قصة صدام حسين ..
صفحة 1 من اصل 7 • شاطر
صفحة 1 من اصل 7 • 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
تعيش الشياطين، حسب اعتقاد من يعتقد بذلك، وتفرخ بين أعمدة الخشب في البيوت العتيقة، حيث تشكل تلك الأعمدة مساند سقوفها، أو بين أعقاب النبات والحطب حيث يخزنان، أو في المغاور، والشعاب، والأكواخ المهجورة، وفي بقايا جدران إرم ذات العماد، التي غضب الله على أهلها فهلك من هلك وهجرها الناس، أو في خرائب بابل، التي هجرها أهلها بعد أن دمرها الفرس، وفق تدبير تآمر به معهم اليهود الذين جاء بهم نبوخذ نصر أسرى إليها..
أما الآن، فقد تكون موجودة في وسائل الاتصال، وفي شاشات التلفاز، وفي المقتنيات الحديثة، وما يمكن أن تغري به، أو في عيني امرأة شرهة سوتهما بأصباغ هذا الزمان وفق نزعتها، بعد أن لصقت عليهما عدستين ملونتين تحجبان لون عينيها الأساس، بحيث لا يعرف المرء من خلالهما متى ترغب أو لا ترغب بكل شيء، وأي شيء، مما هو مشروع، أو غير مشروع، ومتى تستحي.. وتستعصم بالله، فتعز نفسها وأهلها، أو تنزلق في مهاوي الشيطان، فتخزي نفسها وأهلها.. أو في نزعات الرجال عندما يصبون إلى ما لا يرضي الله، وعندما يغضبون ولا يتذكرون أي شيء مما ينبغي أو يجب، إلا ما يناسب هوى أنفسهم وغضبهم.. وهي في كل الأحوال، موجودة حيثما وجد طمع وطامعون، وظلم وظالمون، وشر وأشرار، حتى لتخالها موجودة في سدادة مدفع، أو في خزانة مترعة بمال حرام، أو محرك طائرة، أو زعنفة قنبرة طائرة، أو صاروخ مدمر، أو احتلال اجنبي مغتصب، أو في مغاليق السجون وخلف قضبانها، حيث تضم في زواياها أبرياء أو أناساً يناضلون ويجاهدون حباً بالله ضد الكفر والظلم، أو يناضلون من أجل الحرية، بل لعلها موجودة في صدور أصحابها، وفي دمائهم، وحتى في نواياهم، والأقلام التي يخطون الباطل بها على الورق، ويهيئون له، أو في ما يضمرون.
ومع كل هذا، تكيف الشيطان ليكمن في مفرداتها، أو يحرك ما يقتضي ليهيج الشر، وبذلك طور وجوده، وفعله مع تطور قدرة الإنسان ووسائله، فتحول الشيطان من الشكل التشبيهي القديم، الذي عرف به في رسومات وتخيلات الأقدمين: عينان مسحوبتان عرضا أو طولا، وشعر أشعث منتصب إلى الأعلى فوق رأسه، رافض أن ينسدل مسرّحا مع رقبته، أو متدليا من الرأس على الكتفين، أو حتى وردة الأذن، كما هو الحال في الإنسان، وصار الشيطان يتخلل الإنسان إلى الحد الذي بات الدراويش، أو المعنيون بالطب الروحي، غير قادرين على إخراجه من جسم من يتخلله عابثاً بروحه، حتى لو رددوا آلاف المرات، وهم يضربون الأرض بعصيهم على مقربة ممن دخله الشيطان، أو حتى على قفاه، وهم يصيحون، بعد أن يقرأوا ما يقرأونه: اخرج منه، أو منها، (يا ملعون).
صار الشيطان كأنه مندمج بالإنسان المناسب لوصفه، بعد أن تخلله، أو صار الإنسان المعني فعلا، من ناحية الصفات والأثر، بوصف يجعله كأنه شيطان، أو أن الشيطان هرب من المكان، بعد أن كثرت أعداد من يقوم بواجبه من البشر، فانزوى بعيداً.
وفي كل الأحوال، بقي الشيطان متخللاً ومستقراً في ضمير، وعقل، وتفكير، وفعل من يقبل ولايته عليه، إلا أنه بقي بعيداً، بعد أن اخفق مع أولئك المحصنين بدروع إيمانهم وعقيدتهم، الذين يرفضون الولاية إلا للرحمن الرحيم والمؤمنين الذين يسعون ويفكرون، ويتأملون وفق ما يرضي الله، ويتجنبون ما ينهاهم عنه، سبحانه.....
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
قبل حوالي ألف وخمسمائة عام، أو نحو ذلك، وبعد ذلك، وإلى حين، كان الناس في العالم كله يعيشون عيشة متواضعة بوجه عام، وكان حجم الخير والشر في صدورهم وأنفسهم، ومن بعدها في تصرفاتهم وعلاقاتهم مع بعضهم، موجوداً، في المكان والمسمى المناسب له.. لكن الخير والشر كانا يعبّران عن نفسيهما وتأثيرهما طبقاً لوسائلهما وقدراتهما آنذاك، لذلك كان الشر متواضعاً أيضاً بالقياس بما هو عليه الآن، إلا أن قدرة الخير كانت أكبر، لأن حجم وعمق تأثير عدد من يحملونه كانا أكبر.. ورغم أن قدرة إقناع من يقتنع به من بني البشر، كانت متصلة بمستوى حصانة وعي وإيمان هذا أو ذاك من الناس، وقد كان الناس أميين إلا قليلا منهم، فإن جرائم وتأثير من يقنعهم بالشر، بعد أن يغويهم الشيطان، كانت محدودة أيضاً بالقياس بما عليه الأمر الآن.. لكنها كانت موجودة، وكان الشر وأهله، إلى جانب الخير وأهله، موجودين في ذلك الزمان أيضاً.. وكان الله، ربّ العالمين، فوقهما، يرصد كل فعل ويسجله له أو عليه، وعلى هذا، يسجل لكل وفق استحقاقه، ويسجل فعل الشيطان أيضاً.
كان إبراهيم يحكي جانباً من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
وشاءت الصدف هكذا، أن يخلّف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابناً واحداً لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي)، وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطاً من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوباً جديداً.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنّون) فيه بيتاً من الشعر..
عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهيّة)، مثلما (يتلهّى) الصغار الآن برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
ـ هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
يقول:
ـ لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهّى مثلما تتلهّى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
* أنا أيضاً، يا والدي، ألاعب الحبال أحياناً، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
ـ قد تقع يوماً، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ ان كثيراً من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلاً من اتخاذ مسلك آخر أكثر ثباتاً في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
قال محمود:
* وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
كان إبراهيم يحكي جانباً من هذا لأيتام أولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية، وما أكثرها في ذلك الزمان في شبه الجزيرة العربية، الممتدة بين الخليج العربي والبحر الأحمر، وتضم العراق ودول الخليج العربي واليمن.
وشاءت الصدف هكذا، أن يخلّف أبناؤه المقتولون الثلاثة، ثلاثة أولاد ذكور، أي ابناً واحداً لكل منهم، وهم: حسقيل ويوسف ومحمود، وقد نشأ الأولاد الثلاثة في كنف جدهم إبراهيم، وكان الجميع ينادونه (أبتي)، وينادون جدتهم حليمة زوجة إبراهيم (أمي)، أو (أمنا).. ذلك لأن أمهاتهم عدن إلى أهلهن بعد وفاة أزواجهن.
وعندما انتهى من حديثه، كانت إلى جانبه زوجته حليمة، التي تكنى أم الخير، تغزل بمغزلها خيوطاً من الصوف لتعمل لمن اهترأ ثوبه ثوباً جديداً.. وكان البيت الذي يسكنون (يكنّون) فيه بيتاً من الشعر..
عندما كان إبراهيم يحكي، جاءت «سخلة» صغيرة من غنمهم، وحاولت أن تلحس فروة إبراهيم، ومن غير أن يقطع كلامه، كان إبراهيم يشاغلها بيده، ليصدها عن الفروة، بأن يمسح على وجهها، أو يناولها اصبعا من أصابعه، ترضعه (متلهيّة)، مثلما (يتلهّى) الصغار الآن برضاعاتهم الاصطناعية، وعندما يسأله صغيرهم محمود:
ـ هل في اصبعك حليب، يا أبتي؟
يقول:
ـ لا، الحليب في ضرع أمها، يا بني، لكنها تتلهّى مثلما تتلهّى أنت عندما تركب على حبل مقدم البيت.. فحذار من أن تنكسر رقبتك، إذا هويت إلى الأرض، لكن الفرق بينك وبين السخلة في هذا، أن السخلة تلعب بأصبعي، وهو أمين، لا يؤذيها، بينما إذا ركبت الحبل، قد تقع منه، بعد أن يختل توازنك، وعندها قد تكسر يدك أو رجلك، وربما رقبتك، وبخاصة إذا أراد حسقيل أن يتخابث معك ويهز الحبل..
كان محمود، عندما يسمع قول أبيه (وربما تكسر رقبتك)، يتحسس رقبته، وبالكاد يبلع ريقه، ويضحك أخواه، في الوقت الذي تتبسم أم الخير، حليمة، التي نسب إليها هذا الوصف والكنية، بسبب تقدير إبراهيم والناس لها.
استأذن أوسطهم وهو يوسف، والده وقال:
* أنا أيضاً، يا والدي، ألاعب الحبال أحياناً، أو ألعب عليها، ولم يحصل أن وقعت منها!.
ـ قد تقع يوماً، يا ولدي، مهما كانت مهارتك في اللعب عليها.. أبعدكم الله، يا أولادي، عن شر اللعب على الحبال ومسلكها.. ان الابتعاد عنها خير من الاقتراب منها واللعب عليها، إذ ان كثيراً من الناس ممن امتهنوا اللعب على الحبال، بدلاً من اتخاذ مسلك آخر أكثر ثباتاً في الحركة، يجدون في نهاية المطاف ما يجعل توازنهم يختل ويقعون منها، وقد تودي بحياتهم.
قال محمود:
* وماذا لو لاعبت شجرة متنقلا بين أغصانها؟! أجابه إبراهيم:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
ـ مع الانتباه إلى طريقة التصرف والمغامرة مع الشجرة، فإن التسلي مع الشجرة افضل، لأن عروق الشجرة في الأرض والشجرة عميقة الجذور، لذلك فإن صلتها بالأرض عميقة وراسخة، ومن تكون صلته بالأرض عميقة وراسخة يكون أكثر ثباتاً وأكثر حنواً، ولا يخون صاحبه، لذلك فإن الشجرة لا تخونك لو لاعبتها، أما الحبل فإنه في الهواء، وصلته بالأرض من خلال أوتاد فحسب، وليس من خلال ذاته.. لذلك لا يكون استقراره كاستقرار الشجرة، ولا يكون الأمان معه نهائياً.. وبخاصة لو اقتلعت أوتاده، وأنت تلاعبه أو تلعب عليه.
سأل حسقيل أباه:
* هل الربّ الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
ـ نعم، يا بني، ان الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل ان الله، جلّت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
انبرى يوسف متسائلا:
* وهل خلق الله «السخلة» أيضاً؟
ـ نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضاً، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد وآخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
عاد حسقيل ليسأل:
* ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معاً لتغزلا أو تحوكا ثوباً عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن برذعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
ـ ان قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخماً قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنساناً يستطيع أن يخلق إنسانا آخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الآخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من آيات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
* عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
يقول إبراهيم:
ـ نعم يا ولدي، أحسنت.
كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيراً.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
يقول إبراهيم:
ـ اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
ويردد الجميع:
ـ آمين.
في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحداً آنذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الآخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار آنذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضاً.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الآن، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الآشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، آنذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة آلاف سنة على بعضها.
كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحسّ بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأَمَ إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطباً بفعل المطر أو الندى.
سأل حسقيل أباه:
* هل الربّ الذي تحدثنا عنه موجود قبل أن يخلق الإنسان؟ وهل هو في السماء، يا والدي؟
ـ نعم، يا بني، ان الله، سبحانه، موجود قبل أن يخلق الإنسان، وقبل أن يخلق كل ما هو حولكم مما ترونه أو تلمسونه، بل ان الله، جلّت قدرته، هو خالق كل شيء، وخالقنا، وهو محيط وموجود حيث شاء.
انبرى يوسف متسائلا:
* وهل خلق الله «السخلة» أيضاً؟
ـ نعم، يا ولدي، خلق الله السخلة أيضاً، هي وأمها وأباها، وخلق الحيوانات والأشجار والأنهار.
هكذا أجاب إبراهيم ابنه الأوسط يوسف.
كانت أعمار الثلاثة متقاربة، بفارق عام ونصف العام، أو ما يزيد أو يقل عن ذلك قليلا، بين كل واحد وآخر.. وكان عمر أكبرهم اثنتي عشرة سنة، ويأتي بعده أخواه متسلسلين وفق هذا التقدير.
عاد حسقيل ليسأل:
* ولماذا لم يخلق الله إنسانا، بدلا من السخلة، يا والدي، مثلما تفعل أنت وأمي، حيث أراكما تتعاونان معاً لتغزلا أو تحوكا ثوباً عندما يهترئ ثوب أحدنا، لكن عندما تهترئ بردعة الحمار ينشغل في تسويتها واحد منكما فحسب، غالبا ما يكون أنت لأن برذعة الحمار أقل أهمية من ثوب إنسان، أليس الإنسان أهم من السخلة، يا والدي؟ فلماذا ينشغل الله عن خلق إنسان بخلق سخلة؟! يجيبه إبراهيم:
ـ ان قدرة الله، يا ولدي، تحيط وتسع كل شيء، وأنها ليست كقدرة الإنسان، بحيث يضطر لأن يحسب لكل شيء يخلقه زمنا وزخماً قدرة بعينه، لذلك فإنه، سبحانه، في الوقت الذي يخلق إنساناً يستطيع أن يخلق إنسانا آخر أو جملا أو سخلة أو أيا من الكائنات الحية والنبات والأشجار.. ان الله قادر، يا ولدي، أن يقول لكل شيء، وأي شيء: كن، فيكون. أما نحن بني البشر، فلأن قدرتنا محدودة، فإننا نضطر، إذا ما انشغلنا بأمر أو شيء ما، أن نؤجل الآخر إلى وقت يليه، أو ان يقوم غيرنا بما لا نستطيع أن نقوم به، عدا عن أن الإنسان لا يستطيع أن يعيش من غير أن يخلق الله له المخلوقات الأخرى من حيوان ونبات، بعد أن خلق الأرض والماء والهواء، بل ان واحدة من آيات الله أن خلق الإنسان في أحسن تقويم وسط المخلوقات الأخرى، وجعله أرقى منها، ليعرف دوره في الحياة الدنيا، بعد ان يشكر الله لتمييزه عليها.
وعندما يتدخل صغيرهم (محمود) سائلا:
* عندما تكبر السخلة، نشرب من ضرعها الحليب، أليس كذلك، يا والدي؟
يقول إبراهيم:
ـ نعم يا ولدي، أحسنت.
كان الجميع يتلقون، مع تلقي إبراهيم هذه الأسئلة، ريح كانون التي تخترق بيت الشعر محدثة صفيراً.. سمعوا معه رعدا يتخلله برق، يجعل الغنم تجفل مرئية، في مدخل بيت الشعر، حيث تكون جلستهم قبالته عادة.
يقول إبراهيم:
ـ اللهم اجعلها سنة خير، واحمنا من الصواعب.. وعاديات الدهر..
ويردد الجميع:
ـ آمين.
في الوقت الذي كان إبراهيم يرد على أسئلة أحفاده، كانت أم الخير، منشغلة بالغزل، وعندما كانت تصغي إلى سؤال أحدهم كانت تتبسم، وتتوقف يداها عن الغزل، أو ما يتعلق به، مؤقتا، ثم تعود لتواصل عملها، ولا تنقطع عنه، إلا عندما يطلب إبراهيم أو صغيرهم ماء، فتأتيهم به في كأس (كوز) فخار من صنع العراق، ذلك لأن أحداً آنذاك لم يكن يعرف أفضل منه كيف يصنع أدوات الطبخ والأدوات الأخرى التي يحتاجها الإنسان، أو تأتيهم بالماء في (كوز) مصنوع من القش ومطلي بالقار، وهو الآخر يصنع في العراق، إما من سعف النخيل، أو ذؤابات القصب أو البردي، ويطلى بالقار.. حيث لا قار آنذاك إلا في العراق فحسب، لذلك نجد أرضية شارع الموكب في مدينة بابل الأثرية مطلية بالقار أيضاً.. ومن الأمور التي ينبغي أن تعرف أن القار استخدم، في هذا الشارع في العصر البابلي القديم، في عام 1900 قبل الميلاد، ومع ذلك فهو أكثر جودة من القار المستخرج بالوسائل الحديثة الآن، شأنه شأن السيراميك الذي استخدمه العراقيون في العصر الآشوري الوسيط، في حوالي عام 1400 قبل الميلاد، والأصباغ في بابل، أو في شمال العراق، آنذاك، فإنها لم تفقد لونها رغم مضي ستة آلاف سنة على بعضها.
كان إبراهيم وزوجته يضعان الماء في قربة يعلقانها في زاوية بيت الشعر لئلا تدهمه عنزة، أو نعجة، أو كلب عندما يحسّ بالعطش، أو لمجرد العبث بها.. وكان إبراهيم يتدثر بفروته المصنوعة من جلود الغنم، ويجيب على الأسئلة، وكلما خبت النار التي كانوا يتحلقون حولها، اقترب منها الأولاد أكثر، حتى تكاد تلامس أجسادهم، وكلما أوشكت النار على أن تخبو بسبب تحول الحطب في الموقد إلى رماد بعد اشتعاله، لأَمَ إبراهيم ما تبقى من أطراف الحطب الخارجية، ووضعها في النار لتعاود الاشتعال من جديد، وكان إبراهيم قبل أن ينتهي الحطب يأمر ابنه الأكبر حسقيل بأن يأتي بكمية حطب جديدة من الزاوية البعيدة للبيت، حيث يوضع لكي لا يكون رطباً بفعل المطر أو الندى.
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
في هذا البيت، كان كل شيء يحتاجونه، من الرحى الحجرية اليدوية، التي يستخدمونها للطحين والجرش، إلى قربة الماء، وقربة اللبن (الشكوة) والدلو وحبله، الذي من غيره يتعذر إرواء الغنم وإرواء أنفسهم أيضاً من بئر احتفروها قرب بيتهم، وبساطين أو أكثر حاكتهما حليمة هي ومن عاونها من صوف الغنم.. وكلما تقدم الليل وخفتت النار، كان صغيرهم محمود يقترب من النار فاتحاً رجليه حتى تبان عورته، التي لم يكن يداريها بثوبه، لذلك كانت آثار اقترابه من النار تبدو كأنها دمغات أو (جزر) على جلده في بطن فخذيه، بل كان الأولاد الثلاثة يفعلون هذا، لكن محمود لصغر سنه كان أكثرهم مبالغة في فتح ساقيه والاقتراب من النار.. وعبثاً كان (أخواه) الأكبر أو الأوسط يحاولان تنبيهه لكي يلم ساقيه، ويداري عورته بثوبه، وكلما ازداد البرد قبل النوم، ازداد اقتراب محمود من النار أكثر فأكثر.. لكن أمه كانت تنهرهما، قائلة:
ـ اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرّب جمرة بعصا صغيرة رويداً رويداً، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلاً، وصرخ الصغير، وهبّ واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
وما أن مرت أيام حتى اعتلّ حسقيل بـ (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباساً بلسانه كان واضحاً، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
قال له جده (والده) إبراهيم:
ـ آلمني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وآمل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصباً عليهما، عدا ما يصيب الآخرين غيرهما.. وآمل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحداً مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحداً، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك)، كما يقول المثل عندنا..
قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالباً ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
عاد إبراهيم ليقول:
ـ إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربّنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذاً بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحاً، حتى لو ملك كل ما يملكه الآخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الآخرون شيئاً، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحاً وسعيداً؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيداً، فلن تعيش آمناً، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الآخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الآخرين كلها، ستعيش معذباً في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله مَن يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيداً محبوباً من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيراً في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناماً وإبلاً كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمناً طويلاً.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
ـ اتركا الصغير ولا تضايقاه، فقد كنتما تفعلان ذلك عندما كنتما بعمره.. سوف يكبر ويتعلم.
يضحك الأب والابنان الأكبر والأوسط.
في أحد الأيام، فعل أخوهم الصغير الشيء نفسه، فيما كانوا يتحلقون حول النار، لكن حسقيل قرّب جمرة بعصا صغيرة رويداً رويداً، حتى كادت تلامس قلفته، أو لامستها فعلاً، وصرخ الصغير، وهبّ واقفا، واندفع باتجاه أخيه حسقيل ضاربا إياه على صدره بيده، في الوقت الذي كان يجر شعر رأسه باليد الأخرى.. فعل الصغير هذا إزاء حسقيل وسط لوم وتعنيف الجميع: إبراهيم وحليمة، ويوسف.
وما أن مرت أيام حتى اعتلّ حسقيل بـ (وذمة) في لسانه، ورغم أن حليمة وإبراهيم حاولا ما وسعهما لإشفائه، لكن لسانه لم يشف، إلا بعد أكثر من شهرين.. ومع أنه شفي من (الوذمة) فإن احتباساً بلسانه كان واضحاً، مما جعله يلثغ في الكثير من حروف اللغة العربية، وكانت لثغته واضحة بحرف (الراء) على وجه التحديد.
قال له جده (والده) إبراهيم:
ـ آلمني تصرفك مع أخيك محمود قبل شهرين، عندما أصبت قلفته بالأذى، ولم يشف إلا بعد أن ختناه (طهرناه).. ولشدة ألمي دعوت عليك بالأذى، ولأن دعوة الأب مستجابة، فقد استجاب الله ربي، يا ولدي، لدعوتي عليك، وآمل وأدعو الله، سبحانه، أن يهديك بما يبعدك عن نزعات الشر، وما يمكن أن يصيب الناس منك من أذى.. حيث غالبا ما تتجه هذا الاتجاه خلاف أخويك، يوسف ومحمود، وكثيرا ما يكون أذاك منصباً عليهما، عدا ما يصيب الآخرين غيرهما.. وآمل أن تكف عن الطمع، حيث أراك تطمع في ما في حوزة أخويك، ومن يجاورنا.. إن الطمع يفسد الإنسان، ويجعل الناس يكرهون صاحبه، يا حسقيل، ثم انني أعرف أنك لا تعطي أحداً مما هو في حوزتك، حتى لو كان أمك حليمة، ولا تساعد أحداً، بل انك حتى (لا تبول على جرح أحد لو طلب منك ذلك)، كما يقول المثل عندنا..
قال إبراهيم هذا المثل، ذلك لأن البول غالباً ما كان وسيلة تعقيم الجرح البسيط، إذا لم يتيسر الرماد في المكان.. وقد اتخذ من البول مثلا على البخل والبخيل بأن يقال عنه (إنه لا يبول على جرح) لو احتاجه المجروح.
عاد إبراهيم ليقول:
ـ إن الصفات التي تحملها، يا ولدي حسقيل، صفات غير حميدة، وأن الله، ربّنا، لا يحبها، وإذا استمر سلوكك هذا، أخشى أن لا يوفقك الله، وتعيش منبوذاً بين أخويك والناس، ومن يخسر رضا الله والناس، لن يعيش مرتاحاً، حتى لو ملك كل ما يملكه الآخرون.. أترى، يا ولدي، أنك لو ملكت كل ما تطاله يدك في الوقت الذي لا يملك الآخرون شيئاً، هل تتصور إمكانية أن تعيش مرتاحاً وسعيداً؟، إنك حتى لو كابرت، وقلت: نعم سأعيش سعيداً، فلن تعيش آمناً، وسوف تبقى تلوح بعصاك على كل من يطمع بمالك، ذلك لأنك، وفقا لهذا الافتراض، قد حزته بسبب طمعك، وحتى عندما تقدر عصاك على واحد أو اثنين، فإنها ستعجز عن ذلك، كلما ازداد عدد الطامعين بزيادة ما تملك، وحرمان الآخرين من الملكية، أو كلما وجدوا أن من واجبهم أن يتضامنوا ويتحصنوا تجاه أطماعك فيهم وفي ما يملكون.. بل انك حتى لو استحوذت على ملكية الآخرين كلها، ستعيش معذباً في داخلك، وإذا لم يتعذب في داخله مَن يستحوذ على كل شيء، ويطمع في كل شيء، سوف يقعد له الناس المتضررون كل مقعد، ولن يجد حماية الله قريبة إليه.. وفي كل الأحوال لن يعيش سعيداً محبوباً من أقرانه ومن الناس.. فاحفظ وصيتي، يا ولدي، لأن العمر يتقدم بي، وأخشى أن أموت، ولا تبدل طباعك فتندم.
مرت الأيام، ولم يكن المطر في ذلك العام غزيراً في منطقتهم.. حيث كانوا على مبعدة من الحافة الغربية لنهر الفرات في وسط العراق، أو الحافة الشمالية من جنوبه.. لكن بعض البدو الذين كانوا يمرون بهم في ترحالهم، ذكروا لهم أن بلاد الشام (أصابها) مطر غزير في مناطق الجزيرة المحاذية للعراق. ولأن إبراهيم كان يملك أغناماً وإبلاً كثيرة، قرر بعد أن تشاور مع أم الخير، أن يرتحل إلى هناك، بإبله وأغنامه، اضافة الى عائلته، ولأن مشي من يرتحل عادة ما يجري على قياس أقل الحيوانات قدرة على المشي، فقد تطلب وصولهم إلى هناك زمناً طويلاً.. وكلما ارتحلوا بين مثابتين باتجاه أرض الشام، حسبوا حساب الماء، بالإضافة إلى ما تأكله حيواناتهم، لتكون في وضع يمكنها من مواصلة المسير وكانت واحدة من مثاباتهم منخفض الثرثار شمال غربي تكريت وشمال الأنبار.. وعندما ارتحلوا من هناك كانت رحلتهم ليلا.
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
هنا قال ابراهيم موجها الكلام إلى حليمة، أم الخير:
ـ لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتماً إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيداً، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيماً ومرتحلاً.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضاً.
ولأن إبراهيم غالباً ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبياً فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس آنذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الآن، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالباً عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الآكلين أكثر من قطع اللحم.
عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضراً معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك عليّ، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى آخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصِّفُون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على اساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد وآخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الآخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الاعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب الى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل ان يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم آخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تُصَبَّر ابراهيم بالقول:
ـ قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.
وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد ان ترجوه ليصبر عليه:
ـ ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد ان يسكت ابراهيم على مضض:
ـ ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
ـ اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
ـ لو صادف أن سبقتكم إلى المثابة التي نحن بصدد الوصول إليها، ضعي نجم الجدي، كأنه فوق كتفك الشمال، وامشي، إذ انك لو واصلت هذا الحال، ستصلين حتماً إلى ارض الشام، ولو كان مقصدنا البو كمال في سورية، وواصلنا المشي كذلك، فسوف نصل إلى هناك من غير دليل.
وكان إبراهيم يعرف هذه الأرض جيداً، حيث سبق أن تنقل فيها على مدى عمره مقيماً ومرتحلاً.. وكلما نزلوا قرب عين ماء، أو بئر، كانوا في الغالب، يجدون من سبقهم إلى هناك، سواء من أهل المنطقة التي فيها البئر، التي يحطون قربها ليرتووا منها هم وأنعامهم، أو مناطق أبعد، وهم في طريقهم إلى ارض الشام أيضاً.
ولأن إبراهيم غالباً ما كان يعرف ممن يسبقه إلى حيث ينزل، وبالذات من سكان المكان المستقرين نسبياً فيه، فقد كان وجوه القوم يدعونه هو وأبناءه لعشاء ذلك اليوم، وينحرون له الذبائح، ويدعون على شرف إبراهيم من يدعونه ممن هم حولهم، بل إن الناس آنذاك، وبعضهم في الصحاري حتى الآن، لم يكونوا ينتظرون أن يأتيهم من يدعوهم لوليمة، وإنما يلتقون غالباً عند كبيرهم (مقدمهم) بين وجوههم لشرب القهوة أو السمر، وفي كل الأحوال، يحضرون عندما يستشعرون وجود ضيف غريب، ليحظوا بقطعة لحم مع ثريد وادام، أو ثريد وادام فحسب، إذا تعذر الحصول على قطعة لحم، أو إذا كان عدد الآكلين أكثر من قطع اللحم.
عندما أنجز طبخ الطعام، قدم المضيف الطعام لإبراهيم، وتقدم إلى الطعام من كان حاضراً معه.. وبينما كانوا يتناولون الطعام، لاحظ إبراهيم أن حسقيل، خلاف أخويه، تناول مع قطعة اللحم الموجودة أمامه، قطعة لحم من جاوره على المائدة، فتبعتها يد صاحبها، ولكن حسقيل أمسك بها وأخذها من يده ووضعها في فمه بصورة أخجلت إبراهيم وأخويه، بل أحزنتهم أمام مضيفهم ومن حضر المائدة معهم، ورغم أن المضيف وإبراهيم، والمدعوين، ضحكوا عندما علق صاحب قطعة اللحم على ذلك بقوله: حقك عليّ، يا ولدي، يبدو أن طريقكم طويل، وأن البطن كافرة عندما تجوع.. فقد تمنى إبراهيم أن تنشق الأرض وتبتلعه في تلك اللحظة، على أن يكون أمام ذلك المنظر المخزي، بل حتى يوسف خجل من تصرف حسقيل، رغم فارق العمر بينهما.. ومن يومها لم يعد إبراهيم يحضر حسقيل معه في وليمة يدعى لها، وصار يحضر معه يوسف ومحمود فقط.
كان الطقس والهواء والمرعى في الشام من الجودة بحيث أغرى ابراهيم على البقاء هناك، فاستقر في بلاد الشام الى حين، مرتحلا ومتنقلا من مكان الى آخر. وسمنت وتكاثرت اغنامه وإبله، وأتيح امامه ان يعيش في حال مميز قياسا بأقرانه، وكان الخبز والتين المجفف والزبيب وزيت الزيتون، والزيتون المنقوع بالزيت، أهم مؤونة البيت، وكانت حليمة سعيدة، بما أسعد زوجها ابراهيم، ولكنها بقيت هي والأولاد في شوق الى ديارهم القديمة، حيث يشتون في الشامية، على أرض الجزيرة غرب الفرات من جهة الفرات الأوسط، ويصِّفُون على الكتف الأيمن لنهر الفرات.
كبر الأولاد حتى صار حسقيل في حوالي العشرين عاما من عمره، يتدرج بعده في العمر يوسف ومحمود، كل على اساس عمر معلوم بفارق اقل من سنتين بين واحد وآخر.. وكلما كبروا ازدادت مشاكل حسقيل، وازداد طمعه وعدوانيته على الآخرين، وطمعه في مالهم، وازداد اخواه، ابنا عميه، يوسف ومحمود ثقلا، وعقلا، وتسامحا، وشهامة، وكرما. وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يحظيان باحترام وتقدير من يعرفهما ويخالطهما، كان الناس يبتعدون عن حسقيل، ويزدادون نفورا منه، بل صار من يقترب منه ويصيبه أذاه يمقته ويكرهه، ورغم ان ابراهيم صار محط انظار اهل الشام ممن عرفوه والتقوه، وصار من يسعى ليتزود بالحكمة ينهل من دروسه باختلاطه به أو استشارته، فقد حاول ابراهيم عبثا ان يصلح حسقيل ابن ابنه.. لكنه كان، في كل يوم يمر، ينتظر شكوى من احدهم ضد حسقيل، وحتى عندما كانوا يلعبون على ظهور الخيل في مناسبة ما، كان الشباب يختارون يوسف ومحمود، رغم انهما اصغر عمرا، ويتجنبون حسقيل، وعندما كان حسقيل يلتمس مطاردة احدهم على ظهر فرسه، أو حصانه، كان من يلتمسه يعتذر له بشتى الاعذار، لكنه من جهة أخرى يذهب الى يوسف أو محمود يرجو منه مطاردته.. وعندما يحصل ان يخطئ أحدهم التقدير، ويقبل بمطاردة حسقيل، فغالبا ما تنتهي علاقته مع من يلاعبه على ظهور الخيل الى شجار يسيل فيه دمه أو دم صاحبه، واذا سال دم حسقيل، من غير ان يموت طبعا، عفا ابراهيم عمن يفعل ذلك، لأنه يعرف الخواص السيئة لحسقيل، وإن سال دم آخر، دفع ابراهيم دية عن تصرف حسقيل، وفق ما كانت تقتضي الاعراف، خاصة ان ابراهيم كان يعيش اساسا خارج مسقط رأسه، حيث أهله واعمامه. وكان حسقيل يعمد الى ان يحمل معه حبلا بطرفه انشوطة بصورة سرية، فإذا طارده أحدهم، رمى بالحبل على رقبة فرس ذاك الخيال، ثم يسحبه لتنعقد الانشوطة عليها، فتقع الفرس والخيال على الارض، أو ان يضرب فرس نظيره بعصا أو ان يضرب قرينه خلاف العادة بعصا غليظة حتى يدميه.. الخ. وادرك ابراهيم ان حسقيل، اذا بقي في بيته، سيشكل عداوات مع الناس كلهم، قد تنعكس عليه سلبا، رغم كل تقدير الناس له، ولكنه كان في حيرة من أمره.. كان يتداول مع زوجته حليمة في أمر حسقيل، ورغم ان حليمة تعرف طباع حسقيل السيئة، فقد كانت تُصَبَّر ابراهيم بالقول:
ـ قد تذهب منه طباعه السيئة عندما يكبر.
وعندما يذكرها ابراهيم بأن عمره صار عشرين عاما، وانه أكبر من ابراهيم عندما تزوجها.. تقول، بعد ان ترجوه ليصبر عليه:
ـ ربما يصير أفضل عندما يتزوج.
وتعود لتقول مع نفسها بصوت مسموع، بعد ان يسكت ابراهيم على مضض:
ـ ترى من يقبل به؟ ومن يزوجه ابنته، بعد ان شاع صيته بالسوء؟
وبعد سكوت وتأمل طويلين، يتجه ابراهيم الى ربه بالدعاء:
ـ اللهم اشفه من حال السوء، وخلصني من عبء ما يفعل، انك خير من يعلم السرائر، وتعرف الخير من السيئ، وأنك القدير العزيز.
في إحدى الليالي الربيعية، وبعد ان تناولوا طعام العشاء، سأل حسقيل أباه (جده) إبراهيم:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
* هل الثروة الآن أكبر لدى الدول والناس، أم قبل الآن، يا والدي؟
ـ إنها الآن أكبر.. لأن عدد الناس الآن صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الآن أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الآن أكبر ايضا.
* لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الآن باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
ـ بل اقول ان العمل الآن أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
* كيف؟
* لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
ـ نعم.. صحيح.
ـ اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على آخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
ـ اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الآخرين!؟
ثم اردف حسقيل:
* ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الآخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
ـ انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
ـ انا لم أقل ان الثروة عمل فقط.. وانما قلت ان الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من ان الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الآخرين فحسب، يا حسقيل، وانما في عملهم ايضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الاساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الاساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، الى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون امام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الآن أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
* ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الآن أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
ـ ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الآن أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الآن من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى آنذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الآن مما كانت في الماضي، وإن العمل الآن أكبر حجما وأرقى نوعا.
* ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الآن؟
ـ انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الآن افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنّا أمام حجم أقل بكثير ممَّا عليه الذهب الآن لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
* الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
ـ احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
* ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الآن اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الآن أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه ايضا، وفي مجاري الانهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في ارضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
أجاب ابراهيم على تساؤل حسقيل:
ـ لا استطيع ان اقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا اريد هنا ان اعتمد على الاستنتاج في الاجابة.
ـ إنها الآن أكبر.. لأن عدد الناس الآن صار أكثر مما كانوا عليه قبل مائة عام مثلا، ولأنهم الآن أكثر فإن حجم عملهم أكبر، ولأن العمل اساس الثروة، فإن الثروة الآن أكبر ايضا.
* لماذا لا تقول ان الذهب أكثر الآن باعتباره المقياس الثابت لقيمة الثروة منذ زمن بعيد، فازداد بالتراكم؟
ـ بل اقول ان العمل الآن أكبر.. ذلك لأن العمل، كما ونوعا، أهم من الذهب..
* كيف؟
* لو كان لديك أوقية من الذهب.. وذهبت الى السوق، ولم تجد رغيف خبز، وانت جائع، وكذا عيالك، وتكرر الحال عدة ايام.. الا يعني ذلك انك ستموت، انت وعيالك، ويبقى الذهب لمن يرثه!؟
ـ نعم.. صحيح.
ـ اذن الثروة هي العمل.. وكلما ازدادت ساعات عمل شخص على آخر، وازداد علمه أو مهارته على قرينه، ازدادت الثروة في فعله بالقياس بما عليه قرينه..
ـ اذا كانت الثروة عملا فقط.. لماذا يطمع من يطمع بثروة الآخرين!؟
ثم اردف حسقيل:
* ألم تقل لي، يا أبتي، انني اطمع في ما يملكه الآخرون؟.. فهل اطمع في عملهم.. أم في مالهم؟ ولكنه اجاب بنفسه:
ـ انني اطمع في مالهم، وليس في عملهم.. اطمع في اغنامهم، وفي محصولهم الزراعي، وفي الخيول والجمال والبقر الذي يملكون.
ـ انا لم أقل ان الثروة عمل فقط.. وانما قلت ان الثروة عمل، جوابا على ما قلته وتصورته حكما قاطعا من ان الثروة ذهب فحسب.. انك لا تطمع في ملكية الآخرين فحسب، يا حسقيل، وانما في عملهم ايضا، عندما لا تدفع لهم ثمن عملهم، أو تدفعه منقوصا، أما لو أردنا الاسترسال، وان نولد من كل عنصر من العناصر الاساسية في تكوين الناس والتأثير بها، لما توقفنا عند العمل كمصدر وحيد للثروة، ولكنه المصدر الاساس فيها وفي تعريفها.. ولو نقلنا ثقل الناس والدول في الميزان، من صلتهم بالثروة تحديدا، الى صلتهم بالقيمة، فعندها نكون امام عنوان اشمل، يحوي ما هو مادي وما هو معنوي، وعند ذلك تدخل جغرافية الدول ضمن قيمتها وتاريخها، وما هو في باطن ارضها أو عليها.. وما تركته فيها ولها الاجيال السابقة، ومستوى استعداد شعبها للصبر في الملمات والمحن، ومستوى اعداد واستعداد الناس فيها، بوجه عام، يتقدمهم الرجال، للتضحية الخ.. ولكن اساس الثروة عمل في كل الاحوال.. وهي الآن أكبر، سواء على اساس ما تحوزه الدول أو يحوزه الافراد.. والعمل ايضا مقياس مهم لمستوى صلة الانسان المؤمن بالحياة، وبرب السماوات والارض، لأن الله سبحانه خلق الحياة للانسان، وخلقه ليعمل فيها.. لذلك فإن من يعبد الله، ولا يعمل كما ينبغي او يجب، لا بد ان يكون خلل ما في عبادته، ولا نعرف الى اي حد يقبلها الله أو ينقصها.. خاصة اذا قارنا المؤمن بناقص الايمان.. فكلما قلت قيمة عمله.. أي قل عمله زمنا وقيمة.. عن الحال المقارن به مما ذكرنا، كان معنى ذلك ان ناقص الايمان اكثر فائدة للحياة من المؤمن ان لم يخربها.. ولأن المؤمن لا يقبل ان يكون اقل قيمة من ناقص الايمان، فعليه ان يتفوق على هذا الاخير، ليس في الاخلاق العامة، وتواصله مع رب السماوات والارض فحسب، وانما في العمل ايضا.. وان الاشارات التي اراد بها الله سبحانه ان يعمل الناس، وان يتقن كل عمله، كثيرة، بل لعل صلاة الفجر، وهي الصلاة المبكرة في يومها.. تعني ان الله اراد للمؤمن ان يكون يقظا عند كل فجر، ولأن صلاة الفجر اقصر صلاة، فمعنى ذلك انه، سبحانه، اراد يقظة الانسان للعمل اساسا، وجعل صلاة الفجر في هذا التوقيت سببا ودافعا ليكون المؤمن مستيقظا.
* ولكن. ألا يأكل الناس، ويلبسون افضل، مع ان عددهم الآن أكبر؟ فما الذي ازداد؟ هل ازداد الذهب أم العمل..؟
ـ ان وصف الافضل وصف نسبي.. فعندما نقول ان فلانا يأكل ويلبس الآن أفضل من جده.. فإن قياس الافضل ينبغي ان لا يقاس لفلان مع جده، وإنما مع الناس في مرحلته.. وهكذا كان حال جده يقاس من قبل.. وعلى هذا، فإن كثيرا من الناس يعيشون الآن من دون حد الفقر على مستوى العالم ككل، ومن هذه النسبة أناس من الدول التي تعتبر، أو يعتبرها أهلها أو المسؤولون فيها، من أكثر الدول ثروة.. مثلما كان أناس يعيشون في السابق، على قياس معيار الفقر والغنى آنذاك، من دون حد الفقر.. ومع ذلك اقول جوابا على تساؤلك: نعم، إن الثروة، ومنها الذهب في الدول وفي حوزة الناس، أكبر الآن مما كانت في الماضي، وإن العمل الآن أكبر حجما وأرقى نوعا.
* ولكن، كيف اصبح الذهب أكبر حجما الآن؟
ـ انه اكبر حجما، لأن عدد العاملين على استخراجه صار أكبر بالقياس النسبي.. وان وسائل استخراجه الآن افضل طبقا لقياسات التطور، فكلما تحسنت وسائل استخراجه، وصارت فعالة بصورة افضل، ازداد حجم المستخرج منه. يضاف الى ذلك ان عامل التراكم بسبب الزمن الطويل جعل حجمه أكبر، ولعل المرأة قد لعبت دورا اساسيا في تراكمه لدى الافراد والعوائل، ولولاها لكنّا أمام حجم أقل بكثير ممَّا عليه الذهب الآن لدى العوائل لأن الرجال لا يكنزون أو يستخدمون الذهب، في الغالب.
* الا يعني هذا، يا والدي، ان اثم المرأة أكبر من اثم الرجل، وفق مفهوم ديانتك، لأنها تكتنز الذهب، ولا يكتنزه الرجل؟
ـ احسنت يا ولدي.. نعم ان من يكتنزه ولا يزكيه يقع عليه اثم كبير. عاد حسقيل ليقول:
* ولكن ما أدرانا، قد تكون حصة الفرد من الذهب الآن اقل، لو وزعنا الموجود منه بالتساوي على الكل، ذلك لأن عدد الناس الآن أكبر، بينما كان عددهم في الزمن القديم اقل.. وكان الذهب ظاهرا في أماكنه ايضا، وفي مجاري الانهار، أو حيثما كان هنالك مسيل لماء المطر في ارضه في قديم الزمان مما يسهل تصفيته وجمعه..
أجاب ابراهيم على تساؤل حسقيل:
ـ لا استطيع ان اقول لك شيئا قاطعا في هذا، لأنني لا أمتلك أرقاما.. ولا اريد هنا ان اعتمد على الاستنتاج في الاجابة.
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
تحكي الحلقة الاولى من رواية «اخرج منها يا ملعون» علاقة الشيخ ابراهيم مع ايتام اولاده الثلاثة، الذين قتل آباؤهم في غزوات ومنازعات قبلية. وتسلط الاضواء على شخصية كل منهم وهم: حسقيل ويوسف ومحمود. في هذه الحلقة تتابع الرواية شرح مواقف كل من الثلاثة من مفهوم الثروة
كان إبراهيم وأولاده (أحفاده) يتحدثون عن الماضي البعيد، ورغم ان هناك الكثير من الثوابت، أو ما يشبه الثوابت في الحياة، مما لا يجعل وزنها وتأثيرها يتغيران تغيرا جوهريا بصورة لافتة للنظر، الا ان الاشياء تبقى غير الثوابت أو شبه الثوابت في المعاني والاعتبارات مما يحكم سلوك الانسان ومعتقداته فتكون له أو عليه، ومع ذلك بإمكاننا ان نقول ان مظهر الناس، لو استحضرنا صورة الماضي، وبساطة وسائل الناس فيه، ينبئنا بأن الثروة كانت أقل آنذاك.. وكذا الذهب، وان دور الذهب في الثروة كان حاسما ومرجحا لقيمتها المادية أكثر مما هو الآن.. ذلك لأن عناصر الثروة الأخرى من غير الذهب.. مما يكون قيمة ما توزن عليه الثروة آنذاك، غير ما هي عليه الآن..
إذن المثل الذي قاله ابراهيم لابنائه، ومنهم حسقيل، في موضوع أوقية الذهب ورغيف الخبز حاسم في الاجابة عن تساؤلات من يتساءل عن دور الذهب وعلاقته بالثروة.. بل وكثير من عناصر الثروة الأخرى، وما يوزن عليه ثقلها وقيمتها.. فما قيمة أي ثروة، حتى لو كانت أكواما وأكواما من الذهب، اذا لم تدم الحياة؟ وما قيمة الثروة. سواء بقياسات الزمن القديم الذي تحدث عنه ابراهيم، أو حتى بقياسات هذا الزمن، إن لم تعز أهلها، وتكن في خدمة المعاني العالية، وبما يسهل مهمة انتشارها معاكسة للمعاني الواطئة أو المخربة؟ ألا تكون الثروة عبئا، إن لم تكن على اساس هذه القياسات ومعانيها؟ وماذا يعني من يملكها، حتى لو كان ثوبه وعقاله من ذهب، غير منظر قابل أن يمرغه اي من الفقراء بالوحل، عندما يتكل على الله؟ وهل سيكون منظره الا مضحكا؟ ولو مرغ احد الحفاة قدميه في وحل لأي سبب، لن يكون منظره مضحكا بالضرورة، لكن من يلبس الذهب، ويفكر في الذهب، ويعتقد ان اساس وزنه وتأثيره في الحياة هو الذهب فحسب، ينشأ ضعيف التأثير، ضعيف الارادة. ضعيف البنية والصبر والتحمل، لذلك ما ان يمرغه احد في وحل أو يهوى عليه بقبضته أو يواجهه بإرادته حتى يغدو ذلك في حالة مضحكة، وبإمكان من له هواجس عكس ما نقول ان يتمعن بمن هم في وطننا العربي الكبير الآن، ومن هم جزء غير حي في أمتنا.. بل بإمكان أي واحد من الناس ان ينظر الى نماذجها ابتداء من الحي الذي يعيش فيه في مدينة، الى قرية في الريف، أو الريف الذي عاش فيه سابقا، أو حاليا.. ان الله خلق عناصر الثروة للانسان، أو ما يمكن خلقه منها، بعد ذلك بجهد اصحابها لتعز الانسان، لا لتذله، ولتقويه، لا لتضعفه.. وانها لكي تعزه وتقويه يجب ان يكون جمعها حلالا منزها، وأن تكون في خدمة المعاني العالية وما يرضي الله.. لا ان تكون في خدمة الشيطان والانانية والاثرة المقيتتين.. واذا ما جمعت الثروة ووضعت في خدمة هذه المعاني، وكل ما يرضي الله، وأغلبية الناس الخيرين، كانت كأنها جوالة بذاتها، ومحمية بذاتها.. تتحرك من مكان الى مكان، وتظهر أو تحتجب وفق ما يحميها وينميها، ولا تكون عبئا على اصحابها لو جاءت من مصادر مشروعة.. ولا ثقلا وهما عليهم في الليل والنهار، ان قاموا، وان قعدوا، إن ناموا أو استيقظوا ومدخلا ووسيلة ذل وضعف وما يخزي أهلها بدلا من ان يقويهم ويعزهم.. ذلك لأنها تكون مطاردة من الفقراء، بعد ان يشيح الله بوجهه عن أهلها..
عندما كان ابراهيم يتحدث عن الثروة والذهب ودوره ووزنه في الحياة.. يسأله حسقيل:
* هل ان امتلاك الذهب من الرجال واكتنازهم له يجعلهم في نظر الناس كالنساء يا والدي؟
ـ لا، لن يكونوا على هذا الوصف بالضرورة، إلا عندما يتخلون عن دور وصفات جنسهم.. ولكن لماذا تسأل عن هذا، يا حسقيل؟
ـ أقول لك يا ابتي: والله، ما ان يذكر احدهم الذهب، حتى يطير له فؤادي، بل أكاد لا أهتم بأي نوع من أنواع عناصر الثروة التي ذكرت أو أي شيء آخر.. الا عندما يكون بإمكاني ان أحولها الى ذهب.. وقد تولدت هذه الافكار لديّ، وتكون بنائي عليها منذ ان ذهبت مع والدتي الى سوق مدينة بابل ورأيت الصاغة هناك، ورأيت دكاكينهم مليئة بالذهب، ورأيت النساء الحسان يتعاملن معهم، ورأيتهم يضعون الحلي على جيد هذه أو تلك، لتنظر في المرآة الى نفسها لتقرر شراء ما يعجبها، ولم أر الا قليلا من الرجال يرصعون مقابض سيوفهم بالأحجار الكريمة، أو يغلفون (اقربة) سيوفهم بها.. ولو لم اتحسب لغضبك لذهبت الى هناك.. لأتعلم مهنة الصياغة.. وأريد ان اسألك، يا جدي ـ ولأول مرة قالها حسقيل بعد ان كان يخاطب جده بالقول (يا ابتي) كأنه أراد ان يشعر جده بصورة غير مباشرة بأنه اصبح رجلا وصار من حقه ان يقرر
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
* الم تقل، يا جدي، ان اساس الثروة وجوهرها عمل؟ وانا اقول ان اساس الثروة وجوهرها ذهب.. ولكي لا اتقاطع مع قولك وفي الوقت نفسه اقترب من معبودي الذهب، قل لي، يا جدي، لماذا لا نضع رمزا تشبيهيا لإلهنا، فنجعله من ذهب، ونعبده؟ وبذلك نكتنز الذهب. ونجمع برمزه قوة الدنيا ومعاني العبادة؟
عندها نهره جده..
ـ أتقول معبودي، يا ولد؟ وتريد ان تنزل الذهب الذي استعبدك بمنزلة الله؟ وان تحول الله العظيم الى صنم، لتحقق بواسطته رغباتك، يا خاسئ؟ وحمل عليه بالعصا ليضربه..
امسك حسقيل بالعصا من يد جده وهو يضحك ويقول له:
ـ صبرك عليّ، يا جدي.. ربما لم احسن القول نظرا لحماستي للذهب وحبي له، ولكن، والله يا جدي، ما ان يذكر الذهب حتى يطير له صوابي، لكن لولا حبي لله لما سخيت على نموذجه بالذهب.. ألا ينبئك سخائي هذا بمستوى ونوع محبتي لله..
قال حسقيل ذلك هو (يتمزمز) كأنه يكبت ضحكة في داخله.. لأنه يعرف أن ما أراده ليس توقير الرمز، وانما اكتناز الذهب فيه.. ثم استدار بجلسته نحو محمود ويوسف قائلا لهما:
ـ لو وافق جدي على هذا، مع معرفتي انه لا يؤمن به. لجمعت ثروة كبيرة بأسرع وقت.. أتعلمان كيف افعل ذلك؟ كنت سأدعو كل أهل بلاد الشام والعراق، مستخدما سمعة جدي ودينه، لأطلب من كل قادر مساهمة في هذا التمثال الرمزي.. وعندها ـ يقول حسقيل ـ سيكون لدينا تمثال كبير من ذهب ـ وكان من يسمعه يقول (تمثال من ذهب) يكاد يسمع صوت بلعومه، ويلاحظ انه يدور لسانه على شفتيه كأنه يتحسس عسلا بطرف لسانه ـ وسأجمع من خلال الطواف به ثروة، في الوقت الذي تكون ملكيته لي، لكنني مستعد لاعطيكما شيئا منه.
ولكن ابني عميه يرفضان، فيقول لهما هازئا:
ـ أبقيا على دينكما، وسأكون على ديني..
ثم يعود حسقيل ليقول موجها الكلام الى جده:
ـ أليس من الافضل ان يعمل الانسان بالذهب، بدلا من مباراة أو رعي اغنام وإبل وأبقار مما نفعل الان أنا وابنا عمي؟ ـ ولأول مرة يقول (انا وابنا عمي) بدلا من (اخوي) التي كان يقولها في السابق، وفق ما أراد جدهم ابراهيم ان يعودهم عليه، وكأنه قرر ايضا ان يفصل نفسه عن البيت وابني عميه بقوله لهما (ابنا عمي) بدلا من أخوي..
نظر ابراهيم اليه، وقال:
تصرف وفق ما ترى، لقد صرت الآن رجلا، وبإمكانك ان تقرر ما يتعلق بمصيرك، لكنني ظننتكم تعيشون اخوة في هذا البيت، وترعون ما تملكون، وتتقون الله بعد ان آمنتم به.. وها هي ثروتكم كبيرة، والأهم في ثروتكم هو سمعتنا بين الناس، وطاعة الناس لدعوتنا الى عبادة الرب الرحيم، الإله الواحد الصمد.. وتبركهم في طاعتنا، بعد الله، واليه يسلمون.
قال حسقيل:
* إذا لم ترغب في ان أفارقكم، يا جدي، فاترك لي أن أقرر نوع العمل الذي أعمله، ونوع الثروة التي أجمعها..
ـ لك ذلك، يا ولدي..
فهم ابراهيم ان حسقيل اراد ان يكون في بيت منفصل، وأراد ايضا ان يفصل ملكية أبيه عن الملكية المشتركة، وهي عبارة عن عدد من الإبل والأبقار والأغنام.. عزلها له جده بمساعدة الرعاة، وفق قانون ايمانه.. ومن يومها صار حسقيل يعيش في نفس المكان الذي كانوا يعيشون فيه، ولكن في بيت شعر منفصل.. وبقي ابنا عميه يوسف ومحمود مع جدهم ابراهيم وجدتهم حليمة..
وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يباريان الرعاة ويوجهانهم، ويحميان المواشي اذا تعرضت الى غزو، ويكرمان ضيوفهم تحت اشراف وتوجيه جدهما، كان حسقيل يتخذ اتجاهات اخرى لحياته.. فقد باع من فوره كل ما افرزه (جنبه) له جده من أغنام وخيول وابل وابقار، وحولها الى قطع من ذهب من العملات الدارجة آنذاك، وكان العراق حينئذ أول من سن ضرب العملة، بما في ذلك العملة المعدنية باعتباره اقدم حضارة وأقدم دولة.. وبعد ان حوّل ما يملك من ذهب، كان حسقيل يأتي الى بيت جده وهو يحتضن كيس (صرة) الذهب، ويتلمسها وهي في يده كأنه يتبارك بها، بل انه كان حتى في الصلاة يضع (الصرة) أمامه كأنه يصلي لها.. وعندما يزور ابني عميه، كان يعرض عليهما الذهب قطعة قطعة كأنه يستحثهم على ان يسلكوا طريقه.. وكان عندما يعرض قطعة الذهب يشمها. ثم يفركها بأصابعه قبل ان يسلمها الى اي من ابني عميه.. وينبههما ان لا يدعا ايا من قطع الذهب تسقط على الارض وعندما يقولان له باستغراب: وماذا يصيب قطعة الذهب، وهي معدن، لو سقطت على الارض؟.. (يتمزمز) حسقيل ويقول:
ـ لو سقطت على الارض مرات عدة، أو فركت مرات عدة، قد تفقد شيئا من وزنها، ولذلك ترون انني اضعها في كيس قماش رقيق، بدلا من ان اضعها في كيس يحاك من شعر الماعز أو صوف الغنم، ذلك لأن شعر الماعز وصوف الغنم خشنان، ولكنني مع ذلك اخشى ان تفقد القطع من وزنها بسبب احتكاكها مع بعضها.. ولكن لم أجد وسيلة افضل من هذا..
وكان لا يستخرج قطعة ذهب أخرى من (الصرة) أو الكيس، الا بعد ان يعيد القطعة التي في ايديهما للكيس.. ولكنهما كانا باتجاه آخر، في الوقت الذي افترق عنهما ليأخذ طريقه..
كان حسقيل لا يستضيف أحدا في بيته.. متخذا من عدم وجود امرأة معه لتقوم بإعداد الطعام ذريعة ليتجنب الصرف على ضيوفه.. وإذا ما أحرجه أحد.. قاده وذهب معه الى بيت جده لتكون الضيافة هناك.
كان حسقيل ضئيل الجسم، مقوس الانف، دميم الخلقة.. تسترسل لحيته من غير اعاقة، وتلتحم بطرفي شاربيه، لكنها لم تكن كثة، وانما شعرها خفيف ومتفرق، وكان يترك فجوات بعينها في لحيته من دون شعر، وكان يرتدي سروالا على هيئة سكان الجبل، وليس ثوبا، ولا يضع شيئا على رأسه.. وعندما يقول له اخواه: لماذا لا تضع غطاء على رأسك، يا حسقيل؟ يقول لهما: لا داعي لمزيد من الصرف.. وترك حسقيل رأسه مكشوفا بعد ان انتقل من بيت جده لان الصرف آنذاك كان يجري على نفقة جده ابراهيم.. لكنه عندما استقل في بيت منفرد، استغنى عن غطاء الرأس المعتاد ضمن وسطهم واستبدله بقطعة قماش صغيرة على هيئة (طاسة) (1) صغيرة مفلطحة بالكاد تثبت بصورة غير مستقرة في اعلى سمت رأسه.. وعندما يسأل: لماذا لا تجعلها تغطي كل شعر رأسك من الاعلى؟ يقول: لا داعي للتبذير، هذا يكفي.. وصارت ملابسه الرثة المتسخة من بين اهم مظهر فيها.. وكان لا يملك في بيته الا بساطا واحدا، ووسادة واحدة، وفروة يرتديها في الشتاء ويتغطى بها عند النوم، وكان كلما اكل اكلة دسمة في بيت جده ابراهيم مسح يديه بالفروة بدلا من ان يغسلهما، وعندما يسأل: لماذا لا تغسل يديك؟.. يقول: ان مسح الدسم بجلد الفروة يجعل الجلد طريا وبذلك اطيل عمر الفروة.. اضافة لكوز ماء (مثلوم) من اكثر من مكان، وقربة ماء بالكاد تكفي شربة او شربتين لشخص واحد فقط.. وكان لا يطبخ في بيته او يستأجر من يخبز له.. ذلك لانه كان يأكل في بيت ابراهيم.. وربما كان هذا واحدا من اهم الاسباب التي جعلته يسكن قرب بيت ابراهيم، بالاضافة الى ان منزله قرب بيت ابراهيم يجعله يتمتع بالحماية التي يوفرها من يعيش على خير ابراهيم وما كان يحظى به من احترام وتقدير وهيبة ومحبة بين الناس، مما جعل حسقيل يطمئن على ما يمكله من ذهب، ومع ذلك كان لا ينام الا بعد ان يشد كيس الذهب على بطنه، في الوقت الذي ينتقل معه.. حتى الى بيت جده.. بل إن بيت جده كان المكان الوحيد الذي يذهب اليه بعد ان يترك بيته.
عندها نهره جده..
ـ أتقول معبودي، يا ولد؟ وتريد ان تنزل الذهب الذي استعبدك بمنزلة الله؟ وان تحول الله العظيم الى صنم، لتحقق بواسطته رغباتك، يا خاسئ؟ وحمل عليه بالعصا ليضربه..
امسك حسقيل بالعصا من يد جده وهو يضحك ويقول له:
ـ صبرك عليّ، يا جدي.. ربما لم احسن القول نظرا لحماستي للذهب وحبي له، ولكن، والله يا جدي، ما ان يذكر الذهب حتى يطير له صوابي، لكن لولا حبي لله لما سخيت على نموذجه بالذهب.. ألا ينبئك سخائي هذا بمستوى ونوع محبتي لله..
قال حسقيل ذلك هو (يتمزمز) كأنه يكبت ضحكة في داخله.. لأنه يعرف أن ما أراده ليس توقير الرمز، وانما اكتناز الذهب فيه.. ثم استدار بجلسته نحو محمود ويوسف قائلا لهما:
ـ لو وافق جدي على هذا، مع معرفتي انه لا يؤمن به. لجمعت ثروة كبيرة بأسرع وقت.. أتعلمان كيف افعل ذلك؟ كنت سأدعو كل أهل بلاد الشام والعراق، مستخدما سمعة جدي ودينه، لأطلب من كل قادر مساهمة في هذا التمثال الرمزي.. وعندها ـ يقول حسقيل ـ سيكون لدينا تمثال كبير من ذهب ـ وكان من يسمعه يقول (تمثال من ذهب) يكاد يسمع صوت بلعومه، ويلاحظ انه يدور لسانه على شفتيه كأنه يتحسس عسلا بطرف لسانه ـ وسأجمع من خلال الطواف به ثروة، في الوقت الذي تكون ملكيته لي، لكنني مستعد لاعطيكما شيئا منه.
ولكن ابني عميه يرفضان، فيقول لهما هازئا:
ـ أبقيا على دينكما، وسأكون على ديني..
ثم يعود حسقيل ليقول موجها الكلام الى جده:
ـ أليس من الافضل ان يعمل الانسان بالذهب، بدلا من مباراة أو رعي اغنام وإبل وأبقار مما نفعل الان أنا وابنا عمي؟ ـ ولأول مرة يقول (انا وابنا عمي) بدلا من (اخوي) التي كان يقولها في السابق، وفق ما أراد جدهم ابراهيم ان يعودهم عليه، وكأنه قرر ايضا ان يفصل نفسه عن البيت وابني عميه بقوله لهما (ابنا عمي) بدلا من أخوي..
نظر ابراهيم اليه، وقال:
تصرف وفق ما ترى، لقد صرت الآن رجلا، وبإمكانك ان تقرر ما يتعلق بمصيرك، لكنني ظننتكم تعيشون اخوة في هذا البيت، وترعون ما تملكون، وتتقون الله بعد ان آمنتم به.. وها هي ثروتكم كبيرة، والأهم في ثروتكم هو سمعتنا بين الناس، وطاعة الناس لدعوتنا الى عبادة الرب الرحيم، الإله الواحد الصمد.. وتبركهم في طاعتنا، بعد الله، واليه يسلمون.
قال حسقيل:
* إذا لم ترغب في ان أفارقكم، يا جدي، فاترك لي أن أقرر نوع العمل الذي أعمله، ونوع الثروة التي أجمعها..
ـ لك ذلك، يا ولدي..
فهم ابراهيم ان حسقيل اراد ان يكون في بيت منفصل، وأراد ايضا ان يفصل ملكية أبيه عن الملكية المشتركة، وهي عبارة عن عدد من الإبل والأبقار والأغنام.. عزلها له جده بمساعدة الرعاة، وفق قانون ايمانه.. ومن يومها صار حسقيل يعيش في نفس المكان الذي كانوا يعيشون فيه، ولكن في بيت شعر منفصل.. وبقي ابنا عميه يوسف ومحمود مع جدهم ابراهيم وجدتهم حليمة..
وفي الوقت الذي كان يوسف ومحمود يباريان الرعاة ويوجهانهم، ويحميان المواشي اذا تعرضت الى غزو، ويكرمان ضيوفهم تحت اشراف وتوجيه جدهما، كان حسقيل يتخذ اتجاهات اخرى لحياته.. فقد باع من فوره كل ما افرزه (جنبه) له جده من أغنام وخيول وابل وابقار، وحولها الى قطع من ذهب من العملات الدارجة آنذاك، وكان العراق حينئذ أول من سن ضرب العملة، بما في ذلك العملة المعدنية باعتباره اقدم حضارة وأقدم دولة.. وبعد ان حوّل ما يملك من ذهب، كان حسقيل يأتي الى بيت جده وهو يحتضن كيس (صرة) الذهب، ويتلمسها وهي في يده كأنه يتبارك بها، بل انه كان حتى في الصلاة يضع (الصرة) أمامه كأنه يصلي لها.. وعندما يزور ابني عميه، كان يعرض عليهما الذهب قطعة قطعة كأنه يستحثهم على ان يسلكوا طريقه.. وكان عندما يعرض قطعة الذهب يشمها. ثم يفركها بأصابعه قبل ان يسلمها الى اي من ابني عميه.. وينبههما ان لا يدعا ايا من قطع الذهب تسقط على الارض وعندما يقولان له باستغراب: وماذا يصيب قطعة الذهب، وهي معدن، لو سقطت على الارض؟.. (يتمزمز) حسقيل ويقول:
ـ لو سقطت على الارض مرات عدة، أو فركت مرات عدة، قد تفقد شيئا من وزنها، ولذلك ترون انني اضعها في كيس قماش رقيق، بدلا من ان اضعها في كيس يحاك من شعر الماعز أو صوف الغنم، ذلك لأن شعر الماعز وصوف الغنم خشنان، ولكنني مع ذلك اخشى ان تفقد القطع من وزنها بسبب احتكاكها مع بعضها.. ولكن لم أجد وسيلة افضل من هذا..
وكان لا يستخرج قطعة ذهب أخرى من (الصرة) أو الكيس، الا بعد ان يعيد القطعة التي في ايديهما للكيس.. ولكنهما كانا باتجاه آخر، في الوقت الذي افترق عنهما ليأخذ طريقه..
كان حسقيل لا يستضيف أحدا في بيته.. متخذا من عدم وجود امرأة معه لتقوم بإعداد الطعام ذريعة ليتجنب الصرف على ضيوفه.. وإذا ما أحرجه أحد.. قاده وذهب معه الى بيت جده لتكون الضيافة هناك.
كان حسقيل ضئيل الجسم، مقوس الانف، دميم الخلقة.. تسترسل لحيته من غير اعاقة، وتلتحم بطرفي شاربيه، لكنها لم تكن كثة، وانما شعرها خفيف ومتفرق، وكان يترك فجوات بعينها في لحيته من دون شعر، وكان يرتدي سروالا على هيئة سكان الجبل، وليس ثوبا، ولا يضع شيئا على رأسه.. وعندما يقول له اخواه: لماذا لا تضع غطاء على رأسك، يا حسقيل؟ يقول لهما: لا داعي لمزيد من الصرف.. وترك حسقيل رأسه مكشوفا بعد ان انتقل من بيت جده لان الصرف آنذاك كان يجري على نفقة جده ابراهيم.. لكنه عندما استقل في بيت منفرد، استغنى عن غطاء الرأس المعتاد ضمن وسطهم واستبدله بقطعة قماش صغيرة على هيئة (طاسة) (1) صغيرة مفلطحة بالكاد تثبت بصورة غير مستقرة في اعلى سمت رأسه.. وعندما يسأل: لماذا لا تجعلها تغطي كل شعر رأسك من الاعلى؟ يقول: لا داعي للتبذير، هذا يكفي.. وصارت ملابسه الرثة المتسخة من بين اهم مظهر فيها.. وكان لا يملك في بيته الا بساطا واحدا، ووسادة واحدة، وفروة يرتديها في الشتاء ويتغطى بها عند النوم، وكان كلما اكل اكلة دسمة في بيت جده ابراهيم مسح يديه بالفروة بدلا من ان يغسلهما، وعندما يسأل: لماذا لا تغسل يديك؟.. يقول: ان مسح الدسم بجلد الفروة يجعل الجلد طريا وبذلك اطيل عمر الفروة.. اضافة لكوز ماء (مثلوم) من اكثر من مكان، وقربة ماء بالكاد تكفي شربة او شربتين لشخص واحد فقط.. وكان لا يطبخ في بيته او يستأجر من يخبز له.. ذلك لانه كان يأكل في بيت ابراهيم.. وربما كان هذا واحدا من اهم الاسباب التي جعلته يسكن قرب بيت ابراهيم، بالاضافة الى ان منزله قرب بيت ابراهيم يجعله يتمتع بالحماية التي يوفرها من يعيش على خير ابراهيم وما كان يحظى به من احترام وتقدير وهيبة ومحبة بين الناس، مما جعل حسقيل يطمئن على ما يمكله من ذهب، ومع ذلك كان لا ينام الا بعد ان يشد كيس الذهب على بطنه، في الوقت الذي ينتقل معه.. حتى الى بيت جده.. بل إن بيت جده كان المكان الوحيد الذي يذهب اليه بعد ان يترك بيته.
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
اتجه حسقيل الى الحدادة في بادئ الامر، ذلك لان هذه الحرفة لم تكن من الحرف التي تستهوي العرب، ولذلك لم يكن منهم من ينافسه عليها، ولذلك ايضا بدأ بها، وكان اول عمل بدأ به هو انه صار يحذو الخيل، وكان كلما علم بوجود ميدان بذاته لسباق الخيل قد اتفق عليه مسبقا ليقام عليه سباق او لعبة فرسان سلمية فوق ظهور الخيل في مناسبة بعينها، ذهب بنفسه، او استعان بمن يستكريهم ليجمعوا له حصى صغيرة او يجزئوا الحصى الكبيرة نسبيا الى اجزاء صغيرة، بعضها حاد كشفرة، وذلك بضرب الحصا ببعضه.. وعندما يتجمع له منه ما يقرره، يذهب خلسة الى الميدان، لينثره في التربة هناك، بحيث تؤذي حوافر الخيل عندما تتسابق او يلعب فوقها الفرسان بالمطاردة (بالطراد) الى الحد الذي يضطر اصحابها ليستعينوا به ليحذوها.. ولانه الوحيد في منطقته، فقد كان يفرض اجره (بالعالي) وغالبا ما كان يجعل حذوة الحصان او الفرس غير ثابتة بما يكفي، بحيث يضطر اصحاب الخيول الى الاتيان بخيولهم اليه، ليعيدوا حذوها، او بفواصل زمنية قصيرة، وبذلك يزداد الطلب عليه، ويزداد اسغلاله وتكبر ثروته.
وبعد ان تحسنت اوضاعه اتجه الى صناعة السيوف والخناجر، ثم من بعدها الى صياغة الحلي.. وعندما صار يصنع السيوف والخناجر، كان يعمد الى اثارة فتن بين القبائل، ليضرب قبيلة بقبيلة، فتتجه على هذا الاساس الى شراء وحيازة المزيد من الرماح والقضبان والسهام والنبال والسيوف والخناجر والدروع والتروس.. وبعد ان وسع حسقيل قدراته في الانتاج، صار يشغل بالاجرة اعدادا من الناس، لكنه كان يعلم كلا منهم جانبا من الحرفة، بحيث لا يستطيع اي منهم ان يعمل شيئا كاملا منها من غير ان يستعين بحسقيل.. وبينما كان حسقيل ينظم شبكة من الاجراء لبث الشائعات والفتن، واغراء من يغرونه على قول شعر هجاء بحق هذا او ذاك من وجوه قوم آخرين لتنشب النزاعات والقتال ليستفيد حسقيل، كان كل من محمود ويوسف يتتلمذ على يدي جدهما في تعلم الحكمة، ورسوخ الايمان في نفسيهما وعقليهما، وكانت طاعة جدهما في كل ما يأمرهما ويكلفهما به هي المدخل الاساس وعنوان شخصيتيهما الى الايمان العظيم بالله الواحد الاحد.. وكانا يتعاملان مع جدتهما حليمة بنفس روح التقدير والاحترام والطاعة لجدهما، ولكن على وفق درجتها واستحقاقها.. وكانت محبة الناس لهما تزداد وتتسع.. وكلما جاء من يريد ان يستشير جدهما في امر ديني، أو شأن حياتي يقتضي حله الحكمة، ويقدر جدهما ان ايا منهما على وجه التحديد قادر على حله، كان يحيل اليه من يتوجه اليه بسؤال او استفسار او يستعين به بنصيحة لحل معضلة، وهكذا كان جدهما، كأنه اراد ان يدربهما على كل شيء يعرفه، ليتوليا حفظ الرسالة وابلاغها الى من يستعين بهما ويتبعهما بعد وفاته، وكان اي منهما كلما وجه، او افتى، او نصح بشيء عاد الى جده ليشرح له اجتهاده فيقره عليه او يصحح له وفق ما يستوجب.
في احدى السنوات، وبعد ان صار حسقيل يصنع الحلي من الذهب والفضة.. كان الوقت وقت ربيع.. ومن عادة اهل البادية في ذلك الزمن، مثلما هم حتى يومنا هذا، رغم ما يحظون به من استقرار في الوطن العربي كله، انهم كانوا يرحلون من مكان الى آخر طلبا للماء والكلأ.. وبخاصة في فصل الربيع.. وحصل ان انتقل ابراهيم، ومعه حليمة وحفيداه محمود ويوسف.. وكان حسقيل يتبعهم وينزل قربهم.. وظلوا يرحلون من مكان الى آخر، حتى حطوا رحالهم في منطقة قبيلة كبيرة، كان شيخها رجلا كريما وحكيما وشجاعا وصاروا منذ ذلك اليوم يرحلون وينزلون معه، ولكنهم لا يحطون رحالهم إلا بعد ان يركز شيخ القبيلة رمحه في مكان بعينه، وكعلامة على مكان ومكانة منزل ابراهيم كان شيخ القبيلة يبني منزله على مسافة قريبة منه.. ليضمن له الحماية وحرية الجهر بافكاره والدعوة الى ما يؤمن به كرسالة التوحيد وعبادة الله الواحد الاحد.
وفي أواخر ايام ربيع احدى السنوات التي قضاها ابراهيم في بلاد الشام متنقلا بين الفرات شرقا وبلاد الشام وبحرها غربا، وباقي اراضي شبه جزيرة العرب جنوبا.. صادف ان رحل ابراهيم مع تلك القبيلة التي تآخى مع شيخها. وبينما راح ابراهيم يستطلع المكان الذي عينه لمنزله شيخ القبيلة، وجد انه ركز رمحه في (قرية نمل).. وهذا يعني بعرف القبائل انه غير مرغوب فيه.. وقد لفت زوبعة أسى ابراهيم، ذلك لانه كان يعرف ان صاحبه شيخ القبيلة لا يطلق الأحكام على عواهنها كما يقول المثل، ولانه لم يفعل هو او زوجته ما يسيء الى شيخ القبيلة، ولا الى اي احد من افرادها ولم يفعل هذا اي من ابنائه بصورة معروفة، بمن فيهم حسقيل، فلا بد ان يكون احد ابنائه (احفاده) قد عملها بصورة سرية.. ومن يكون غير المرأة والعلاقة معها مما يفعله شاب تزل قدمه عن موضعها او يخالط عفته عفن؟ ورغم انه خمن ان يكون حسقيل هو الذي اقترف هذه الفعلة، فقد اراد ان يعرف بصورة غير مباشرة، ولان من عادة كبير العائلة ان يتقدم الضعن قبل وصوله المكان المقرر، فقد عاد ابراهيم أدراجه ليلتقي بعائلته المضعنة، وعندما رأى ابناؤه وزوجته جدتهم ان ابراهيم عاد اليهم بخلاف ما اعتادوا عليه، توقفوا واجتمعوا اليه يسألونه:
ـ خير، يا والدي؟
وقالت حليمة:
ـ خير ان شاء الله يا ابراهيم؟
ولكن حسقيل قال:
ـ ماذا حصل، يا جدي؟
اجاب ابراهيم:
وبعد ان تحسنت اوضاعه اتجه الى صناعة السيوف والخناجر، ثم من بعدها الى صياغة الحلي.. وعندما صار يصنع السيوف والخناجر، كان يعمد الى اثارة فتن بين القبائل، ليضرب قبيلة بقبيلة، فتتجه على هذا الاساس الى شراء وحيازة المزيد من الرماح والقضبان والسهام والنبال والسيوف والخناجر والدروع والتروس.. وبعد ان وسع حسقيل قدراته في الانتاج، صار يشغل بالاجرة اعدادا من الناس، لكنه كان يعلم كلا منهم جانبا من الحرفة، بحيث لا يستطيع اي منهم ان يعمل شيئا كاملا منها من غير ان يستعين بحسقيل.. وبينما كان حسقيل ينظم شبكة من الاجراء لبث الشائعات والفتن، واغراء من يغرونه على قول شعر هجاء بحق هذا او ذاك من وجوه قوم آخرين لتنشب النزاعات والقتال ليستفيد حسقيل، كان كل من محمود ويوسف يتتلمذ على يدي جدهما في تعلم الحكمة، ورسوخ الايمان في نفسيهما وعقليهما، وكانت طاعة جدهما في كل ما يأمرهما ويكلفهما به هي المدخل الاساس وعنوان شخصيتيهما الى الايمان العظيم بالله الواحد الاحد.. وكانا يتعاملان مع جدتهما حليمة بنفس روح التقدير والاحترام والطاعة لجدهما، ولكن على وفق درجتها واستحقاقها.. وكانت محبة الناس لهما تزداد وتتسع.. وكلما جاء من يريد ان يستشير جدهما في امر ديني، أو شأن حياتي يقتضي حله الحكمة، ويقدر جدهما ان ايا منهما على وجه التحديد قادر على حله، كان يحيل اليه من يتوجه اليه بسؤال او استفسار او يستعين به بنصيحة لحل معضلة، وهكذا كان جدهما، كأنه اراد ان يدربهما على كل شيء يعرفه، ليتوليا حفظ الرسالة وابلاغها الى من يستعين بهما ويتبعهما بعد وفاته، وكان اي منهما كلما وجه، او افتى، او نصح بشيء عاد الى جده ليشرح له اجتهاده فيقره عليه او يصحح له وفق ما يستوجب.
في احدى السنوات، وبعد ان صار حسقيل يصنع الحلي من الذهب والفضة.. كان الوقت وقت ربيع.. ومن عادة اهل البادية في ذلك الزمن، مثلما هم حتى يومنا هذا، رغم ما يحظون به من استقرار في الوطن العربي كله، انهم كانوا يرحلون من مكان الى آخر طلبا للماء والكلأ.. وبخاصة في فصل الربيع.. وحصل ان انتقل ابراهيم، ومعه حليمة وحفيداه محمود ويوسف.. وكان حسقيل يتبعهم وينزل قربهم.. وظلوا يرحلون من مكان الى آخر، حتى حطوا رحالهم في منطقة قبيلة كبيرة، كان شيخها رجلا كريما وحكيما وشجاعا وصاروا منذ ذلك اليوم يرحلون وينزلون معه، ولكنهم لا يحطون رحالهم إلا بعد ان يركز شيخ القبيلة رمحه في مكان بعينه، وكعلامة على مكان ومكانة منزل ابراهيم كان شيخ القبيلة يبني منزله على مسافة قريبة منه.. ليضمن له الحماية وحرية الجهر بافكاره والدعوة الى ما يؤمن به كرسالة التوحيد وعبادة الله الواحد الاحد.
وفي أواخر ايام ربيع احدى السنوات التي قضاها ابراهيم في بلاد الشام متنقلا بين الفرات شرقا وبلاد الشام وبحرها غربا، وباقي اراضي شبه جزيرة العرب جنوبا.. صادف ان رحل ابراهيم مع تلك القبيلة التي تآخى مع شيخها. وبينما راح ابراهيم يستطلع المكان الذي عينه لمنزله شيخ القبيلة، وجد انه ركز رمحه في (قرية نمل).. وهذا يعني بعرف القبائل انه غير مرغوب فيه.. وقد لفت زوبعة أسى ابراهيم، ذلك لانه كان يعرف ان صاحبه شيخ القبيلة لا يطلق الأحكام على عواهنها كما يقول المثل، ولانه لم يفعل هو او زوجته ما يسيء الى شيخ القبيلة، ولا الى اي احد من افرادها ولم يفعل هذا اي من ابنائه بصورة معروفة، بمن فيهم حسقيل، فلا بد ان يكون احد ابنائه (احفاده) قد عملها بصورة سرية.. ومن يكون غير المرأة والعلاقة معها مما يفعله شاب تزل قدمه عن موضعها او يخالط عفته عفن؟ ورغم انه خمن ان يكون حسقيل هو الذي اقترف هذه الفعلة، فقد اراد ان يعرف بصورة غير مباشرة، ولان من عادة كبير العائلة ان يتقدم الضعن قبل وصوله المكان المقرر، فقد عاد ابراهيم أدراجه ليلتقي بعائلته المضعنة، وعندما رأى ابناؤه وزوجته جدتهم ان ابراهيم عاد اليهم بخلاف ما اعتادوا عليه، توقفوا واجتمعوا اليه يسألونه:
ـ خير، يا والدي؟
وقالت حليمة:
ـ خير ان شاء الله يا ابراهيم؟
ولكن حسقيل قال:
ـ ماذا حصل، يا جدي؟
اجاب ابراهيم:
- *شيخ البلد*VIP™
- المشاركات : 657
الوظيفة : زملكاوى جداً
إن شاء الله خير، يا رب.. لقد فكرت في ان نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا وفي مكان ما في منتصف الطريق، نقيم ريثما نقرر اتجاهنا الجديد، وقد نعود الى حافة نهر الفرات في وسطه حيث العراق واهلنا هناك، او نتجه الى الحجاز.
حاول حسقيل ان يخالف توجيه جده، لكن الاشارات التي فهمها من محمود ويوسف لم تنبئ بان باستطاعته ان يقرر منفردا برأيه خلافا لما يريده ابراهيم.. ذلك لان الجميع فهموا ان ابراهيم ما كان ينفصل عن قبيلة صاحبه وحيث نزلوا الا لامر جلل.. لم يفهم حسقيل ذلك، او انه اراد ان لا يفهم، جريا خلف ما درت عليه مهنته في كنف تلك القبيلة الكبيرة، وانجرارا خلف ما صار عليه طمعه، بعد ان بنوا بيوت الشعر بما في ذلك البيت المخصص لحسقيل وبيوت الرعاة.
استدعى ابراهيم اولاد ابنائه الثلاثة.. وانفرد بهم واحدا واحدا، مبتدئا بالصغير، محمود، وقال له:
ـ ان لـ (خوينا) مصعب ـ اي اخينا ـ شيخ القبيلة بنتا حلوة تغري كل رجل.. هل دنوت منها؟ ألم تستطع ان تغريها، يا ولدي؟ انها جميلة وتستحقك.. وانت تستحقها اكثر من غيرك..
جفل محمود واحمرت عيناه.. بل كادت تخرجان من محجريهما.. وكاد يسحب سيفه من جنبه، بعد ان نسي من شدة ما غشيه من غضب، ان من يخاطبه هو جده ابراهيم.. وعندها قال لابراهيم:
ـ يا للعار، لو فعلنا سوءا كهذا! كيف تقول هذا، يا والدي، وابو البنت (خويك) وقد انزلنا في كنفه، وضمن لنا حرية التبشير بآرائنا، وحمانا؟ والله، يا والدي لو لم تكن ابي، ولو خمنت انك مستقر على رأيك هذا، لكنت اتخذت موقفا لا ارضاه لنفسي ولا ترضاه عني، ولفارقتك من يومنا هذا، وربنا الغفور الرحيم.
قال ابراهيم:
ـ (عفية)، يا ولدي.. اكتمها عن اخويك.. وإذا سألاك بعد خروجك افتعل لهما اي شيء ولا تقل ما قتله لك.
وعده محمود بذلك، وهدأ روعه، ثم خرج، ودخل يوسف وكان موقفه وجوابه كموقف محمود وجوابه لابيه، الذي قال له ما قاله لمحمود.. بعدها جاء دور حسقيل.. وقبل ان يدخل، كان ابراهيم يداور الأمر مع نفسه: اتراه فعل الفعلة المخزية، هذا اللعين حسقيل؟ اتراه هو الذي سوّد وجوهنا وموقفنا امام ابن الحلال، (خوينا) شيخ القبيلة مصعب!؟
ثم يعود ليقول في نفسه: ان أمه عفيفة وابنة رجل شريف وان اباه ابني، وانا واثق من امه.. وواثق من نفسي، ومن طهارة حليمة.. ولكن من اين جاءه هذا العرق النجس؟ ربما جاءه من اي من اخواله.. وربما من اي من اعمامنا.. وعندما قال الجملة الاخيرة، بدا كأنه يقولها من غير قناعة مستقرة.. ولكن هل يمكن ان يتصور شيخ القبيلة خطأ ينسبه الينا متوهما؟ ثم يعود ليقول: انه رجل حصيف بل حكيم حقا، ويعرف حقوق الله عليه، وحقوق الناس، ويعرف واجباته ازاء ربه، وازاء الناس.. وهو رجل يكن لي تقديرا ومحبة خاصين، ولا يمكن ان يلقي التهم جزافا، او يفرط بي من غير ان يكون مضطرا لذلك.. فلأدع هذا الملعون، وسيكون كل شيء واضحا ومفهوما بعد ذلك.
استدعى ابراهيم حسقيل، عندما لم يجد في تصرف اي من محمود او يوسف ما يعيب وكرر عليه ما قاله لهما.. وقد ظن حسقيل انه امر يدل على كفاءة خاصة، ان هو افضى لجده بحقيقة ما فعله.
قال حسقيل:
ـ اتعرف، يا جدي، لماذا عاكستكم في الرغبة، عندما عدت من مرافقة والدها، وابلغتنا بأن نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا الى حيث نحن الآن!؟
قال ابراهيم:
ـ لا اعرف، ولا استطيع ان اخمن.
قال حسقيل:
ـ كانت بنت مضيفنا ذاك تمر عليّ، لتعرف ماذا لديّ من حلي، وعندما ارادت يوما ان تعرف ما اذا كانت احدى القلادات على قياسها ام لا، امسكت بها من ثديها، لكنها جفلت مني، في الوقت الذي كانت خادمتها خارج البيت، وقد لحقتها وامسكت بها قبل ان تخرج من بيت الشعر، ووضعت كف يدي اليسرى على فمها، وطوقتها بيدي اليمنى، وسحبتها الى الركن البعيد في البيت وهممت بها، وكدت ان افعلها، لانني اعرف انها يتعذر عليها ان تصرخ وتستنجد خشية ان يلحقها عار الفضيحة، لكنها امهلتني لليوم التالي، وحلفت انها ستفي بوعدها، ورغم ان هذا ليس هو الذي منعني منها، وانما صوت خادمتها وهي تصيح باسمها، وتستعجلها لتعودا للبيت، فإني قبلت من جانبي تأجيل ما كنت انوي فعله، بأمل ان افعله معها اليوم، ولكن اليوم كان يوم رحيلنا ولذلك كنت اعاكسكم في الاتجاه. وفي نيتي ان الحق بها الى هناك، لاحصل على بغيتي.
عندما كان حسقيل يسرد قصته مع ابنة مضيفهم، شيخ القبيلة كانت الارض كأنها تميد بابراهيم فقام من فوره وصفعه بأقوى ما يستطيع حتى ادمى انفه، وصاح بيوسف ومحمود ان يحضرا وامرهما بأن يربطا يدي حسقيل خلف ظهره، وقال بحزم:
ـ اقتلاه، اذا قاومكما.
عرف حسقيل الامر وصرامته فاستسلم من غير مقاومة، وعندما اكمل محمود ويوسف تكتيفه، امرهما باحضار فرسه واحضار حمار ليضع فوقه الخاسئ حسقيل، وان يأتيا له بسيف وقوس، وبعد ان تقلد سيفه ووضع جعبة السهام خلف ظهره، وامسك بالقوس بيده، وهو امر لم يفعله ابراهيم منذ وقت طويل، ذلك انه لم يكن بحاجة اليه وهو حكيم الامة ومرشدها لكنه هذه المرة كان بحاجة اليه ليتدبر امر حسقيل، خشية ان يهرب منه وهما في الطريق الى شيخ القبيلة المقصود.
ما ان استوى حسقيل على ظهر الحمار، واتجه به معقبا اثر قافلة الشيخ الجليل، حتى امتطى ابراهيم فرسه، وصار خلف الحمار ليلكزه بعصاه عندما (يحرن)، ليستمر في سيره. وما ان لاحت مواقع بيوت شيخ القبيلة من بعيد، تحيط بها بيوت الشعر لعشيرته، حتى لاحظ ابراهيم ان احدهم خرج من البيوت على ظهر فرسه.. التي جاءت (تهذب) باتجاهه.
عرف ابراهيم الفرس من لونها الاشهب، وعرف من وضعية فارسها انه صاحبه لا محالة، وخمن ان هناك من قال له «انني جئت معقبا اثرهم ـ هكذا قال ابراهيم في نفسه ـ وان معي احدهم فوق ظهر الحمار، وانني اهتديت الى السبب الذي جعله يرحل هذا اليوم، ويفصل منزلنا عنهم، عندما وضع رمحه في عين (قرية) نمل، بمعنى انعدام الرغبة في المجاورة، وان الشيخ جاء خارج منزل القبيلة لكي لا تعرف شيئا عن وصول ابراهيم الى مضيف الشيخ، لانها عندما تعرف يتعقد الامر على الشيخ، وتكون المرونة لديه محدودة خارج ما اعتادت عليه هذه القبيلة وكل قبائل العرب، وهو القتل لمن يتحرش بامرأة بخلاف رضاها، وقتل المرأة والرجل اذا كان برضاها».
حاول حسقيل ان يخالف توجيه جده، لكن الاشارات التي فهمها من محمود ويوسف لم تنبئ بان باستطاعته ان يقرر منفردا برأيه خلافا لما يريده ابراهيم.. ذلك لان الجميع فهموا ان ابراهيم ما كان ينفصل عن قبيلة صاحبه وحيث نزلوا الا لامر جلل.. لم يفهم حسقيل ذلك، او انه اراد ان لا يفهم، جريا خلف ما درت عليه مهنته في كنف تلك القبيلة الكبيرة، وانجرارا خلف ما صار عليه طمعه، بعد ان بنوا بيوت الشعر بما في ذلك البيت المخصص لحسقيل وبيوت الرعاة.
استدعى ابراهيم اولاد ابنائه الثلاثة.. وانفرد بهم واحدا واحدا، مبتدئا بالصغير، محمود، وقال له:
ـ ان لـ (خوينا) مصعب ـ اي اخينا ـ شيخ القبيلة بنتا حلوة تغري كل رجل.. هل دنوت منها؟ ألم تستطع ان تغريها، يا ولدي؟ انها جميلة وتستحقك.. وانت تستحقها اكثر من غيرك..
جفل محمود واحمرت عيناه.. بل كادت تخرجان من محجريهما.. وكاد يسحب سيفه من جنبه، بعد ان نسي من شدة ما غشيه من غضب، ان من يخاطبه هو جده ابراهيم.. وعندها قال لابراهيم:
ـ يا للعار، لو فعلنا سوءا كهذا! كيف تقول هذا، يا والدي، وابو البنت (خويك) وقد انزلنا في كنفه، وضمن لنا حرية التبشير بآرائنا، وحمانا؟ والله، يا والدي لو لم تكن ابي، ولو خمنت انك مستقر على رأيك هذا، لكنت اتخذت موقفا لا ارضاه لنفسي ولا ترضاه عني، ولفارقتك من يومنا هذا، وربنا الغفور الرحيم.
قال ابراهيم:
ـ (عفية)، يا ولدي.. اكتمها عن اخويك.. وإذا سألاك بعد خروجك افتعل لهما اي شيء ولا تقل ما قتله لك.
وعده محمود بذلك، وهدأ روعه، ثم خرج، ودخل يوسف وكان موقفه وجوابه كموقف محمود وجوابه لابيه، الذي قال له ما قاله لمحمود.. بعدها جاء دور حسقيل.. وقبل ان يدخل، كان ابراهيم يداور الأمر مع نفسه: اتراه فعل الفعلة المخزية، هذا اللعين حسقيل؟ اتراه هو الذي سوّد وجوهنا وموقفنا امام ابن الحلال، (خوينا) شيخ القبيلة مصعب!؟
ثم يعود ليقول في نفسه: ان أمه عفيفة وابنة رجل شريف وان اباه ابني، وانا واثق من امه.. وواثق من نفسي، ومن طهارة حليمة.. ولكن من اين جاءه هذا العرق النجس؟ ربما جاءه من اي من اخواله.. وربما من اي من اعمامنا.. وعندما قال الجملة الاخيرة، بدا كأنه يقولها من غير قناعة مستقرة.. ولكن هل يمكن ان يتصور شيخ القبيلة خطأ ينسبه الينا متوهما؟ ثم يعود ليقول: انه رجل حصيف بل حكيم حقا، ويعرف حقوق الله عليه، وحقوق الناس، ويعرف واجباته ازاء ربه، وازاء الناس.. وهو رجل يكن لي تقديرا ومحبة خاصين، ولا يمكن ان يلقي التهم جزافا، او يفرط بي من غير ان يكون مضطرا لذلك.. فلأدع هذا الملعون، وسيكون كل شيء واضحا ومفهوما بعد ذلك.
استدعى ابراهيم حسقيل، عندما لم يجد في تصرف اي من محمود او يوسف ما يعيب وكرر عليه ما قاله لهما.. وقد ظن حسقيل انه امر يدل على كفاءة خاصة، ان هو افضى لجده بحقيقة ما فعله.
قال حسقيل:
ـ اتعرف، يا جدي، لماذا عاكستكم في الرغبة، عندما عدت من مرافقة والدها، وابلغتنا بأن نغير اتجاهنا ونعود ادراجنا الى حيث نحن الآن!؟
قال ابراهيم:
ـ لا اعرف، ولا استطيع ان اخمن.
قال حسقيل:
ـ كانت بنت مضيفنا ذاك تمر عليّ، لتعرف ماذا لديّ من حلي، وعندما ارادت يوما ان تعرف ما اذا كانت احدى القلادات على قياسها ام لا، امسكت بها من ثديها، لكنها جفلت مني، في الوقت الذي كانت خادمتها خارج البيت، وقد لحقتها وامسكت بها قبل ان تخرج من بيت الشعر، ووضعت كف يدي اليسرى على فمها، وطوقتها بيدي اليمنى، وسحبتها الى الركن البعيد في البيت وهممت بها، وكدت ان افعلها، لانني اعرف انها يتعذر عليها ان تصرخ وتستنجد خشية ان يلحقها عار الفضيحة، لكنها امهلتني لليوم التالي، وحلفت انها ستفي بوعدها، ورغم ان هذا ليس هو الذي منعني منها، وانما صوت خادمتها وهي تصيح باسمها، وتستعجلها لتعودا للبيت، فإني قبلت من جانبي تأجيل ما كنت انوي فعله، بأمل ان افعله معها اليوم، ولكن اليوم كان يوم رحيلنا ولذلك كنت اعاكسكم في الاتجاه. وفي نيتي ان الحق بها الى هناك، لاحصل على بغيتي.
عندما كان حسقيل يسرد قصته مع ابنة مضيفهم، شيخ القبيلة كانت الارض كأنها تميد بابراهيم فقام من فوره وصفعه بأقوى ما يستطيع حتى ادمى انفه، وصاح بيوسف ومحمود ان يحضرا وامرهما بأن يربطا يدي حسقيل خلف ظهره، وقال بحزم:
ـ اقتلاه، اذا قاومكما.
عرف حسقيل الامر وصرامته فاستسلم من غير مقاومة، وعندما اكمل محمود ويوسف تكتيفه، امرهما باحضار فرسه واحضار حمار ليضع فوقه الخاسئ حسقيل، وان يأتيا له بسيف وقوس، وبعد ان تقلد سيفه ووضع جعبة السهام خلف ظهره، وامسك بالقوس بيده، وهو امر لم يفعله ابراهيم منذ وقت طويل، ذلك انه لم يكن بحاجة اليه وهو حكيم الامة ومرشدها لكنه هذه المرة كان بحاجة اليه ليتدبر امر حسقيل، خشية ان يهرب منه وهما في الطريق الى شيخ القبيلة المقصود.
ما ان استوى حسقيل على ظهر الحمار، واتجه به معقبا اثر قافلة الشيخ الجليل، حتى امتطى ابراهيم فرسه، وصار خلف الحمار ليلكزه بعصاه عندما (يحرن)، ليستمر في سيره. وما ان لاحت مواقع بيوت شيخ القبيلة من بعيد، تحيط بها بيوت الشعر لعشيرته، حتى لاحظ ابراهيم ان احدهم خرج من البيوت على ظهر فرسه.. التي جاءت (تهذب) باتجاهه.
عرف ابراهيم الفرس من لونها الاشهب، وعرف من وضعية فارسها انه صاحبه لا محالة، وخمن ان هناك من قال له «انني جئت معقبا اثرهم ـ هكذا قال ابراهيم في نفسه ـ وان معي احدهم فوق ظهر الحمار، وانني اهتديت الى السبب الذي جعله يرحل هذا اليوم، ويفصل منزلنا عنهم، عندما وضع رمحه في عين (قرية) نمل، بمعنى انعدام الرغبة في المجاورة، وان الشيخ جاء خارج منزل القبيلة لكي لا تعرف شيئا عن وصول ابراهيم الى مضيف الشيخ، لانها عندما تعرف يتعقد الامر على الشيخ، وتكون المرونة لديه محدودة خارج ما اعتادت عليه هذه القبيلة وكل قبائل العرب، وهو القتل لمن يتحرش بامرأة بخلاف رضاها، وقتل المرأة والرجل اذا كان برضاها».
صفحة 1 من اصل 7 • 1, 2, 3, 4, 5, 6, 7
مواضيع مماثلة
للمشاركة انت بحاجه الى تسجيل الدخول او التسجيل
يجب ان تعرف نفسك بتسجيل الدخول او بالاشتراك معنا للمشاركة
صفحة 1 من اصل 7
صلاحيات هذا المنتدى:
لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى