته، فقد قرر ان يكون من بين المتمردين على حسقيل والتحالف بين حسقيل وقبيلة الروم، وسعيهما المشترك للسيطرة على قبائل العرب في ذلك المكان من بلاد الشام، وان يمتدوا في نفوذهم واستغلالهم الى حيث بامكانهم ان يفعلوا، مبتدئين بالسيطرة على القبيلة المضطرة وعشائرها من خلال ترشيح رئيس قبيلة الروم حسقيل، بل فرضه شيخا على القبيلة المضطرة.
عرفت نخوة هذه الحقيقة من سالم، بعد ان صارت تلتقي معه من حين لآخر في بيت والده وبحضور اخته واحيانا والده وأمه، لا ليتقابلا تعبيرا عن شوق كل منهما للاخر فقط، انما لينسقا الجهود المشتركة، حيث تقود نخوة النشاط السري بين النساء، ويقود سالم نشاط وتعبئة الرجال والشباب الذين خرجوا على حسقيل وسطوته وجاهروا بهذا بعد خروجهم، حتى انهم تعبيرا عن موقفهم، ارتحلوا خارج القبيلة، واتخذوا لانفسهم مكانا معلوما ذا حمى معلوم ايضا.. ورغم ان حسقيل تجنب ان يغزوهم، لكي لا يعرض القبيلة الى انشقاق بسبب تداخل النسب بين الخارجين عليه والقابلين به، لكنه لم يدخر وسيلة من الوسائل التي كان يعتمدها بصورة غير مكشوفة الا وسعى بها ضدهم، ومن ذلك انه نسق مع شيخ قبيلة الروم ليوجه الى التجمع المتمرد عدة غارات، لكن لان اولئك لا يملكون شيئا او لان ما يملكونه ابقوه عند اهلهم في القبيلة المضطرة، وليس معهم نساء او اطفال يثقلون عليهم وعلى حركتهم ويشكلون مطمعا للروم، فقد كانت غارات الروم عليهم غالبا ما ترتد بعد ان يلحق المتمردون بهم خسائر فادحة بالرجال والغنائم، حتى انهم في احدى المرات اوقعوا عددا من الروم اسرى في شراكهم، وكان بينهم عدد من ابناء شيوخ العشائر من قبيلة الروم، ولم يطلقوا سراحهم الا بعد ان وقعوا تعهدا اليهم وفق ما ارادوا، يقرون به لهم بمنزلهم وحماهم، ويعدون بأن لا يكرروا الغارات عليهم ولا يتدخلوا في شأنهم الداخلي وفي الخلاف بينهم وبين حسقيل.
اقيم عرس ذلك الشاب، ولان نخوة كانت تعرف دوره وعلاقته بالمجموعة التي يشرف سالم على تنظيمها، حضرت العرس ومعها الشيخة والدتها.. وهناك اقيمت حفلة مفتوحة مختلطة، تناول فيها الرجال والنساء طعام العشاء كل على حدة، وراح الفرسان يتسابقون او يلعبون لعبة الفرسان فوق ظهور خيولهم ما دامت الشمس لم تقترب من المغيب، في الوقت الذي كانت هلاهل (زغاريد) النساء تصدح..
اقيمت الحفلة، ومن عادة القوم هناك ان يبادر الرجل بطلب مراقصة من يراقصها، ومن حق البنت ان تقبل او تمتنع عن مراقصة من يطلبها الى ذلك.. وكانت الرقصة اشبه ما تكون برقصة (الدحة) التي غالبا ما يرقصها البدو الى وقت قريب في مناسبات كهذه.. وبينما كان كل يسعى الى من يظنها توافق عليه، كان الرجال يصفقون وكانت النسوة يصفقن مثلهم تشجيعا لمن (يدبك) او يرقص.
نهض حسقيل من مكانه، كأنه اراد بمحاولته تلك ان يظهر بأنه مندمج مع القبيلة، لذلك يتصرف وفق عاداتهم واراد كذلك ان يظهر للقبيلة انه على وفاق مع اقرباء الشيخ السابق، لذلك توجه الى نخوة، ورغم ان نخوة تجاهلت نيته بادئ الامر، ورغم اقترابه منها بما لم يترك مجالا للشك في انه يقصدها هي ليطلبها للدبكة معه.. حيث وقف قربها وغطاها ظله.
كان القمر بدرا في تلك الليلة.. تيقنت نخوة من انه آت ليطلبها باسمها، وفي الوقت الذي بدا الشبان والشابات المناهضون لحسقيل بوجه عام، بأعصاب مشدودة متوترة ازاء ذاك المنظر، محتارين مما ستقدم عليه نخوة من فعل.. امام هذا الاحراج، قامت نخوة بقوامها الممشوق وانفها العالي، ارتفاعا منها فوق الضعف والذل، في الوقت الذي ظن حسقيل، بل بدا كأنه متأكد من انها قامت لتراقصه، لكن عيني نخوة كانتا باتجاه سالم الذي كانت تعرف انه بين الحضور، وانه وضع اللثام على وجهه عندما اندس بين من حضر، بعد ان تسلل الى هناك، خاصة ان برد شهر آذار في ارض مكشوفة من بلاد الشام، يجعل اغلب الرجال يردون اللثام على وجوههم اتقاء للبرد، لكن نخوة عرفت سالم رغم اللثام.. وهل يخفى على الحبيب امكانية التعرف على حبيبه؟! نعم، عرفته نخوة، وفي الوقت الذي كان حسقيل وآخرون يتوهمون بأنها ستمشي في اثر حسقيل لتدبك معه وتراقصه بما يخزيها ويخزي أهلها وكل الذين تمردوا على حسقيل او كان التمرد يعتمل في صدورهم، اعزت نخوة اهلها، بعد ان اعزت نفسها، وكل المتمردين على حسقيل وحلفه البغيض مع شيخ الروم.. مشت باتجاه سالم، ومن غير ان تقول كلمة لحسقيل، ووسط دهشة، بل ذهول الناس، ولم يكن احد يعرف الى اين تتجه، لكنهم فهموا كلهم انها رفضت علنا ان تدبك مع حسقيل او تراقصه، انفة منها.. واستمرت تمشي حتى وقفت امام سالم، ومدت يدها اليه، وقالت:
ـ اتسمح، ايها الشاب الملثم؟ كأنها لا تعرفه.
نهض سالم، وابقى لثامه، ولم يغير هيأته، وبدأت الرقصة وسط تصفيق حاد، من الرجال والنساء بما في ذلك حسقيل، للمستوى الرفيع الذي اديا به رقصتهما..
صفق الحضور لهذا، وقبله صفقوا لابنة القبيلة التي ايقظت الحمية والنخوة في صدور الجميع، عندما رفضت سلطة حسقيل ورغبته واختارت شابا مجهولا من القبيلة، تقديرا للقبيلة واعلانا لموقفهما بما اخزى حسقيل، مع ان حسقيل حاول ان يتظاهر بأنه غير مبال بما حصل عندما قال، وهو يداري حرجه بضحكة هستيرية:
ـ شباب.. الطيور على اشكالها تقع.
قال ذلك، وهو يضحك، لكنه تعثر وهو يعود الى مكانه، مع ان الارض منبسطة، وسقط عقاله الى الارض.. وقال شاب وهو يلكز صاحبه القريب منه:
ـ لقد سقط عقاله على الارض.. انه فأل خير ان شاء الله.
انتهت رقصة سالم مع نخوة، وصفق لهما بحماس من كان حاضرا وارادوا ان يرفعوا الشاب الملثم عن الارض ويحملوه فوق الاكتاف، غير ان سالم ركب فرسه وانطلق مغادرا.. وغادرت نخوة هي وامها الى بيتهما ايضا.
اكتشفت نخوة من احاديث امها اليها، بعد ان محصتها بصورة دقيقة، ان امها كانت تعرف كل شيء عن نشاط نخوة وتحريضها بنات القبيلة ضد حسقيل والروم وانها مع معرفتها كل هذا، لم تفض لحسقيل بأي شيء منه، ليس لان نخوة ابنتها وانما لانها هي الاخرى اكتشفت ان حسقيل غادر وخاسئ وان مقاومة مخططاته وهيمنته على القبيلة واجب كل من هو قادر عليه ولانها غير قادرة على ان تقوم بما يمكن ان يقوم به الآخرون فإنها لم تجد غضاضة، ان لم تكن مسرورة في نفسها، في ان تحرض نخوة نساء القبيلة عليه، فقد تحول حب الشيخة لحسقيل الى كره شديد وحقد قاطع.. بعد ان اكتشفت انه (نكت) به
ـ على اي حال.. لا عليك، يا ابنتي، ليعمل من يعمل على انقاذ القبيلة من تحالف حسقيل الملعون وجماعته مع شيخ الشر الرومي وقبيلته، وليبارك فعل من يفعل على هذا الاساس، بما في ذلك نشاطك مع بنات القبيلة!.
مرت ايام بعد ذلك، تزوج في احدها احد الشباب البارزين في موقفهم ضد حسقيل، لكن لانه احد ابناء الشيوخ الذين كان حسقيل يحرص على ان يظهر بموقف المؤيد له، فقد تغاضى عن نشاط ابنه، رغم انه ما انفك ينبهه على تصرفات ابنه:
ـ (خلي بالك) من ابنك، يا شيخ، لكي لا ينجرف مع التيار المناهض لنا..
هكذا قال حسقيل للشيخ الآخر عبارة (المناهض لنا) لكي يشركه معه..
قال الشيخ:
ـ لا عليك، يا شيخ قبيلتنا، ان ابني في النتيجة سيكون الى جانبك، وان حاول ان يجامل من هم في مثل عمره في لغو لسان فحسب.
اما هذا الشاب، فهو في حقيقته، وبغض النظر عن موقف ابيه، وحتى اخوته، فقد قرر ان يكون من بين المتمردين على حسقيل والتحالف بين حسقيل وقبيلة الروم، وسعيهما المشترك للسيطرة على قبائل العرب في ذلك المكان من بلاد الشام، وان يمتدوا في نفوذهم واستغلالهم الى حيث بامكانهم ان يفعلوا، مبتدئين بالسيطرة على القبيلة المضطرة وعشائرها من خلال ترشيح رئيس قبيلة الروم حسقيل، بل فرضه شيخا على القبيلة المضطرة.
عرفت نخوة هذه الحقيقة من سالم، بعد ان صارت تلتقي معه من حين لآخر في بيت والده وبحضور اخته واحيانا والده وأمه، لا ليتقابلا تعبيرا عن شوق كل منهما للاخر فقط، انما لينسقا الجهود المشتركة، حيث تقود نخوة النشاط السري بين النساء، ويقود سالم نشاط وتعبئة الرجال والشباب الذين خرجوا على حسقيل وسطوته وجاهروا بهذا بعد خروجهم، حتى انهم تعبيرا عن موقفهم، ارتحلوا خارج القبيلة، واتخذوا لانفسهم مكانا معلوما ذا حمى معلوم ايضا.. ورغم ان حسقيل تجنب ان يغزوهم، لكي لا يعرض القبيلة الى انشقاق بسبب تداخل النسب بين الخارجين عليه والقابلين به، لكنه لم يدخر وسيلة من الوسائل التي كان يعتمدها بصورة غير مكشوفة الا وسعى بها ضدهم، ومن ذلك انه نسق مع شيخ قبيلة الروم ليوجه الى التجمع المتمرد عدة غارات، لكن لان اولئك لا يملكون شيئا او لان ما يملكونه ابقوه عند اهلهم في القبيلة المضطرة، وليس معهم نساء او اطفال يثقلون عليهم وعلى حركتهم ويشكلون مطمعا للروم، فقد كانت غارات الروم عليهم غالبا ما ترتد بعد ان يلحق المتمردون بهم خسائر فادحة بالرجال والغنائم، حتى انهم في احدى المرات اوقعوا عددا من الروم اسرى في شراكهم، وكان بينهم عدد من ابناء شيوخ العشائر من قبيلة الروم، ولم يطلقوا سراحهم الا بعد ان وقعوا تعهدا اليهم وفق ما ارادوا، يقرون به لهم بمنزلهم وحماهم، ويعدون بأن لا يكرروا الغارات عليهم ولا يتدخلوا في شأنهم الداخلي وفي الخلاف بينهم وبين حسقيل.
اقيم عرس ذلك الشاب، ولان نخوة كانت تعرف دوره وعلاقته بالمجموعة التي يشرف سالم على تنظيمها، حضرت العرس ومعها الشيخة والدتها.. وهناك اقيمت حفلة مفتوحة مختلطة، تناول فيها الرجال والنساء طعام العشاء كل على حدة، وراح الفرسان يتسابقون او يلعبون لعبة الفرسان فوق ظهور خيولهم ما دامت الشمس لم تقترب من المغيب، في الوقت الذي كانت هلاهل (زغاريد) النساء تصدح..
اقيمت الحفلة، ومن عادة القوم هناك ان يبادر الرجل بطلب مراقصة من يراقصها، ومن حق البنت ان تقبل او تمتنع عن مراقصة من يطلبها الى ذلك.. وكانت الرقصة اشبه ما تكون برقصة (الدحة) التي غالبا ما يرقصها البدو الى وقت قريب في مناسبات كهذه.. وبينما كان كل يسعى الى من يظنها توافق عليه، كان الرجال يصفقون وكانت النسوة يصفقن مثلهم تشجيعا لمن (يدبك) او يرقص.
نهض حسقيل من مكانه، كأنه اراد بمحاولته تلك ان يظهر بأنه مندمج مع القبيلة، لذلك يتصرف وفق عاداتهم واراد كذلك ان يظهر للقبيلة انه على وفاق مع اقرباء الشيخ السابق، لذلك توجه الى نخوة، ورغم ان نخوة تجاهلت نيته بادئ الامر، ورغم اقترابه منها بما لم يترك مجالا للشك في انه يقصدها هي ليطلبها للدبكة معه.. حيث وقف قربها وغطاها ظله.
كان القمر بدرا في تلك الليلة.. تيقنت نخوة من انه آت ليطلبها باسمها، وفي الوقت الذي بدا الشبان والشابات المناهضون لحسقيل بوجه عام، بأعصاب مشدودة متوترة ازاء ذاك المنظر، محتارين مما ستقدم عليه نخوة من فعل.. امام هذا الاحراج، قامت نخوة بقوامها الممشوق وانفها العالي، ارتفاعا منها فوق الضعف والذل، في الوقت الذي ظن حسقيل، بل بدا كأنه متأكد من انها قامت لتراقصه، لكن عيني نخوة كانتا باتجاه سالم الذي كانت تعرف انه بين الحضور، وانه وضع اللثام على وجهه عندما اندس بين من حضر، بعد ان تسلل الى هناك، خاصة ان برد شهر آذار في ارض مكشوفة من بلاد الشام، يجعل اغلب الرجال يردون اللثام على وجوههم اتقاء للبرد، لكن نخوة عرفت سالم رغم اللثام.. وهل يخفى على الحبيب امكانية التعرف على حبيبه؟! نعم، عرفته نخوة، وفي الوقت الذي كان حسقيل وآخرون يتوهمون بأنها ستمشي في اثر حسقيل لتدبك معه وتراقصه بما يخزيها ويخزي أهلها وكل الذين تمردوا على حسقيل او كان التمرد يعتمل في صدورهم، اعزت نخوة اهلها، بعد ان اعزت نفسها، وكل المتمردين على حسقيل وحلفه البغيض مع شيخ الروم.. مشت باتجاه سالم، ومن غير ان تقول كلمة لحسقيل، ووسط دهشة، بل ذهول الناس، ولم يكن احد يعرف الى اين تتجه، لكنهم فهموا كلهم انها رفضت علنا ان تدبك مع حسقيل او تراقصه، انفة منها.. واستمرت تمشي حتى وقفت امام سالم، ومدت يدها اليه، وقالت:
ـ اتسمح، ايها الشاب الملثم؟ كأنها لا تعرفه.
نهض سالم، وابقى لثامه، ولم يغير هيأته، وبدأت الرقصة وسط تصفيق حاد، من الرجال والنساء بما في ذلك حسقيل، للمستوى الرفيع الذي اديا به رقصتهما..
صفق الحضور لهذا، وقبله صفقوا لابنة القبيلة التي ايقظت الحمية والنخوة في صدور الجميع، عندما رفضت سلطة حسقيل ورغبته واختارت شابا مجهولا من القبيلة، تقديرا للقبيلة واعلانا لموقفهما بما اخزى حسقيل، مع ان حسقيل حاول ان يتظاهر بأنه غير مبال بما حصل عندما قال، وهو يداري حرجه بضحكة هستيرية:
ـ شباب.. الطيور على اشكالها تقع.
قال ذلك، وهو يضحك، لكنه تعثر وهو يعود الى مكانه، مع ان الارض منبسطة، وسقط عقاله الى الارض.. وقال شاب وهو يلكز صاحبه القريب منه:
ـ لقد سقط عقاله على الارض.. انه فأل خير ان شاء الله.
انتهت رقصة سالم مع نخوة، وصفق لهما بحماس من كان حاضرا وارادوا ان يرفعوا الشاب الملثم عن الارض ويحملوه فوق الاكتاف، غير ان سالم ركب فرسه وانطلق مغادرا.. وغادرت نخوة هي وامها الى بيتهما ايضا.
اكتشفت نخوة من احاديث امها اليها، بعد ان محصتها بصورة دقيقة، ان امها كانت تعرف كل شيء عن نشاط نخوة وتحريضها بنات القبيلة ضد حسقيل والروم وانها مع معرفتها كل هذا، لم تفض لحسقيل بأي شيء منه، ليس لان نخوة ابنتها وانما لانها هي الاخرى اكتشفت ان حسقيل غادر وخاسئ وان مقاومة مخططاته وهيمنته على القبيلة واجب كل من هو قادر عليه ولانها غير قادرة على ان تقوم بما يمكن ان يقوم به الآخرون فإنها لم تجد غضاضة، ان لم تكن مسرورة في نفسها، في ان تحرض نخوة نساء القبيلة عليه، فقد تحول حب الشيخة لحسقيل الى كره شديد وحقد قاطع.. بعد ان اكتشفت انه (نكت) به
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
ـ ا، وتخلى عن عهوده، بل وغدر بها.. وقد عرفت نخوة مشاعر امها تجاه حسقيل من الحوار الاخير الذي دار بينهما حول رغبة امها في ان تقتل حسقيل.
في ظهر اليوم الذي تلا الحفلة.. انفذ حسقيل احد الرعاة ليوصل للشيخة انه يرغب في ان يزورها في بيتها بعد المغرب، وكان حسقيل قد جند الراعي لحسابه قبل هذا الوقت، مع انه احد رعاة غنم الشيخة وضمن حماهم، وقد اوصل الراعي رغبة حسقيل الى الشيخة عن طريق عبدتها... بعد تردد سألت الشيخة ابنتها نخوة:
ـ هل تذهبين الى بيت ابي سالم هذا المساء؟
ومع ان نخوة استغربت من سؤال امها، التي لم تعتد على ان تسألها مثله منذ وقت طويل، فإنها من باب زرع الثقة، قالت:
ـ نعم، يا امي، لأعرف ظروفه بعد خروجه من الحفلة يوم امس، لان حسقيل غادر واساليبه لعينة، وعيونه مبثوثة ضمن القبيلة، هو وشيخ الروم، لذلك، نعم سأذهب اليه، ان لم يكن لديك مانع في هذا.
قالت الشيخة، وهي تداري حسرة عميقة في صدرها:
ـ لا، يا ابنتي، لا مانع عندي، وليوفقك الله، واتمنى لك حياة سعيدة.
لاحظت نخوة ان امها قالت ذلك كأنها تودعها، ومع ذلك لم تتوقف عنده بسبب شوقها الى سالم، الذي شغلها عن اي شيء آخر.. لذلك ما ان اخذت الاذن من امها الشيخة، حتى انطلقت مسرعة، قبل مغيب الشمس الى بيت ابي سالم، لكنها حرصت على ان لا يلاحظها احد وهي تقترب من البيت، ولعلها حرصت على ان تأتي البيت من الخلف، وتدخل من طرفه الغربي من جهة العيال الى داخل البيت.. وقد وجدت هناك ابا سالم وامه واخته.. ورحبوا بها احسن ترحيب، بعد ان صارت معروفة بموقفها منذ ان راقصت سالم، وصدت الشيخ عنها.. بل انها عندما رفضت الشيخ بأنفة، واتجهت إلى سالم لتراقصه.. لم تعد معروفة من عائلة سالم فحسب، التي تعرفها وتعرف موقفها، إنما على مستوى القبيلة كلها، بل صارت علومها (أخبارها) تتناقلها ألسنة البدو والحضر، وصار البعض يقول قصائد حماسية في مواقفها، حتى صارت كأنها أخت ونخوة كل فارس، وموقف شريف..
وقبل هذا، عندما عادت عائلة سالم من حفلة العرس، التي راقصت فيها نخوة سالم (الدحة) بدلا من شيخ القبيلة، سأل أبو سالم ابنته، بعد أن انتحى بها جانبا:
ـ أنا أعرف أن نخوة تعرف سالم، لكنهما على حد علمي لم يلتقيا إلا مرة واحدة في بيتنا، لكن تصرف نخوة معه هذه الليلة، عندما رفضت ان تدبك مع الشيخ، لا يشير إلى أن الأمر بينهما مجرد معرفة، الا تقولين الحقيقة لي مثلما هي لأطمئن، يا ابنتي؟
قالت شقيقة سالم لأبيها، بعد أن لاحظته متشوقاً فرحاً من جهة، وقلقاً من جهة أخرى، خشية أن لا تكون علاقتهما قائمة على أساس:
ـ وهل تظن، يا والدي، ان سالم يمكن أن ينحدر إلى ما ينحدر إليه الشباب الغر؟ ثم استدركت لتقول: أو ان نخوة من النوع الذي لا يعتمد عليه، ويمكن أن تختار سالم من غير قرار منها إلى ما هو أبعد من مظهره؟ ان سالم ونخوة تعاهدا على أن يتزوجا عندما يستقر الحال لسالم وجماعته، ويتخلصون من هذا الشيخ اللعين، وقد تعاهدا على ذلك أمامي، واشهدا الله عليه.
اغرورقت عينا أبي سالم بالدموع فرحا، وقبّل ابنته وهو يقول لها:
ـ بشرك الله بالخير، يا ابنتي.. لقد أرحت قلبي ونفسي، أراحك الله، وبارك فيك..
عادت أخت سالم لتقول لأبيها:
ـ أرجوك، يا أبت، اكتمها، حتى نأخذ رأي سالم وموافقته على اشراك أمي بهذا، وهل يوافق على هذا أم لا يوافق.
على هذه الخلفية، استقبلت عائلة سالم نخوة في بيتها هذه المرة.. لذلك كان أبو سالم وأم سالم فرحين جذلين بسعادتهما، ومن الطبيعي أن تكون أخت سالم معهما على الوصف نفسه..
في ظهر اليوم الذي تلا الحفلة.. انفذ حسقيل احد الرعاة ليوصل للشيخة انه يرغب في ان يزورها في بيتها بعد المغرب، وكان حسقيل قد جند الراعي لحسابه قبل هذا الوقت، مع انه احد رعاة غنم الشيخة وضمن حماهم، وقد اوصل الراعي رغبة حسقيل الى الشيخة عن طريق عبدتها... بعد تردد سألت الشيخة ابنتها نخوة:
ـ هل تذهبين الى بيت ابي سالم هذا المساء؟
ومع ان نخوة استغربت من سؤال امها، التي لم تعتد على ان تسألها مثله منذ وقت طويل، فإنها من باب زرع الثقة، قالت:
ـ نعم، يا امي، لأعرف ظروفه بعد خروجه من الحفلة يوم امس، لان حسقيل غادر واساليبه لعينة، وعيونه مبثوثة ضمن القبيلة، هو وشيخ الروم، لذلك، نعم سأذهب اليه، ان لم يكن لديك مانع في هذا.
قالت الشيخة، وهي تداري حسرة عميقة في صدرها:
ـ لا، يا ابنتي، لا مانع عندي، وليوفقك الله، واتمنى لك حياة سعيدة.
لاحظت نخوة ان امها قالت ذلك كأنها تودعها، ومع ذلك لم تتوقف عنده بسبب شوقها الى سالم، الذي شغلها عن اي شيء آخر.. لذلك ما ان اخذت الاذن من امها الشيخة، حتى انطلقت مسرعة، قبل مغيب الشمس الى بيت ابي سالم، لكنها حرصت على ان لا يلاحظها احد وهي تقترب من البيت، ولعلها حرصت على ان تأتي البيت من الخلف، وتدخل من طرفه الغربي من جهة العيال الى داخل البيت.. وقد وجدت هناك ابا سالم وامه واخته.. ورحبوا بها احسن ترحيب، بعد ان صارت معروفة بموقفها منذ ان راقصت سالم، وصدت الشيخ عنها.. بل انها عندما رفضت الشيخ بأنفة، واتجهت إلى سالم لتراقصه.. لم تعد معروفة من عائلة سالم فحسب، التي تعرفها وتعرف موقفها، إنما على مستوى القبيلة كلها، بل صارت علومها (أخبارها) تتناقلها ألسنة البدو والحضر، وصار البعض يقول قصائد حماسية في مواقفها، حتى صارت كأنها أخت ونخوة كل فارس، وموقف شريف..
وقبل هذا، عندما عادت عائلة سالم من حفلة العرس، التي راقصت فيها نخوة سالم (الدحة) بدلا من شيخ القبيلة، سأل أبو سالم ابنته، بعد أن انتحى بها جانبا:
ـ أنا أعرف أن نخوة تعرف سالم، لكنهما على حد علمي لم يلتقيا إلا مرة واحدة في بيتنا، لكن تصرف نخوة معه هذه الليلة، عندما رفضت ان تدبك مع الشيخ، لا يشير إلى أن الأمر بينهما مجرد معرفة، الا تقولين الحقيقة لي مثلما هي لأطمئن، يا ابنتي؟
قالت شقيقة سالم لأبيها، بعد أن لاحظته متشوقاً فرحاً من جهة، وقلقاً من جهة أخرى، خشية أن لا تكون علاقتهما قائمة على أساس:
ـ وهل تظن، يا والدي، ان سالم يمكن أن ينحدر إلى ما ينحدر إليه الشباب الغر؟ ثم استدركت لتقول: أو ان نخوة من النوع الذي لا يعتمد عليه، ويمكن أن تختار سالم من غير قرار منها إلى ما هو أبعد من مظهره؟ ان سالم ونخوة تعاهدا على أن يتزوجا عندما يستقر الحال لسالم وجماعته، ويتخلصون من هذا الشيخ اللعين، وقد تعاهدا على ذلك أمامي، واشهدا الله عليه.
اغرورقت عينا أبي سالم بالدموع فرحا، وقبّل ابنته وهو يقول لها:
ـ بشرك الله بالخير، يا ابنتي.. لقد أرحت قلبي ونفسي، أراحك الله، وبارك فيك..
عادت أخت سالم لتقول لأبيها:
ـ أرجوك، يا أبت، اكتمها، حتى نأخذ رأي سالم وموافقته على اشراك أمي بهذا، وهل يوافق على هذا أم لا يوافق.
على هذه الخلفية، استقبلت عائلة سالم نخوة في بيتها هذه المرة.. لذلك كان أبو سالم وأم سالم فرحين جذلين بسعادتهما، ومن الطبيعي أن تكون أخت سالم معهما على الوصف نفسه..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
جاء الرعاة بالأغنام، واستأذن أبو سالم لينصرف إلى حلبها، وهمت أن تتبعه لعمل اليوم المعتاد زوجته أم سالم، لولا أنه أشار إليها بيده أن أبقى مع نخوة، أنت وأختها ابنتك، وقال:
ـ لا حاجة لنا بك، وسوف تقوم نيابة عنك في حلب الأغنام نساء الرعاة وبناتهم.. ابقي، يا أم سالم، مع ابنتنا نخوة.. وسأحاول أن أعود إليكم بأسرع وقت..
ومن الطبيعي أن لا تشجع أخت سالم أمها على الذهاب مع أبيها هذه المرة، مثلما فعلت في المرة السابقة، ذلك أن التفاهم تم بين نخوة وسالم، ولم يعد هناك ما يستوجب أن يختليا بغيابها..
بعد أن خرج أبو سالم إلى الغنم بفاصلة ليست طويلة، وفي الوقت الذي كانت أم سالم منشغلة خارج البيت، لاحظت نخوة وأخت سالم أن الكلاب انطلقت وهي تنبح، وبدتا تنتظران كأنهما على معرفة بما يحصل.. كانتا تنتظران أن تكف الكلاب عن النباح بعد حين من انطلاقها، لتعرفا أن القادم هو سالم، ذلك ان الكلب إذا سكت بعد انطلاقه إلى مسافة فمعنى ذلك انه عرف من انطلق إليه.. وفعلا ما هي إلا هنيهة حتى سكتت الكلاب، وبعد دقيقة أو نحو ذلك من سكوتها، سمعتا من يتنحنح من جهة الطرف الغربي لبيت الشعر، جهة العيال، وقالتا معا:
ـ ابشر.
في الوقت الذي قالت أخت سالم بالاضافة إلى ذلك:
ـ تفضل.
عندما التقت عيونهما بعيني سالم، كانتا تتبسمان، وهما واقفتان.
تبسم سالم وهو يقول:
ـ كأنكما تعرفان انني قادم في هذه اللحظة.. لكنه كان يخاطب نخوة في الحقيقة..
قالت نخوة، بعد ان سلم عليها وعلى أخته:
ـ نعم، لقد قدرنا أن تكون القادم إلينا، لأن الكلاب سكتت بعد أن انطلقت وهي تنبح، ولو وجدت شخصاً غريباً لاستمر نباحها ومشاغلتها لمن يحضر، ثم انها انطلقت ناحية الغرب، وهذا دليل آخر على أن القادم ليس ضيفا، لأن الضيف يأتي من ناحية الديوان المقرر للضيوف (الخطار)، من جهة الشرق.. رغم ان بعض مقطوعي الرسن قد ادخلوا تقليدا جديدا على مكان المضيف فجعلوه، بخلاف تقاليد العرب على جهة الغرب..
تبسم مرة أخرى وجلس، وبدأ يسأل نخوة:
ـ ها، كيف حالك، يا نخوة؟
ـ بخير.. وكيف حالك أنت؟ وكيف هي أموركم؟
ـ بخير.. وكل شيء على ما يرام.. ان علومك (أخبارك) وصلت إلينا عندما رفضت الدبكة مع الشيخ اللعين، واخترت رجلاً ملثماً حرص، وهو يراقصك، على أن لا ينزع لثامه خلاف العادة.. لذلك يتحدث جماعتنا ـ قال سالم ـ عنك باعتبارك نخوتهم مثلما أنت، لكنهم يتحدثون عن ذاك الشبح الذي اخترته لتدبكي معه، ومن الطبيعي أن أكون من بين مستمعي تلك الأخبار وكأنني لا أعرفها ولا تعنيني إلا على أساس معانيها العامة..
أنهى سالم كلامه، وضحك بصوت منخفض لئلا يسمع خارج بيت الشعر، وضحكت نخوة وأخته، لكن نخوة أردفت ضحكتها بالقول:
ـ وهل لذلك معنى آخر غير المعنى القائم في نفسك، يا سالم؟
أجاب سالم، وهو يتبسم:
ـ أنت تعرفين، يا نخوة، أنت تعرفين.. وقبل ذلك، يعلم الله..
تدخلت أخته لتقول وهي تتبسم:
ـ وأنا أعرف أيضاً!! ـ نعم ـ يقول سالم ـ أنت تعرفين، يا أخيّة، لكن ليس مثلما نعرف أنا ونخوة، ومثلما يعلم الله..
يضحك الثلاثة، في حبور وسعادة عظيمة..
تقول نخوة:
ـ كيف هي أموركم؟ من الضروري أن تحزموا أمركم، إذا كنت قد هيأتم أموركم للتخلص من الشيخ الملعون؟! ـ العزم والهمة متوفران، يا نخوة، لكن الهمة والعزم يحتاجان إلى تدبير ليكونا مؤثرين ويصيبا الهدف.. ومثلما يكون التدبير اعضب من غير همة وعزم، تحتاج الهمة والعزم للتدبير.. واننا نجري حسابات تقدير الموقف.. خاصة توقع ان يتدخل شيخ قبيلة الروم في حال انتصارنا على حسقيل..
ـ وماذا يمكن ان يفعله شيخ الروم بعد انتصارنا على حسقيل ـ تسأل نخوة ـ خاصة عندما يجد أن قبيلتنا تقول كلها بلسان واحد وتتصرف كرجل واحد؟
ثم اضافت بعد أن تبسمت:
ـ وتتصرف النسوة كأنهن في رأي وموقف امرأة واحدة.
ـ وهل تظنين، يا نخوة، ان حسقيل تسلل إلى القبيلة من غير أن يكون هناك من ساعده ويساعده في ذلك؟ ثم كيف أصبح شيخا للقبيلة لولا الضعف الذي أصاب القبيلة؟.. ان الضعف الذي اقصده هنا، يا نخوة، ليس ضعف الهمة فحسب، إنما ضعف النفس والأخلاق والولاء للقبيلة..
ـ لكن لكل شيء سببا.. ولكي تعرف النتائج ينبغي أن تعرف أسبابها.. ان المدخل الكبير الذي اضعف نفسية وهمة من ضعف هو ضعف الرأس، فعندما يمرض الرأس، يا سالم، لا يكون باستطاعة الجسد أن يصمد ويكون معافى.
ـ نعم، يا نخوة، هذا صحيح، لكن ليس الرأس فقط هو الضعيف الآن، إنما امتد الضعف والمرض من الرأس إلى الأكتاف حتى وصل الاقدام.. وهذا يحتاج إلى تدبير، وليس إزاحة الرأس واستبداله برأس آخر فحسب، إذ قد تكون العدوى عكسية إذا اقتصر الأمر على استبدال رأس برأس.
علقت نخوة:
ـ لكن إذا ما صح الرأس، وكان بخواص تجعله قادرا على تأدية واجباته، يستطيع ان يعمل الشيء الكثير ليخلص الأجزاء الأخرى من المرض.
ـ نعم، هذا صحيح، وحول كل هذا يجري تقدير الموقف.. ليكون عملنا رصينا، ومن بين ذلك حساب ردود فعل شيخ الروم..
ـ لكن شيخ الروم، إذا وضع أمام أمر واقع جديد سيعيد النظر في حساباته في كل الأحوال، وسيحسب حساب مصالحه المقبلة وليس القديمة، وحساب ما يمكن أن يحققه منها مع شيخ جديد، وليس ما كان يتعامل بها مع الشيخ القديم الذي سيكون (رحمه الله)..
ـ لا حاجة لنا بك، وسوف تقوم نيابة عنك في حلب الأغنام نساء الرعاة وبناتهم.. ابقي، يا أم سالم، مع ابنتنا نخوة.. وسأحاول أن أعود إليكم بأسرع وقت..
ومن الطبيعي أن لا تشجع أخت سالم أمها على الذهاب مع أبيها هذه المرة، مثلما فعلت في المرة السابقة، ذلك أن التفاهم تم بين نخوة وسالم، ولم يعد هناك ما يستوجب أن يختليا بغيابها..
بعد أن خرج أبو سالم إلى الغنم بفاصلة ليست طويلة، وفي الوقت الذي كانت أم سالم منشغلة خارج البيت، لاحظت نخوة وأخت سالم أن الكلاب انطلقت وهي تنبح، وبدتا تنتظران كأنهما على معرفة بما يحصل.. كانتا تنتظران أن تكف الكلاب عن النباح بعد حين من انطلاقها، لتعرفا أن القادم هو سالم، ذلك ان الكلب إذا سكت بعد انطلاقه إلى مسافة فمعنى ذلك انه عرف من انطلق إليه.. وفعلا ما هي إلا هنيهة حتى سكتت الكلاب، وبعد دقيقة أو نحو ذلك من سكوتها، سمعتا من يتنحنح من جهة الطرف الغربي لبيت الشعر، جهة العيال، وقالتا معا:
ـ ابشر.
في الوقت الذي قالت أخت سالم بالاضافة إلى ذلك:
ـ تفضل.
عندما التقت عيونهما بعيني سالم، كانتا تتبسمان، وهما واقفتان.
تبسم سالم وهو يقول:
ـ كأنكما تعرفان انني قادم في هذه اللحظة.. لكنه كان يخاطب نخوة في الحقيقة..
قالت نخوة، بعد ان سلم عليها وعلى أخته:
ـ نعم، لقد قدرنا أن تكون القادم إلينا، لأن الكلاب سكتت بعد أن انطلقت وهي تنبح، ولو وجدت شخصاً غريباً لاستمر نباحها ومشاغلتها لمن يحضر، ثم انها انطلقت ناحية الغرب، وهذا دليل آخر على أن القادم ليس ضيفا، لأن الضيف يأتي من ناحية الديوان المقرر للضيوف (الخطار)، من جهة الشرق.. رغم ان بعض مقطوعي الرسن قد ادخلوا تقليدا جديدا على مكان المضيف فجعلوه، بخلاف تقاليد العرب على جهة الغرب..
تبسم مرة أخرى وجلس، وبدأ يسأل نخوة:
ـ ها، كيف حالك، يا نخوة؟
ـ بخير.. وكيف حالك أنت؟ وكيف هي أموركم؟
ـ بخير.. وكل شيء على ما يرام.. ان علومك (أخبارك) وصلت إلينا عندما رفضت الدبكة مع الشيخ اللعين، واخترت رجلاً ملثماً حرص، وهو يراقصك، على أن لا ينزع لثامه خلاف العادة.. لذلك يتحدث جماعتنا ـ قال سالم ـ عنك باعتبارك نخوتهم مثلما أنت، لكنهم يتحدثون عن ذاك الشبح الذي اخترته لتدبكي معه، ومن الطبيعي أن أكون من بين مستمعي تلك الأخبار وكأنني لا أعرفها ولا تعنيني إلا على أساس معانيها العامة..
أنهى سالم كلامه، وضحك بصوت منخفض لئلا يسمع خارج بيت الشعر، وضحكت نخوة وأخته، لكن نخوة أردفت ضحكتها بالقول:
ـ وهل لذلك معنى آخر غير المعنى القائم في نفسك، يا سالم؟
أجاب سالم، وهو يتبسم:
ـ أنت تعرفين، يا نخوة، أنت تعرفين.. وقبل ذلك، يعلم الله..
تدخلت أخته لتقول وهي تتبسم:
ـ وأنا أعرف أيضاً!! ـ نعم ـ يقول سالم ـ أنت تعرفين، يا أخيّة، لكن ليس مثلما نعرف أنا ونخوة، ومثلما يعلم الله..
يضحك الثلاثة، في حبور وسعادة عظيمة..
تقول نخوة:
ـ كيف هي أموركم؟ من الضروري أن تحزموا أمركم، إذا كنت قد هيأتم أموركم للتخلص من الشيخ الملعون؟! ـ العزم والهمة متوفران، يا نخوة، لكن الهمة والعزم يحتاجان إلى تدبير ليكونا مؤثرين ويصيبا الهدف.. ومثلما يكون التدبير اعضب من غير همة وعزم، تحتاج الهمة والعزم للتدبير.. واننا نجري حسابات تقدير الموقف.. خاصة توقع ان يتدخل شيخ قبيلة الروم في حال انتصارنا على حسقيل..
ـ وماذا يمكن ان يفعله شيخ الروم بعد انتصارنا على حسقيل ـ تسأل نخوة ـ خاصة عندما يجد أن قبيلتنا تقول كلها بلسان واحد وتتصرف كرجل واحد؟
ثم اضافت بعد أن تبسمت:
ـ وتتصرف النسوة كأنهن في رأي وموقف امرأة واحدة.
ـ وهل تظنين، يا نخوة، ان حسقيل تسلل إلى القبيلة من غير أن يكون هناك من ساعده ويساعده في ذلك؟ ثم كيف أصبح شيخا للقبيلة لولا الضعف الذي أصاب القبيلة؟.. ان الضعف الذي اقصده هنا، يا نخوة، ليس ضعف الهمة فحسب، إنما ضعف النفس والأخلاق والولاء للقبيلة..
ـ لكن لكل شيء سببا.. ولكي تعرف النتائج ينبغي أن تعرف أسبابها.. ان المدخل الكبير الذي اضعف نفسية وهمة من ضعف هو ضعف الرأس، فعندما يمرض الرأس، يا سالم، لا يكون باستطاعة الجسد أن يصمد ويكون معافى.
ـ نعم، يا نخوة، هذا صحيح، لكن ليس الرأس فقط هو الضعيف الآن، إنما امتد الضعف والمرض من الرأس إلى الأكتاف حتى وصل الاقدام.. وهذا يحتاج إلى تدبير، وليس إزاحة الرأس واستبداله برأس آخر فحسب، إذ قد تكون العدوى عكسية إذا اقتصر الأمر على استبدال رأس برأس.
علقت نخوة:
ـ لكن إذا ما صح الرأس، وكان بخواص تجعله قادرا على تأدية واجباته، يستطيع ان يعمل الشيء الكثير ليخلص الأجزاء الأخرى من المرض.
ـ نعم، هذا صحيح، وحول كل هذا يجري تقدير الموقف.. ليكون عملنا رصينا، ومن بين ذلك حساب ردود فعل شيخ الروم..
ـ لكن شيخ الروم، إذا وضع أمام أمر واقع جديد سيعيد النظر في حساباته في كل الأحوال، وسيحسب حساب مصالحه المقبلة وليس القديمة، وحساب ما يمكن أن يحققه منها مع شيخ جديد، وليس ما كان يتعامل بها مع الشيخ القديم الذي سيكون (رحمه الله)..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
نظرة اصحاب المصالح، يا نخوة، غير نظرة اصحاب المبادئ.. ان نظرة اصحاب المصالح لا تصاغ اساسا على النتائج التي يأملونها في النهايات البعيدة، مهما قدموا من تضحيات، إنما ما يمكن أن يحققوه منها بصورة مستعجلة في الغالب الأعم، وهم غير مستعدين لأي نوع من أنواع التضحية بأنفسهم، إنما بأنفس غيرهم سواء من أبناء قومهم أو من أقوام أخرى، أما أصحاب المبادئ فإن حساباتهم الأساسية تستند إلى مواجهة الباطل بالحق.. لذلك تكون حسابات (الى جانب من يكون الحق) و(الى جانب من يكون الباطل) حاسمة، مع ان المبدئيين لا يغفلون الواقع مثلما هو، لكنهم لا يقبلونه مثلما هو، لأن دورهم الأساس هو تغيير ما هو مرفوض، وعلى أساس هذه المفاهيم، أقول إننا نعيد النظر في تقدير الموقف، وبعد أن نستكمل حساباتنا، سوف نقرر، ولا اقصد بهذا اننا لم نقرر الهدف حتى الآن.. ان ازاحة حسقيل هي هدفنا لنحرر إرادتنا، لنقرر ما نريده لأنفسنا ونوع العلاقة مع الآخرين.. لكن ما اقصده هو توقيت بدء العمل علناً وبصورة حاسمة تحت هذا الشعار لإنجاز الهدف، بعد ان عملنا على انضاج الظرف، وصار الرأي إلى جانبنا داخل القبيلة بضرورة تنحية حسقيل بوسائل اخرى، ان لم يتركنا ويرحل، وكان لك دورك المشهود، يا نخوتنا..
قال ذلك وهو يتبسم، وينظر بتمعن في وجه نخوة.
قالت نخوة:
ـ حماكم الله، وأمدكم بالقدرة، فمنه التوفيق، وبه سبحانه نستعين..
ردد الجميع:
ـ آمين..
عاد أبو سالم إلى البيت، وبعد ان قبّل سالم على رقبته ووجهه، وفعل سالم لأبيه ما فعله أبوه له، قالت أم سالم لابنتها:
ـ جهزي العشاء.
قالت نخوة:
ـ سأغادر.. لقد تأخرت، يا عمة، لو سمحتم.
قالت أم سالم، يردفها أبو سالم بنفس الاتجاه:
ـ كيف، يا ابنتي!، حقك ذبيحة.. لكنك تأتين مستعجلة دائماً.
أجابتها:
ـ لا اعتقد أنني بحاجة لاختبركم، يا عمة، كرم أبي سالم معروف، وقد صرنا بيتاً واحداً إلا ما حرّم الله.
ـ نعم ـ أجاب أبو سالم ـ ولله الحمد، لكن هذه المرة لا بد أن تمالحينا.. والعشاء جاهز، يا ابنتي، حليب وخبز وفوقهما زبدة ضأن.. ولا بد أن تكون اختك ـ ويقصد أخت سالم ـ قد هيأته الآن.. كلي معنا ولو لقمة واحدة، واذهبي راشدة سالمة.
بقيت نخوة نزولاً عند رغبته، وعادت وجلست بعد أن كانت قد هبت واقفة عندما استأذنت..
احضر العشاء.. ومدّ أبو سالم يده وهو يقول:
ـ بسم الله.
سمى الجميع باسم الله، وأكلوا.. وبعد أن أكملوا العشاء قالوا:
ـ الحمد لله ربّ العالمين.
عندما سألت أم نخوة ابنتها قبل أن تخرج لملاقاة سالم في بيت أبيه: هل تذهبين إلى بيت سالم؟، بات واضحاً لدى نخوة أن أمها كانت تفضل ان لا تكون نخوة في البيت مع أمها مساء ذلك اليوم.. وان هذه الرغبة لم تتولد لدى أمها إلا لأنها أرادت أن تلتقي حسقيل.. ومع ذلك لم تسأل أمها عن شيء من هذا القبيل، وعندما دخلت بيتها جذلى، بعد أن جاءت من بيت أبي سالم، صاحت:
أماه.. أماه..
ولكن احداً لم يجبها، ولاحظت ان العمود الاوسط الفاصل بين مكان الرجال والنساء في بيت الشعر سقط، وان الفراش الذي يوضع عادة حيث مكان العمود ليفصل هو الآخر بين المكانين، ويكون حاجبا للناظر من أي من المقطعين الى المقطع الآخر، بما يضمن قدرا من الحرية للنساء، وهن في موقعهن الذي ان جلسن به مع وجود رجال في المقطع الآخر، غالبا ما تتكلم كل منهن همسا، أو يتفاهمن بالاشارات..
لاحظت نخوة ان عمود وسط البيت والفراش سقطا على الارض، وعندما رأت الحال في بيت الشعر على هذه الصورة، خفت عائدة الى بيت احد الرعاة، أو العبيد، وهي تصيح لصاحبة البيت باسمها:
مرجانة.. مرجانة..
جاءها الصوت من داخل البيت:
نعم (أمة) ـ تقصد عمة ـ لصعوبة لفظ حرف (العين) من الاعاجم، وجاءت تركض، يتبعها من كان في البيت، وآخرون من بيوت الرعاة أو الخدم والعبيد المجاورة..
سألتهم نخوة عن امها..
قال الجميع.. وخاصة العبدات اللائي كن مع من حضر:
أمة (عمة)، أمتي (عمتي) كانت في البيت، وقد صرفتنا.. قائلة لنا انها لا تريدنا في البيت، لأن هناك من سيحضر اليها.. ولأن بيوتنا خلف البيت لم نعرف من جاءها..
همت احداهن بأن تقول:
قد يكون (أمي) عمي حسقيل.. ولكنها كتمتها عندما حدجتها (رمقتها) عجوز بنظرة تعني ان لا تقولي، أو لا معنى لقولك، لأنه يحرج نخوة.. فبلعت كلمتها، وقد فهمت نخوة ذلك.
قالت نخوة:
لتذهب فلانة الى بيت عمنا فلان، اذ قد تكون امي عندهم.. وفلانة الى بيت فلان، وانتن يا بنات اعدن الفراش الساقط على الارض الى حيث كان، وانتم يا رجال، ارفعوا عمود البيت الوسط، واعيدوه الى حيث كان..
بينما كان الرجال والنساء يتعاونون كل لانجاز واجبه، ويسندون صهوة بيت الشعر برؤوسهم وايديهم، في الوقت الذي راحت النساء يعدن الفراش (الساقط) الذي كان عبارة عن عدد من البسط والسجاجيد والالحف والشفوف، الى حيث موضعه، صاحت احدى العبدات:
لا.. لا.. لا.. (أمة)..
قال ذلك وهو يتبسم، وينظر بتمعن في وجه نخوة.
قالت نخوة:
ـ حماكم الله، وأمدكم بالقدرة، فمنه التوفيق، وبه سبحانه نستعين..
ردد الجميع:
ـ آمين..
عاد أبو سالم إلى البيت، وبعد ان قبّل سالم على رقبته ووجهه، وفعل سالم لأبيه ما فعله أبوه له، قالت أم سالم لابنتها:
ـ جهزي العشاء.
قالت نخوة:
ـ سأغادر.. لقد تأخرت، يا عمة، لو سمحتم.
قالت أم سالم، يردفها أبو سالم بنفس الاتجاه:
ـ كيف، يا ابنتي!، حقك ذبيحة.. لكنك تأتين مستعجلة دائماً.
أجابتها:
ـ لا اعتقد أنني بحاجة لاختبركم، يا عمة، كرم أبي سالم معروف، وقد صرنا بيتاً واحداً إلا ما حرّم الله.
ـ نعم ـ أجاب أبو سالم ـ ولله الحمد، لكن هذه المرة لا بد أن تمالحينا.. والعشاء جاهز، يا ابنتي، حليب وخبز وفوقهما زبدة ضأن.. ولا بد أن تكون اختك ـ ويقصد أخت سالم ـ قد هيأته الآن.. كلي معنا ولو لقمة واحدة، واذهبي راشدة سالمة.
بقيت نخوة نزولاً عند رغبته، وعادت وجلست بعد أن كانت قد هبت واقفة عندما استأذنت..
احضر العشاء.. ومدّ أبو سالم يده وهو يقول:
ـ بسم الله.
سمى الجميع باسم الله، وأكلوا.. وبعد أن أكملوا العشاء قالوا:
ـ الحمد لله ربّ العالمين.
عندما سألت أم نخوة ابنتها قبل أن تخرج لملاقاة سالم في بيت أبيه: هل تذهبين إلى بيت سالم؟، بات واضحاً لدى نخوة أن أمها كانت تفضل ان لا تكون نخوة في البيت مع أمها مساء ذلك اليوم.. وان هذه الرغبة لم تتولد لدى أمها إلا لأنها أرادت أن تلتقي حسقيل.. ومع ذلك لم تسأل أمها عن شيء من هذا القبيل، وعندما دخلت بيتها جذلى، بعد أن جاءت من بيت أبي سالم، صاحت:
أماه.. أماه..
ولكن احداً لم يجبها، ولاحظت ان العمود الاوسط الفاصل بين مكان الرجال والنساء في بيت الشعر سقط، وان الفراش الذي يوضع عادة حيث مكان العمود ليفصل هو الآخر بين المكانين، ويكون حاجبا للناظر من أي من المقطعين الى المقطع الآخر، بما يضمن قدرا من الحرية للنساء، وهن في موقعهن الذي ان جلسن به مع وجود رجال في المقطع الآخر، غالبا ما تتكلم كل منهن همسا، أو يتفاهمن بالاشارات..
لاحظت نخوة ان عمود وسط البيت والفراش سقطا على الارض، وعندما رأت الحال في بيت الشعر على هذه الصورة، خفت عائدة الى بيت احد الرعاة، أو العبيد، وهي تصيح لصاحبة البيت باسمها:
مرجانة.. مرجانة..
جاءها الصوت من داخل البيت:
نعم (أمة) ـ تقصد عمة ـ لصعوبة لفظ حرف (العين) من الاعاجم، وجاءت تركض، يتبعها من كان في البيت، وآخرون من بيوت الرعاة أو الخدم والعبيد المجاورة..
سألتهم نخوة عن امها..
قال الجميع.. وخاصة العبدات اللائي كن مع من حضر:
أمة (عمة)، أمتي (عمتي) كانت في البيت، وقد صرفتنا.. قائلة لنا انها لا تريدنا في البيت، لأن هناك من سيحضر اليها.. ولأن بيوتنا خلف البيت لم نعرف من جاءها..
همت احداهن بأن تقول:
قد يكون (أمي) عمي حسقيل.. ولكنها كتمتها عندما حدجتها (رمقتها) عجوز بنظرة تعني ان لا تقولي، أو لا معنى لقولك، لأنه يحرج نخوة.. فبلعت كلمتها، وقد فهمت نخوة ذلك.
قالت نخوة:
لتذهب فلانة الى بيت عمنا فلان، اذ قد تكون امي عندهم.. وفلانة الى بيت فلان، وانتن يا بنات اعدن الفراش الساقط على الارض الى حيث كان، وانتم يا رجال، ارفعوا عمود البيت الوسط، واعيدوه الى حيث كان..
بينما كان الرجال والنساء يتعاونون كل لانجاز واجبه، ويسندون صهوة بيت الشعر برؤوسهم وايديهم، في الوقت الذي راحت النساء يعدن الفراش (الساقط) الذي كان عبارة عن عدد من البسط والسجاجيد والالحف والشفوف، الى حيث موضعه، صاحت احدى العبدات:
لا.. لا.. لا.. (أمة)..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
وفي الوقت الذي اعادوا قسما من الفراش الى موضعه، ليستخرجوا العمود الاوسط من تحته، فيما بقي الرجال يسندون البيت برؤوسهم وايديهم، رافعين سقفه (شققه) الى الاعلى، تجمعت النسوة، ومنهن نخوة الى حيث اشارت العبدة، وبعد ان ازاحوا الفراش بأن قدمي امرأة ظهر انهما قدما ام نخوة، ووجدوا ان العمود الوسط سقط فوق رأسها، وبدا وكأنه سقط عليها بفعل ميل الفراش خلفه، مما تسبب في دفعه ناحيتها، وبميلانه سقط على رأسها وفوقه الفراش، وحطم رأسها، أو هكذا ظهر لمن اعان نخوة على اخلاء الجثة، وهكذا ايضا فسر الجميع الحادث، الا نخوة فقد خمنت كل شيء، كأنها قد عرفته، واسرته في نفسها، ولم تقل لأحد تفسيرها، وابقت تفسير من حضروا معها هو التفسير السائد في العشيرة.
بكت نخوة أمها بكاء مرا حزينا، ليس لأنها ماتت، بل لأنها صحت على نفسها في أواخر ايامها في الحياة.. وتمردت على حسقيل، وبكتها لأن حسقيل غدر بهما، وما كان يفعل ذلك لو لم تجعله أمها يتجرأ عليهما بسبب ضعفها، وبعد ان طمع في ضعفها، ولو كان هناك رجال تعتمدان عليهم في البيت لما جرؤ حسقيل على ان يفعل ذلك..
ـ يا حسرتي على الرجال الشجعان الذين يلوون شارب حسقيل الخاسئ هو وحليفه كلب الروم: شيخ قبيلة الروم، ولكنها استدركت لتقول:
ـ ولكن سالم ورجاله.. رجالنا.. يتأهبون لينقضوا عليه.. وسوف يفعلون وسوف نسندهم نحن الماجدات في هذه القبيلة بما يعز اهلنا..
عندما قالت نخوة الجملة الاخيرة، بدت كأنها افاقت من تابوت حزنها، بل كأنها بهذه الجملة فتحت على نفسها كوة (نافذة) في جدار الحزن، ورأت فيه الصورة الأخرى، فعادت تقول:
ـ ولكن حسقيل، بارتكابه هذه الجريمة، اضاف الى ذنوبه ذنبا جديدا.. سيكون حسابه عليها حسابا شديدا، وقد اعطاني فرصة ان اعذبه، باسم الله، عذابا شديدا..
قالت ذلك كأنها وصفت صورة تصرفها اللاحق، ووضعتها امام ناظريها كمشروع أو دليل عمل لها، حتى استقرت عليه، بعد ان رسمها خيالها في عقلها، ثم عادت لتقول:
ـ وفي الوقت نفسه، غسلت امي، امام الله، جزءا من ذنوبها وعارها، وما ادراني وهو الغفور الرحيم، انه قد يغفر لها كل ذنوبها، بعد ان قتلت ظلما بيد حسقيل، وبعد ان تابت ووقفت بوجهه، وطالبته بأن ينفذ وعده بما يرضي الله لو حصل الزواج.. ولكن أتراه قام بهذا بعد ان همت أمي بأن تضربه بفأس أو خنجر مثلما كانت قد أعلمتني من قبل، وثنيتها عنه؟ أم انه قام بهذا ليتخلص منها انسياقا خلف خطته الشريرة لينال مني..؟ أم انه قام بهذا ليتخلص من وعده الزواج منها..!؟
ثم تواصل مناجاتها لنفسها:
ـ ليس المهم الزواج.. وانما المهم انها وقفت في الاشهر الاخيرة بوجهه، ولم تعد تطاوعه، وصارت تجادله، بل ترفض طلباته غير المشروعة بإباء، والرفض بداية التمرد وطريقه، ووسيلته الاساس للتغيير، ولكن الملعون قتلها.. والحمد لله، انه قتلها.. لقد اخذ الله الروح التي لا تعز وابقى الارواح التي تعز.. بقينا نحن.. انا وسالم واخت سالم، وشباب وشابات القبيلة الاطهار، وسوف نواصل طريقنا الى حيث ينبغي ان نخلص القبيلة من تحالف الروم مع حسقيل فينزاح الهم الكبير.. وانا لله وانا اليه راجعون.. وليرحمك الله، يا اماه..
قالت نخوة كل ذلك، بعد ان غطت امها بملاءة وهي ممدة على سجادة، وكان كتفاها ملطخين بدمها النازف من رأسها ومن انفها، وبعد ان تحسست نخوة مكان الضربة، وجدت انها ضربة فأس، وليست ضربة عمود، لكنها كتمت ذلك.. وعندما راحت تبحث عن الفأس وجدتها مرمية على مقربة من البيت وفيها اثار دم واضحة.. وقد انتحت جانبا برجلين من الخدم كانت تعتمد على كتمانهما السر، بالاضافة الى انهما، وفق ما عرفت من سالم، من بين رجاله الذين يعتمد عليهم، وكان يكلفهما بتسقط اخبار حسقيل، عندما يزور امها في البيت.. بالاضافة الى ابن عم لها تعرفه من رجال سالم ايضا.. وبعد ان اطلعتهم على الفأس والدم الذي يغطيها، قال احدهم ان هذا يعني ان الشيخة قتلت بفأس، وليس بسبب سقوط العمود الاوسط في البيت.. وأيده الآخرون..
قالت نخوة:
ـ نعم، هذا هو التفسير الصحيح.. ولكن علينا ان نكتم هذا الاستنتاج الى حين.. اقول لكم هذا، لانني اثق بكم ولأنكم من رجال سالم، بالاضافة الى انكم من الشباب المخلصين في قبيلتنا، لأن كشف هذا السر الآن يضر بحركتنا.. قالت لهم (يضر بحركتنا) بعد ان كشفت لهم انها تعرف ارتباطهم بسالم، كما انهم كانوا اصلا يعرفون انها تنشط بين صفوف النساء، أو يعرفون موقفها من حسقيل، بعد ان رفضت ان تدبك معه في تلك الليلة الشهيرة، واختارت ان تدبك مع ذاك الملثم..
عندما قالت لهم نخوة: اكتموا هذا واحفظوا الفأس في كيس الى يوم آخر.. استنتجوا ان نخوة تقصد حسقيل لا غيره..
ـ فمن يمكن ان يقوم بذلك غير حسقيل الغادر؟ هكذا قالوا في انفسهم.. قال ابن العم غير المباشر لنخوة:
ـ ربما كلف حسقيل من هو طوع بنانه من الخدم أو العبيد بأن يفعل ذلك ثم يتساءل في نفسه ايضا:
ـ ولكن لماذا؟ ومن هو؟ الا يعتبر خطرا على حياة نخوة؟ لماذا لا انبه نخوة الى ذلك؟..
ثم ينثني ليقول:
ـ اننا امام تدبير محنك هذا الذي تقوم به نخوة، وتتحمله اعصابها، وهي على هذا لا بد ان تكون حسبت لكل شيء حسابه، خاصة بعد ان تمرست على ما يبدو، في العمل السري، وهي تعمل ضد حسقيل وحلفه البغيض وجماعة الشيوخ المنحرفين معهما..
ثم يعود ليقول:
ـ وماذا يضر لو نبهتها لذلك؟..
ثم يطلب من نخوة ان يقول لها كلاما بينه وبينها بعد ان استأذن الرجلين الآخرين..
شكرته نخوة، وقالت:
ـ اطمئن.. سأتصرف..
وسكت لأنها أكبر سنا منه..
بكت نخوة أمها بكاء مرا حزينا، ليس لأنها ماتت، بل لأنها صحت على نفسها في أواخر ايامها في الحياة.. وتمردت على حسقيل، وبكتها لأن حسقيل غدر بهما، وما كان يفعل ذلك لو لم تجعله أمها يتجرأ عليهما بسبب ضعفها، وبعد ان طمع في ضعفها، ولو كان هناك رجال تعتمدان عليهم في البيت لما جرؤ حسقيل على ان يفعل ذلك..
ـ يا حسرتي على الرجال الشجعان الذين يلوون شارب حسقيل الخاسئ هو وحليفه كلب الروم: شيخ قبيلة الروم، ولكنها استدركت لتقول:
ـ ولكن سالم ورجاله.. رجالنا.. يتأهبون لينقضوا عليه.. وسوف يفعلون وسوف نسندهم نحن الماجدات في هذه القبيلة بما يعز اهلنا..
عندما قالت نخوة الجملة الاخيرة، بدت كأنها افاقت من تابوت حزنها، بل كأنها بهذه الجملة فتحت على نفسها كوة (نافذة) في جدار الحزن، ورأت فيه الصورة الأخرى، فعادت تقول:
ـ ولكن حسقيل، بارتكابه هذه الجريمة، اضاف الى ذنوبه ذنبا جديدا.. سيكون حسابه عليها حسابا شديدا، وقد اعطاني فرصة ان اعذبه، باسم الله، عذابا شديدا..
قالت ذلك كأنها وصفت صورة تصرفها اللاحق، ووضعتها امام ناظريها كمشروع أو دليل عمل لها، حتى استقرت عليه، بعد ان رسمها خيالها في عقلها، ثم عادت لتقول:
ـ وفي الوقت نفسه، غسلت امي، امام الله، جزءا من ذنوبها وعارها، وما ادراني وهو الغفور الرحيم، انه قد يغفر لها كل ذنوبها، بعد ان قتلت ظلما بيد حسقيل، وبعد ان تابت ووقفت بوجهه، وطالبته بأن ينفذ وعده بما يرضي الله لو حصل الزواج.. ولكن أتراه قام بهذا بعد ان همت أمي بأن تضربه بفأس أو خنجر مثلما كانت قد أعلمتني من قبل، وثنيتها عنه؟ أم انه قام بهذا ليتخلص منها انسياقا خلف خطته الشريرة لينال مني..؟ أم انه قام بهذا ليتخلص من وعده الزواج منها..!؟
ثم تواصل مناجاتها لنفسها:
ـ ليس المهم الزواج.. وانما المهم انها وقفت في الاشهر الاخيرة بوجهه، ولم تعد تطاوعه، وصارت تجادله، بل ترفض طلباته غير المشروعة بإباء، والرفض بداية التمرد وطريقه، ووسيلته الاساس للتغيير، ولكن الملعون قتلها.. والحمد لله، انه قتلها.. لقد اخذ الله الروح التي لا تعز وابقى الارواح التي تعز.. بقينا نحن.. انا وسالم واخت سالم، وشباب وشابات القبيلة الاطهار، وسوف نواصل طريقنا الى حيث ينبغي ان نخلص القبيلة من تحالف الروم مع حسقيل فينزاح الهم الكبير.. وانا لله وانا اليه راجعون.. وليرحمك الله، يا اماه..
قالت نخوة كل ذلك، بعد ان غطت امها بملاءة وهي ممدة على سجادة، وكان كتفاها ملطخين بدمها النازف من رأسها ومن انفها، وبعد ان تحسست نخوة مكان الضربة، وجدت انها ضربة فأس، وليست ضربة عمود، لكنها كتمت ذلك.. وعندما راحت تبحث عن الفأس وجدتها مرمية على مقربة من البيت وفيها اثار دم واضحة.. وقد انتحت جانبا برجلين من الخدم كانت تعتمد على كتمانهما السر، بالاضافة الى انهما، وفق ما عرفت من سالم، من بين رجاله الذين يعتمد عليهم، وكان يكلفهما بتسقط اخبار حسقيل، عندما يزور امها في البيت.. بالاضافة الى ابن عم لها تعرفه من رجال سالم ايضا.. وبعد ان اطلعتهم على الفأس والدم الذي يغطيها، قال احدهم ان هذا يعني ان الشيخة قتلت بفأس، وليس بسبب سقوط العمود الاوسط في البيت.. وأيده الآخرون..
قالت نخوة:
ـ نعم، هذا هو التفسير الصحيح.. ولكن علينا ان نكتم هذا الاستنتاج الى حين.. اقول لكم هذا، لانني اثق بكم ولأنكم من رجال سالم، بالاضافة الى انكم من الشباب المخلصين في قبيلتنا، لأن كشف هذا السر الآن يضر بحركتنا.. قالت لهم (يضر بحركتنا) بعد ان كشفت لهم انها تعرف ارتباطهم بسالم، كما انهم كانوا اصلا يعرفون انها تنشط بين صفوف النساء، أو يعرفون موقفها من حسقيل، بعد ان رفضت ان تدبك معه في تلك الليلة الشهيرة، واختارت ان تدبك مع ذاك الملثم..
عندما قالت لهم نخوة: اكتموا هذا واحفظوا الفأس في كيس الى يوم آخر.. استنتجوا ان نخوة تقصد حسقيل لا غيره..
ـ فمن يمكن ان يقوم بذلك غير حسقيل الغادر؟ هكذا قالوا في انفسهم.. قال ابن العم غير المباشر لنخوة:
ـ ربما كلف حسقيل من هو طوع بنانه من الخدم أو العبيد بأن يفعل ذلك ثم يتساءل في نفسه ايضا:
ـ ولكن لماذا؟ ومن هو؟ الا يعتبر خطرا على حياة نخوة؟ لماذا لا انبه نخوة الى ذلك؟..
ثم ينثني ليقول:
ـ اننا امام تدبير محنك هذا الذي تقوم به نخوة، وتتحمله اعصابها، وهي على هذا لا بد ان تكون حسبت لكل شيء حسابه، خاصة بعد ان تمرست على ما يبدو، في العمل السري، وهي تعمل ضد حسقيل وحلفه البغيض وجماعة الشيوخ المنحرفين معهما..
ثم يعود ليقول:
ـ وماذا يضر لو نبهتها لذلك؟..
ثم يطلب من نخوة ان يقول لها كلاما بينه وبينها بعد ان استأذن الرجلين الآخرين..
شكرته نخوة، وقالت:
ـ اطمئن.. سأتصرف..
وسكت لأنها أكبر سنا منه..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
في الحلقات السابقة، دارت حوارات بين الجد الشيخ ابراهيم واحفاده الثلاثة حسقيل ويوسف ومحمود حول مفهوم الثروة، واوضح كل منهم ما الذي يعنيه له. وتنكشف خلال ذلك أطماع حسقيل في التفرد بالثروة، ورغبته في الانفصال بما يملكه مما ادى الى نبذه من الجميع. ثم يوزع الشيخ ابراهيم "البلاد" على حفيديه محمود ويوسف، داعيا اياهما الى الابتعاد عن فتن الاجنبي. اما حسقيل فقد استقر في قبيلة مناوئة. ويسلط الروائي الاضواء على السلوك المشين الذي يتبعه حسقيل لدى القبيلة التي لجأ اليها وهي عشيرة المضطرة. ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة وافراد عائلته بهدف السيطرة عليهم وعلى ثرواتهم عن طريق المصاهرة، وعن طريق "مشروعات" تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل ... عندما سألت أم نخوة ابنتها قبل أن تخرج لملاقاة سالم في بيت أبيه: هل تذهبين إلى بيت سالم؟، بات واضحاً لدى نخوة أن أمها كانت تفضل ان لا تكون نخوة في البيت مع أمها مساء ذلك اليوم.. وان هذه الرغبة لم تتولد لدى أمها إلا لأنها أرادت أن تلتقي حسقيل.. ومع ذلك لم تسأل أمها عن شيء من هذا القبيل، وعندما دخلت بيتها جذلى، بعد أن جاءت من بيت أبي سالم، صاحت:
أماه.. أماه..
ولكن احداً لم يجبها، ولاحظت ان العمود الاوسط الفاصل بين مكان الرجال والنساء في بيت الشعر سقط، وان الفراش الذي يوضع عادة حيث مكان العمود ليفصل هو الآخر بين المكانين، ويكون حاجبا للناظر من أي من المقطعين الى المقطع الآخر، بما يضمن قدرا من الحرية للنساء، وهن في موقعهن الذي ان جلسن به مع وجود رجال في المقطع الآخر، غالبا ما تتكلم كل منهن همسا، أو يتفاهمن بالاشارات..
لاحظت نخوة ان عمود وسط البيت والفراش سقطا على الارض، وعندما رأت الحال في بيت الشعر على هذه الصورة، خفت عائدة الى بيت احد الرعاة، أو العبيد، وهي تصيح لصاحبة البيت باسمها:
مرجانة.. مرجانة..
جاءها الصوت من داخل البيت:
نعم (أمة) ـ تقصد عمة ـ لصعوبة لفظ حرف (العين) من الاعاجم، وجاءت تركض، يتبعها من كان في البيت، وآخرون من بيوت الرعاة أو الخدم والعبيد المجاورة..
سألتهم نخوة عن امها..
قال الجميع.. وخاصة العبدات اللائي كن مع من حضر:
أمة (عمة)، أمتي (عمتي) كانت في البيت، وقد صرفتنا.. قائلة لنا انها لا تريدنا في البيت، لأن هناك من سيحضر اليها.. ولأن بيوتنا خلف البيت لم نعرف من جاءها..
همت احداهن بأن تقول:
قد يكون (أمي) عمي حسقيل.. ولكنها كتمتها عندما حدجتها (رمقتها) عجوز بنظرة تعني ان لا تقولي، أو لا معنى لقولك، لأنه يحرج نخوة.. فبلعت كلمتها، وقد فهمت نخوة ذلك.
قالت نخوة:
لتذهب فلانة الى بيت عمنا فلان، اذ قد تكون امي عندهم.. وفلانة الى بيت فلان، وانتن يا بنات اعدن الفراش الساقط على الارض الى حيث كان، وانتم يا رجال، ارفعوا عمود البيت الوسط، واعيدوه الى حيث كان..
بينما كان الرجال والنساء يتعاونون كل لانجاز واجبه، ويسندون صهوة بيت الشعر برؤوسهم وايديهم، في الوقت الذي راحت النساء يعدن الفراش (الساقط) الذي كان عبارة عن عدد من البسط والسجاجيد والالحف والشفوف، الى حيث موضعه، صاحت احدى العبدات:
لا.. لا.. لا.. (أمة)..
وفي الوقت الذي اعادوا قسما من الفراش الى موضعه، ليستخرجوا العمود الاوسط من تحته، فيما بقي الرجال يسندون البيت برؤوسهم وايديهم، رافعين سقفه (شققه) الى الاعلى، تجمعت النسوة، ومنهن نخوة الى حيث اشارت العبدة، وبعد ان ازاحوا الفراش بأن قدمي امرأة ظهر انهما قدما ام نخوة، ووجدوا ان العمود الوسط سقط فوق رأسها، وبدا وكأنه سقط عليها بفعل ميل الفراش خلفه، مما تسبب في دفعه ناحيتها، وبميلانه سقط على رأسها وفوقه الفراش، وحطم رأسها، أو هكذا ظهر لمن اعان نخوة على اخلاء الجثة، وهكذا ايضا فسر الجميع الحادث، الا نخوة فقد خمنت كل شيء، كأنها قد عرفته، واسرته في نفسها، ولم تقل لأحد تفسيرها، وابقت تفسير من حضروا معها هو التفسير السائد في العشيرة.
بكت نخوة أمها بكاء مرا حزينا، ليس لأنها ماتت، بل لأنها صحت على نفسها في أواخر ايامها في الحياة.. وتمردت على حسقيل، وبكتها لأن حسقيل غدر بهما، وما كان يفعل ذلك لو لم تجعله أمها يتجرأ عليهما بسبب ضعفها، وبعد ان طمع في ضعفها، ولو كان هناك رجال تعتمدان عليهم في البيت لما جرؤ حسقيل على ان يفعل ذلك..
ـ يا حسرتي على الرجال الشجعان الذين يلوون شارب حسقيل الخاسئ هو وحليفه كلب الروم: شيخ قبيلة الروم، ولكنها استدركت لتقول:
ـ ولكن سالم ورجاله.. رجالنا.. يتأهبون لينقضوا عليه.. وسوف يفعلون وسوف نسندهم نحن الماجدات في هذه القبيلة بما يعز اهلنا..
عندما قالت نخوة الجملة الاخيرة، بدت كأنها افاقت من تابوت حزنها، بل كأنها بهذه الجملة فتحت على نفسها كوة (نافذة) في جدار الحزن، ورأت فيه الصورة الأخرى، فعادت تقول:
ـ ولكن حسقيل، بارتكابه هذه الجريمة، اضاف الى ذنوبه ذنبا جديدا.. سيكون حسابه عليها حسابا شديدا، وقد اعطاني فرصة ان اعذبه، باسم الله، عذابا شديدا..
قالت ذلك كأنها وصفت صورة تصرفها اللاحق، ووضعتها امام ناظريها كمشروع أو دليل عمل لها، حتى استقرت عليه، بعد ان رسمها خيالها في عقلها، ثم عادت لتقول:
ـ وفي الوقت نفسه، غسلت امي، امام الله، جزءا من ذنوبها وعارها، وما ادراني وهو الغفور الرحيم، انه قد يغفر لها كل ذنوبها، بعد ان قتلت ظلما بيد حسقيل، وبعد ان تابت ووقفت بوجهه، وطالبته بأن ينفذ وعده بما يرضي الله لو حصل الزواج.. ولكن أتراه قام بهذا بعد ان همت أمي بأن تضربه بفأس أو خنجر مثلما كانت قد أعلمتني من قبل، وثنيتها عنه؟ أم انه قام بهذا ليتخلص منها انسياقا خلف خطته الشريرة لينال مني..؟ أم انه قام بهذا ليتخلص من وعده الزواج منها..!؟
ثم تواصل مناجاتها لنفسها:
ـ ليس المهم الزواج.. وانما المهم انها وقفت في الاشهر الاخيرة بوجهه، ولم تعد تطاوعه، وصارت تجادله، بل ترفض طلباته غير المشروعة بإباء، والرفض بداية التمرد وطريقه، ووسيلته الاساس للتغيير، ولكن الملعون قتلها.. والحمد لله، انه قتلها.. لقد اخذ الله الروح التي لا تعز وابقى الارواح التي تعز.. بقينا نحن.. انا وسالم واخت سالم، وشباب وشابات القبيلة الاطهار، وسوف نواصل طريقنا الى حيث ينبغي ان نخلص القبيلة من تحالف الروم مع حسقيل فينزاح الهم الكبير.. وانا لله وانا اليه راجعون.. وليرحمك الله، يا اماه..
قالت نخوة كل ذلك، بعد ان غطت امها بملاءة وهي ممدة على سجادة، وكان كتفاها ملطخين بدمها النازف من رأسها ومن انفها، وبعد ان تحسست نخوة مكان الضربة، وجدت انها ضربة فأس، وليست ضربة عمود، لكنها كتمت ذلك.. وعندما راحت تبحث عن الفأس وجدتها مرمية على مقربة من البيت وفيها اثار دم واضحة.. وقد انتحت جانبا برجلين من الخدم كانت تعتمد على كتمانهما السر، بالاضافة الى انهما، وفق ما عرفت من سالم، من بين رجاله الذين يعتمد عليهم، وكان يكلفهما بتسقط اخبار حسقيل، عندما يزور امها في البيت.. بالاضافة الى ابن عم لها تعرفه من رجال سالم ايضا.. وبعد ان اطلعتهم على الفأس والدم الذي يغطيها، قال احدهم ان هذا يعني ان الشيخة قتلت بفأس، وليس بسبب سقوط العمود الاوسط في البيت.. وأيده الآخرون..
أماه.. أماه..
ولكن احداً لم يجبها، ولاحظت ان العمود الاوسط الفاصل بين مكان الرجال والنساء في بيت الشعر سقط، وان الفراش الذي يوضع عادة حيث مكان العمود ليفصل هو الآخر بين المكانين، ويكون حاجبا للناظر من أي من المقطعين الى المقطع الآخر، بما يضمن قدرا من الحرية للنساء، وهن في موقعهن الذي ان جلسن به مع وجود رجال في المقطع الآخر، غالبا ما تتكلم كل منهن همسا، أو يتفاهمن بالاشارات..
لاحظت نخوة ان عمود وسط البيت والفراش سقطا على الارض، وعندما رأت الحال في بيت الشعر على هذه الصورة، خفت عائدة الى بيت احد الرعاة، أو العبيد، وهي تصيح لصاحبة البيت باسمها:
مرجانة.. مرجانة..
جاءها الصوت من داخل البيت:
نعم (أمة) ـ تقصد عمة ـ لصعوبة لفظ حرف (العين) من الاعاجم، وجاءت تركض، يتبعها من كان في البيت، وآخرون من بيوت الرعاة أو الخدم والعبيد المجاورة..
سألتهم نخوة عن امها..
قال الجميع.. وخاصة العبدات اللائي كن مع من حضر:
أمة (عمة)، أمتي (عمتي) كانت في البيت، وقد صرفتنا.. قائلة لنا انها لا تريدنا في البيت، لأن هناك من سيحضر اليها.. ولأن بيوتنا خلف البيت لم نعرف من جاءها..
همت احداهن بأن تقول:
قد يكون (أمي) عمي حسقيل.. ولكنها كتمتها عندما حدجتها (رمقتها) عجوز بنظرة تعني ان لا تقولي، أو لا معنى لقولك، لأنه يحرج نخوة.. فبلعت كلمتها، وقد فهمت نخوة ذلك.
قالت نخوة:
لتذهب فلانة الى بيت عمنا فلان، اذ قد تكون امي عندهم.. وفلانة الى بيت فلان، وانتن يا بنات اعدن الفراش الساقط على الارض الى حيث كان، وانتم يا رجال، ارفعوا عمود البيت الوسط، واعيدوه الى حيث كان..
بينما كان الرجال والنساء يتعاونون كل لانجاز واجبه، ويسندون صهوة بيت الشعر برؤوسهم وايديهم، في الوقت الذي راحت النساء يعدن الفراش (الساقط) الذي كان عبارة عن عدد من البسط والسجاجيد والالحف والشفوف، الى حيث موضعه، صاحت احدى العبدات:
لا.. لا.. لا.. (أمة)..
وفي الوقت الذي اعادوا قسما من الفراش الى موضعه، ليستخرجوا العمود الاوسط من تحته، فيما بقي الرجال يسندون البيت برؤوسهم وايديهم، رافعين سقفه (شققه) الى الاعلى، تجمعت النسوة، ومنهن نخوة الى حيث اشارت العبدة، وبعد ان ازاحوا الفراش بأن قدمي امرأة ظهر انهما قدما ام نخوة، ووجدوا ان العمود الوسط سقط فوق رأسها، وبدا وكأنه سقط عليها بفعل ميل الفراش خلفه، مما تسبب في دفعه ناحيتها، وبميلانه سقط على رأسها وفوقه الفراش، وحطم رأسها، أو هكذا ظهر لمن اعان نخوة على اخلاء الجثة، وهكذا ايضا فسر الجميع الحادث، الا نخوة فقد خمنت كل شيء، كأنها قد عرفته، واسرته في نفسها، ولم تقل لأحد تفسيرها، وابقت تفسير من حضروا معها هو التفسير السائد في العشيرة.
بكت نخوة أمها بكاء مرا حزينا، ليس لأنها ماتت، بل لأنها صحت على نفسها في أواخر ايامها في الحياة.. وتمردت على حسقيل، وبكتها لأن حسقيل غدر بهما، وما كان يفعل ذلك لو لم تجعله أمها يتجرأ عليهما بسبب ضعفها، وبعد ان طمع في ضعفها، ولو كان هناك رجال تعتمدان عليهم في البيت لما جرؤ حسقيل على ان يفعل ذلك..
ـ يا حسرتي على الرجال الشجعان الذين يلوون شارب حسقيل الخاسئ هو وحليفه كلب الروم: شيخ قبيلة الروم، ولكنها استدركت لتقول:
ـ ولكن سالم ورجاله.. رجالنا.. يتأهبون لينقضوا عليه.. وسوف يفعلون وسوف نسندهم نحن الماجدات في هذه القبيلة بما يعز اهلنا..
عندما قالت نخوة الجملة الاخيرة، بدت كأنها افاقت من تابوت حزنها، بل كأنها بهذه الجملة فتحت على نفسها كوة (نافذة) في جدار الحزن، ورأت فيه الصورة الأخرى، فعادت تقول:
ـ ولكن حسقيل، بارتكابه هذه الجريمة، اضاف الى ذنوبه ذنبا جديدا.. سيكون حسابه عليها حسابا شديدا، وقد اعطاني فرصة ان اعذبه، باسم الله، عذابا شديدا..
قالت ذلك كأنها وصفت صورة تصرفها اللاحق، ووضعتها امام ناظريها كمشروع أو دليل عمل لها، حتى استقرت عليه، بعد ان رسمها خيالها في عقلها، ثم عادت لتقول:
ـ وفي الوقت نفسه، غسلت امي، امام الله، جزءا من ذنوبها وعارها، وما ادراني وهو الغفور الرحيم، انه قد يغفر لها كل ذنوبها، بعد ان قتلت ظلما بيد حسقيل، وبعد ان تابت ووقفت بوجهه، وطالبته بأن ينفذ وعده بما يرضي الله لو حصل الزواج.. ولكن أتراه قام بهذا بعد ان همت أمي بأن تضربه بفأس أو خنجر مثلما كانت قد أعلمتني من قبل، وثنيتها عنه؟ أم انه قام بهذا ليتخلص منها انسياقا خلف خطته الشريرة لينال مني..؟ أم انه قام بهذا ليتخلص من وعده الزواج منها..!؟
ثم تواصل مناجاتها لنفسها:
ـ ليس المهم الزواج.. وانما المهم انها وقفت في الاشهر الاخيرة بوجهه، ولم تعد تطاوعه، وصارت تجادله، بل ترفض طلباته غير المشروعة بإباء، والرفض بداية التمرد وطريقه، ووسيلته الاساس للتغيير، ولكن الملعون قتلها.. والحمد لله، انه قتلها.. لقد اخذ الله الروح التي لا تعز وابقى الارواح التي تعز.. بقينا نحن.. انا وسالم واخت سالم، وشباب وشابات القبيلة الاطهار، وسوف نواصل طريقنا الى حيث ينبغي ان نخلص القبيلة من تحالف الروم مع حسقيل فينزاح الهم الكبير.. وانا لله وانا اليه راجعون.. وليرحمك الله، يا اماه..
قالت نخوة كل ذلك، بعد ان غطت امها بملاءة وهي ممدة على سجادة، وكان كتفاها ملطخين بدمها النازف من رأسها ومن انفها، وبعد ان تحسست نخوة مكان الضربة، وجدت انها ضربة فأس، وليست ضربة عمود، لكنها كتمت ذلك.. وعندما راحت تبحث عن الفأس وجدتها مرمية على مقربة من البيت وفيها اثار دم واضحة.. وقد انتحت جانبا برجلين من الخدم كانت تعتمد على كتمانهما السر، بالاضافة الى انهما، وفق ما عرفت من سالم، من بين رجاله الذين يعتمد عليهم، وكان يكلفهما بتسقط اخبار حسقيل، عندما يزور امها في البيت.. بالاضافة الى ابن عم لها تعرفه من رجال سالم ايضا.. وبعد ان اطلعتهم على الفأس والدم الذي يغطيها، قال احدهم ان هذا يعني ان الشيخة قتلت بفأس، وليس بسبب سقوط العمود الاوسط في البيت.. وأيده الآخرون..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
قالت نخوة:
ـ نعم، هذا هو التفسير الصحيح.. ولكن علينا ان نكتم هذا الاستنتاج الى حين.. اقول لكم هذا، لانني اثق بكم ولأنكم من رجال سالم، بالاضافة الى انكم من الشباب المخلصين في قبيلتنا، لأن كشف هذا السر الآن يضر بحركتنا.. قالت لهم (يضر بحركتنا) بعد ان كشفت لهم انها تعرف ارتباطهم بسالم، كما انهم كانوا اصلا يعرفون انها تنشط بين صفوف النساء، أو يعرفون موقفها من حسقيل، بعد ان رفضت ان تدبك معه في تلك الليلة الشهيرة، واختارت ان تدبك مع ذاك الملثم..
عندما قالت لهم نخوة: اكتموا هذا واحفظوا الفأس في كيس الى يوم آخر.. استنتجوا ان نخوة تقصد حسقيل لا غيره..
ـ فمن يمكن ان يقوم بذلك غير حسقيل الغادر؟ هكذا قالوا في انفسهم..
قال ابن العم غير المباشر لنخوة:
ـ ربما كلف حسقيل من هو طوع بنانه من الخدم أو العبيد بأن يفعل ذلك ثم يتساءل في نفسه ايضا:
ـ ولكن لماذا؟ ومن هو؟ الا يعتبر خطرا على حياة نخوة؟ لماذا لا انبه نخوة الى ذلك؟..
ثم ينثني ليقول:
ـ اننا امام تدبير محنك هذا الذي تقوم به نخوة، وتتحمله اعصابها، وهي على هذا لا بد ان تكون حسبت لكل شيء حسابه، خاصة بعد ان تمرست على ما يبدو، في العمل السري، وهي تعمل ضد حسقيل وحلفه البغيض وجماعة الشيوخ المنحرفين معهما..
ثم يعود ليقول:
ـ وماذا يضر لو نبهتها لذلك؟..
ثم يطلب من نخوة ان يقول لها كلاما بينه وبينها بعد ان استأذن الرجلين الآخرين..
شكرته نخوة، وقالت:
ـ اطمئن.. سأتصرف..
وسكت لأنها أكبر سنا منه..
عادالخادمان وطلبا لقاء نخوة معا، من غير ان يحضر ابن عمها، فاستجابت لرغبتهما..قال اكبرهما سنا:
ـ رأيت، مع صاحبي هذا، حسقيل يدخل بيتكم، واعذرينا، يا عمة ويا اختاه، ان فعلنا ذلك.. لاننا عندما عرفنا ان امك صرفت الخادمات والعبدات (الاماء)، قدرنا ان ضيفها سيكون حسقيل، لذلك حاولنا ان نتأكد ونحن نسترق النظر ونشغل انفسنا بعمل خارج بيت الشعر المقرر لنا، ومع انه حرص على ان يأتي ويدخل من مقدمة البيت، في الوقت الذي تكون بيوتنا في ظهر البيت فلا نرى شيئا.. فقد رأيناه يدخل، ورأيناه يخرج ايضا، بعد زمن قصير على غير عادته، ولم نلاحظ بعد ذلك ان احدا غيره دخل البيت، ولم نلحظ ان امك الشيخة، رحمها الله، خرجت منه.. لذلك فان هذا الذي رأيناه مع الفأس الملطخة بالدماء يؤكدان بوضوح ان الفاعل هو حسقيل الملعون.
لاحظت نخوة انهما وصفا حسقيل هذه المرة بالملعون.. ومع انها لم تستغرب جرأتهما.. قالت في نفسها:
ـ ان الحق يدحر الباطل، وإن كان الباطل متجبرا وان الحق ينطق الحجر الاصم ويقوي من يعتقد انه ضعيف وان التمرد والتحريض عليه يجعلان المستضعفين يشعرون بانهم اقوياء الى الحد الذي يتملكهم فيه شعور من يستطيع بالمبادئ والتدبير، ان يواجه كل عات لعين بصدر عامر بالايمان، بعد ان يهيئ الحجة على من يكون على باطل.
وهكذا كان الشابان، مع انهما يقومان بأعمال الخدمة في بيت نخوة، الذي كان حسقيل الى وقت ليس ببعيد جدا يتصرف فيه كأنه سيد البيت، بالاضافة الى انه شيخ العشيرة.. كانا يتكلمان بثقة ومن غير خوف من حسقيل، وهما يزيدان على قولهما ذاك:
ـ نحن رجالك الامناء، يا نخوة وانت اختنا، بالاضافة الى انك سيدة الدار الذي نعيش نحن وعائلتنا على خيره، بل انت نخوتنا ونخوة كل شريف طاهر يواجه الظلم، ونحن عين عينيك وحمايتك، وأي شيء تأمرين به نؤديه، ان شاء الله، ونكون من الطائعين المقتنعين، بل المتحمسين لتنفيذه، لاننا مقتنعون برجاحة عقلك وطهارة روحك وعفة نفسك واخلاصك العظيم للقبيلة وحماها ومصالحها.
عندما سمعت نخوة منهما ذلك، سالت دموعها على وجنتيها، ومع انها لم تشعر بضعف بعد ان نضجت ولم تشعر بالوحدة بعد ان صارت تمارس وتحرض على التمرد ضد حسقيل وحلفه، فانها بسماعها كلام من يؤديان الخدمة في بيتها، سواء في واجبات الضيافة او (مباراة) المواشي الى جانب الرعاة، شعرت بعمق ما فعله الاعداد للتمرد الذي يقوم به سالم وجماعته في نفوس حتى الناس المستضعفين الذين ينظر اليهم الجبارون نظرة استصغار او نظرة دونية، ونسوا ان تقسيم العمل بين الناس لا يلغي آدميتهم، بل لا يلغي في المستضعفين العوامل الكامنة فيهم للتمرد ضد الباطل، اذا ما وجدوا من يكون رمزا للحق ونموذجه، ولا ينحني امام الباطل وجبروته ولا تخدعه ألاعيبه.
كانت نخوة تقول ذلك في نفسها، وهي تستمع الى محدثيها.. ورغم انهما قالا ما ارادا قوله، فقد استمرت نخوة تداور ذلك في عقلها ونفسها، حتى ظنا انها انشغلت عنهما ومع ذلك لم يقاطعاها.. وعندما انتهت من مداورة كل تلك الافكار، راحت دموعها تنهمر على وجنتيها، كأنها دموع فرح، ممتزجة بغسل الهم والضعف، ليكون الشعور بما يزيد القوة والعزم بعد ذلك.. وهكذا كفكفت دموعها بطرف ملفعها، وقالت:
ـ نعم، يا اخويَّ، سمعان وعمر، احفظا ما قلتماه الآن، واكتماه الى ان اقول لكما: متى..
قال سمعان وعمر:
ـ امرك عمة.. وانصرفا ولحق بهما ابن عمها حازم وهو يضع الفاس في كيس..
***
عادت نخوة الى النساء اللائي يحطن بالجثة ويندبن ويولولن.. وبدلا من ان تقيم نخوة عشاء للرجال في بيتها، حيث لا اخ ولا أب، كلفت عددا من ابناء عمومتها الأبعدين بان يقيموا ولائم عشاء على روح امها، بعد ان زودتهم بخراف وعدة الطبخ ومواده، وجعلت العشاء في اكثر من مكان، وهي تقول:
ـ ليأكل الجميع على روح والدتي.. حيث صار سخاؤها على لسان كل افراد العشرية، حتى ان حسقيل اوصى لها قبل ان يلتقيها بان تقلل من الذبح لان هذا يفيدها بعد ان آلت اليها كل ملكية ابيها وامها، وكانت ملكية كبيرة من الغنم والبقر والجمال والخيول.. وكأنه اراد في نفسه ان يقول:
ـ نعم، هذا هو التفسير الصحيح.. ولكن علينا ان نكتم هذا الاستنتاج الى حين.. اقول لكم هذا، لانني اثق بكم ولأنكم من رجال سالم، بالاضافة الى انكم من الشباب المخلصين في قبيلتنا، لأن كشف هذا السر الآن يضر بحركتنا.. قالت لهم (يضر بحركتنا) بعد ان كشفت لهم انها تعرف ارتباطهم بسالم، كما انهم كانوا اصلا يعرفون انها تنشط بين صفوف النساء، أو يعرفون موقفها من حسقيل، بعد ان رفضت ان تدبك معه في تلك الليلة الشهيرة، واختارت ان تدبك مع ذاك الملثم..
عندما قالت لهم نخوة: اكتموا هذا واحفظوا الفأس في كيس الى يوم آخر.. استنتجوا ان نخوة تقصد حسقيل لا غيره..
ـ فمن يمكن ان يقوم بذلك غير حسقيل الغادر؟ هكذا قالوا في انفسهم..
قال ابن العم غير المباشر لنخوة:
ـ ربما كلف حسقيل من هو طوع بنانه من الخدم أو العبيد بأن يفعل ذلك ثم يتساءل في نفسه ايضا:
ـ ولكن لماذا؟ ومن هو؟ الا يعتبر خطرا على حياة نخوة؟ لماذا لا انبه نخوة الى ذلك؟..
ثم ينثني ليقول:
ـ اننا امام تدبير محنك هذا الذي تقوم به نخوة، وتتحمله اعصابها، وهي على هذا لا بد ان تكون حسبت لكل شيء حسابه، خاصة بعد ان تمرست على ما يبدو، في العمل السري، وهي تعمل ضد حسقيل وحلفه البغيض وجماعة الشيوخ المنحرفين معهما..
ثم يعود ليقول:
ـ وماذا يضر لو نبهتها لذلك؟..
ثم يطلب من نخوة ان يقول لها كلاما بينه وبينها بعد ان استأذن الرجلين الآخرين..
شكرته نخوة، وقالت:
ـ اطمئن.. سأتصرف..
وسكت لأنها أكبر سنا منه..
عادالخادمان وطلبا لقاء نخوة معا، من غير ان يحضر ابن عمها، فاستجابت لرغبتهما..قال اكبرهما سنا:
ـ رأيت، مع صاحبي هذا، حسقيل يدخل بيتكم، واعذرينا، يا عمة ويا اختاه، ان فعلنا ذلك.. لاننا عندما عرفنا ان امك صرفت الخادمات والعبدات (الاماء)، قدرنا ان ضيفها سيكون حسقيل، لذلك حاولنا ان نتأكد ونحن نسترق النظر ونشغل انفسنا بعمل خارج بيت الشعر المقرر لنا، ومع انه حرص على ان يأتي ويدخل من مقدمة البيت، في الوقت الذي تكون بيوتنا في ظهر البيت فلا نرى شيئا.. فقد رأيناه يدخل، ورأيناه يخرج ايضا، بعد زمن قصير على غير عادته، ولم نلاحظ بعد ذلك ان احدا غيره دخل البيت، ولم نلحظ ان امك الشيخة، رحمها الله، خرجت منه.. لذلك فان هذا الذي رأيناه مع الفأس الملطخة بالدماء يؤكدان بوضوح ان الفاعل هو حسقيل الملعون.
لاحظت نخوة انهما وصفا حسقيل هذه المرة بالملعون.. ومع انها لم تستغرب جرأتهما.. قالت في نفسها:
ـ ان الحق يدحر الباطل، وإن كان الباطل متجبرا وان الحق ينطق الحجر الاصم ويقوي من يعتقد انه ضعيف وان التمرد والتحريض عليه يجعلان المستضعفين يشعرون بانهم اقوياء الى الحد الذي يتملكهم فيه شعور من يستطيع بالمبادئ والتدبير، ان يواجه كل عات لعين بصدر عامر بالايمان، بعد ان يهيئ الحجة على من يكون على باطل.
وهكذا كان الشابان، مع انهما يقومان بأعمال الخدمة في بيت نخوة، الذي كان حسقيل الى وقت ليس ببعيد جدا يتصرف فيه كأنه سيد البيت، بالاضافة الى انه شيخ العشيرة.. كانا يتكلمان بثقة ومن غير خوف من حسقيل، وهما يزيدان على قولهما ذاك:
ـ نحن رجالك الامناء، يا نخوة وانت اختنا، بالاضافة الى انك سيدة الدار الذي نعيش نحن وعائلتنا على خيره، بل انت نخوتنا ونخوة كل شريف طاهر يواجه الظلم، ونحن عين عينيك وحمايتك، وأي شيء تأمرين به نؤديه، ان شاء الله، ونكون من الطائعين المقتنعين، بل المتحمسين لتنفيذه، لاننا مقتنعون برجاحة عقلك وطهارة روحك وعفة نفسك واخلاصك العظيم للقبيلة وحماها ومصالحها.
عندما سمعت نخوة منهما ذلك، سالت دموعها على وجنتيها، ومع انها لم تشعر بضعف بعد ان نضجت ولم تشعر بالوحدة بعد ان صارت تمارس وتحرض على التمرد ضد حسقيل وحلفه، فانها بسماعها كلام من يؤديان الخدمة في بيتها، سواء في واجبات الضيافة او (مباراة) المواشي الى جانب الرعاة، شعرت بعمق ما فعله الاعداد للتمرد الذي يقوم به سالم وجماعته في نفوس حتى الناس المستضعفين الذين ينظر اليهم الجبارون نظرة استصغار او نظرة دونية، ونسوا ان تقسيم العمل بين الناس لا يلغي آدميتهم، بل لا يلغي في المستضعفين العوامل الكامنة فيهم للتمرد ضد الباطل، اذا ما وجدوا من يكون رمزا للحق ونموذجه، ولا ينحني امام الباطل وجبروته ولا تخدعه ألاعيبه.
كانت نخوة تقول ذلك في نفسها، وهي تستمع الى محدثيها.. ورغم انهما قالا ما ارادا قوله، فقد استمرت نخوة تداور ذلك في عقلها ونفسها، حتى ظنا انها انشغلت عنهما ومع ذلك لم يقاطعاها.. وعندما انتهت من مداورة كل تلك الافكار، راحت دموعها تنهمر على وجنتيها، كأنها دموع فرح، ممتزجة بغسل الهم والضعف، ليكون الشعور بما يزيد القوة والعزم بعد ذلك.. وهكذا كفكفت دموعها بطرف ملفعها، وقالت:
ـ نعم، يا اخويَّ، سمعان وعمر، احفظا ما قلتماه الآن، واكتماه الى ان اقول لكما: متى..
قال سمعان وعمر:
ـ امرك عمة.. وانصرفا ولحق بهما ابن عمها حازم وهو يضع الفاس في كيس..
***
عادت نخوة الى النساء اللائي يحطن بالجثة ويندبن ويولولن.. وبدلا من ان تقيم نخوة عشاء للرجال في بيتها، حيث لا اخ ولا أب، كلفت عددا من ابناء عمومتها الأبعدين بان يقيموا ولائم عشاء على روح امها، بعد ان زودتهم بخراف وعدة الطبخ ومواده، وجعلت العشاء في اكثر من مكان، وهي تقول:
ـ ليأكل الجميع على روح والدتي.. حيث صار سخاؤها على لسان كل افراد العشرية، حتى ان حسقيل اوصى لها قبل ان يلتقيها بان تقلل من الذبح لان هذا يفيدها بعد ان آلت اليها كل ملكية ابيها وامها، وكانت ملكية كبيرة من الغنم والبقر والجمال والخيول.. وكأنه اراد في نفسه ان يقول:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
ان هذا كله سيؤول ليَّ، بعد ان اتزوج نخوة.. وصرف اي شيء منه ينقص ملكيتي والافضل ان اوصي نخوة بان تقتصد".. وقد حرصت نخوة على ان تقيم ولائم عشاء على روح امها على مدى ثلاثة ايام متتاليات وكانت تقول في نفسها:
ـ عسى ان يغسل اطعام الفقير جزءا من ذنوب امي وابي، ورغم ان امي لم تكن بخيلة تماما، مع انها اعجمية الاصل، فقد كان ابي، رحمه الله، بخيلا جدا، وما لم يستطعه في حياته، سأعينه عليه ومنه في مماته.
ومثلما فعلت لابيها عندما مات، عملت لأمها عندما قتلت.. استمرت معتكفة في بيتها سبعة ايام، تراجعها نساء القبيلة لمواساتها في مصابها، وجعلت الخدم والعبيد يذبحون ما يذبحون من الجمال والابقار والاغنام كل يوم ويطبخون العطام، حيث صارت كلاب القبيلة، حتى من المنازل القريبة منهم، تتجمع بصورة شبه دائمية حول بيتها، لتظفر ببقايا الطعام الزائد الذي يطرحه الخدم خارج المنزل، بعد ان تأكل النسوة ثلاث وجبات كل يوم، وهل تتجمع الكلاب الا امام البيت الذي يرمي لها طعاما او حتى عظاما؟
كانت النسوة يصطحبن اطفالهن الى بيت نخوة وعند تناول الطعام كانت نخوة تأمر بان يعزل الخدم طعاما للاطفال بصورة مستقلة عن النساء، وكان الطباخون والخدم يفرغون الطعام في اواني الاكل باشراف نخوة، التي كانت تحاول دائما ان تتأكد من ان في الطعام من اللحم ما يكفي الصغار وكانت تفرقهم بالتساوي عندما يزدحمون حول صينية على باقي (الجفان) او الصواني، لتضمن ان يحوز كل منهم استحقاقه من اللحم، وعندما تقول لها احداهن من المقربات عادة:
ـ اتركي الخدم يتولون هذا يا اخية نخوة.. انهم اطفال، واي شيء يأكلونه (زايد خير)..
تجيبها نخوة:
ـ انهم ورود حياتنا وشباب وشابات المستقبل وهم عندما اهتم بهم واكرم وفادتهم، سيتعلمون الكرم وواجبات الضيافة مهما كبر شأنهم في المستقبل، لئلا يتصوروا ان من يكبر شأنه ينسى ناسه ويكبر عليهم او من يمن الله عليه بنعمة الملك او الثروة يستأثر بها لنفسه ويترفع عن الناس.
في هذا الوقت لاحظت ان احد الصغار حاول خطف قطعة لحم من صينية يتحلق حولها اطفال اكبر منه سنا، ولانه بدين، سقط على رأسه في صينيتهم حالما انحنى من فوق اكتافهم لالتقاط قطعة اللحم.. وراح (يعوي) يصرخ ورأسه ووجه يغطيهما السمن وبقايا الطعام وسط ضربات من كان يضربه.. مسحت نخوة الدسم وبقايا الثريد عن رأسه ووجهه، وقالت:
ـ لا عليك حبيبي، سآتيك بصينية وحدك، وعليها قطع من اللحم اكثر من التي على هذه الصينية.
كانت تقول هذا في الوقت الذي ترى ان احد الاطفال يضرب صغيرا على وجهه بحفنة من الثريد، لانه حاول نفس محاولة هذا، وكانت تكتم ضحكة جعلتها ترفع ملفعها ليغطي فمها وانفها لتواري ضحكتها تحته..
ثم تعود الى النساء وتتأكد بنفسها من كل صينية طعام، ومن ان كل شيء يسير ضمن قياسه الصحيح، وعلى ما يرام.. وعندما تنهض احداهن لتنصرف قبل تقديم وجبة الطعام، تشير الى احدى قريباتها بان تستبقيها حتى يقدم الطعام، وتكون بعد ذلك حرة في الانصراف، وعندما تحاول المعنية الاعتذار لها عن البقاء طالبة ان تأذن لها بالانصراف تقول لها:
ـ ايجوز هذا، يا فلانة؟.. ايجوز يا اخيّة، ان تخرجي من بيتنا في هذا الوقت، مع ان بيتك بعيد نسبيا، من غير ان تتناولي الطعام انت واطفالك!؟.
وعندما تلح بقصد الانصراف، تقول لها:
ـ انت عربية، لذلك لا اظنك تقصدين ان تخزينا، لو رآك احدهم تخرجين قبل ان (نصب) نقدم الطعام!..
على هذا كان تصرف نخوة في الضيافة، حيث ازدادت تألقا على مستوى القبيلة، وصارت بحق نخوة الابعدين، مثلما هي نخوة الاقربين.. صارت نخوة ناسها واهلها كلهم.. وهل ما يجعل المرأة نخوة اهلها وقومها غير ان تكون فاهمة وحصيفة وعاقلة ومدبرة وعفيفة وذات حمية ازاء قومها، وذات ايمان وصبر وجلد؟.. وهل هناك من هي افضل صفات ومعاني من نخوة في كل هذا؟.. نعم صارت نخوة.. نخوة قومها كلهم وامنية الشباب كلهم ليحظوا برضاها عنهم وعن مواقفهم وتصرفاتهم، وصارت قدوة ونموذج النساء اللائي صرن يحثثن النفس والخطى ليحظين بأي من صفاتها..
انتهت الايام السبعة التي احتجبت فيها نخوة، ولم تظهر خارج البيت، وانما تستقبل النسوة فقط. وارسل حسقيل الى نخوة من يخبرها بانه ينوي زيارتها ليعزيها بوفاة المرحومة امها، وتقديرا لها ولاهلها ـ هكذا قال حسقيل وفق ما نقله اليها ابن عمها حازم..
كادت نخوة تعتذر، لكنها تذكرت انها ينبغي ان تراوغه وتخاتله، وفقا لخطتها..
قالت نخوة عندئذ:
ـ قل له، يا حازم، ان يتفضل بعد ظهر هذا اليوم، قبل المغرب وابلغ عمي والدك ليحضر معك.. واشارت الى سمعان وعمر بان يكونا من بين الحضور من رجال البيت ممن يقومون بواجب الضيافة، وطلبت من سمعان ان يجلس الى الموقد، حيث دلال القهوة، ومن عمر ان يكون متأهبا لتلبية طلبات الضيوف من ماء (وشنين)(1).
وقالت مشددة:
ـ قل لعمي، يا حازم، ان لا يبرح مكانه.. وانتم، يا حازم وعمر وسمعان، لا تتركوا اماكنكم اذا طلب منكم حسقيل ذلك.. الا اذا طلبته انا منكم..
وعندما استفهمت عما اذا كان امرها واضحا، قال حازم وعمر:
ـ مفهوم، يا عمة..
وقال حازم:
ـ مفهوم، يا اختاه..
ـ اذن، انصرفوا حتى يحين الوقت واستدارت متجهة من الربعة (المضيف) الى قسم العائلة (العيال)، وفتحت صندوق الخشب، حيث تضع ملابسها وما يتصل بزينتها..
كان الطقس طيبا في شهر نيسان.. جلست نخوة لتمشط شعرها، ولفته بالملفع بعد ان مشطته.. بعدها التقطت (ميل) (2) الكحل، وراحت تكحل عينيها.. وما ان اكملت كل ذلك، حتى اتجهت لثيابها، فارتدت ثوبا نظيفا و(زبونا) (3) وتهيأت لاستقبال حسقيل وعمها ومن سيحضر معهما..
كانت نخوة قد التقت سالم في بيتها في إحدى الليالي، وفق تدبير اتفقت عليه هي وأخت سالم وأبو سالم، وكان معها حازم وعمر وسمعان.. وانفردت به في الطرف الثاني من قسم العيال، بحيث لا يسمع أبو سالم وأم سالم وأخت سالم كلامهما.. وحكت لسالم كل ما تعرفه عن مقتل أمها..
ـ عسى ان يغسل اطعام الفقير جزءا من ذنوب امي وابي، ورغم ان امي لم تكن بخيلة تماما، مع انها اعجمية الاصل، فقد كان ابي، رحمه الله، بخيلا جدا، وما لم يستطعه في حياته، سأعينه عليه ومنه في مماته.
ومثلما فعلت لابيها عندما مات، عملت لأمها عندما قتلت.. استمرت معتكفة في بيتها سبعة ايام، تراجعها نساء القبيلة لمواساتها في مصابها، وجعلت الخدم والعبيد يذبحون ما يذبحون من الجمال والابقار والاغنام كل يوم ويطبخون العطام، حيث صارت كلاب القبيلة، حتى من المنازل القريبة منهم، تتجمع بصورة شبه دائمية حول بيتها، لتظفر ببقايا الطعام الزائد الذي يطرحه الخدم خارج المنزل، بعد ان تأكل النسوة ثلاث وجبات كل يوم، وهل تتجمع الكلاب الا امام البيت الذي يرمي لها طعاما او حتى عظاما؟
كانت النسوة يصطحبن اطفالهن الى بيت نخوة وعند تناول الطعام كانت نخوة تأمر بان يعزل الخدم طعاما للاطفال بصورة مستقلة عن النساء، وكان الطباخون والخدم يفرغون الطعام في اواني الاكل باشراف نخوة، التي كانت تحاول دائما ان تتأكد من ان في الطعام من اللحم ما يكفي الصغار وكانت تفرقهم بالتساوي عندما يزدحمون حول صينية على باقي (الجفان) او الصواني، لتضمن ان يحوز كل منهم استحقاقه من اللحم، وعندما تقول لها احداهن من المقربات عادة:
ـ اتركي الخدم يتولون هذا يا اخية نخوة.. انهم اطفال، واي شيء يأكلونه (زايد خير)..
تجيبها نخوة:
ـ انهم ورود حياتنا وشباب وشابات المستقبل وهم عندما اهتم بهم واكرم وفادتهم، سيتعلمون الكرم وواجبات الضيافة مهما كبر شأنهم في المستقبل، لئلا يتصوروا ان من يكبر شأنه ينسى ناسه ويكبر عليهم او من يمن الله عليه بنعمة الملك او الثروة يستأثر بها لنفسه ويترفع عن الناس.
في هذا الوقت لاحظت ان احد الصغار حاول خطف قطعة لحم من صينية يتحلق حولها اطفال اكبر منه سنا، ولانه بدين، سقط على رأسه في صينيتهم حالما انحنى من فوق اكتافهم لالتقاط قطعة اللحم.. وراح (يعوي) يصرخ ورأسه ووجه يغطيهما السمن وبقايا الطعام وسط ضربات من كان يضربه.. مسحت نخوة الدسم وبقايا الثريد عن رأسه ووجهه، وقالت:
ـ لا عليك حبيبي، سآتيك بصينية وحدك، وعليها قطع من اللحم اكثر من التي على هذه الصينية.
كانت تقول هذا في الوقت الذي ترى ان احد الاطفال يضرب صغيرا على وجهه بحفنة من الثريد، لانه حاول نفس محاولة هذا، وكانت تكتم ضحكة جعلتها ترفع ملفعها ليغطي فمها وانفها لتواري ضحكتها تحته..
ثم تعود الى النساء وتتأكد بنفسها من كل صينية طعام، ومن ان كل شيء يسير ضمن قياسه الصحيح، وعلى ما يرام.. وعندما تنهض احداهن لتنصرف قبل تقديم وجبة الطعام، تشير الى احدى قريباتها بان تستبقيها حتى يقدم الطعام، وتكون بعد ذلك حرة في الانصراف، وعندما تحاول المعنية الاعتذار لها عن البقاء طالبة ان تأذن لها بالانصراف تقول لها:
ـ ايجوز هذا، يا فلانة؟.. ايجوز يا اخيّة، ان تخرجي من بيتنا في هذا الوقت، مع ان بيتك بعيد نسبيا، من غير ان تتناولي الطعام انت واطفالك!؟.
وعندما تلح بقصد الانصراف، تقول لها:
ـ انت عربية، لذلك لا اظنك تقصدين ان تخزينا، لو رآك احدهم تخرجين قبل ان (نصب) نقدم الطعام!..
على هذا كان تصرف نخوة في الضيافة، حيث ازدادت تألقا على مستوى القبيلة، وصارت بحق نخوة الابعدين، مثلما هي نخوة الاقربين.. صارت نخوة ناسها واهلها كلهم.. وهل ما يجعل المرأة نخوة اهلها وقومها غير ان تكون فاهمة وحصيفة وعاقلة ومدبرة وعفيفة وذات حمية ازاء قومها، وذات ايمان وصبر وجلد؟.. وهل هناك من هي افضل صفات ومعاني من نخوة في كل هذا؟.. نعم صارت نخوة.. نخوة قومها كلهم وامنية الشباب كلهم ليحظوا برضاها عنهم وعن مواقفهم وتصرفاتهم، وصارت قدوة ونموذج النساء اللائي صرن يحثثن النفس والخطى ليحظين بأي من صفاتها..
انتهت الايام السبعة التي احتجبت فيها نخوة، ولم تظهر خارج البيت، وانما تستقبل النسوة فقط. وارسل حسقيل الى نخوة من يخبرها بانه ينوي زيارتها ليعزيها بوفاة المرحومة امها، وتقديرا لها ولاهلها ـ هكذا قال حسقيل وفق ما نقله اليها ابن عمها حازم..
كادت نخوة تعتذر، لكنها تذكرت انها ينبغي ان تراوغه وتخاتله، وفقا لخطتها..
قالت نخوة عندئذ:
ـ قل له، يا حازم، ان يتفضل بعد ظهر هذا اليوم، قبل المغرب وابلغ عمي والدك ليحضر معك.. واشارت الى سمعان وعمر بان يكونا من بين الحضور من رجال البيت ممن يقومون بواجب الضيافة، وطلبت من سمعان ان يجلس الى الموقد، حيث دلال القهوة، ومن عمر ان يكون متأهبا لتلبية طلبات الضيوف من ماء (وشنين)(1).
وقالت مشددة:
ـ قل لعمي، يا حازم، ان لا يبرح مكانه.. وانتم، يا حازم وعمر وسمعان، لا تتركوا اماكنكم اذا طلب منكم حسقيل ذلك.. الا اذا طلبته انا منكم..
وعندما استفهمت عما اذا كان امرها واضحا، قال حازم وعمر:
ـ مفهوم، يا عمة..
وقال حازم:
ـ مفهوم، يا اختاه..
ـ اذن، انصرفوا حتى يحين الوقت واستدارت متجهة من الربعة (المضيف) الى قسم العائلة (العيال)، وفتحت صندوق الخشب، حيث تضع ملابسها وما يتصل بزينتها..
كان الطقس طيبا في شهر نيسان.. جلست نخوة لتمشط شعرها، ولفته بالملفع بعد ان مشطته.. بعدها التقطت (ميل) (2) الكحل، وراحت تكحل عينيها.. وما ان اكملت كل ذلك، حتى اتجهت لثيابها، فارتدت ثوبا نظيفا و(زبونا) (3) وتهيأت لاستقبال حسقيل وعمها ومن سيحضر معهما..
كانت نخوة قد التقت سالم في بيتها في إحدى الليالي، وفق تدبير اتفقت عليه هي وأخت سالم وأبو سالم، وكان معها حازم وعمر وسمعان.. وانفردت به في الطرف الثاني من قسم العيال، بحيث لا يسمع أبو سالم وأم سالم وأخت سالم كلامهما.. وحكت لسالم كل ما تعرفه عن مقتل أمها..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
قال سالم:
ـ الآن حكم الحق على حسقيل بالموت..
قالت نخوة:
ـ لا، يا سالم، رغم ان ما تقوله مطاع بالنتيجة، لكن أرجو أن تسمع رأيي، فأنا لا أرى هذا الرأي.. ولو كنت أراه علاجاً صحيحاً لوافقت أمي، رحمها الله، على ذلك، وكنا قادرتين على هذا لو أردنا، لكن لأننا لم نرد أن نحرم من رحمة الله، أو أن نخزيكم بأمر تقوم به امرأة.. إلا عندما لا يكون هنالك رجال، أو يكون شرفها مهدداً باللحظة، ويكون قتل من يحاول عليها ضروري دفاعاً عن ذلك، أو عن النفس، فقد منعت والدتي ومنعت نفسي من ذلك..
ومع أنهما كانا يتكلمان همساً، فلشدة اقترابهما من بعضهما، اسمع كل منهما ما أراد أن يقوله للآخر..
قال سالم:
ـ لكن ما أرى أن نقوم به ضده هو أن يقوم به الرجال وليس النساء..!
ـ لديّ تدبير آخر، قالت نخوة..
سمع سالم ما خططت من تدبير وأقرها عليه..
جاء حسقيل وحده.. وجاء والد حازم وشقيقه الأصغر منه، ومعهما حازم، وكان عمر وسمعان في البيت من رجالها.. وكان كل من الثلاثة (حازم وعمر وسمعان) يعرف واجبه.
قال حسقيل كلمات العزاء لنخوة.. وسلم على عميها وعلى حازم، وجلس.. وبعد كلمات من حسقيل حول الكمأة والغزو.. ومجيء (مطاليع) (4)، القطا التي تنبئ بأنه كثير هذه السنة.. بدا كأنه يقول كلاماً ليطرد الملل عنه، رغم أن دقائق فقط مضت على جلوسه..
ـ عندما يكثر القطا.. ويبيض بعد موسم كمأة وفير، تكون السنة سنة خير، رغم أن المرحومة، أم نخوة، كدرت علينا الأجواء، لكن عوضنا بنخوة.. بعد أن صارت نخوة قبيلتنا.. (قال: نخوة قبيلتنا، ولم يقل نخوة القبيلة.. ليجعل من نفسه حالة اصيلة في القبيلة ويعتبرها كما نخوة في صلته بالقبيلة)..
بعد قليل قال حسقيل:
ـ لو سمحتم، أود أن اتحدث مع نخوة على انفراد في أمر يخصها، والأصح أنه يخص والدها، رحمه الله، وكان في نيتي أن أقوله لأم نخوة، رحمها الله، لكن القدر عاجلها.. لذلك لا بد من قوله لنخوة..
قالت نخوة:
ـ فلان وفلان، عماي هلما إلي، وأنت ايضا، يا شيخنا ـ وأرادت بقولها: يا شيخنا، ان تجعله لا يجفل، بإمكانك أن تتحدث معي بحضورهما..
قال حسقيل:
ـ ان ما اؤتمنت عليه يستوجب أن أقوله لك، وبعد ذلك أنت حرة عندما تطلعين عليه.
مرة أخرى أرادت أن لا يجفل من نواياها وهو العارف بما لها عليه.. وما هو مدين لها به..
قالت:
ـ نعم لو سمح عماي بأن يكونا في قاطع العيال، انه الآن خال.. وسوف نتحدث أنا والشيخ هنا..
قال حسقيل..
ـ بل نذهب أنا ونخوة إلى قاطع العيال، وتبقون هنا..
وقبل أن يكمل، كان عماها وحازم وعمر وسمعان قد اتجهوا إلى قاطع العيال ودخلوا فيه، في الوقت الذي قالت نخوة:
ـ بل هنا أكثر راحة لك، يا شيخ.. والواجب ان ينهضوا هم ويغيروا أماكنهم، وليس أنت.
مع أن الشيخ لم يرق له ذلك، فقد اضطر للقول:
ـ انك أم الأصول، يا نخوة، وفهمك صار معروفاً على مستوى القبيلة كلها.. بل ان كرمك أصبح على كل لسان..
أرادت نخوة ان تزيد غشاوة التمويه على نواياها باطرائه.. فقالت:
ـ كل ذلك من فضل الله وفضلك، يا شيخنا..
ـ هل لي أن أدنو منك، لأسمعك ما أريد أن أقوله همسا، يا نخوة؟
ـ بل أنا اقترب إليك، يا شيخ.. لا تكلف حالك..
اقتربت نخوة منه حتى كاد لا يفصلهما إلا حاجز الوسائد الموضوعة بينهما.
قال حسقيل، بعد أن فتل شعر شاربه، رغم انه لم يكن كثيفاً:
ـ مع ان الوقت غير ملائم تماماً، لكن من عادتنا أن نتعامل مع الحياة بطريقة لا تدع الحزن يثقل عليها.. ومع اننا (قدم في المدينة وقدم في الصحراء)، فإن العادات الأصيلة هي التي تحكمنا.. لذلك، ولأن من عادة قبيلتنا أن تستمر في حركة الحياة، بل ان تقودها.. يا نخوة، فالواجب يقتضي أن لا نجعل حالة الحزن توقف الحياة، أليس كذلك؟..
هوامش
1 ـ الشنين، لبن مخلوط بماء، بعد عزل الزبدة عنه.
2 ـ الميل، قضيب من الخشب، دقيق ومصقول، يغمس في مسحوق الكحل، ويمرر بين الجفون لتكحيلها.
3 ـ الزبون، ثوب طويل، مشقوق من الأمام من الأعلى للأسفل، كانت النساء يرتدينه فوق ملابسهن سابقا.
4 ـ مطاليع، بواكير أو طلائع.
ـ الآن حكم الحق على حسقيل بالموت..
قالت نخوة:
ـ لا، يا سالم، رغم ان ما تقوله مطاع بالنتيجة، لكن أرجو أن تسمع رأيي، فأنا لا أرى هذا الرأي.. ولو كنت أراه علاجاً صحيحاً لوافقت أمي، رحمها الله، على ذلك، وكنا قادرتين على هذا لو أردنا، لكن لأننا لم نرد أن نحرم من رحمة الله، أو أن نخزيكم بأمر تقوم به امرأة.. إلا عندما لا يكون هنالك رجال، أو يكون شرفها مهدداً باللحظة، ويكون قتل من يحاول عليها ضروري دفاعاً عن ذلك، أو عن النفس، فقد منعت والدتي ومنعت نفسي من ذلك..
ومع أنهما كانا يتكلمان همساً، فلشدة اقترابهما من بعضهما، اسمع كل منهما ما أراد أن يقوله للآخر..
قال سالم:
ـ لكن ما أرى أن نقوم به ضده هو أن يقوم به الرجال وليس النساء..!
ـ لديّ تدبير آخر، قالت نخوة..
سمع سالم ما خططت من تدبير وأقرها عليه..
جاء حسقيل وحده.. وجاء والد حازم وشقيقه الأصغر منه، ومعهما حازم، وكان عمر وسمعان في البيت من رجالها.. وكان كل من الثلاثة (حازم وعمر وسمعان) يعرف واجبه.
قال حسقيل كلمات العزاء لنخوة.. وسلم على عميها وعلى حازم، وجلس.. وبعد كلمات من حسقيل حول الكمأة والغزو.. ومجيء (مطاليع) (4)، القطا التي تنبئ بأنه كثير هذه السنة.. بدا كأنه يقول كلاماً ليطرد الملل عنه، رغم أن دقائق فقط مضت على جلوسه..
ـ عندما يكثر القطا.. ويبيض بعد موسم كمأة وفير، تكون السنة سنة خير، رغم أن المرحومة، أم نخوة، كدرت علينا الأجواء، لكن عوضنا بنخوة.. بعد أن صارت نخوة قبيلتنا.. (قال: نخوة قبيلتنا، ولم يقل نخوة القبيلة.. ليجعل من نفسه حالة اصيلة في القبيلة ويعتبرها كما نخوة في صلته بالقبيلة)..
بعد قليل قال حسقيل:
ـ لو سمحتم، أود أن اتحدث مع نخوة على انفراد في أمر يخصها، والأصح أنه يخص والدها، رحمه الله، وكان في نيتي أن أقوله لأم نخوة، رحمها الله، لكن القدر عاجلها.. لذلك لا بد من قوله لنخوة..
قالت نخوة:
ـ فلان وفلان، عماي هلما إلي، وأنت ايضا، يا شيخنا ـ وأرادت بقولها: يا شيخنا، ان تجعله لا يجفل، بإمكانك أن تتحدث معي بحضورهما..
قال حسقيل:
ـ ان ما اؤتمنت عليه يستوجب أن أقوله لك، وبعد ذلك أنت حرة عندما تطلعين عليه.
مرة أخرى أرادت أن لا يجفل من نواياها وهو العارف بما لها عليه.. وما هو مدين لها به..
قالت:
ـ نعم لو سمح عماي بأن يكونا في قاطع العيال، انه الآن خال.. وسوف نتحدث أنا والشيخ هنا..
قال حسقيل..
ـ بل نذهب أنا ونخوة إلى قاطع العيال، وتبقون هنا..
وقبل أن يكمل، كان عماها وحازم وعمر وسمعان قد اتجهوا إلى قاطع العيال ودخلوا فيه، في الوقت الذي قالت نخوة:
ـ بل هنا أكثر راحة لك، يا شيخ.. والواجب ان ينهضوا هم ويغيروا أماكنهم، وليس أنت.
مع أن الشيخ لم يرق له ذلك، فقد اضطر للقول:
ـ انك أم الأصول، يا نخوة، وفهمك صار معروفاً على مستوى القبيلة كلها.. بل ان كرمك أصبح على كل لسان..
أرادت نخوة ان تزيد غشاوة التمويه على نواياها باطرائه.. فقالت:
ـ كل ذلك من فضل الله وفضلك، يا شيخنا..
ـ هل لي أن أدنو منك، لأسمعك ما أريد أن أقوله همسا، يا نخوة؟
ـ بل أنا اقترب إليك، يا شيخ.. لا تكلف حالك..
اقتربت نخوة منه حتى كاد لا يفصلهما إلا حاجز الوسائد الموضوعة بينهما.
قال حسقيل، بعد أن فتل شعر شاربه، رغم انه لم يكن كثيفاً:
ـ مع ان الوقت غير ملائم تماماً، لكن من عادتنا أن نتعامل مع الحياة بطريقة لا تدع الحزن يثقل عليها.. ومع اننا (قدم في المدينة وقدم في الصحراء)، فإن العادات الأصيلة هي التي تحكمنا.. لذلك، ولأن من عادة قبيلتنا أن تستمر في حركة الحياة، بل ان تقودها.. يا نخوة، فالواجب يقتضي أن لا نجعل حالة الحزن توقف الحياة، أليس كذلك؟..
هوامش
1 ـ الشنين، لبن مخلوط بماء، بعد عزل الزبدة عنه.
2 ـ الميل، قضيب من الخشب، دقيق ومصقول، يغمس في مسحوق الكحل، ويمرر بين الجفون لتكحيلها.
3 ـ الزبون، ثوب طويل، مشقوق من الأمام من الأعلى للأسفل، كانت النساء يرتدينه فوق ملابسهن سابقا.
4 ـ مطاليع، بواكير أو طلائع.
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه. هزت نخوة رأسها، علامة موافقة للشيخ، لأنه استخدم مفردات هي المفردات التي تستخدمها مع نساء القبيلة، أو يستخدمها سالم مع رجال القبيلة.. بل بدا كأنه أراد بهذا أن يذكّرها بأن هذا ما تؤمن هي به، ليس هو.. لذلك استمر يتكلم بثقة عالية فقال:
ـ بعد أن حل الله جانبا من الإشكال الذي كان يحول بيني وبين أن اطلب يدك من المرحومة أمك أو أعمامك وأنت تعرفين ذلك.. وتعرفين مستوى محب... (أراد أن يقول محبتي لك ليبقى ضمن المفاهيم العامة).. لكنه استدرك ليقول:
ـ وتعرفين مستوى حبي لك..
وبعد أن لاحظ أن نخوة هزت رأسها ايضا كعلامة قبول بما قال، تشجع أكثر فقال:
ـ وعليه جئت الآن لأعرض عليك رغبتي في الزواج منك، بعد ان صرت وحيدة، لكي نلم ما تملكين، ونتمتع بحلالنا..
قال ذلك وتبسم، ثم أردف:
ـ فإذا وافقت، ولا أظنك لا تقبلين بحسقيل، سأطلب يدك من أعمامك وفق الترتيب الذي ترغبين فيه..
ـ أظن أنك سبق أن طرحت عليّ هذه الفكرة.. (ويصير خير) إن شاء الله..
عندما قالت ذلك، صارت كل (شعرة في لحيته وشاربه تضحك وتلمع) مثلما يقول المثل الشعبي، وكان هذا الجواب هو الذي ينتظره.. لذلك قال بلهفة:
ـ ومتى سنتزوج، إذن؟
ـ صبرك عليّ، يا حسقيل.. نادته باسمه من غير أن تردفه بصفة المشيخة لترفع التكليف بينهما..
ـ ها أنا صابر.. ماذا بعد؟ قال حسقيل.
ـ قبل كل شيء، لا بد أن أقول إن أسبوعاً واحداً على وفاة أمي لا يكفي.. ولا بد أن يمر على ذلك أسبوعان في الأقل، لكي تخطبني ونتزوج..
ومع أن حسقيل كان يتمنى أن تقول غدا، فقد قبل كأنه لم يصدق أن تقبله نخوة بهذه السرعة..
ـ (عفية)، يا بنت الأجواد..
ـ اسمعني أيضاً، يا حسقيل..
ـ كلي آذان صاغية..
ـ يجب أن لا تخطبني من أعمامي فقط، مع احترامي لهم.. لأنهم بالأساس من عمومتي غير المباشرين، الذين التقي بهم في الظهر الرابع وربما الخامس.. لذلك أرغب أن تخطبني من القبيلة كلها بحضور كل رؤساء عشائر وأفخاذ القبيلة، وأغلب الشباب المعروفين من البالغين في القبيلة، إن لم يكن كلهم.
قال حسقيل:
ـ لماذا ندخل مثل هذا التقليد في القبيلة؟، ثم كيف لنا ان نطعم هذا العدد الغفير؟..
ـ لا عليك، سأدبر هذا، وسأجعل كل بنات القبيلة بين من تطبخ ومن تروي في القرب من الآبار والينابيع، ومن تخبز، أما الذبائح فإن خير أهلي كثير.. عندك الجمال والأبقار والأكباش وحتى بعض النعاج الحائلات (1).
ومع أن حسقيل وافق على مضض، لكن شوقه إلى الزواج دفعه للموافقة بسرعة..
قالت نخوة:
ـ ولي شرط آخر..
ـ قولي (يا بعد عيني)، قال حسقيل..
ـ أن تأمر بهدنة أمدها سبعة أيام بينك وبين كل الخارجين على مشيختك..
اصفرّ وجه حسقيل، وقال بانفعال:
ـ لماذا هذا الشرط؟
ـ ان ما يهمني هو وحدة القبيلة خلف رايتك، وأظن أن هذا هو ما تريده أيضا، وقد يفتح الله بين القلوب لتتصافى في هذه الأيام السبعة وقد ألعب دوراً إلى جانبك في هذا، خاصة عندما أنشط بين نساء المتمردين، في الوقت الذي تنشط بين الرجال.. وأنت تعرف، يا حسقيل، تأثير المرأة على الرجل..
كان حسقيل وهو يستمع إلى كلام نخوة، (يمسد) يمسح بيده على لحيته ويهز رأسه موافقا..
ـ ولا بد من أنك تعرف ان المرأة تنشد الاستقرار أكثر مما ينشده الرجل، ورغم ان المرأة قاسية عندما تظفر بعدوها.. (وهنا اصفرّ وجه حسقيل، لكنها لم تنظر في عينيه لكي لا تحرجه أكثر)، فإنها تنشد الاستقرار أكثر من الرجل.. لذلك سأشوقهن إلى أن يضغطن على الرجال ليقبلوا الصلح.. والباقي عليك، ولا اعتقد أنك بحاجة لأن أقول لك ماذا تفعل وأنت عراب المؤامرات.
قالت ذلك كأنها تمزح معه، في الوقت الذي كانت تقصد ما قالته.
وضحكا معا، كل وفق ما فهم، وما أراد..
قال حسقيل:
ـ إنك داهية بحق..
قالت نخوة:
ـ تربية يدك، يا حسقيل.. أما الشرط الثالث.. وقبل أن تقوله..
قال حسقيل:
ـ الله يستر.
ـ الستر، يا حسقيل، من الله، أولاً وأخيراً، بعد أن تطيب النفس وتصفو..
ـ خير إن شاء الله..
ـ أليس ما مر خيراً يا حسقيل؟ قالت نخوة وهي تبتسم له بغنج كمقدمة لكي تقنعه بالطعم المميت.. وواصلت كلامها:
ـ اما الشرط الثالث فهو أن تجتمع القبيلة في بيت الشاب الذي دبكت معه يومذاك!..
نفض حسقيل عباءته، وقام من مكانه وهو يرتجف، وبدلا من الكلام همساً.. قال بصوت مسموع:
ـ هذا الشرط أشر من كل الشروط.
بقيت نخوة جالسة في مكانها، وقالت:
ـ اجلس.. يبدو ان تدبير النساء، عندما يحببن أو يكرهن، أدق بكثير من تدبير دهاة الرجال مهما بلغ دهاؤهم.
جلس حسقيل دون ارتياح.
قالت نخوة:
ـ من يظن ان نخوة المرأة تدبر أمراً لا يفهمه حسقيل الداهية؟! قالت ذلك وهي تثبت نظرها بعينيه، ومع ذلك انفرجت أساريره عندما قالت (حسقيل الداهية)..
ـ (يا الله)، قولي لنسمع ونعرف التدبير الجديد..
ـ لم التقك منذ ذلك اليوم، ولم تحاول ان تستفهم عن السبب مني.. حتى حصل قدر الله لوالدتي..
قال حسقيل كأنه يريد ان يعرف كيف تفكر:
ـ بعد أن حل الله جانبا من الإشكال الذي كان يحول بيني وبين أن اطلب يدك من المرحومة أمك أو أعمامك وأنت تعرفين ذلك.. وتعرفين مستوى محب... (أراد أن يقول محبتي لك ليبقى ضمن المفاهيم العامة).. لكنه استدرك ليقول:
ـ وتعرفين مستوى حبي لك..
وبعد أن لاحظ أن نخوة هزت رأسها ايضا كعلامة قبول بما قال، تشجع أكثر فقال:
ـ وعليه جئت الآن لأعرض عليك رغبتي في الزواج منك، بعد ان صرت وحيدة، لكي نلم ما تملكين، ونتمتع بحلالنا..
قال ذلك وتبسم، ثم أردف:
ـ فإذا وافقت، ولا أظنك لا تقبلين بحسقيل، سأطلب يدك من أعمامك وفق الترتيب الذي ترغبين فيه..
ـ أظن أنك سبق أن طرحت عليّ هذه الفكرة.. (ويصير خير) إن شاء الله..
عندما قالت ذلك، صارت كل (شعرة في لحيته وشاربه تضحك وتلمع) مثلما يقول المثل الشعبي، وكان هذا الجواب هو الذي ينتظره.. لذلك قال بلهفة:
ـ ومتى سنتزوج، إذن؟
ـ صبرك عليّ، يا حسقيل.. نادته باسمه من غير أن تردفه بصفة المشيخة لترفع التكليف بينهما..
ـ ها أنا صابر.. ماذا بعد؟ قال حسقيل.
ـ قبل كل شيء، لا بد أن أقول إن أسبوعاً واحداً على وفاة أمي لا يكفي.. ولا بد أن يمر على ذلك أسبوعان في الأقل، لكي تخطبني ونتزوج..
ومع أن حسقيل كان يتمنى أن تقول غدا، فقد قبل كأنه لم يصدق أن تقبله نخوة بهذه السرعة..
ـ (عفية)، يا بنت الأجواد..
ـ اسمعني أيضاً، يا حسقيل..
ـ كلي آذان صاغية..
ـ يجب أن لا تخطبني من أعمامي فقط، مع احترامي لهم.. لأنهم بالأساس من عمومتي غير المباشرين، الذين التقي بهم في الظهر الرابع وربما الخامس.. لذلك أرغب أن تخطبني من القبيلة كلها بحضور كل رؤساء عشائر وأفخاذ القبيلة، وأغلب الشباب المعروفين من البالغين في القبيلة، إن لم يكن كلهم.
قال حسقيل:
ـ لماذا ندخل مثل هذا التقليد في القبيلة؟، ثم كيف لنا ان نطعم هذا العدد الغفير؟..
ـ لا عليك، سأدبر هذا، وسأجعل كل بنات القبيلة بين من تطبخ ومن تروي في القرب من الآبار والينابيع، ومن تخبز، أما الذبائح فإن خير أهلي كثير.. عندك الجمال والأبقار والأكباش وحتى بعض النعاج الحائلات (1).
ومع أن حسقيل وافق على مضض، لكن شوقه إلى الزواج دفعه للموافقة بسرعة..
قالت نخوة:
ـ ولي شرط آخر..
ـ قولي (يا بعد عيني)، قال حسقيل..
ـ أن تأمر بهدنة أمدها سبعة أيام بينك وبين كل الخارجين على مشيختك..
اصفرّ وجه حسقيل، وقال بانفعال:
ـ لماذا هذا الشرط؟
ـ ان ما يهمني هو وحدة القبيلة خلف رايتك، وأظن أن هذا هو ما تريده أيضا، وقد يفتح الله بين القلوب لتتصافى في هذه الأيام السبعة وقد ألعب دوراً إلى جانبك في هذا، خاصة عندما أنشط بين نساء المتمردين، في الوقت الذي تنشط بين الرجال.. وأنت تعرف، يا حسقيل، تأثير المرأة على الرجل..
كان حسقيل وهو يستمع إلى كلام نخوة، (يمسد) يمسح بيده على لحيته ويهز رأسه موافقا..
ـ ولا بد من أنك تعرف ان المرأة تنشد الاستقرار أكثر مما ينشده الرجل، ورغم ان المرأة قاسية عندما تظفر بعدوها.. (وهنا اصفرّ وجه حسقيل، لكنها لم تنظر في عينيه لكي لا تحرجه أكثر)، فإنها تنشد الاستقرار أكثر من الرجل.. لذلك سأشوقهن إلى أن يضغطن على الرجال ليقبلوا الصلح.. والباقي عليك، ولا اعتقد أنك بحاجة لأن أقول لك ماذا تفعل وأنت عراب المؤامرات.
قالت ذلك كأنها تمزح معه، في الوقت الذي كانت تقصد ما قالته.
وضحكا معا، كل وفق ما فهم، وما أراد..
قال حسقيل:
ـ إنك داهية بحق..
قالت نخوة:
ـ تربية يدك، يا حسقيل.. أما الشرط الثالث.. وقبل أن تقوله..
قال حسقيل:
ـ الله يستر.
ـ الستر، يا حسقيل، من الله، أولاً وأخيراً، بعد أن تطيب النفس وتصفو..
ـ خير إن شاء الله..
ـ أليس ما مر خيراً يا حسقيل؟ قالت نخوة وهي تبتسم له بغنج كمقدمة لكي تقنعه بالطعم المميت.. وواصلت كلامها:
ـ اما الشرط الثالث فهو أن تجتمع القبيلة في بيت الشاب الذي دبكت معه يومذاك!..
نفض حسقيل عباءته، وقام من مكانه وهو يرتجف، وبدلا من الكلام همساً.. قال بصوت مسموع:
ـ هذا الشرط أشر من كل الشروط.
بقيت نخوة جالسة في مكانها، وقالت:
ـ اجلس.. يبدو ان تدبير النساء، عندما يحببن أو يكرهن، أدق بكثير من تدبير دهاة الرجال مهما بلغ دهاؤهم.
جلس حسقيل دون ارتياح.
قالت نخوة:
ـ من يظن ان نخوة المرأة تدبر أمراً لا يفهمه حسقيل الداهية؟! قالت ذلك وهي تثبت نظرها بعينيه، ومع ذلك انفرجت أساريره عندما قالت (حسقيل الداهية)..
ـ (يا الله)، قولي لنسمع ونعرف التدبير الجديد..
ـ لم التقك منذ ذلك اليوم، ولم تحاول ان تستفهم عن السبب مني.. حتى حصل قدر الله لوالدتي..
قال حسقيل كأنه يريد ان يعرف كيف تفكر:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
نعم، رحمها الله.. من يتصور ان عمود بيت الشعر وهو من خشب يسقط على انسان ويقتله؟
وادرك فلتة لسانه، فأردف قائلا:
ـ ولكنه عمود جبار غليظ..
ـ نعم، أرأيت، يا حسقيل، ماذا يحصل للانسان عندما يشاء القدر؟ اتصدق ان عمودا كعمود بيت شعر يمكن ان يقتل انسانا!؟
كادت اعصاب حسقيل تفلت منه بعد ان صمتت نخوة قليلا، لكنها واصلت كلامها:
ـ لولا ان حكم يومها؟.. لقد كان رأسها مهشما (ممرود مرد).. بل كاد ينفلق نصفين بسبب ذلك الجرح العميق..
عندما قالت ان رأسها كاد ينفلق نصفين بسبب الجرح العميق، كادت اعصاب حسقيل تفلت خارج سكتها لولا ان قالت:
ـ كل ذلك حصل لأن لكل واحد منا يومه، يا حسقيل.. وقد يكون الله أراد خيرا.
ورغم انها ارادت بقولها (وقد يكون الله اراد خيرا) ان تفصح عن شيء ما في نفسها، الا ان حسقيل فسر قولها وفق هوى نفسه.. ولكن نخوة اتبعته بمداخلاتها لدرجة انه صار يستعجل ان تقول اي شيء ليوافق عليه من غير مناقشة، حتى لا تكتشفه نخوة.. وفي ظنه انها لا تعرف الحقيقة.. ـ قولي، يا نخوة، ما هو التدبير الذي اعددته، ولا اعرف مقصده؟
قالت:
ـ لو كنا التقينا قبل الآن.. وقبل وفاة والدتي لقلته لك، ومع ذلك اقوله لك الآن.. عندما طلبت مني ان ادبك معك.. فاجأتني.. ولا اكتمك انني اعددت نفسي منذ زمن قبل وفاة والدتي لأن أكون زوجتك يوما ما، ولذلك رحت اختلط مع نساء القبيلة لأكسب ثقتهن، واستخدمها في تعزيز سلطتك بعد الزواج.. ولذلك لو استجبت لطلبك في حينه لفقدت تأثيري بينهن.. وانت تعرف، يا حسقيل، ان إرهاصات الشباب والشابات غير طريقة تفكير الرجال والنساء الناضجين عمرا وخبرة، لذلك فأنا لست مثلك بسبب فارق العمر..
ـ بل انت (بلية) داهية، قال حسقيل، قولي تدبيرك، لا اعرف إذا كان فارق العمر لصالحي، أو ان تدبيرك الذي لم اصل اليه والى ما هو مثله يظهرني كأنني انا الشاب وانت الاكبر عمرا..
قالت:
ـ على اية حال، فان فارقا في العمر بين الرجل والمرأة بما لا يقل عن خمس سنوات، ولا يزيد عن عشر الى خمس عشرة سنة، ضروري ليعالج نضج الرجل ما ينقص المرأة، ويجعله يتحملها مثلما تتحملني انت الآن.
تبسم حسقيل وفرح بقولها.. ثم عاودت نخوة الكلام:
ـ ولذلك اتجهت لاحدهم، لكي لا ابدو ثقيلة دم امام اهل العرس، وابدو كأنني استنكف مراقصة أحد، ليس بسبب مزاجي تجاه هذا أو ذالك، وإنما لأنني لا اريد ان ارقص، لأن العرس في بيت فلان، ولحساسية قديمة بيننا لا تعرفها، فضلت ان اختار احدا لا على التعيين، وفتشت عن رجل كبير السن، فلم تهتد عيني الى أحد، ولذلك ما ان وقع نظري على احدهم وهو يرد اللثام على وجهه، حتى تصورت انه ربما كان شيخا طاعنا في السن ويتقي البرد، في الوقت الذي كان ضياء الشموع قليلا، بل بالكاد يستطيع الانسان ان يهتدي الى طريقه، وتعرف انك بسبب ذلك عثرت وسقط عقالك من على رأسك.. بل كدت تسقط على الارض لو لم يمسك بك احد الحضور.. ولكنني تورطت بعد ذلك عندما استطعت ان اخمن انه شاب، رغم انه لم يمط اللثام من وجهه.. ولكن احمد الله انه كان ملثما، ولم يمط اللثام عن وجهه، اذ لو كنت اخترت شابا من غير لثام، لربما قال من يريد ان يتقول ما يخزيك ويخزيني..
قال حسقيل:
ـ ولكن، ألا تعرفين من هو الآن!؟
ـ بلى أعرفه، الآن، يا شيخ.. قالت ذلك بأسلوب رسمي.. كأنها تريد ان تقول له: كيف تظن انني لا اعرفه الآن!؟ لتدفع ظن حسقيل فيها.. ثم اردفت:
ـ بل أعرفه، انه سالم، ولأنني عرفته، اقترحت عليك، بل اشترطت ان تكون الدعوة في بيت ابيه، لأن هذا عندما يحصل، يطرد ظن من يظن، أو من يريد ان يتقول، ان سبب اختياري له معرفة سابقة وليس مصادفة، ولذلك عندما اخترتك الآن زوجا لي، فذلك ليس لعدم وجود معرفة بالشباب، ورغبة في الزواج منه فحسب، وانما لأنك تقدمت لخطبتي كشيخ للقبيلة، وفضلتك عليه لسبب يتعلق بعنوانك، وليس لصفاتك ولحبي لك..
تبسمت نخوة، وضحك الشيخ حسقيل، ومال رأسه الى الخلف وهو يقهقه، ونسي انه جاء ليعزي نخوة بوفاة أمها..
قال حسقيل:
ـ لك ما تريدين، وفوقها حياة حسقيل.. اذن بعد سبعة ايام نلتقي على الغداء في بيت أبي سالم.. أليس كذلك!؟
ـ نعم، على بركة الله، قالت نخوة..
وقف حسقيل، وقال قبل ان يغادر المكان:
ـ اذن، تتولين دعوة النساء، واتولى دعوة الرجال، ولكن ما رأيك لو حضر حليفنا شيخ قبيلة الروم ليبارك زواجنا؟
ـ لا، يا حسقيل، ابقها ضمن القبيلة، ولا تعقد الامور مع الذين خرجوا عليك، ذلك لأن اعادتهم تحت رايتك هي الاساس والاهم، واظن ان حليفنا شيخ الروم سيسره ذلك.
ـ اي نعم.. طبعا.. على بركة الله.
ـ على بركة الله.. قالت نخوة..
انصرف حسقيل مودعا من عمي نخوة وحازم وعمر وسمعان..
التقت نخوة بسالم، وتباحثا في الخطوة القادمة، ولكنه استعجل المغادرة، وفيما بقيت نخوة داخل بيت ابيه، سلم عليها وخرج، وكان سالم قد اعتاد على ان يبقي فرسه في مكان منزو لا تبان منه الفرس، ولكن على مقربة من مكان سكن والده بمسافة يتمكن ان يصلها عندما يحتاجها، في الوقت الذي لا تقع عيون المتصيدين عليها.. وما ان اقترب سالم من فرسه، حتى هاجمه ثلاثة ملثمين يشهرون سيوفهم بأيديهم.. وفي الوقت الذي ابلى سالم في مواجهتهم بلاء حسنا، كان يمعن النظر في وجوههم بضوء القمر، ويدقق كلما وجد فرصة، لعله يعرف واحدا منهم، ولكنه لم يستطع ان يتبين الا جزءا من ملامح حسقيل، وفق ما خمن، خاصة عينيه، ومع انه اصاب بسيفه ذراع احدهم اصابة بالغة، وتمكن من ان يصيب ذراع يد حسقيل التي كان يمسك السيف بها، ولكنها لم تكن اصابة بالغة وفق ما قدر، اما هو فقد اصيب اصابة خفيفة في ذراعه الايسر ايضا.
فر المعتدون هاربين، وبدلاً من ان يمتطي سالم فرسه ويغادر، عاد ادراجه الى بيت ابيه.. وعندما دخل والدم يسيل من ذراعه، جفل الجميع وهبوا واقفين، وبينما كانت نخوة تضع يدها على فمها لتكتم صيحة حبستها في صدرها، راحت اخت سالم تذرف الدموع وهي تضع احدى يديها على فمها.. وراحت ام سالم تتحسس الجرح.. وبعد ان كفت كم الردن عنه هدأ روعها نسبيا، عندما وجدت ان الجرح بسيط، في الوقت الذي قال ابو سالم دون ان يغير جلسته:
ـ سلامات، يا ولدي، سلامات.. انها (بالريش) ـ اي اصابة سطحية ثم اردف يقول، وهو يقترب من النار التي كان يسخن الحليب عليها، ويرد اعقاب العيدان غير المشتعلة على اطراف الموقد:
ـ (هاك السنة) أي تلك السنة، غزونا إحدى القبائل، فضربني احدهم برمح اخترق صدري، بعد ان قاتلته برمحي وانا اركض على الارض، في الوقت الذي كان هو على فرس، وعندما سقطت على الارض قال لي (جود للشجر)، اي امسك بأي شجرة من نبت الارض.. وعندما امسكت بشجرة قريبة مني، سحب رمحه من صدري، حتى ان مكان الاصابة (تنام فيه البقرة الآن)، كما يقول المثل، ومثلما تعرف ام سالم.. فهاك يا ولدي هذا الرماد ـ وقدمه له على (محمس) (6) القهوة ـ ضعه على الجرح.
وضع سالم الرماد على جرحه، وساعدته نخوة وام سالم، وضمدتاه بخرقة كانت معهما..
وعندما سألتاه عن الغرماء، قال:
وادرك فلتة لسانه، فأردف قائلا:
ـ ولكنه عمود جبار غليظ..
ـ نعم، أرأيت، يا حسقيل، ماذا يحصل للانسان عندما يشاء القدر؟ اتصدق ان عمودا كعمود بيت شعر يمكن ان يقتل انسانا!؟
كادت اعصاب حسقيل تفلت منه بعد ان صمتت نخوة قليلا، لكنها واصلت كلامها:
ـ لولا ان حكم يومها؟.. لقد كان رأسها مهشما (ممرود مرد).. بل كاد ينفلق نصفين بسبب ذلك الجرح العميق..
عندما قالت ان رأسها كاد ينفلق نصفين بسبب الجرح العميق، كادت اعصاب حسقيل تفلت خارج سكتها لولا ان قالت:
ـ كل ذلك حصل لأن لكل واحد منا يومه، يا حسقيل.. وقد يكون الله أراد خيرا.
ورغم انها ارادت بقولها (وقد يكون الله اراد خيرا) ان تفصح عن شيء ما في نفسها، الا ان حسقيل فسر قولها وفق هوى نفسه.. ولكن نخوة اتبعته بمداخلاتها لدرجة انه صار يستعجل ان تقول اي شيء ليوافق عليه من غير مناقشة، حتى لا تكتشفه نخوة.. وفي ظنه انها لا تعرف الحقيقة.. ـ قولي، يا نخوة، ما هو التدبير الذي اعددته، ولا اعرف مقصده؟
قالت:
ـ لو كنا التقينا قبل الآن.. وقبل وفاة والدتي لقلته لك، ومع ذلك اقوله لك الآن.. عندما طلبت مني ان ادبك معك.. فاجأتني.. ولا اكتمك انني اعددت نفسي منذ زمن قبل وفاة والدتي لأن أكون زوجتك يوما ما، ولذلك رحت اختلط مع نساء القبيلة لأكسب ثقتهن، واستخدمها في تعزيز سلطتك بعد الزواج.. ولذلك لو استجبت لطلبك في حينه لفقدت تأثيري بينهن.. وانت تعرف، يا حسقيل، ان إرهاصات الشباب والشابات غير طريقة تفكير الرجال والنساء الناضجين عمرا وخبرة، لذلك فأنا لست مثلك بسبب فارق العمر..
ـ بل انت (بلية) داهية، قال حسقيل، قولي تدبيرك، لا اعرف إذا كان فارق العمر لصالحي، أو ان تدبيرك الذي لم اصل اليه والى ما هو مثله يظهرني كأنني انا الشاب وانت الاكبر عمرا..
قالت:
ـ على اية حال، فان فارقا في العمر بين الرجل والمرأة بما لا يقل عن خمس سنوات، ولا يزيد عن عشر الى خمس عشرة سنة، ضروري ليعالج نضج الرجل ما ينقص المرأة، ويجعله يتحملها مثلما تتحملني انت الآن.
تبسم حسقيل وفرح بقولها.. ثم عاودت نخوة الكلام:
ـ ولذلك اتجهت لاحدهم، لكي لا ابدو ثقيلة دم امام اهل العرس، وابدو كأنني استنكف مراقصة أحد، ليس بسبب مزاجي تجاه هذا أو ذالك، وإنما لأنني لا اريد ان ارقص، لأن العرس في بيت فلان، ولحساسية قديمة بيننا لا تعرفها، فضلت ان اختار احدا لا على التعيين، وفتشت عن رجل كبير السن، فلم تهتد عيني الى أحد، ولذلك ما ان وقع نظري على احدهم وهو يرد اللثام على وجهه، حتى تصورت انه ربما كان شيخا طاعنا في السن ويتقي البرد، في الوقت الذي كان ضياء الشموع قليلا، بل بالكاد يستطيع الانسان ان يهتدي الى طريقه، وتعرف انك بسبب ذلك عثرت وسقط عقالك من على رأسك.. بل كدت تسقط على الارض لو لم يمسك بك احد الحضور.. ولكنني تورطت بعد ذلك عندما استطعت ان اخمن انه شاب، رغم انه لم يمط اللثام من وجهه.. ولكن احمد الله انه كان ملثما، ولم يمط اللثام عن وجهه، اذ لو كنت اخترت شابا من غير لثام، لربما قال من يريد ان يتقول ما يخزيك ويخزيني..
قال حسقيل:
ـ ولكن، ألا تعرفين من هو الآن!؟
ـ بلى أعرفه، الآن، يا شيخ.. قالت ذلك بأسلوب رسمي.. كأنها تريد ان تقول له: كيف تظن انني لا اعرفه الآن!؟ لتدفع ظن حسقيل فيها.. ثم اردفت:
ـ بل أعرفه، انه سالم، ولأنني عرفته، اقترحت عليك، بل اشترطت ان تكون الدعوة في بيت ابيه، لأن هذا عندما يحصل، يطرد ظن من يظن، أو من يريد ان يتقول، ان سبب اختياري له معرفة سابقة وليس مصادفة، ولذلك عندما اخترتك الآن زوجا لي، فذلك ليس لعدم وجود معرفة بالشباب، ورغبة في الزواج منه فحسب، وانما لأنك تقدمت لخطبتي كشيخ للقبيلة، وفضلتك عليه لسبب يتعلق بعنوانك، وليس لصفاتك ولحبي لك..
تبسمت نخوة، وضحك الشيخ حسقيل، ومال رأسه الى الخلف وهو يقهقه، ونسي انه جاء ليعزي نخوة بوفاة أمها..
قال حسقيل:
ـ لك ما تريدين، وفوقها حياة حسقيل.. اذن بعد سبعة ايام نلتقي على الغداء في بيت أبي سالم.. أليس كذلك!؟
ـ نعم، على بركة الله، قالت نخوة..
وقف حسقيل، وقال قبل ان يغادر المكان:
ـ اذن، تتولين دعوة النساء، واتولى دعوة الرجال، ولكن ما رأيك لو حضر حليفنا شيخ قبيلة الروم ليبارك زواجنا؟
ـ لا، يا حسقيل، ابقها ضمن القبيلة، ولا تعقد الامور مع الذين خرجوا عليك، ذلك لأن اعادتهم تحت رايتك هي الاساس والاهم، واظن ان حليفنا شيخ الروم سيسره ذلك.
ـ اي نعم.. طبعا.. على بركة الله.
ـ على بركة الله.. قالت نخوة..
انصرف حسقيل مودعا من عمي نخوة وحازم وعمر وسمعان..
التقت نخوة بسالم، وتباحثا في الخطوة القادمة، ولكنه استعجل المغادرة، وفيما بقيت نخوة داخل بيت ابيه، سلم عليها وخرج، وكان سالم قد اعتاد على ان يبقي فرسه في مكان منزو لا تبان منه الفرس، ولكن على مقربة من مكان سكن والده بمسافة يتمكن ان يصلها عندما يحتاجها، في الوقت الذي لا تقع عيون المتصيدين عليها.. وما ان اقترب سالم من فرسه، حتى هاجمه ثلاثة ملثمين يشهرون سيوفهم بأيديهم.. وفي الوقت الذي ابلى سالم في مواجهتهم بلاء حسنا، كان يمعن النظر في وجوههم بضوء القمر، ويدقق كلما وجد فرصة، لعله يعرف واحدا منهم، ولكنه لم يستطع ان يتبين الا جزءا من ملامح حسقيل، وفق ما خمن، خاصة عينيه، ومع انه اصاب بسيفه ذراع احدهم اصابة بالغة، وتمكن من ان يصيب ذراع يد حسقيل التي كان يمسك السيف بها، ولكنها لم تكن اصابة بالغة وفق ما قدر، اما هو فقد اصيب اصابة خفيفة في ذراعه الايسر ايضا.
فر المعتدون هاربين، وبدلاً من ان يمتطي سالم فرسه ويغادر، عاد ادراجه الى بيت ابيه.. وعندما دخل والدم يسيل من ذراعه، جفل الجميع وهبوا واقفين، وبينما كانت نخوة تضع يدها على فمها لتكتم صيحة حبستها في صدرها، راحت اخت سالم تذرف الدموع وهي تضع احدى يديها على فمها.. وراحت ام سالم تتحسس الجرح.. وبعد ان كفت كم الردن عنه هدأ روعها نسبيا، عندما وجدت ان الجرح بسيط، في الوقت الذي قال ابو سالم دون ان يغير جلسته:
ـ سلامات، يا ولدي، سلامات.. انها (بالريش) ـ اي اصابة سطحية ثم اردف يقول، وهو يقترب من النار التي كان يسخن الحليب عليها، ويرد اعقاب العيدان غير المشتعلة على اطراف الموقد:
ـ (هاك السنة) أي تلك السنة، غزونا إحدى القبائل، فضربني احدهم برمح اخترق صدري، بعد ان قاتلته برمحي وانا اركض على الارض، في الوقت الذي كان هو على فرس، وعندما سقطت على الارض قال لي (جود للشجر)، اي امسك بأي شجرة من نبت الارض.. وعندما امسكت بشجرة قريبة مني، سحب رمحه من صدري، حتى ان مكان الاصابة (تنام فيه البقرة الآن)، كما يقول المثل، ومثلما تعرف ام سالم.. فهاك يا ولدي هذا الرماد ـ وقدمه له على (محمس) (6) القهوة ـ ضعه على الجرح.
وضع سالم الرماد على جرحه، وساعدته نخوة وام سالم، وضمدتاه بخرقة كانت معهما..
وعندما سألتاه عن الغرماء، قال:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
انهم ثلاثة، اصبت احدهم بذراعه اصابة بليغة، واصبت الآخر اصابة ليست عميقة على ما اظن.. ولكنها اصابة جعلت دماءه تنزف من ذراع يده التي تحمل السيف، وبعد ذلك ولوا هاربين، وكانوا كلهم ملثمين.. ولكنني ربما عرفت أحدهم..
سألته نخوة:
ـ من هو؟ كأنها خمنت انه حسقيل..
قال:
ـ أهم شيء ركزت عليه هو عيناه وما حولهما.. وراح يصف لنخوة وأهله جانبا من التفاصيل..
قالت نخوة:
ـ اظنني خمنته..
أمال سالم رأسه ناحية نخوة وهمس قائلا:
ـ اظنه هو..
ورغم ان والد سالم اراد ان يعرف، ولكن سالم لم يعطهم مجالا، وعاد الى فرسه، وامتطى ظهرها، وانطلق حتى وصل مجموعته.
بعد ظهر اليوم التالي، طلب حسقيل ان يرى نخوة، وراح يسألها عن تفاصيل تافهة تتعلق بترتيبات وليمة الزواج، وبمن سيستعين لابلاغ المتمردين بأنه، اي حسقيل، قد عفا عنهم.. او ما شابه ذلك..
فهمت نخوة، انه وان اخفى عليها ما حصل لسالم، وكأن شيئا لم يكن، اراد بالاستفسار من نخوة عمن يبعث به الى المتمردين عليه، ان يقول انه بعد ان يبعث اليهم من يبعثه لإبلاغهم، يكون امره بالعفو نافذا، عند ذلك لكي يحتاط امام احتمال افتضاح امره عندما تعرف نخوة وتفسر الحال مثلما هو في حقيقته.. انه عذر اراد حسقيل من ورائه ان يسبق الدعوة، بل اراد ان يجعل مشروع مكان الدعوة في بيت ابي سالم غير ممكن، اذا قتل سالم..
وبعد ان اكمل حسقيل كلامه مع نخوة، استأذن لينصرف، وقد تعمدت ان تتمشى معه امام البيت، وكلما اتيحت امامها فرصة، امسكته بقوة من ذراعه الايمن وضغطت على المكان الذي عّينه سالم..
كان حسقيل ينفض يده منها، وهو يصرخ مولولا من شدة الألم..
سألته نخوة:
ـ ما بك، يا حسقيل؟ هل ثمة شيء يؤلمك؟.. ما بك؟
ـ لا شيء.. ربما نمت على يدي هذه، وصارت تؤلمني الآن.. حالة طارئة وسوف تزول..
ثم يستأنفان المشي.. وتغافله نخوة، وتمسك بذراعه، وتضغط عليه بشدة اقوى.. ويصرخ حسقيل من فوره:
ـ اخ.. قتلتيني، يا بنت الحلال، اتركي يدي، ولكنه هذه المرة سقط مغشيا عليه من شدة الألم.
حمله سمعان وعمر، وأضجعاه على الفراش في الربعة.
كشفت نخوة الردن عن ذراعه، وهو في حالة غيبوبة، وعرفت الحقيقة مثلما هي، اصابة في ذراعه، كما اخبرها سالم.. رشقت وجهه بالماء وصفعته عدة مرات على وجهه، بدلا من ان تضرب خديه برفق ليصحو..
(يتمزمز) عمر وسمعان في ضحكتهما، ويديران وجهيهما الى الناحية الأخرى.
يفوق حسقيل.. وتقول نخوة كأنها لا تعرف شيئا:
ـ ماذا بك، يا حسقيل؟ لقد اخفتني، وكدت اصرخ، عندما سقطت مغشيا عليك.. ربما التوى كوع يدك دون ان تدري، يا حسقيل، مما يستوجب ان تعرض نفسك على من يجبرها لك..
عندما قالت نخوة ذلك، كأنما قدمت لحسقيل حبل نجاة.. لعذر يغطي به ما يريد ان يخفيه عنها.
ـ نعم قد يكون ذلك.. ولكن ماذا حصل لي وسقطت؟
ـ لا عليك ان الألم يسقط اشد الرجال.. وليس في هذا غضاضة.. ثم انك سقطت في حضني، يا حسقيل..
وينتعش حسقيل وهو يسمع (سقطت في حضني يا حسقيل) ويذهب عنه الحرج فيقول:
ـ ان حضنك حياتي.. فما اكثر ما خططت لأحظى به.. وها قد حققت امنيتي..
ـ ولكني آمل ان يكون حضنك ربعة في بيت شعر كبير، لا تكفيه واحدة.. وانما يحوي عددا غفيرا منهن..
ضحكوا.. وغادر حسقيل..
مرت الأيام ببطء شديد على سالم.. ذلك لانه عندما طرح فكرة حضورهم الى الدعوة، تساءل بعض جماعته: لماذا يذهبون الى هناك؟.. وماذا يعنيهم في خطوبة نخوة؟.. بل، الا تضعف خطوبة حسقيل لنخوة عملها بين النساء؟.. ألم تكن فكرة زواج حسقيل من نخوة فكرة مدبرة اساسا لتقوية نفوذه وسيطرته في القبيلة؟.. وماذا يجعل حسقيل يتزوج من قبيلتنا، إلا ويكون خلف الموضوع خطط وغدر؟
ويقول آخر:
ـ لماذا لا تقول ان زوجة من قبيلتنا لحسقيل قد تجعلنا نقترب منه لنتمكن..؟
ويقول احدهم محتدا:
ـ اتبني اهدافك وخططك، يا أخي، على هذا الاحتمال؟ اذن، وصلنا الى اهدافنا.. يقول الجملة الاخيرة مستهزئا.. ويردف قائلا:
ـ ان النساء مؤثرات في الرجال عندما لا يقرر الرجال امرا خطيرا.. وفي كل الاحوال ليس عندما يكون عقل الرجل قد انشغل بتدبير لا يناسب هوى المرأة.. ولذلك سنخسر نخوة بدلا من التأثير في حسقيل.. وكان الافضل ان ننصح نخوة بان لا توافق على هذا الزواج، بل نمنعها منه.. حتى ان اقتضى الامر القوة، ولو كلفتموني لنفذته..
صدر هذا الكلام من احد ابناء عمومة نخوة.. ولكنه اجرى آخر مداخلة بقوله:
ـ ما ادرانا، ربما كانت فكرة الدعوة في بيت سالم فخاً لنا بالاساس، وما اختيار بيت سالم إلا ليضمنوا حضوره، وبحضوره يضمنون حضور العناصر القيادية والمؤثرة، وبذلك يضمنون ان تكون فعلتهم فظيعة لو نفذوا مؤامرة محبوكة ضدنا..
وراح كل يدلو بدلوه، ولكن ايا من الدلاء لم يأت بماء يروي، وفق ما اعد سالم او ما هو راغب فيه، لذلك.. علق سالم:
ـ مع انني احترم وأقدر رأي اخواني المتحدثين جميعا.. واعرف نواياهم التي اساسها ما يعز القبيلة، ويرفع شأنها والظلم عنها.. ويجعلها تحكم بالحق الذي يرضي الله، ويعز الانسان، ويعطيه حرية ان يفكر من غير خوف، وان يقرر من غير تردد، وان لا يستكن امام جور او ظلم، ولا يقبل بهما غطاء لفعل شيخ او رعية تجاه النفس والآخرين.. ولكن ارجو ان تنصتوا الى ما سأقوله.. ان منهجنا لا يدعو الى الصلح مع حسقيل، وانصاف الحلول.. وانما يدعو الى الاطاحة بحسقيل ومشيخته المزيفة، ويدعو الى اضعاف، ومن ثم اسقاط حلف مشيخة حسقيل مع شيخ الروم وقبيلته واهدافهما المشتركة.. ان هذا هو منهجنا
سألته نخوة:
ـ من هو؟ كأنها خمنت انه حسقيل..
قال:
ـ أهم شيء ركزت عليه هو عيناه وما حولهما.. وراح يصف لنخوة وأهله جانبا من التفاصيل..
قالت نخوة:
ـ اظنني خمنته..
أمال سالم رأسه ناحية نخوة وهمس قائلا:
ـ اظنه هو..
ورغم ان والد سالم اراد ان يعرف، ولكن سالم لم يعطهم مجالا، وعاد الى فرسه، وامتطى ظهرها، وانطلق حتى وصل مجموعته.
بعد ظهر اليوم التالي، طلب حسقيل ان يرى نخوة، وراح يسألها عن تفاصيل تافهة تتعلق بترتيبات وليمة الزواج، وبمن سيستعين لابلاغ المتمردين بأنه، اي حسقيل، قد عفا عنهم.. او ما شابه ذلك..
فهمت نخوة، انه وان اخفى عليها ما حصل لسالم، وكأن شيئا لم يكن، اراد بالاستفسار من نخوة عمن يبعث به الى المتمردين عليه، ان يقول انه بعد ان يبعث اليهم من يبعثه لإبلاغهم، يكون امره بالعفو نافذا، عند ذلك لكي يحتاط امام احتمال افتضاح امره عندما تعرف نخوة وتفسر الحال مثلما هو في حقيقته.. انه عذر اراد حسقيل من ورائه ان يسبق الدعوة، بل اراد ان يجعل مشروع مكان الدعوة في بيت ابي سالم غير ممكن، اذا قتل سالم..
وبعد ان اكمل حسقيل كلامه مع نخوة، استأذن لينصرف، وقد تعمدت ان تتمشى معه امام البيت، وكلما اتيحت امامها فرصة، امسكته بقوة من ذراعه الايمن وضغطت على المكان الذي عّينه سالم..
كان حسقيل ينفض يده منها، وهو يصرخ مولولا من شدة الألم..
سألته نخوة:
ـ ما بك، يا حسقيل؟ هل ثمة شيء يؤلمك؟.. ما بك؟
ـ لا شيء.. ربما نمت على يدي هذه، وصارت تؤلمني الآن.. حالة طارئة وسوف تزول..
ثم يستأنفان المشي.. وتغافله نخوة، وتمسك بذراعه، وتضغط عليه بشدة اقوى.. ويصرخ حسقيل من فوره:
ـ اخ.. قتلتيني، يا بنت الحلال، اتركي يدي، ولكنه هذه المرة سقط مغشيا عليه من شدة الألم.
حمله سمعان وعمر، وأضجعاه على الفراش في الربعة.
كشفت نخوة الردن عن ذراعه، وهو في حالة غيبوبة، وعرفت الحقيقة مثلما هي، اصابة في ذراعه، كما اخبرها سالم.. رشقت وجهه بالماء وصفعته عدة مرات على وجهه، بدلا من ان تضرب خديه برفق ليصحو..
(يتمزمز) عمر وسمعان في ضحكتهما، ويديران وجهيهما الى الناحية الأخرى.
يفوق حسقيل.. وتقول نخوة كأنها لا تعرف شيئا:
ـ ماذا بك، يا حسقيل؟ لقد اخفتني، وكدت اصرخ، عندما سقطت مغشيا عليك.. ربما التوى كوع يدك دون ان تدري، يا حسقيل، مما يستوجب ان تعرض نفسك على من يجبرها لك..
عندما قالت نخوة ذلك، كأنما قدمت لحسقيل حبل نجاة.. لعذر يغطي به ما يريد ان يخفيه عنها.
ـ نعم قد يكون ذلك.. ولكن ماذا حصل لي وسقطت؟
ـ لا عليك ان الألم يسقط اشد الرجال.. وليس في هذا غضاضة.. ثم انك سقطت في حضني، يا حسقيل..
وينتعش حسقيل وهو يسمع (سقطت في حضني يا حسقيل) ويذهب عنه الحرج فيقول:
ـ ان حضنك حياتي.. فما اكثر ما خططت لأحظى به.. وها قد حققت امنيتي..
ـ ولكني آمل ان يكون حضنك ربعة في بيت شعر كبير، لا تكفيه واحدة.. وانما يحوي عددا غفيرا منهن..
ضحكوا.. وغادر حسقيل..
مرت الأيام ببطء شديد على سالم.. ذلك لانه عندما طرح فكرة حضورهم الى الدعوة، تساءل بعض جماعته: لماذا يذهبون الى هناك؟.. وماذا يعنيهم في خطوبة نخوة؟.. بل، الا تضعف خطوبة حسقيل لنخوة عملها بين النساء؟.. ألم تكن فكرة زواج حسقيل من نخوة فكرة مدبرة اساسا لتقوية نفوذه وسيطرته في القبيلة؟.. وماذا يجعل حسقيل يتزوج من قبيلتنا، إلا ويكون خلف الموضوع خطط وغدر؟
ويقول آخر:
ـ لماذا لا تقول ان زوجة من قبيلتنا لحسقيل قد تجعلنا نقترب منه لنتمكن..؟
ويقول احدهم محتدا:
ـ اتبني اهدافك وخططك، يا أخي، على هذا الاحتمال؟ اذن، وصلنا الى اهدافنا.. يقول الجملة الاخيرة مستهزئا.. ويردف قائلا:
ـ ان النساء مؤثرات في الرجال عندما لا يقرر الرجال امرا خطيرا.. وفي كل الاحوال ليس عندما يكون عقل الرجل قد انشغل بتدبير لا يناسب هوى المرأة.. ولذلك سنخسر نخوة بدلا من التأثير في حسقيل.. وكان الافضل ان ننصح نخوة بان لا توافق على هذا الزواج، بل نمنعها منه.. حتى ان اقتضى الامر القوة، ولو كلفتموني لنفذته..
صدر هذا الكلام من احد ابناء عمومة نخوة.. ولكنه اجرى آخر مداخلة بقوله:
ـ ما ادرانا، ربما كانت فكرة الدعوة في بيت سالم فخاً لنا بالاساس، وما اختيار بيت سالم إلا ليضمنوا حضوره، وبحضوره يضمنون حضور العناصر القيادية والمؤثرة، وبذلك يضمنون ان تكون فعلتهم فظيعة لو نفذوا مؤامرة محبوكة ضدنا..
وراح كل يدلو بدلوه، ولكن ايا من الدلاء لم يأت بماء يروي، وفق ما اعد سالم او ما هو راغب فيه، لذلك.. علق سالم:
ـ مع انني احترم وأقدر رأي اخواني المتحدثين جميعا.. واعرف نواياهم التي اساسها ما يعز القبيلة، ويرفع شأنها والظلم عنها.. ويجعلها تحكم بالحق الذي يرضي الله، ويعز الانسان، ويعطيه حرية ان يفكر من غير خوف، وان يقرر من غير تردد، وان لا يستكن امام جور او ظلم، ولا يقبل بهما غطاء لفعل شيخ او رعية تجاه النفس والآخرين.. ولكن ارجو ان تنصتوا الى ما سأقوله.. ان منهجنا لا يدعو الى الصلح مع حسقيل، وانصاف الحلول.. وانما يدعو الى الاطاحة بحسقيل ومشيخته المزيفة، ويدعو الى اضعاف، ومن ثم اسقاط حلف مشيخة حسقيل مع شيخ الروم وقبيلته واهدافهما المشتركة.. ان هذا هو منهجنا
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
وعلى هذا نعمل، ولكن عندما تطرح فكرة مناقشة منهج للصلح على هامش زواج نخوة منه، وان يكون هذا واحدا من شروط نخوة عليه، وشرطها الآخر ان تكون الدعوة في بيت ابي، في بيتي، فإن حضور حسقيل وكل شيوخ القبائل في بيت من يعتبره المتمردون من اجل الحق، وضد دور حسقيل وحلفه، مرغما وليس مختارا في بيتنا له معناه.. وانه قد يكون الخطوة التي تسبق انتصارنا، ذلك لان هذا يعني ان القبيلة وحسقيل قبلا ضمنا بولاية والدي.. او ولايتي على القبيلة، لاننا نحن الذين نشرف على الدعوة.. انا وانتم.. ونحن الذين نقوم بواجب الضيافة.. انا وانتم، ومن يقوم بواجب الضيافة تكون له دالة نفسية تأثيرية خاصة على من يكون ضيفا فحسب..
ـ قال كهل من الحاضرين:
ـ لو سمحت يا كبيرنا سالم.. المثل عندنا يقول: «ان المعزب (المضيف) اسير الضيف».. وهذا يعني ان لا يفعل شيئا إلا وفق رغبة الضيف، وعلى هذا يمكننا ان نقول انه ليس لدوره امتياز، وانما التزامات عليه ان يؤديها..
قال سالم:
ـ ان ما قلته صحيح وفق المعاني التي اشرت اليها، وهي عبارة قيلت لتلطيف الضيف، ولكن هل باستطاعة الضيف اذا ما قدمنا له تمرا وخبزا ان يقول، اريد لبنا وخبزا.. او اريد ثريد دجاج، بدلا من ثريد لحم ضأن مثلا!؟.
ـ لا.. ليس بامكان الضيف (الخطار) ان يفعل ذلك.. ولكن لان المضيف.. يقدم افضل ما لديه للضيف، فليس الافضل بالنسبة له ان يختار، وانما ان يأكل كل ما يقدم له، ولان من عادة المضيف ان يقدم ما هو الاحسن بين كل ما هو موجود في البيت، ومن ذلك حتى نوع فراشه وغطائه، فان العادة تقتضي ان يقبل الضيف باحكام مضيفه..
قال سالم:
ـ ان اشرافنا على الدعوة وتنظيمها امتياز.. بل هنالك ما يطمئنكم اكثر على غدر حسقيل.. فقد اشترطت نخوة ان يحضر كل الرجال البالغين، وان يكون عذر من يتخلف عن الحضور معروفا لمن يحضر، ولذلك سنلاحظ هذا.. واشترطت ان لا يأتي احد بأي سلاح حتى لو كانت عصيا غلاظا.. وعندما اشترطت ان تكون الدعوة في بيتنا، لم تشترط ان لا يكون في بيتنا سلاح.. ذلك لانها واثقة من اننا لا نغدر.. وامام هذه الصورة، فان حسقيل اولى بان يعيش مع الهواجس، وهو الغريب على القبيلة، المغتصب لحقوقها، وليس نحن مع ان الحذر واجب.. وعدم الاطمئنان الى حسقيل ضروري.. ولكن لان الدعوة دعوة نخوة.. ولم اسير غورها في امور اخرى، لذلك من الواجب ان نحضر كلنا، ومعنا سلاحنا.. على ان يكون في بيتي وليس في حوزتكم، تنفيذا للشروط.
ارتاح الجميع وقالوا:
ـ على بركة الله..
وقال بعضهم بصوت مسموع:
ـ قلنا في أنفسنا إن سالم لا بد أن يكون قد حسبها جيداً.. وها قد بان لنا جميعاً أنك قد حسبتها جيداً، لذلك سوف نحضر جميعاً وفق أمرك.. وعلى بركة الله..
*** كانت نخوة قد هيّأت كل شيء يعز ويعبر عن مستوى الكرم العربي في بيت أبي سالم، ورغم أن أبا سالم وسالم كانا يتمنيان أن يقوما بذلك، لكن نخوة قالت لعمها أبي سالم:
ـ هل هناك فرق بين ما أملكه وما تملكه، يا عم؟ ألسنا في طريقنا لأن نكوّن بيتاً واحداً وعائلة واحدة، إن شاء الله؟ بل نحن عائلة واحدة منذ الآن، إلا ما حرّم الله.
قال أبو سالم:
ـ ولكن..
قاطعته نخوة بأدب، موجهة الكلام إلى سالم:
ـ قل أي شيء، يا سالم.
وحين تردد سالم، أردفت:
ـ ألا يعود لك المال الذي ننفق منه الآن، يا سالم؟ ألست خطيبي، وفي نيتنا أن نتزوج، إن شاء الله؟، أم تراك عزلت مالك عن مال أبيك إلى الحد الذي لم تعد تجد في المال الذي ننفقه على الدعوة الآن كأنه مال أبيك؟ قل!! وضحك الجميع كأنهم تجاوزوا الموضوع.
هوامش:
1 ـ النعجة الحائلة، النعجة غير الحامل في موسمها، أو التي تلد بين موسم وآخر.
2 ـ محمس القهوة، طاسة من حديد يتصل بها قضيب، على شكل دائرة توضع حبوب القهوة فيها وهي تقلى على النار وتقلب بقضيب آخر مطروق في نهاية رأسه على شكل ملعقة وتسمى (الخاشوكة) هي مفردة أعجمية
ـ قال كهل من الحاضرين:
ـ لو سمحت يا كبيرنا سالم.. المثل عندنا يقول: «ان المعزب (المضيف) اسير الضيف».. وهذا يعني ان لا يفعل شيئا إلا وفق رغبة الضيف، وعلى هذا يمكننا ان نقول انه ليس لدوره امتياز، وانما التزامات عليه ان يؤديها..
قال سالم:
ـ ان ما قلته صحيح وفق المعاني التي اشرت اليها، وهي عبارة قيلت لتلطيف الضيف، ولكن هل باستطاعة الضيف اذا ما قدمنا له تمرا وخبزا ان يقول، اريد لبنا وخبزا.. او اريد ثريد دجاج، بدلا من ثريد لحم ضأن مثلا!؟.
ـ لا.. ليس بامكان الضيف (الخطار) ان يفعل ذلك.. ولكن لان المضيف.. يقدم افضل ما لديه للضيف، فليس الافضل بالنسبة له ان يختار، وانما ان يأكل كل ما يقدم له، ولان من عادة المضيف ان يقدم ما هو الاحسن بين كل ما هو موجود في البيت، ومن ذلك حتى نوع فراشه وغطائه، فان العادة تقتضي ان يقبل الضيف باحكام مضيفه..
قال سالم:
ـ ان اشرافنا على الدعوة وتنظيمها امتياز.. بل هنالك ما يطمئنكم اكثر على غدر حسقيل.. فقد اشترطت نخوة ان يحضر كل الرجال البالغين، وان يكون عذر من يتخلف عن الحضور معروفا لمن يحضر، ولذلك سنلاحظ هذا.. واشترطت ان لا يأتي احد بأي سلاح حتى لو كانت عصيا غلاظا.. وعندما اشترطت ان تكون الدعوة في بيتنا، لم تشترط ان لا يكون في بيتنا سلاح.. ذلك لانها واثقة من اننا لا نغدر.. وامام هذه الصورة، فان حسقيل اولى بان يعيش مع الهواجس، وهو الغريب على القبيلة، المغتصب لحقوقها، وليس نحن مع ان الحذر واجب.. وعدم الاطمئنان الى حسقيل ضروري.. ولكن لان الدعوة دعوة نخوة.. ولم اسير غورها في امور اخرى، لذلك من الواجب ان نحضر كلنا، ومعنا سلاحنا.. على ان يكون في بيتي وليس في حوزتكم، تنفيذا للشروط.
ارتاح الجميع وقالوا:
ـ على بركة الله..
وقال بعضهم بصوت مسموع:
ـ قلنا في أنفسنا إن سالم لا بد أن يكون قد حسبها جيداً.. وها قد بان لنا جميعاً أنك قد حسبتها جيداً، لذلك سوف نحضر جميعاً وفق أمرك.. وعلى بركة الله..
*** كانت نخوة قد هيّأت كل شيء يعز ويعبر عن مستوى الكرم العربي في بيت أبي سالم، ورغم أن أبا سالم وسالم كانا يتمنيان أن يقوما بذلك، لكن نخوة قالت لعمها أبي سالم:
ـ هل هناك فرق بين ما أملكه وما تملكه، يا عم؟ ألسنا في طريقنا لأن نكوّن بيتاً واحداً وعائلة واحدة، إن شاء الله؟ بل نحن عائلة واحدة منذ الآن، إلا ما حرّم الله.
قال أبو سالم:
ـ ولكن..
قاطعته نخوة بأدب، موجهة الكلام إلى سالم:
ـ قل أي شيء، يا سالم.
وحين تردد سالم، أردفت:
ـ ألا يعود لك المال الذي ننفق منه الآن، يا سالم؟ ألست خطيبي، وفي نيتنا أن نتزوج، إن شاء الله؟، أم تراك عزلت مالك عن مال أبيك إلى الحد الذي لم تعد تجد في المال الذي ننفقه على الدعوة الآن كأنه مال أبيك؟ قل!! وضحك الجميع كأنهم تجاوزوا الموضوع.
هوامش:
1 ـ النعجة الحائلة، النعجة غير الحامل في موسمها، أو التي تلد بين موسم وآخر.
2 ـ محمس القهوة، طاسة من حديد يتصل بها قضيب، على شكل دائرة توضع حبوب القهوة فيها وهي تقلى على النار وتقلب بقضيب آخر مطروق في نهاية رأسه على شكل ملعقة وتسمى (الخاشوكة) هي مفردة أعجمية
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
ويواصل حسقيل خبثه مع شيخ عشيرة المضطرة عن طريق «مشروعات» تربط العشيرة بالاجنبي، وتصل ممارسات حسقيل الى حد التخطيط لقتل الشيخة، وفي المقابل فكرت الشيخة في قتل حسقيل للتخلص من شروره. ويظهر عنصر جديد في الاحداث هو تحريض نخوة بنات القبيلة ضد حسقيل. وبعد وفاة والدة نخوة، تعد الابنة خطة تراوغ فيها حسقيل للتخلص منه.حل اليوم الذي اتفقوا أن يلتقوا فيه في بيت أبي سالم.. حضر سالم ورجاله، شباباً وكهولاً، هذا يحمل قوسه وسهامه، وذاك يحمل سيفه أو رمحه، وذاك يحمل قضيباً من حديد، وقليل منهم يلبس درعاً أو يحمل ترساً.. وكانت وجوههم الطافحة بالإيمان تنبئ بما صمموا عليه.. وقد وضعوا جميعاً عدة الحرب في بيت سالم وفق ما تم الاتفاق عليه بين سالم ونخوة، خشية غدر تحالف قبيلة الروم وحسقيل بهم..
بدأ الناس يتوافدون من كل فج وبيت، شيوخ العشائر في القبيلة، ووجوهها، شيباً وكهولاً وشباباً، هذا يركب راحلته، وذاك يركب فرساً أو حصاناً، وذاك على ظهر ناقة، أو ذلول، وبعض كبار السن الذين لا تصل إمكانياتهم إلى فرس أو جمل، كانوا يمتطون حميراً.. أما من كانت بيوتهم قريبة من بيت سالم فكانوا يأتون راجلين..
تكامل توافدهم، وكان أبو سالم يشرف على الاجتماع والضيافة، يعاونه سالم من غير أن يظهر بأنه المبرز في التأثير ابتداء، على وفق ما اتفق عليه هو ونخوة، ووافق عليه حسقيل من غير أن يعرف بحقيقة التدبير. وما أن تجمعوا، حتى طلب حسقيل إذناً من أبي سالم بأن يتكلم..
أذن أبو سالم له بالكلام، بأن مد يده باتجاه حسقيل، وهو يبسطها ويحركها باتجاهه، أن ابدأ، حتى
قال حسقيل: لقد اجتمعنا هنا لأمر يهم القبيلة كلها وقد اجتمعنا في هذا المكان وفق رغبة نخوة، حيث أنني فاتحتها برغبتي في خطبتها لتكون زوجة لي.. لكنها قالت إن الطريقة التي تقدمت بها لخطبتها غير لائقة، نظراً لأنني فاتحتها في بيتها بعد أن زرتها هناك، قالت لي آنذاك إن من الأحسن أن أخطبها من القبيلة كلها بحضور أعمامها بينكم، وها بعد تكامل حضور القبيلة، أرجو أن تباركوا خطبتي هذه لنزيد القبيلة اقتداراً، آملاً أن يزيد زواجي من نخوة، وانتقالها معي إلى بيت الزوجية، أموالنا بما تملكه وأملكه من أموال تعرفونها، وقد يفتح هذا وغيره مجالاً للسلم داخل القبيلة، بعد أن خرج منها عدد من الشباب، وفي ظنهم أن خروجهم على المشيخة هو الطريق الصحيح لتصحيح ما يظنونه خطأ، أما نحن فنظن، بل متيقنون، من أن طريقنا هو الصحيح.
أكمل حسقيل كلامه وجلس..
نهض سالم، وبدأ يعرّف نفسه: سالم بن محمد بن شجاع بن سيف بن حسين بن رشيد بن علي بن طعان بن رمح بن عبد المطلب.. ابن.. ابن.. من هذه القبيلة أباً عن جد.. وعاشوا كلهم وماتوا على هذه الأرض، وذادوا بسيوفهم وأموالهم وأبنائهم عن القبيلة وحماها.. وعلى أساس ما تعرفون، فأنا لا أقدم الحديث عن المال لأنه ليس عنوان الشرف والأمانة والالتزام حكما، إنما نوع من الأرزاق قد يكون سبيلاً للجحيم، وقد يكون منجاة مع الصفات والأعمال الأخرى في الآخرة، إنما أقول: أنا مثلما أنا، ومثلما تعرفون، أعلن عن رغبتي بأن أخطب نخوة زوجة لي في هذه الدنيا قبل الآخرة، إن شاء ربّ العالمين، فإن قبلت بي فعهدي لها أمامكم أن أكون وفياً مخلصاً أميناً، وأن تملك كل ما أملك، وأن يكون ما تملكه هي لنفسها وحدها، تتصرف به وفق ما تشاء، لا طمع لي إلا بصفاتها الحميدة، وأصلها الطيب وعفتها، لأحفظ بها صفات أولادي، إن رزقنا الله أولاداً، وإن شاء الله يجنبنا وإياهم عثرات الطريق، وزيغ ما يوحي به الشيطان ومعشر السوء، وإن رفضتني، فحسبي أنني قدمت نفسي أمامها كاختيار من أحد أبناء (الديرة) والحمى، مقابل رغبة الأجنبي وعرضه الذي قدمه حسقيل..
عندما قال (رغبة الأجنبي)، قام حسقيل من مكانه، وهمّ بأن يتجه إلى سالم، وهو ينفض برأسه منزعجاً ويصيح بهستيرية ظاهرة:
ـ أنا أجنبي، يا ولد؟
أجابه سالم بهدوء:
ـ أنا أخو أختي.. وأنا أخو نخوة ـ حتى الآن، بوصفها نخوة قبيلتنا ـ وليس ولداً، على ما أردت أن تصف، فاحترم نفسك في مجلس الرجال، واعرف قدرك وكيف تتكلم.
وعندما لاحظ أن سالم يتكلم بهدوء، لكن بحزم، قال حسقيل، قبل أن يجلس:
ـ أنا شيخكم، ألست هكذا، يا جماعة الخير؟.. قال ذلك وهو يشير بيده إلى الجالسين، ثم أردف يقول:
بدأ الناس يتوافدون من كل فج وبيت، شيوخ العشائر في القبيلة، ووجوهها، شيباً وكهولاً وشباباً، هذا يركب راحلته، وذاك يركب فرساً أو حصاناً، وذاك على ظهر ناقة، أو ذلول، وبعض كبار السن الذين لا تصل إمكانياتهم إلى فرس أو جمل، كانوا يمتطون حميراً.. أما من كانت بيوتهم قريبة من بيت سالم فكانوا يأتون راجلين..
تكامل توافدهم، وكان أبو سالم يشرف على الاجتماع والضيافة، يعاونه سالم من غير أن يظهر بأنه المبرز في التأثير ابتداء، على وفق ما اتفق عليه هو ونخوة، ووافق عليه حسقيل من غير أن يعرف بحقيقة التدبير. وما أن تجمعوا، حتى طلب حسقيل إذناً من أبي سالم بأن يتكلم..
أذن أبو سالم له بالكلام، بأن مد يده باتجاه حسقيل، وهو يبسطها ويحركها باتجاهه، أن ابدأ، حتى
قال حسقيل: لقد اجتمعنا هنا لأمر يهم القبيلة كلها وقد اجتمعنا في هذا المكان وفق رغبة نخوة، حيث أنني فاتحتها برغبتي في خطبتها لتكون زوجة لي.. لكنها قالت إن الطريقة التي تقدمت بها لخطبتها غير لائقة، نظراً لأنني فاتحتها في بيتها بعد أن زرتها هناك، قالت لي آنذاك إن من الأحسن أن أخطبها من القبيلة كلها بحضور أعمامها بينكم، وها بعد تكامل حضور القبيلة، أرجو أن تباركوا خطبتي هذه لنزيد القبيلة اقتداراً، آملاً أن يزيد زواجي من نخوة، وانتقالها معي إلى بيت الزوجية، أموالنا بما تملكه وأملكه من أموال تعرفونها، وقد يفتح هذا وغيره مجالاً للسلم داخل القبيلة، بعد أن خرج منها عدد من الشباب، وفي ظنهم أن خروجهم على المشيخة هو الطريق الصحيح لتصحيح ما يظنونه خطأ، أما نحن فنظن، بل متيقنون، من أن طريقنا هو الصحيح.
أكمل حسقيل كلامه وجلس..
نهض سالم، وبدأ يعرّف نفسه: سالم بن محمد بن شجاع بن سيف بن حسين بن رشيد بن علي بن طعان بن رمح بن عبد المطلب.. ابن.. ابن.. من هذه القبيلة أباً عن جد.. وعاشوا كلهم وماتوا على هذه الأرض، وذادوا بسيوفهم وأموالهم وأبنائهم عن القبيلة وحماها.. وعلى أساس ما تعرفون، فأنا لا أقدم الحديث عن المال لأنه ليس عنوان الشرف والأمانة والالتزام حكما، إنما نوع من الأرزاق قد يكون سبيلاً للجحيم، وقد يكون منجاة مع الصفات والأعمال الأخرى في الآخرة، إنما أقول: أنا مثلما أنا، ومثلما تعرفون، أعلن عن رغبتي بأن أخطب نخوة زوجة لي في هذه الدنيا قبل الآخرة، إن شاء ربّ العالمين، فإن قبلت بي فعهدي لها أمامكم أن أكون وفياً مخلصاً أميناً، وأن تملك كل ما أملك، وأن يكون ما تملكه هي لنفسها وحدها، تتصرف به وفق ما تشاء، لا طمع لي إلا بصفاتها الحميدة، وأصلها الطيب وعفتها، لأحفظ بها صفات أولادي، إن رزقنا الله أولاداً، وإن شاء الله يجنبنا وإياهم عثرات الطريق، وزيغ ما يوحي به الشيطان ومعشر السوء، وإن رفضتني، فحسبي أنني قدمت نفسي أمامها كاختيار من أحد أبناء (الديرة) والحمى، مقابل رغبة الأجنبي وعرضه الذي قدمه حسقيل..
عندما قال (رغبة الأجنبي)، قام حسقيل من مكانه، وهمّ بأن يتجه إلى سالم، وهو ينفض برأسه منزعجاً ويصيح بهستيرية ظاهرة:
ـ أنا أجنبي، يا ولد؟
أجابه سالم بهدوء:
ـ أنا أخو أختي.. وأنا أخو نخوة ـ حتى الآن، بوصفها نخوة قبيلتنا ـ وليس ولداً، على ما أردت أن تصف، فاحترم نفسك في مجلس الرجال، واعرف قدرك وكيف تتكلم.
وعندما لاحظ أن سالم يتكلم بهدوء، لكن بحزم، قال حسقيل، قبل أن يجلس:
ـ أنا شيخكم، ألست هكذا، يا جماعة الخير؟.. قال ذلك وهو يشير بيده إلى الجالسين، ثم أردف يقول:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
جئت هنا لأعرض عليكم خطبتي لنخوة، لا لنضع نخوة في مزاد مفتوح!! قال سالم بعد أن جلس حسقيل، لكنه بقي واقفا، رغم مقاطعة حسقيل له:
ـ أنت، يا حسقيل، أجنبي، ولست من قبيلتنا، رغم أنك تحمل عنوان شيخ القبيلة..
مرة أخرى قاطعه حسقيل ليقول:
ـ لكنني شيخ القبيلة بأمر أكبر شيخ لأكبر قبيلة في هذا الزمان، هو شيخ قبيلة الروم..
عاود سالم قائلا:
ـ استطاع شيخ قبيلة الروم أن يصدر أمراً مطاعاً لمن أطاعه لتكون على ما أنت عليه من وصف وحال شيخ القبيلة، على من أطاعك وليس علينا، في الوقت الذي غفل الناس عن دورهم وحقهم وواجبهم ومبادئهم، بل عندما تنازل وجوه القوم عن دورهم، وجعلوا الآخرين يغفلون بسبب ضعفهم، فإنما تخلوا عن حقهم وواجبهم.. ولهذا تمردنا عليك، وعلى شيخ الروم، وتحالفك معه ومع قبيلته، لنمثل برفضنا وتمردنا ضمير القوم، وندافع عن حاضرهم ومستقبلهم.. ولا أظن أن من اللائق لنخوة القبيلة أن تذل لأجنبي..
عاد حسقيل مقاطعاً مرة أخرى:
ـ أريدها زوجة، يا رجل.
لم يقل لسالم (يا ولد) مثلما فعل في المرة السابقة، ورده سالم بقوله:
ـ أنا أيضاً أعرض نفسي وروحي وحالي أمامها، راغباً بها زوجة، ونخوة للقبيلة، إذا لم يعترض اخواني الحضور، أقولها بتصميم لا يلين إلا عندما لا يلتقي برغبتها وقرارها، لو أعلنت أنها لا تريدني.. وها قد قلت قولي، ولم أعرض على نخوة مالاً أو شيئاً مما يرتبط به، ولم أزايد، لأن نخوة تجل عن المزايدة عليها.. ولأنها ليست سلعة، أو خدمة، أو بضاعة، إنما المقبول فقط أن يعلن أمامها من يعلن مزايدة للمعاني العالية بمستوى الإخلاص والتضحية، وبكل ما يعز قومنا، ومن خلفنا كل ذي قلب طاهر من الأجانب، ينوي التعامل معنا بتكافؤ، ومن غير أذى أو استغلال أو استغفال.. وفي كل الأحوال فإن أمراً من النوع الذي نتحدث عنه، يبقى قول نخوة هو القول الفصل فيه، إذ لا مجال لأن يفرض زواج عليها، إنما هي التي تختار، بعد أن صارت على ما هي عليه من عمر ونضج وصفات حميدة..
قال حسقيل:
ـ نعم.. الاختيار لنخوة الآن، وبعد أن تقول نخوة رأيها، ينبغي أن لا يقول أحد رأياً مخالفاً..
قال ذلك، وفي ظنه أن نخوة ستختاره حتما.
اتجهت الأنظار كلها إلى نخوة، التي استأذنت أبا سالم، ونهضت، في الوقت الذي تجمعت النساء كلهن واقفات خلف الرجال، الذين كان بعضهم يجلس على بسط والآخر على نبت الربيع في الأرض، ثم مشت حتى وقفت في مكان يراها فيه الجميع، رجالاً ونساء، وقالت:
ـ إن قبيلتنا ذات تاريخ مجيد، وحماها ذو عز ومهابة، بقدر ما عليه ناسها من عز ومهابة، وفي مقدمتهم رجالها، وكان خيرها الذي أصاب الناس أجمعين وفيراً.. كبيراً وعظيماً، وليس قومنا فحسب، عندما كانت على هذا الوصف، لكنها بدأت تضعف مع ضعف شيوخها ووجوهها، وولاة أمرها، حتى تضاءل شأنها إلى الحد الذي صار رجالها غير قادرين على أن يدافعوا عنها وعن خيراتها وحماها، بعد أن فقدوا القدرة على صيانة معانيها، فاستهان بها الأجنبي، بعد أن طمع بها إلى الحد الذي صار يتدخل في شؤونها، وينصب على أهلها هذا أو ذاك ليملأوا عناوين مراتبها، حتى وصل الهزال بها وإذلالها أن نصب الأجنبي حسقيلاً عليها، وفق تحالف معروف لكم، كأنه الابن اللقيط لمرحلته، فإذا كان الأجنبي قد تمكن من العنوان الأمامي لقبيلتنا، أو أي عنوان آخر بعده، على يمينه أو شماله، فلن يتمكن منا نحن بنات وأبناء قومنا الذين قررنا أن نبقى مخلصين، ونرفض المصطنع المذل.. ولأنني ابنة القوم الذين أنتم منهم، فلن يتمكن مني الأجنبي وحسقيل منهم، لذلك أعلن أمامكم، وأشهد الله، وأشهدكم على قولي وإخلاصي وأمانتي أنني أقبل خطبتي من ابن عمي سالم، وتاج رأسي، كابن بار لقومنا..
دوت عاصفة من التصفيق من الحضور كلهم، نساء ورجالاً وأطفالاً.. شيباً وشباباً، صبية وصبايا، عدا حسقيل، الذي كان يصرخ حتى بحّ صوته.. ولم يسمعه أحد، وضاع صوته في الفضاء، في الوقت الذي كانت الموسيقى ودفوف وطبول الفرح تصدح في كل مكان، معلنة ولادة روح جديدة، وتقليد جديد من موقف جديد في زواج أبناء وبنات القبيلة.. وموقفهم من أنفسهم ومن الأجنبي الطامع..
وخطت نخوة خطوات عدة وهي تتهادى باتجاه سالم، واستأذنته لترقص معه، أو تدبك الدبكة نفسها التي دبكاها عندما كان ملثماً في المناسبة المعروفة..
نهض حسقيل ليغادر، لكن أبا سالم، باعتباره المضيف والمشرف على الدعوة، أشار اليه بأن يجلس، فجلس على مضض.انهت نخوة رقصتها مع سالم، تلك الرقصة المعروفة للقبيلة، وعادت لتقول وهي تقف في المكان نفسه:
ـ بعد ان حسمنا امرنا برضاكم، اخواني واخواتي وابناء عمومتي، بقيت شؤون اخرى، تتصل بالقبيلة وتتصل بي.. فقالت:
ـ لا اريد ان اتطرق الى ضعف أبي، فأنتم تعرفونه وأنا اعرفه، لكنكم تعرفون نوعية وموقف جدي وأجدادكم وكيف كانوا حماة القبيلة وعزها وكيف كان حال الناس وفق ما نعرف في احسن حال، عندما كانوا على تلك الصفات يمارسون مسؤولياتهم عليها.. ان الضعف يدخل نفوس الناس عندما لا تكون المهمة او المهمات التي يتولونها عالية المعاني وتعز الجماعة او عندما يداخل انفسهم ما يغويها بعيدا عن ذلك او عندما تختلط طباعهم وافكارهم بطباع اجنبية ليست على ايماننا ومعانينا، سواء من معاشرة وتعايش قريب او من خؤولة لا تحفط من المعاني العالية حدها الادنى.. او خؤولة لا تجد نفسها تنتمي الى تقاليدنا والمعاني التي نعتز بها ونفتخر ونضحي لنحافظ عليها ولأنني اعرف اسباب ضعب ابي والاسباب التي جعلت امي تضعف في القصة التي سأرويها لكم، فإن ضعفها حفز المعاني التي أختزنها في نفسي الآن، حتى صارت سياجا قادرا ليحميني ويحافظ عليَّ امام صعوبات الحياة او اغراءاتها، لذلك رفضت حسقيل، وفضلت ابن بلدي.. ابن قبيلتي وقومي..
ـ أنت، يا حسقيل، أجنبي، ولست من قبيلتنا، رغم أنك تحمل عنوان شيخ القبيلة..
مرة أخرى قاطعه حسقيل ليقول:
ـ لكنني شيخ القبيلة بأمر أكبر شيخ لأكبر قبيلة في هذا الزمان، هو شيخ قبيلة الروم..
عاود سالم قائلا:
ـ استطاع شيخ قبيلة الروم أن يصدر أمراً مطاعاً لمن أطاعه لتكون على ما أنت عليه من وصف وحال شيخ القبيلة، على من أطاعك وليس علينا، في الوقت الذي غفل الناس عن دورهم وحقهم وواجبهم ومبادئهم، بل عندما تنازل وجوه القوم عن دورهم، وجعلوا الآخرين يغفلون بسبب ضعفهم، فإنما تخلوا عن حقهم وواجبهم.. ولهذا تمردنا عليك، وعلى شيخ الروم، وتحالفك معه ومع قبيلته، لنمثل برفضنا وتمردنا ضمير القوم، وندافع عن حاضرهم ومستقبلهم.. ولا أظن أن من اللائق لنخوة القبيلة أن تذل لأجنبي..
عاد حسقيل مقاطعاً مرة أخرى:
ـ أريدها زوجة، يا رجل.
لم يقل لسالم (يا ولد) مثلما فعل في المرة السابقة، ورده سالم بقوله:
ـ أنا أيضاً أعرض نفسي وروحي وحالي أمامها، راغباً بها زوجة، ونخوة للقبيلة، إذا لم يعترض اخواني الحضور، أقولها بتصميم لا يلين إلا عندما لا يلتقي برغبتها وقرارها، لو أعلنت أنها لا تريدني.. وها قد قلت قولي، ولم أعرض على نخوة مالاً أو شيئاً مما يرتبط به، ولم أزايد، لأن نخوة تجل عن المزايدة عليها.. ولأنها ليست سلعة، أو خدمة، أو بضاعة، إنما المقبول فقط أن يعلن أمامها من يعلن مزايدة للمعاني العالية بمستوى الإخلاص والتضحية، وبكل ما يعز قومنا، ومن خلفنا كل ذي قلب طاهر من الأجانب، ينوي التعامل معنا بتكافؤ، ومن غير أذى أو استغلال أو استغفال.. وفي كل الأحوال فإن أمراً من النوع الذي نتحدث عنه، يبقى قول نخوة هو القول الفصل فيه، إذ لا مجال لأن يفرض زواج عليها، إنما هي التي تختار، بعد أن صارت على ما هي عليه من عمر ونضج وصفات حميدة..
قال حسقيل:
ـ نعم.. الاختيار لنخوة الآن، وبعد أن تقول نخوة رأيها، ينبغي أن لا يقول أحد رأياً مخالفاً..
قال ذلك، وفي ظنه أن نخوة ستختاره حتما.
اتجهت الأنظار كلها إلى نخوة، التي استأذنت أبا سالم، ونهضت، في الوقت الذي تجمعت النساء كلهن واقفات خلف الرجال، الذين كان بعضهم يجلس على بسط والآخر على نبت الربيع في الأرض، ثم مشت حتى وقفت في مكان يراها فيه الجميع، رجالاً ونساء، وقالت:
ـ إن قبيلتنا ذات تاريخ مجيد، وحماها ذو عز ومهابة، بقدر ما عليه ناسها من عز ومهابة، وفي مقدمتهم رجالها، وكان خيرها الذي أصاب الناس أجمعين وفيراً.. كبيراً وعظيماً، وليس قومنا فحسب، عندما كانت على هذا الوصف، لكنها بدأت تضعف مع ضعف شيوخها ووجوهها، وولاة أمرها، حتى تضاءل شأنها إلى الحد الذي صار رجالها غير قادرين على أن يدافعوا عنها وعن خيراتها وحماها، بعد أن فقدوا القدرة على صيانة معانيها، فاستهان بها الأجنبي، بعد أن طمع بها إلى الحد الذي صار يتدخل في شؤونها، وينصب على أهلها هذا أو ذاك ليملأوا عناوين مراتبها، حتى وصل الهزال بها وإذلالها أن نصب الأجنبي حسقيلاً عليها، وفق تحالف معروف لكم، كأنه الابن اللقيط لمرحلته، فإذا كان الأجنبي قد تمكن من العنوان الأمامي لقبيلتنا، أو أي عنوان آخر بعده، على يمينه أو شماله، فلن يتمكن منا نحن بنات وأبناء قومنا الذين قررنا أن نبقى مخلصين، ونرفض المصطنع المذل.. ولأنني ابنة القوم الذين أنتم منهم، فلن يتمكن مني الأجنبي وحسقيل منهم، لذلك أعلن أمامكم، وأشهد الله، وأشهدكم على قولي وإخلاصي وأمانتي أنني أقبل خطبتي من ابن عمي سالم، وتاج رأسي، كابن بار لقومنا..
دوت عاصفة من التصفيق من الحضور كلهم، نساء ورجالاً وأطفالاً.. شيباً وشباباً، صبية وصبايا، عدا حسقيل، الذي كان يصرخ حتى بحّ صوته.. ولم يسمعه أحد، وضاع صوته في الفضاء، في الوقت الذي كانت الموسيقى ودفوف وطبول الفرح تصدح في كل مكان، معلنة ولادة روح جديدة، وتقليد جديد من موقف جديد في زواج أبناء وبنات القبيلة.. وموقفهم من أنفسهم ومن الأجنبي الطامع..
وخطت نخوة خطوات عدة وهي تتهادى باتجاه سالم، واستأذنته لترقص معه، أو تدبك الدبكة نفسها التي دبكاها عندما كان ملثماً في المناسبة المعروفة..
نهض حسقيل ليغادر، لكن أبا سالم، باعتباره المضيف والمشرف على الدعوة، أشار اليه بأن يجلس، فجلس على مضض.انهت نخوة رقصتها مع سالم، تلك الرقصة المعروفة للقبيلة، وعادت لتقول وهي تقف في المكان نفسه:
ـ بعد ان حسمنا امرنا برضاكم، اخواني واخواتي وابناء عمومتي، بقيت شؤون اخرى، تتصل بالقبيلة وتتصل بي.. فقالت:
ـ لا اريد ان اتطرق الى ضعف أبي، فأنتم تعرفونه وأنا اعرفه، لكنكم تعرفون نوعية وموقف جدي وأجدادكم وكيف كانوا حماة القبيلة وعزها وكيف كان حال الناس وفق ما نعرف في احسن حال، عندما كانوا على تلك الصفات يمارسون مسؤولياتهم عليها.. ان الضعف يدخل نفوس الناس عندما لا تكون المهمة او المهمات التي يتولونها عالية المعاني وتعز الجماعة او عندما يداخل انفسهم ما يغويها بعيدا عن ذلك او عندما تختلط طباعهم وافكارهم بطباع اجنبية ليست على ايماننا ومعانينا، سواء من معاشرة وتعايش قريب او من خؤولة لا تحفط من المعاني العالية حدها الادنى.. او خؤولة لا تجد نفسها تنتمي الى تقاليدنا والمعاني التي نعتز بها ونفتخر ونضحي لنحافظ عليها ولأنني اعرف اسباب ضعب ابي والاسباب التي جعلت امي تضعف في القصة التي سأرويها لكم، فإن ضعفها حفز المعاني التي أختزنها في نفسي الآن، حتى صارت سياجا قادرا ليحميني ويحافظ عليَّ امام صعوبات الحياة او اغراءاتها، لذلك رفضت حسقيل، وفضلت ابن بلدي.. ابن قبيلتي وقومي..
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
عندما ذكرت نخوة أمها بدأ حسقيل يلم نفسه، وامام الاحتمالات التي كان يداورها في نفسه وما اصابه جراء رفض نخوة له ومرارة الموقف، صار جسم حسقيل ينكمش ويصغر، ليس نفسه فحسب وكان يتحدث مع نفسه وهو يسحب عقاله ليرجعه الى الخلف او يقدمه الى الامام تارة او يجلس القرفصاء او يمد هذه الرجل او تلك ويدلكها، كأنها (خدرت) من طول انتظار، تارة اخرى.
قالت نخوة:
ـ ان حسقيل لم يتآمر على المشيخة في القبيلة فحسب، بل على القبيلة كلها، هو وشيخ قبيلة الروم، الذي اسماه حسقيل اكبر شيخ، وسمى قبيلته اكبر قبيلة في هذا الزمان.. وانا اسمي ذلك الشيخ مثلما اسمي حسقيل: اخزى اثنين.. اما قبيلة الروم فليست اكبر قبيلة، اذا اخذنا الامور على الصفات والمعاني العالية.. او عدد الانفس..
قال حسقيل مقاطعا:
ـ انا اخزى واحد بين اثنين كلاهما الاخزى، يا بنت!؟
قالت نخوة:
ـ احترم نفسك، يا حسقيل، انا نخوة قومي، واذا كنت تصر على ان وصفي لك لا ينطبق عليك، تنازل عن الوصف الذي وصفته به واختر وصفا جديدا ولأن القول لا يفيد امام الفعل، فان تنازلت عن الوصف الذي وصفتك به، اذا كان لا يعجبك، ينبغي ان يتم بحيازة صفات مناقضة لصفاتك المعروفة المذمومة، وهذا يتم بالعمل والنموذج الذي تضفي به الجماعة عليك صفة استحقاق ما هو جديد.
سكت حسقيل، لكن نخوة واصلت كلامها:
ـ عندما عزلتم والدي ـ موجهة الكلام للقبيلة ـ فعلتم ذلك باستحقاقه، لكنكم اخطأتم عندما توهمتم ان الاجنبي يمكن ان يصلح لقومكم مثابة وراية ومعنى وسندا، فجئتم بحسقيل شيخا للقبيلة ونسيتم في ذلك القرار الخاطئ ثوابت الامور الاساسية وخواص حسقيل، قبل ان يأتي الى قبيلتنا وتناسيتم ما وصلكم عنه من اخبار (علوم) قبل مجيئه، بما في ذلك ان ابراهيم، ذاك الشيخ الجليل، طرده من عطفه وحماه، بعد ان خرج على مبادئه واحرجه امام الناس، وفعل يوسف ومحمود الشيء نفسه.. وعندما صار حسقيل شيخا للقبيلة لم يكفه ذلك، انما دفعته عقده ومآربه المتشعبة التي بدأت من انجاح بقالية يملكها او متجر صغير، الى سيطرة مصالحه على المنطقة كلها.. اقول لم يكفه عنوان المشيخة فينا، وانما راح يخطط ليتزوج امي وبسبب الوحدة التي كانت تعيشها ولأن واليا لم يكن على رأسها ولانها لم تكن بنت عمنا وربما اغراها حسقيل بلسانه المعسول، فقد استساغت خطة حسقيل عندما اعلن رغبته في الزواج منها..
قالت ذلك وتدفقت الدموع من عينيها، لانها تعرف ان أمها لم تبق الامور مع حسقيل ضمن هذه الحدود، انما اندفعت الى ما تعرفه في سلوكها وعندما خنقتها العبرة وراح الدمع يتدفق مدرارا من مآقي عينيها، توقفت عن الكلام برهة، فاستغل الجمهور المتجمع خلف الرجال الجالسين على الارض، ليعلن عن نفسه بعاصفة من التصفيق، انتقل تأثيرها للجالسين، فصفقوا معهم بحرارة وبدأ من كان واقفا منهم يلقي شعرا وقصائد:
اخي جاوز الظالمون المدىفحق الجهاد وحق الفدا..
او يلقي هوسات:
لو هلهلتي وصوتك عالي..
وتحبني الناس من افعالي..
احنا الرمح وسيف العالي..
وكل خدّاع يجفل منا..
صفن يا البيض شهود إلنا..
وتجول النساء والرجال، كل ضمن حلقة مركبة، بجولات حماسية، كل يعبر عن موقفه، ويشجع نخوة ويتضامن معها ويلعن حسقيل، حتى صار حسقيل يقرع نفسه، وهو جالس مصفر الوجه، لا يكاد يرى دم فيه، ويقول:
ـ لماذا لم اركب فرسي واهرب، عندما اعلنت نخوة رفضها لي وفضلت سالم عليَّ؟
ثم يعود يسأل نفسه:
يا ترى هل ستقول كل شيء؟ انها ان قالت كل شيء، سيذبحونني، ولن يمنعوني من المشيخة فحسب..
وعندها يقول:
ـ انا (كصيرهم) قصيرهم (يذكر نفسه بهذا لانه التجأ اليهم وعاش تحت حمايتهم) ولذلك لا اظنهم يقتلونني، لان العرب لا يقتلون (كصيرهم).
ثم يعود ليقول:
ـ لكنني جعلت نفسي شيخا عليهم، ولم أبق (كصير) تحت حمايتهم، لذلك قطعت بنفسي حق ان يحموني..
كان حسقيل يقول ذلك في نفسه، بعد ان لاحظ ان لا أحد يجامله، حتى وفق أبسط اشكال المجاملة للعلاقة بين شخص وشخص، اما المجاملة على اساس انه يحمل عنوان شيخ القبيلة فقد انتهت او كادت منذ ان اعلنت نخوة رفضه واجهزت عليه نهائيا الآن، حتى انه عندما طلب (زنادا) (1) ليشعل غليونه، رماه اليه من طلبه منه بدلا من ان يقدمه اليه بيده مباشرة.. مع انه كان قبل هذا لو طلب (زنادا) لتدافع كثر من الذين قربه كل يسعى، وفي ظنه انه شرف له، ان يقدح له (الزناد) على شفرة حصى، بعد ان يضعوا فوقها جزءا من خرقة جرت تسويتها وهي مبتلة وممزوجة برماد، بعد ان تتيبس، (اما الآن فصاروا يرمون لك الزناد يا حسقيل)، وعندما يستعيد افعاله مع نفسه، يقول:
ـ ان كل هذا هين، الاخطر لو سيطروا على اموالي.. انهم ربما يسيطرون حتى على البرج.
قالت نخوة:
ـ ان حسقيل لم يتآمر على المشيخة في القبيلة فحسب، بل على القبيلة كلها، هو وشيخ قبيلة الروم، الذي اسماه حسقيل اكبر شيخ، وسمى قبيلته اكبر قبيلة في هذا الزمان.. وانا اسمي ذلك الشيخ مثلما اسمي حسقيل: اخزى اثنين.. اما قبيلة الروم فليست اكبر قبيلة، اذا اخذنا الامور على الصفات والمعاني العالية.. او عدد الانفس..
قال حسقيل مقاطعا:
ـ انا اخزى واحد بين اثنين كلاهما الاخزى، يا بنت!؟
قالت نخوة:
ـ احترم نفسك، يا حسقيل، انا نخوة قومي، واذا كنت تصر على ان وصفي لك لا ينطبق عليك، تنازل عن الوصف الذي وصفته به واختر وصفا جديدا ولأن القول لا يفيد امام الفعل، فان تنازلت عن الوصف الذي وصفتك به، اذا كان لا يعجبك، ينبغي ان يتم بحيازة صفات مناقضة لصفاتك المعروفة المذمومة، وهذا يتم بالعمل والنموذج الذي تضفي به الجماعة عليك صفة استحقاق ما هو جديد.
سكت حسقيل، لكن نخوة واصلت كلامها:
ـ عندما عزلتم والدي ـ موجهة الكلام للقبيلة ـ فعلتم ذلك باستحقاقه، لكنكم اخطأتم عندما توهمتم ان الاجنبي يمكن ان يصلح لقومكم مثابة وراية ومعنى وسندا، فجئتم بحسقيل شيخا للقبيلة ونسيتم في ذلك القرار الخاطئ ثوابت الامور الاساسية وخواص حسقيل، قبل ان يأتي الى قبيلتنا وتناسيتم ما وصلكم عنه من اخبار (علوم) قبل مجيئه، بما في ذلك ان ابراهيم، ذاك الشيخ الجليل، طرده من عطفه وحماه، بعد ان خرج على مبادئه واحرجه امام الناس، وفعل يوسف ومحمود الشيء نفسه.. وعندما صار حسقيل شيخا للقبيلة لم يكفه ذلك، انما دفعته عقده ومآربه المتشعبة التي بدأت من انجاح بقالية يملكها او متجر صغير، الى سيطرة مصالحه على المنطقة كلها.. اقول لم يكفه عنوان المشيخة فينا، وانما راح يخطط ليتزوج امي وبسبب الوحدة التي كانت تعيشها ولأن واليا لم يكن على رأسها ولانها لم تكن بنت عمنا وربما اغراها حسقيل بلسانه المعسول، فقد استساغت خطة حسقيل عندما اعلن رغبته في الزواج منها..
قالت ذلك وتدفقت الدموع من عينيها، لانها تعرف ان أمها لم تبق الامور مع حسقيل ضمن هذه الحدود، انما اندفعت الى ما تعرفه في سلوكها وعندما خنقتها العبرة وراح الدمع يتدفق مدرارا من مآقي عينيها، توقفت عن الكلام برهة، فاستغل الجمهور المتجمع خلف الرجال الجالسين على الارض، ليعلن عن نفسه بعاصفة من التصفيق، انتقل تأثيرها للجالسين، فصفقوا معهم بحرارة وبدأ من كان واقفا منهم يلقي شعرا وقصائد:
اخي جاوز الظالمون المدىفحق الجهاد وحق الفدا..
او يلقي هوسات:
لو هلهلتي وصوتك عالي..
وتحبني الناس من افعالي..
احنا الرمح وسيف العالي..
وكل خدّاع يجفل منا..
صفن يا البيض شهود إلنا..
وتجول النساء والرجال، كل ضمن حلقة مركبة، بجولات حماسية، كل يعبر عن موقفه، ويشجع نخوة ويتضامن معها ويلعن حسقيل، حتى صار حسقيل يقرع نفسه، وهو جالس مصفر الوجه، لا يكاد يرى دم فيه، ويقول:
ـ لماذا لم اركب فرسي واهرب، عندما اعلنت نخوة رفضها لي وفضلت سالم عليَّ؟
ثم يعود يسأل نفسه:
يا ترى هل ستقول كل شيء؟ انها ان قالت كل شيء، سيذبحونني، ولن يمنعوني من المشيخة فحسب..
وعندها يقول:
ـ انا (كصيرهم) قصيرهم (يذكر نفسه بهذا لانه التجأ اليهم وعاش تحت حمايتهم) ولذلك لا اظنهم يقتلونني، لان العرب لا يقتلون (كصيرهم).
ثم يعود ليقول:
ـ لكنني جعلت نفسي شيخا عليهم، ولم أبق (كصير) تحت حمايتهم، لذلك قطعت بنفسي حق ان يحموني..
كان حسقيل يقول ذلك في نفسه، بعد ان لاحظ ان لا أحد يجامله، حتى وفق أبسط اشكال المجاملة للعلاقة بين شخص وشخص، اما المجاملة على اساس انه يحمل عنوان شيخ القبيلة فقد انتهت او كادت منذ ان اعلنت نخوة رفضه واجهزت عليه نهائيا الآن، حتى انه عندما طلب (زنادا) (1) ليشعل غليونه، رماه اليه من طلبه منه بدلا من ان يقدمه اليه بيده مباشرة.. مع انه كان قبل هذا لو طلب (زنادا) لتدافع كثر من الذين قربه كل يسعى، وفي ظنه انه شرف له، ان يقدح له (الزناد) على شفرة حصى، بعد ان يضعوا فوقها جزءا من خرقة جرت تسويتها وهي مبتلة وممزوجة برماد، بعد ان تتيبس، (اما الآن فصاروا يرمون لك الزناد يا حسقيل)، وعندما يستعيد افعاله مع نفسه، يقول:
ـ ان كل هذا هين، الاخطر لو سيطروا على اموالي.. انهم ربما يسيطرون حتى على البرج.
صفحة 5 من اصل 7 • 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 5 من اصل 7
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى